رواية وما ادراك بالعشق الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم مريم محمد غريب
رواية وما ادراك بالعشق الجزء الثالث والعشرون
رواية وما ادراك بالعشق البارت الثالث والعشرون
رواية وما ادراك بالعشق الحلقة الثالثة والعشرون
الفصل الثالث و العشرون _ لأجلكِ _ :
قبل عشرون عامًا …
تركا الصغيرة في المنزل برفقة المربية الأسيوية التي اختارها “يحيى” من أجل ابنته بعد تدقيق و تمحيص.. أحسّت “رحمة” بأن تلك الأمسية مميزة.. إذ قام زوجها بشراء ثوبًا أنيق و ثمين لترتديه.. و لم يكن مجرد شراء بل إنه انتقى لونه و تصميمه بعد رحلة بحثٍ طويلة بمجلات الموضة و الأزياء.. ليقع اختياره بالنهاية على أكثر أثوابها روعةً.. جميل.. أبيض و رقيق بقصّة أنثوية أبرزت قدّها المنحوت و رشاقتها التي لطالما حافظت عليها بكل ما تملك من قوة إرادة و إمكانات أمددها زوجها بها ..
حرص “يحيى” على أن يخرجا في ساعةٍ مُحددة من المساء ..
أخذها في سيارته الخاصة.. و كان متأنقًا بدوره في حلّةٍ سوداء رسمية.. بدا أكثر شبابًا و حيوية رغم بلوغه الخامسة و الأربعين.. و رغم الشيب الخفيف الذي خطّ منابت شعره المثالي شديد النعومة ..
جلست إلى جواره متحاشية النظر إليه.. و تشعر بنظراته من حينٍ لأخر.. الصمت بينهما لم يبدده شيء.. حتى وصلا أخيرًا إلى الوجهة المنشودة ..
ترجل “يحيى” من خلف المقود أولًا.. دار حول السيارة ليفتح لها الباب.. ثم مد يده نحوها ..
تطلّعت “رحمة” إليه أخيرًا.. و لوهلةٍ حبست أنفاسها و هي تراه يبتسم لها بملائكيته المعهودة.. و هي تراه يرمقها بهذه الطريقة التي تتدغدغ أنوثتها.. لا تصدق.. ما زالت مشاعرها تجاهه بِكر كما كانت بأول علاقتهما.. لم تتغيّر أبدًا.. مطلقًا …
-مش عايزة تديني إيدك ؟
رمشت بأهدابها المطلية بطبقةٍ ثقيلة من المسكارا.. بقيت ساكنة لبضع لحظاتٍ.. لكنها نفضت رأسها بغتةً منتشلة نفسها من حالة الركود تلك.. منحته يدها و تركته يسحبها صوبه حتى وقفت على قدميها قبالته ..
و من جديد راح يشملها بنظرات الإعجاب.. زوجته الشابة الجميلة.. لا تزال في ريّعان شبابها.. في أواسط العشرينيات.. يانعة مثل زهرةٍ ربيعية.. و يخاف.. يخاف عليها من كل شيء.. باتت إدمانًا و هوسًا لا علاج له منها …
-هو احنا فين ؟ .. تمتمت “رحمة” متسائلة و هي تتلفت حولها
كانا يقفان بباحةٍ على شكل هلال.. أمام صرحٍ معماري مهيب.. مضاء بالكامل بواجهات زجاجية برّاقة ..
أمسك “يحيى” بيدها الأخرى و تريّث حتى عاودت النظر إليه.. علّق نظراتها بنظراته و قال بصوته الهادئ الجذّاب :
-انتي واقفة قدام أكبر و أشهر مول تجاري في لندن كلها.. و إللي بقيتي مُساهمة فيه بشكل رسمي من إنهاردة !
نظرت له ببلاهةٍ غير مستوعبة كلمة واحدة من كلماته.. ابتسم “يحيى” حتى بانت نواجذه و قال باسهابٍ أكثر :
-انا كنت مستني لما تتعلمي لغة أهل البلد كويس و تعرفي تتكلمي بلسانهم.. بصراحة لينا بذلت معاكي مجهود في وقت قياسي و لازم أبقى أشكرها إنها ساعدتك لحد ما وصلتي للنتيجة دي ..
