روايات

رواية ضبط وإحضار الفصل التاسع 9 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار الفصل التاسع 9 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار الجزء التاسع

رواية ضبط وإحضار البارت التاسع

ضبط وإحضار
ضبط وإحضار

رواية ضبط وإحضار الحلقة التاسعة

قبل أن يقرر المجيء لزيارة “بهاء” في منزل عائلتها، استعاد في ذاكرته تفاصيل ما قام به، حيث تشاور مع زوجة شقيقه هاتفيًا عن مسألةٍ بعينها، ليعرف رأيها –كامرأة- في ذلك الأمر، فتعطيه النصيحة الأمثل بحكم خبرتها النسائية، وبالتالي لا يتصرف بتهورٍ. بعد التفافٍ حول الموضوع، تكلم “عمر” أخيرًا متسائلًا:
-بقولك يا “سلمى” ما تعرفيش حد بيبيع ساعات سمارت حريمي؟
أتاه ردها مستفسرًا:
-أعرف، بس ليه؟
تهرب من الإجابة عليها بقوله:
-حاجة تخصي.
احترمت فيه رغبته في عدم الإفصاح عن الأمر، ولم تضغط عليه، لتخبره بترحيبٍ:
-وماله، شوف إنت عاوز اللون إيه، وأنا هجيبلك طلبك.
شكرها في امتنانٍ:
-تسلميلي يا رب.
استطاع سماع صوت شقيقه يتساءل في نبرة فضولية:
-هو الكلام على مين؟
استمع إلى زوجته تنهره بمزاحٍ:
-دايمًا حاشر نفسك في اللي ملكش فيه!
بطريقةٍ ماكرة استطرد “عامر”، وكأنه يخمن جزافًا ما وراء مكالمته:
-شكل الموضوع فيه مزة جديدة، صح ولا أنا غلطان؟
لم ينطق “عمر” بشيءٍ، فواصل التخمين بلؤمٍ:
-مش سامعلك حس، يا رب تبشرنا قريب.
من جديد هتفت فيه “سلمى” لتستحثه على الكف عما يفعل:
-الأكل جاهز على السفرة، كُل يا “عامر”، وماتضايقش أخوك.
رد عليها زوجها بتذمرٍ:
-أنا ليه حاسس إنه جوزك مش أنا؟ دايمًا واخدة صفه على طول.
بررت له اتخاذها لجانبه:
-علشان هو غلبان وطيب.
قال مبترمًا:
-وربنا إنتي ظلماني!
ظل “عمر” صامتًا، يصغي لشجارهما اللطيف قبل أن يفوه في هدوءٍ:
-طيب هسيبكم تكلموا خناق، وهستنى منك مكالمة.
ردت عليه بإيجازٍ قبل أن تنهي المكالمة:
-عينيا.
………………………………………………
عــاد مرة ثانية إلى أرض الواقع، ليتطلع بنظرات مهتمة إلى من تقف أمامه في حالة من الصدمة والذهول. استوعبت “بهاء” ما يدور، وأرجعت ذراعها الممدود بكيس القمامة للخلف، لتسأله في غير تصديقٍ، وبنبرة تحمل القليل من الاتهام:
-إنت جاي تعمل إيه هنا؟
في شيءٍ من المعاتبة خاطبها:
-طب نرد السلام الأول.
تداركت الموقف، وقالت وهي تتأمل هيئته المتأنقة:
-سوري، وعليكم السلام.
أضاف متسائلًا في مرحٍ:
-مش هتقوليلي اتفضل، ولا مافيش إكرام للضيف اللي جاي؟!
ضيقت المسافة بين حاجبيها، قبل أن يرتفعا للأعلى عندما أتم جملته في نفس الأسلوب الممازح:
-وخصوصًا إني مش جاي أرمي الزبالة.
في التو، وبشكلٍ تلقائي، خبأت كيس القمامة وراء ظهرها، لتحمحم قائلة بخجلٍ بائن على قسماتها، ومشيرة بيدها تدعوه للدخول:
-اتفضــل.