شريكة العمل.. و ألمع سيدات المجتمع خاصةً هنا بالدولة الأجنبية.. صديقته المفضلة “لينا الشقيري”.. و التي اكتسبت “رحمة” صداقتها مؤخرًا خلال تعلمها الإنجليزية على يدها.. ملأت شيئًا من فراغها.. و عوضتها فترات غيابه عندما يضطر لتركها و العودة إلى الوطن.. إلى زوجته و عائلته ..
استكمل “يحيى” حديثه بخفوتٍ مجتذبًا إيّاها أقرب إليه :
-إنهاردة عيد ميلادك.. و عيد جوازنا العاشر.. كل سنة كنت بجيب لك jewelry أو بغيّر لك العربية.. لكن السنة دي أخيرًا هاعمل الحاجة إللي كنت بفكر فيها عشانك من فترة طويلة جدًا ..
لا زالت على صمتها.. تستمع إليه و تراقبه فقط ..
لم تنتبه لإشارته إلى مسؤول الجراج.. ليأتيه شاب بزيّ رسمي.. أعطاه مفتاح سيارته و أمسك بيدها يحثها بلطفٍ :
-تعالي.. هديتك مش هنا.. و على فكرة.. مش هدية واحدة !
**
يوفر المول التجاري تشكيلة من أكبر مطاعم الوجبات السريعة و الفلكلورية.. بالطابق السفلي.. كان هناك افتتاحًا جديدًا بالواجهة لوحدةٍ كبيرة و حديثة العهد.. لكنها تكاد تكون منافسة لأبرز العلامات الشهيرة ..
لم تصدق “رحمة” عينيها و هي تحملق بالعارضة التي حملت كُنيتها المُحببة لدى زوجها بأضواء ملوّنة و شعارٍ مميّز.. “RaRa Resturant” …
-كل سنة و انتي معايا ! .. همس “يحيى” بأذنها محيطًا بخصرها من الخلف
بالكاد نزعت ناظريها عن العارضة.. لتلتفت ناحيته.. ترمقه بنظراتٍ مشدوهة ..
يرفع “يحيى” كفّها ليلثم باطنه مطوّلًا دون أن يحيد بعينيه عن عيناها.. ثم يقول بهدوءٍ :
-كل سنة و انتي و الجزء الأحلى في حياتي.. كل سنة و انتي حبيبتي الوحيدة !!
تنفست “رحمة” بصعوبة.. كل هذا كثير.. كثيرٌ جدًا عليها لتستوعبه.. لتصدقه ..
لم تكن ترى أحدًا غيره الآن.. رغم حركة السير بالجوار.. و الزوّار الذين بدأ توافدهم على المطعم الجديد.. لم تستطع إشاحة بصرها عنه ..
ذاب الجليد.. هكذا بلحظة.. و ليس لأنه أغدق عليها من فيض كرمه و يحقق لها أحلامها ..
و لكن لأنه قال ذلك تحديدًا.. لأنه أفصح لها عن مشاعره تجاهه بهذه الطريقة.. لأنه اعترف بأنها هي.. هي وحدها حبيبته …
-ياخواتي على عصافير الحب.. كده قدام الناس أنا ربيتكوا على كده !؟
بدد ظهور “لينا” المفاجئ سحر اللحظات الثمينة بين الزوجين.. اضطربت “رحمة” مخبئة وجهها في صدر زوجه.. بينما يضحك “يحيى” بمرحٍ قائلًا :
-لينـا.. كسفتي مراتي.. دي فيها صمت تام طول الليل ..
ردت الأخيرة ممسكة بذراع “رحمة” محاولة اجبارها على النظر إليها :
-مين دي إللي بتتكسف ؟ و مني أنا ؟ ده أنا بير أسرارها أكتر منك يا يحيى باشا.. ردي عليه يا رحمة ..
لم تجد “رحمة” بدًا من الهرب و الاحتماء بزوجها من صديقتها أكثر ذلك.. أذعنت لها و رفعت رأسها ملتفتة صوبها ..
مثل العادة.. “لينا الشقيري” الهجينة نصف المصرية و نصف اللبنانية لا تدّخر جهدًا لتنشر جمالها.. صاحبة الوجه الفاتن و الملامح الشقراء الناعمة.. لا تحب البذخ رغم ثراءها الفاحش بحكم وظيفتها كسيدة أعمالٍ ناجحة.. إلا إنها حتى بأمسية الاحتفال لا ترتدي سوى ثوبًا كلاسيكيًا ورديّ اللون.. يعلوه شالًا أزرق يتماشى مع لون عينيها.. و تركت شعرها الذهبي ينساب بحرية حول وجهها و كتفيها …
-هاي لينـا ! .. ألقت “رحمة” عليها تحيّةً مقتضبة
ابتسمت “لينا” لاستشفاف توترها الفطري.. و قالت برقتها المعهودة :
-أنا مش عايزاكي تكوني مضايقة مني.. أنا آه كنت عارفة بكل إللي حصل الليلة دي.. بس دي كانت سوربرايز عشانك.. ماينفعش تعرفيها قبل معادها.
هزت “رحمة” رأسها قائلة بصوتٍ خفيض :
-أنا مش زعلانة.. مش زعلانة أبدًا !
لينا بحماسةٍ : قوليلي طيب إيه رأيك في الريسترانت ؟ كل حاجة هنا من اختياري أنا بما إنك كنتي بتغششيني ذوقك و خططك و كل تفاصيل حلمك بيه.. يحيى كان مجرد سبونسر بس. و لسا لما تشوفيه من جوا.
خصّت “رحمة” زوجها بنظرةٍ ملتمعة خاطفة.. ثم نظرت إلى صديقتها و قالت :
-الريسترانت تحفة.. و قبل ما أشوفه من جوا ده أحلى من ما كنت بتخيّل.. شكرًا ليكي يا لينا.. شكرًا يا يحيى !
تنهدت “لينا” بعمقٍ و أومأت متطلعة إلى “يحيى”.. ثم قالت و هي تسلّمه البطاقات :
-اتفضل.. أنا جبتلك التيتكز.. يدوب وصلتني من شوية.. و يدوب كمان تلحقوا ..
و غمزت له ..
نقلت “رحمة” ناظريها بينهما جاهلة بما يحدث.. لكنها لم تفه بكلمة.. لم يتسنّى لها إذ أمسك “يحيى” بيدها على الفور و شدّها معه برفقٍ حازم و هو يخاطب “لينا” للحظة من وراء كتفه :
-أوكي يا لينا.. أنا متشكر أوي.. حقيقي.. باي ..
لوّحت “لينا” لهما هاتفة بسعادةٍ واضحة :
-باااي.. Have a nice night ..
**
The Shard / جسر برج لندن
هذا الهيكل الرائع.. يُعد أكثر المعالم شهرة و زيارة في لندن.. يسيطر على الأفق حتى اليوم.. بفضل تصميمه الجذاب.. لا يبدو على الإطلاق في غير محله عند رؤيته بجوار المعالم الأخرى مثل جسر البرج.. يبلغ ارتفاعه ألفًا و ستة عشر قدمًا و يضم حوالي خمس و تسعون طابقًا ..
من خلال اتصالاته و علاقاته بل و نفوذه التي يدعمها مركزه المالي العملاق.. أتيحت له الفرصة ليحتل أعلى قمة بالبرج مصطحبًا زوجته.. إنها حرفيًا ترى المدينة كلها من خلال النوافذ المحيطة بها.. نوافذ فقط …
-احنا بنعمل إيه هنا ؟ .. تساءلت “رحمة” مبهورة
كانت تقف بمنتصف القاعة خافتة الضوء.. يتقرّب “يحيى” صوبها على مهلٍ و هو يقول :
-أول مرة شوفتك.. كنتي واقفة قصادي كده.. أنا لسا فاكر اللحظة كأنها حصلت حالًا.. لسا فاكر كنتي لابسة إيه.. كنتي عاملة شعرك إزاي.. و الأهم… كنتي بتبصيلي إزاي !!
توقف الآن أمامها.. ليس عليه إلا أن يقترب شبرًا واحدًا ليأخذها بين ذراعيه.. لكنه انتظر.. و ما أصعب الانتظار بالنسبة إليه عندما يتعلّق الأمر بها …
-مافيش حاجة فيكي اتغيّرت ! .. تمتم و أنفاسه تلامس بشرتها مباشرةً :
-غير إن جمالك بيزيد.. و حبّي ليكي بيكبر كل يوم طول ما بتنفس.. أنا كنت فاكر إني حبيت و خلاص.. بس لما شوفتك.. لما اتجوزنا.. لما عشت معاكي أجمل لحظات حياتي ..