تنحت للجانب فمر من جوارها دائرًا ببصره على ما حوله بنظرة سريعة، توقف في صالة المنزل عندما تبعته متسائلة:
-هو إنت عرفت الشقة إزاي؟
التفت ناظرًا إليها ليرد:
-بسيطة، سألت البواب وطلعت.
رفعت يدها أعلى رأسها المتناثر خصلاته قليلًا لتسوي شعرها مهمهة:
-أه صح.
ابتسم قليلًا مضيفًا في مكرٍ:
-وبعدين أنا قولت أجي بنفسي طالما إنك مش بتردي على رسايل الماسنجر.
برزت عيناها هاتفة في ذهولٍ:
-إيه؟
لم يتركها على دهشتها كثيرًا، بل انتقل لسؤاله التالي مواصلًا الابتسام في أدبٍ:
-هو عم “سليمان” موجود؟
جاوبته بارتباكٍ ظاهر في نبرتها:
-لأ، قصدي .. هو بيجيب حاجة من تحت وطالع.
سألها في نفس الأسلوب المهذب:
-تمام، تسمحيلي أنتظره؟
أشارت له بيدها نحو غرفة مغلقة موجودة على يمينه:
-أها، اتفضل.
من الداخل استمعت “فادية” إلى ذلك الصوت الرجولي الغريب، فخرجت من غرفتها متسائلة باندهاشٍ:
-بتتكلمي مع مين يا “بيبو”؟
رأت شابًا طويل القامة، وسيم الملامح، يرتدي سروالًا قماشيًا من اللون البيج، ومن الأعلى يضع قميصًا كحلي اللون، يقف في صالة منزلها، فتساءلت بعفويةٍ، وهذه الابتسامة البلهاء تظهر على شفتيها:
-هو احنا عندنا ضيوف؟
قامت “بهاء” بتعرفيه وهي تشعر بالإحراج من تواجدها معه:
-ده الرائد “عمر الناغي”، اللي بيدرسلي في الأكاديمية، وآ…
لم تستطع إكمال جملتها لأنها لم تعرف بعد السبب الحقيقي وراء زيارته المريبة، ولم يبدُ من وجهة نظرها أنه جاء بالفعل لمقابلة عمها، للغرابة وجدته يكرر مرة ثانية سبب قدومه، وكأنها مسألة مفروغ منها:
-أنا جاي أقابل عم “سليمان”.
دنت منه “فادية” قائلة بترحابٍ ودود:
-هو زمانه جاي، حضرتك انتظره في الصالون، وأنا هكلمه على الموبايل أستعجله.
أومأ برأسه بخفةٍ معقبًا:
-شكرًا لذوقك.
سبقته بخطوةٍ لتدعوه للدخول والجلوس على الأريكة متابعة ترحيبها الأليف:
-أهلًا وسهلًا بيك، اتفضل ارتاح.
ثم استدارت موجهة أمرها إلى “بهاء” في تعجلٍ:
-روحي هاتي حاجة ساقعة أوام يا “بيبو”…
قبل أن تتحرك الأخيرة استجابة لأمرها راحت تسأل الضيف لتتأكد من عدم ممانعته لتناول ما اقترحته عليه:
-ولا تحب تشرب حاجة سخنة؟
أجاب بتهذيبٍ:
-مالوش لزوم.
أصرت عليه قائلة:
-مايصحش، دي حاجة بسيطة.
في لباقةٍ واضحة رد:
-أي حاجة مقبولة.
سرعان ما لكزت “فادية” بيدها “بهاء” في ذراعها هاتفة بتحمسٍ:
-يالا يا “بيبو”.
أطاعتها مرددة، وملامحها تشي بدهشتها الحائرة:
-طيب.
سددت “بهاء” قبل أن تسير عائدة إلى المطبخ نظرة فضولية إلى “عمر” لتتساءل مع نفسها بتحيرٍ:
-هو جاي ليه أصلًا؟!