و صمت فجأةً.. و هي تصغي إليه مفغرة الفاه.. تنصت بكل ذرة من كيانها.. بينما يغمض عيناه و يزفر مطرقًا برأسه قليلًا ..
يشعر بوجعٍ حاد يشق طريقه عبر صدره و هو يقول بندمٍ :
-أنا ظلمتك.. أنا أذيتك و وجعتك كتير أوي.. عارف انتي طول الوقت شايفاني إزاي.. حاسس بيكي.. و مهما قلت مش هقدر أعوضك بكلامي أو حتى اعتذاراتي ..
أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يرفع رأسه ليحدق فيها من جديد.. و تابع اعترافاته خاضع النظرات و النبرات :
-أنا بحبك يا رحمة.. بحبك.. و برغم أنانيتي و كل الصفات البشعة إللي فيا.. حبك كان و هايفضل أحلى حاجة حصلتلي في حياتي.. قلبي مابقاش ملكي زي ما طول الوقت كنت فاكر.. أنا أبان قوي للكل.. و ممكن أكون قدامك كده.. لكن أنا من ساعة ما شوفتك و أنا ضعيف.. انتي نقطة ضعفي.. و احفظي الكلام ده كويس و صدقيه عشان مش هقوله تاني.. أنا بحبك… و ماحبتش غيرك !
ما إن فرغ حتى تنفست.. تنفست بصعوبة… ماذا قال للتو بحق الله !؟
لم يعطها الفرصة لتفكر كثيرًا.. فرقع باصبعيه.. فإذا بأضواءٍ متماوجة تبدأ بالسطوع شيئًا فشيء.. و بموسيقى هادئة تنبعث من الأفق الذي استحال في لحظاتٍ إلى قطعة من السماء مرصّعة بعشرات النجوم ..
إنهار كل شيء بداخلها.. تشعر بأنه يضع الدنيا بين يديها الآن.. تدمع عيناها في نفس اللحظة التي يلف ذراعيه من حولها.. و يأخذها في شبه عناقٍ بينما تدوي كلماتٍ الغنوة.. و يحرّك هو شفتيه مرددًا معها فكأنه هو الذي يشدو إليها بتلك العذوبة …
أجمل نساء الدنيا جوا عيوني انتي
أجمل نساء الدنيا انتي يا حبيبتي
خدني الغرام خدني لحكاية حب حلوة
عشت ليها شفت فيها أجمل حياة
أنا مش مصدق نفسي إنك بين إيديّا
من يوم ما حبك خدني مش بتنام عينيّا
جوايا شوق أد الحنان اللي في عينيكي
روحي فيكي نظرة ليكي هي الحياة
أجمل نساء الدنيا في عينيّا أنا
قدرت تخدني في ثانية من روحي أنا
وعد مني ما حب غيرك في الوجود
إحساس جميل جوايا أكبر من الغرام
واللي ما بيني وبينك أكبر من الكلام
إحساس جديد خدنا لبعيد مالوش حدود
يا أجمل من كل النساء …
____________________________________
الوقت الحاضر …
أخذ منها الأمر كل ما لديها لتظل متماسكة و هي تستمع إلى صوته الجهوري الغاضب عبر الهاتف :
-انتـي عـارفة لـو مـارجعتيـش فورًا انا هـاعمل فيكـي إيـه ؟ قسمـًا عظمًـا يا شمـس لا هانـدّمك علـى اليـوم إللـي اتولدتـي فيـه.. انتـي سـامعـة ؟؟؟
الغريب إنها استجابت لهذه الكلمة شفهيًا.. و قد نجح بدب مشاعر الخوف فيها.. هذا التناقض مثير للشفقة ..
إنها تحبه و تخاف منه في آنٍ.. كيف !؟
-رامز.. ممكن تهدا ؟ أنا ماهربتش ..