استوعبت أنها كانت ولا تزال تحمل كيس القمامة في يدها، لتشعر بحرجٍ كبير، وتتمتم بخجلٍ لا تعرف كيف ستتجاوزه عندما تلقاه مرة أخرى:
-يادي الفضايح، هيقول عني إيه دلوقت بمنظري ده؟ لأ وكمان واخدة كيس الزبالة في حضني!!
…………………………………………
لم تملك رفاهية الوقت لتقوم بتبديل ثيابها بأخرى ملائمة لهذه الزيارة المريبة، فقط أسرعت بوضع عباءة زوجة عمها المزركشة على ملابسها المنزلية، بجانب تسوية مقدمة رأسها، لتبدو مهندمة إلى حدٍ ما. عادت إلى الصالون وهي تحمل الصينية الموضوع بها المشروب البارد، قدمته إلى “عمر”، وجلست في مواجهته، لتتفاجأ بزوجة عمها تحادثه بأريحية تامة، وكأنه يجمعها بها صلة قرابةٍ قديمة. انتظرت أن يخاطبها، أو يتحدث إليها بوجهٍ خاص عما جاء من أجله؛ لكنه لم يفعل، ظل يماطل في الحديث، ويتفرع في سبل الكلام، إلى أن أتى عمها، فقام الأخير باستقباله بحرارةٍ بعدما صافحه واحتضنه:
-أنا مبسوط أوي إني شوفتك النهاردة، كأن أبوك –الله يرحمه- جاني بنفسه.
لم يكن يجامله عندما أخبره بصدقٍ:
-تسلم يا عم “سليمان”، حضرتك ليك مكانة غالية عند العيلة…
صمت لهنيهة، وتابع في أدبٍ:
-وطبعًا بعتذر إني جاي من غير ميعاد.
رد عليه “سليمان” بعتابٍ خفيف:
-ما تقولش كده، ده إنت صاحب مكان.
ظلت “بهاء” تنظر إليه بتمعنٍ، والفضول يأكلها لمعرفة أسباب زيارته، وازداد ذلك الشعور بداخلها عندما استطرد:
-أنا النهاردة جاي في حاجتين.
حادثه “سليمان” متأهبًا في جلسته:
-اتفضل يا ابني، اتكلم براحتك.
رأته يمد يده ناحيتها بعلبة صغيرة مصنوعة من الكرتون، لم تكن قد لاحظتها سابقًا، وهو يخاطبها تحديدًا:
-الأول، عايز الآنسة “بهاء” تقبل مني الهدية دي.
للحظةٍ قصف قلبها بقوةٍ من مفاجأته، فتخشبت في جلستها، وشنت هجومًا لفظيًا عليه، وكأن في كلامه ما يُدينها بشدةٍ:
-نعم، هدية؟ ليه؟ وبمناسبة إيه؟
بدت زوجة عمها مدهوشة وفضولية في نفس الآن، تراقب بعينين تشعان وهجًا سعيدًا ما يحدث، خاصة عندما شرح “عمر” أسبابه:
-في آخر تدريب لينا، كانت ساعة إيدها اتكسرت بالغلط، فأتمنى دي تعجبها، يعني هي طبعًا مش في قيمة اللي باظت، بس ده كنوعٍ من الاعتذار عن اللي حصل.
بوجهٍ متصلب ورافض ردت عليه:
-أنا مابقبلش العوض.
على عكسها لم يمانع عمها ذلك، وقال مجاملًا:
-وماله يا ابني كلك ذوق.
بينما أصرت عليها “فادية” وهي تسدد لها نظرة ذات مغزى، ومُبدية في نفس التوقيت انحيازها له:
-خديها يا “بهاء” ما تكسفيهوش!
ظلت على اعتراضها مرددة:
-بس…
قاطعتها زوجة عمها قبل أن تنهي جملتها هاتفة بإصرارٍ:
-ها، أنا قولت إيه، عيب ده ضيفنا.
على مضضٍ قبلت الهدية، وقالت باقتضابٍ:
-شكرًا.
ابتسم لها مرددًا:
-العفو…
زفر سريعًا، وتابع:
-وتاني حاجة، أنا كنت عرفت إنها وصاحبتها مش ناويين يكملوا التدريب للآخر.
هنا أوضحت “بهاء” السبب الرئيسي وراء ذلك بقولها المتحفز:
-بصراحة كده احنا اتبهدلنا أوي فيه، ومش حِمل ضغوطات تانية.
رد عليها “عمر” في صوتٍ هادئ محاولًا إقناعها بالعدول عن رأيها:
-الصعب فات، وحرام تضيعوا مجهودكم كله كده في غمضة عين بعد ما خلاص حققتوا نتيجة كويسة، واللي فاضل مش كتير.
رمقته بنظرة غير مريحة، خاصة عندما لم يمنحها الفرصة للرد عليه، ووجه كلامه إلى عمها:
-ولا رأي حضرتك إيه؟
سكت الأخير مترددًا، ومع هذا نطق في النهاية بدبلوماسيةٍ:
-دي حاجة ترجعلهم.
بطريقةٍ مراوغة حاول التأثير عليه، فاستطرد:
-بس دعمك وتشجيعك إنهم يكملوا هيفرق معاهم جدًا، لأنها بتسمع كلام حضرتك.
يبدو أن “فادية” استحسنت ما يقوم به ذلك الضيف اللطيف، فاتخذت صفه قائلة:
-ده إنتي عمرك ما استسلمتي يا “بيبو”.
نظرت إليها “بهاء” بغير رضا، ومع ذلك تجاهلت عن عمدٍ ما ترمي إليه لتضيف في عبثيةٍ محرجةٍ لها:
-وبعدين هنكسف سيادة الرائد وهو جاي يزورنا أول مرة في بيتنا؟ ده حتى عيبة في حقنا.
ضمت شفتيها بقوةٍ مانعة نفسها من التعليق بما هو غير مستحب؛ لكن ذلك الصوت المستنكر قد راح يردد في عقلها:
-ناقص يا طنط تنزلي باتنين ليمون وشجرة، هي دي أعدة تعارف وأنا معرفش!
ما أنقذها من مواصلة النقاش في هذه المسألة رنين هاتفها المحمول، نظرت إلى شاشته بتعجبٍ، فقد وردها اتصالًا هاتفيًا من رفيقتها “ميرا”، كانت لا تزال على دهشتها وهي تردد مع نفسها:
-دي من زمان ماكلمتنيش، طب هي بتتصل ليه دلوقت؟
لحظتها ومض عقلها بفكرة سريعة، لما لا تستغل هذه الفرصة، وتنجو من هذا الموقف المحرج برمته؟ لهذا لم تفكر مرتين، وقامت واقفة لتقول متصنعة الابتسام:
-عن إذنكم، في مكالمة مهمة لازم أرد عليها.
رمقتها زوجة عمها بهذه النظرة المستهجنة، قبل أن تضغط على أسنانها متمتمة في تبرمٍ:
-وده وقته؟!
تعللت بحجةٍ اتصالها لتهرب قائلة ومبتسمة بسخافةٍ:
-معلش، هرد عليها وأرجع أوام.
أرادت تجاوز أمسية هذا اليوم العجيب بالابتعاد لبعض الوقت حتى تتمكن من التعامل مع ما يفرض عليها دون تعصبٍ.
…………………………………..