هكذا تحدّثت “شمس” إليه بهدوءٍ محاولة تهدئته عبثًا.. لأنه قاطعها صائحًا باهتياجٍ :
-سيبتي الفندق و استغفلتيني تـااني.. خونتي ثقتي فيكي تـاني و المرة دي تمنها غالي.. غالي أوي يا شمس.. انتي مفكرة إن حد ممكن يحميكي مني ؟ ده و لا حتى عثمان البحيري نفسه.. و هاتشوفي إللي هاعمله فيكي و في أمك أول حد.. هاتشوفي يا شمس …
لم تحتمل سماع تعنيفه و وعيده أكثر من ذلك.. أغلقت الخط بوجهه ممسكة رأسها بكلتا يداها.. تشعر بضغط رهيب على اعصابها و لا يمكنها تلافيه.. مهما حاولت ..
هذا العشق حتمًا سيقضي عليها.. إنها تحبه كثيرًا.. و هو مجنونٌ بها.. مجنونٌ حقًا و ليس مجازًا.. و لا تشك أبدًا بقدرته على تدميرها ما لو دفعه التهور لارتكاب أيّ حماقة …
-شمـس !
تنبهت على الفور إلى صوته المميز.. استدارت “شمس” في الحال.. لترى أخيها ينزل الدرج في أبهى صوره.. متأنقًا ببذلةً رسمية من اللونين الأزرق و الرمادي.. يعلّق حقيبةٍ جلدية على كتفه.. تصفيفة شعره متهادية و لحيته الخفيفة تبدو ناعمة و لامعة.. رائحة عطره النفّاذة تسبقه بأمتارٍ لتنشر حضوره المتميّز ..
أقبل “عثمان” عليها مبتسمًا باشراقٍ.. و أجفلت فجأة بارتباكٍ حين أحاط خصرها بذراعه و شدّها إلى صدره يعانقها بأخوية.. لكنها ما لبثت أن ابتسمت و قد أنساها حضنه الدافئ كل مخاوفها.. رفعت ذراعيها و ضمته بدورها للحظاتٍ طويلة ..
تباعدا أخيرًا.. لكنه أمسك بيدها و هو يقول محافظًا على أساريره منفرجة :
-كويس إني شوفتك قبل ما أخرج.. نوّرتي بيتك.
عبأت “شمس” نفسًا عميقًا إلى رئتيها و قالت بشيء من التوتر :
-أنا جيت أول كلمتني.. مقدرش أرفض أي طلب تطلبه مني ..
و صمتت لهنيهةٍ مشيرة لحقيبة ملابسها.. و قالت :
-جيت و جبت شنطة هدومي زي ما طلبت.. بس.. انت متأكد يا عثمان ؟
قطب “عثمان” حاجبيه قائلًا بصوته العميق :
-يعني إيه متأكد ؟ أنا مابقولش كلمة مش واثق إني هانفذها يا شمس.. ثم إن دي مسألة مافيهاش نقاش أصلًا.. ده بيت أبوكي يعني بيتك.. و أنا مستحيل أسمحلك تنزلي في أوتيل و بيت عيلتك موجود.
شدت قبضتها على يده لا شعوريًا و هي تقول :
-أنا قلت لك قبل كده إن بابي إداني نصيبي من زمان أوي.. قبل ما يموت حطلي فلوس كتير أوي باسمي في البنك و كتبلي بيت في لندن.. ده غير شقة المعمورة إللي باسم مامي و دي بردو كأنها بتاعتي ..
عثمان بصرامةٍ : أنا ماليش علاقة بأي حاجة عملها معاكي بابا قبل ما يموت.. حتى لو كان إداكي أكتر مني شخصيًا ده ماينفيش بالنسبة لي إن ليكي حق في كل حاجة هنا.. في القصر ده و في الشركة و في كل أصول عيلة البحيري.. انتي شمس البحيري.. مستوعبة ده كويس و لا لسا !؟
تألقت عيناها بلمعةٍ متأثرة.. و قالت :
-مش عارفة أقولك إيه يا عثمان.. بجد مش عارفة أقول إيه !
عثمان بحزم : ماتقوليش حاجة.. انتي خلاص هاتستقري هنا معانا و هاتنقلي حياتك كلها هنا.. أوضتك جاهزة و من بكرة هاتنزلي تنقّي العربية إللي تعجبك عشان تقدري تتحركي بيها براحتك.. و نصيبك من أرباح الشركة هاتاخديه مني أول كل شهر زي ما بعمل مع صافي و صالح و هالة و فريال هانم.. و فوق كل ده أي حاجة تحتاجيها تيجي و تطلبيها مني فورًا مفهوم ؟
ازدردت “شمس” لعابها و قالت بعدم راحة مباغتة :
-عثمان.. انت نسيت فريال هانم.. هي وافقت إني آ ا ..
-فريال هانم سافرت ! .. قاطعها بلهجةٍ قوية :
-سافرت مع صافي على تركيا عشان تغيّر جو.. لسا قدامها شوية على ما ترجع.. و بعدين حتى لما ترجع بالسلامة ان شاء الله.. مافيش حاجة هاتتغير.. أطمني يا شمس.
-طيب حاجة أخيرة !
أومأ لها بصبر : قولي ..
عضت على شفتها مرتابة لثوانٍ.. ثم قالت :
-مامي راجعة كمان كام يوم.. و عايزة أقولك إن حبك و ارتباطك بفريال هانم مايقلّش خالص عن حبي و ارتباطي بمامي.. أنا مقدرش أسيبها لما تيجي هي تقعد في مكان و أنا في مكان !!
تجهم وجهه الآن.. فندمت على الفور على مجيئها من الأساس.. ما كانت لتضعه بهذا المأزق …
-أنا آسف يا شمس ! .. ردد “عثمان” بصوتٍ حاد :
-ده الطلب الوحيد إللي مش ممكن أحققهولك.. مامتك مالهاش مكان في بيت ده.. شرعًا ليها و أنا مستعد أكتب لها شيك بحقها فيه و زيادة عشان خاطرك.. لكن طول ما أنا عايش مش هاسمحلها تدخل البيت و تعيش فيه ..
هزت رأسها و هي تقول بتفهمٍ :
-أنا مقدرة إللي بتقوله.. عارفة إن الوضع حسّاس و إنك بتفكر ترضي فريال هانم.. أنا مش بلومك على فكرة.. بس ..
قاطعها للمرة الثانية :
-مابسش.. انتي كبرتي بعيد عننا.. كفاية أوي السنين إللي عدت دي كلها و انتي لوحدك منغير أهلك.. مامتك على عيني و راسي مش بمنعك عنها.. تقدري تزوريها يوميًا طول مدة وجودها هنا و حتى تقضي معاها الـWeekend براحتك.. لكن أهم حاجة عندي تفضلي هنا تحت عنيا.. جنبي.. انتي الوحيدة إللي تهميني.. فاهمة ؟
أومأت له أن نعم.. فمنحها ابتسامة راضية.. لكنها سرعان ما تلاشت و هو يبتعد عنها خطوةً و لا زال يمسك بيدها …
-و صحيح حابب ألفت نظرك لحاجة ! .. غمغم عابسًا و هو يميل رأسه للجانب قليلًا
نظرت له بتساؤل.. بينما يعاين جسمها الذي لا يكسوه سوى فستانًا ربيعي خفيفي بالكاد يغطي الفخذين.. و قال بنبرة جديّة لا تخلو من الحمائية :
-اللبس ده مش عايز أشوفه عليكي From now and on.. ستايلك المتحرر ده يتغيّر.. انتي هنا في مصر مش في لندن.
رفعت “شمس” حاجبيها معقّبة :
-عثمان أنا شايفة إن مابقاش في فرق في الثقافات بين مصر و أي دولة أوروبية At least في مجتمع الـElite ( نخبة المجتمع ).. و بعدين ده ستايلي من زمان و بابي عمره ما قال أي Comments عليه !!
عقد “عثمان” حاجبيه بشدة و هو يرد عليها بغلظةٍ :
-أنا مش بابا.. و أنا إللي موجود مكانه دلوقتي.. و الكلام ده كله مش بفهمه و لا يخش دماغي.. قلت ستايلك يتغيّر.. انتي بنت ناس و مش أي ناس.. أظنك عارفة انتي شايلة اسم مين.. كلامي واضح يا شمس ؟
لم يغضبها تسلّطه.. و لا تحكّمه الواضح بها و هي البالغة الراشدة التي بإمكانها ببساطة أن تضرب بكلماته عرض الحائط.. بل الحقيقة إنها سُعدت كثيرًا و شعرت كم أنه يهتم لأمرها و يبالغ في حميته تجاهها ليحميها.. و لا يدري كما لا يدري أيّ أحد حجم حاجتها للشعور بالحماية …
-حاضر يا عثمان ! .. قالتها بطاعة خالصة :
-هاغيّر ستايلي من بكرة.. هاعمل كل إللي تقول عليه.
تنهد و قال بإيماءة صغيرة :
-دلوقتي و قبل ما أمشي الخدم هايطلّعوا شنطتك على أوضتك.. و انتي كمان تطلعي و ترتاحي أو تعملي أي حاجة انتي عايزاها.. مش محتاج أقولك يعني ده بيتك.. و أنا هاشوفك بالليل لما أرجع ان شاء الله.. هانتعشى سوا كلنا.. أنا و انتي و سمر و الولاد.
أشعلت الحماسة نظراتها و هي تقول بحنينٍ جارف :
-انت هاتسيبني دلوقتي و أنا هافضل قاعدة مستنية ساعة العشا على نار.. بجد يا عثمان نفسي أتعرف على مراتك و ولادك أوي.. أووي !!
**
تقف على مقدمة الصالة الواسعة للمطعم الشهير.. ترمق الزحام بنظراتٍ تائهة.. و بالكاد تسمع صوت ابنتها مشوّشًا في أذنها :
-مامي.. مامي انتي سامعاني ؟ .. مامي !!
في اللحظة التي وقعت عيناها عليه أخيرًا.. حبست أنفاسها فورًا خوفًا من إنه قد يكتشف وجودها.. تمسك ابنتها بكتفيها و تأتي لتقف قبالتها مباشرةً ..
حدقت “فريال” بقوة إلى عينيّ “صفيّة”.. بينما تقول الأخيرة بقلق :
-مامي.. أنا ماشية وراكي و مش فاهمة حاجة.. أنكل إركان أخوكي ده.. أنا عمري ما سمعتك بتتكلمي عنه.. و إنهاردة خلتيني أكلمه و أخد لك منه معاد هنا.. هو بيكلمني دلوقتي و أكيد وصل.. انتي بس إللي ممكن تعرفيه.. فهميني يا مامي في إيه ؟ بليز ماتقلقنيش عليكي أكتر من كده !!!
-أنا كويسة يا صافي !
صوتها أهدأ بكثير عمَّا توقعته.. رغم ما يعتمل بداخلها من خرابٍ.. هي بالفعل لا تريد لأبنتها أن تشعر بالسوء.. إنها لم تفعل أيّ شيء حتى الآن سوى مساندتها.. و آخر شيء تريده الآن أن تطلعها على فجيعة أخرى بماضيها ..
اغتصبت “فريال” ابتسامة و أردفت و هي تبذل جهدًا لطمأنة ابنتها :
-ماتقلقيش يا حبيبتي.. هو.. هو هنا فعلًا.. أنا شفته !
قطبت “صفيّة” و هي تلتفت خلفها مستطلعة :
-بجد ؟ هو فين !؟
مدت “فريال” يدها ممسكة بذقن ابنتها.. أدارت لها وجهها لتنظر إليها مرةً أخرى.. و قالت بجدية :
-صافي.. صافي اسمعيني.. انتي هاتقعدي هنا و هاتستني.. أنا هاروح أقابله و أقعد معاه قصادك.. اوعي تفكري تقربي مننا.. مهما حصل ؟ فاهمة ؟
نظرت “صفية” لها بعدم ثقة.. فرجتها “فريال” بشدة :
-صفيّة.. أرجوكي.. لو حقيقي عايزة تساعديني.. لو عايزاني أرجع من هنا كويسة.. اسمعي كلامي.. أرجوكي !!
اضطرت “صفيّة” للرضوخ لها أخيرًا.. لم تستطع معارضتها بعد أن أبدت كل هذا التوسل و الاستجداء ..
أومأت لها مذعنة.. فافرجت “فريال” عن ابتسامة أخيرة تبعتها بتنهيدة حارة تنم عن توتر شديد ..
ركّزت ناظريها على الرجل الجالس هناك على بُعد خمس طاولات.. يحتسي قهوته و هو لا ينفك يرمق ساعة معصمه.. تنحت “صفيّة” جانبًا.. لتتخذ “فريال” أولى خطواتها تجاهه ..
أولى خطواتها تجاه ماضيها !!!!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وما ادراك بالعشق)