مكالمتها معها لم تكن بريئة مائة بالمائة، ولا حتى بدافع الصداقة القديمة التي تجمعهما على مدار سنوات، بل كانت مجرد مقدمة خفية للتمهيد لشيءٍ طمعت في حدوثه في التو والحال. فهمت “بهاء” نواياها اللئيمة من عتابها المصطنع:
-هو أنا لو ما اتكلمتش متسأليش خالص كده؟
ردت بفتورٍ محسوسٍ في صوتها:
-ما إنتي عارفة إني مشغولة الفترة دي في الأكاديمية والتدريبات، و…
قاطعتها قائلة بتعصبٍ:
-شوفتي الزفت “أنس” عمل إيه؟
اضطرت أن تصمت مرغمة لتصغي إليها وهي تستأنف صياحها:
-كان مسلط عليا واحد يمثل إنه بيحبني وهو بيشتغلني علشان يعلم عليا.
على عكس المتوقع لم تكن متفاجئة مما حدث، فمن الطبيعي أن يحدث بينهما ذلك النوع من المكائد الخبيثة، لأنهما كانا ببساطةٍ يستغلان بعضهما البعض، انتشرت في تعبيرات وجه “بهاء” علامات الاستنكار عندما هدرت بانفعالٍ:
-أنا عاوزة أنتقم منه.
وكأنها لم تسمع جملتها الأخيرة من الأساس، فسألتها في برودٍ:
-طيب وأنا مالي؟
كان صوت “ميرا” أقرب للصراخ وهي تخبرها:
-ما إنتي معاه في الأكاديمية بتاعتك دي، اتصرفي، وخديلي حقي منه.
زفرت “بهاء” الهواء ببطءٍ، لترد عليها بنبرة هادئة:
-بصي يا “ميرا” مشاكلك حليها بنفسك، أنا ماليش دعوة.
في التو تحولت نبرتها للوم عندما صاحت:
-هي بقت كده يا “بيبو”؟ مش إنتي صاحبتي الأنتيم والمفروض تقفي جمبي لما أحتاجك؟
أجابتها مؤكدة:
-أيوه، وعندي استعداد أعمل أي حاجة علشانك، إلا إني أتورط في حوار تاني يخص علاقاتك، كفاية أوي المرة اللي فاتت.
لم تخلُ نبرتها من العصبية المفرطة وهي تنهي معها المكالمة:
-ماشي يا “بيبو”، ابقي افتكريها.
توقعت أن تثور عليها لرفضها تلبية رغباتها، ولم تكن نادمة على قرارها بعدم التورط فيما لا يخصها. تنهدت مليًا وقالت بملامح ممتعضة:
-ما كفاية المرة الأولى، هو أنا خلصت من توابعها أصلًا!
………………………………………..
حينما عادت إلى غرفة الصالون، لم تجد الضيف بالحجرة، فظنت أنه ربما خرج مع عمها للشرفة لاستنشاق الهواء ورؤية المنظر من الأعلى؛ لكنها لم تجد أيًا منهما، فخرجت منها متجهة إلى المطبخ، حيث تتواجد زوجة عمها، وسألتها دون مقدماتٍ:
-هو راح فين؟
في عبوسٍ بائن على قسماتها أجابتها:
-استأذن ومشى.
هزت رأسها متمتمة بغير مبالاة:
-كويس.
اغتاظت “فادية” من برودها المسيطر عليها، فوبختها:
-تعرفي إنك كنتي قليلة الذوق أوي معاه.
ضيقت عيناها باسترابةٍ، وتشكك، فأسلوبها لم يكن مريحًا، وتساءلت:
-والمفروض أتعامل إزاي؟
بتحيزٍ واضح أخبرتها:
-ده شكله حلو، وابن ناس، ومحترم، ليه ياخد عنك فكرة إنك غلسة؟
أعطتها نظرة مُفادها أنها لا تشعر بالارتياح لاستمرارها في التطرق لسيرته، وعبرت عن ذلك بقولها:
-حضرتك مش ملاحظة إنك ما بطلتيش كلام عنه!
لم تخفِ نواياها الحسنة عنها، فأفصحت في صراحةٍ:
-أصله الصراحة فرصة حلوة لأي بنت إنها ترتبط بيه، هو مش متجوز صح؟ أنا بصيت في إيده ما شوفتش أي دبل.
في أغلب الظن كانت زوجة عمها تحاول التمهيد لخلق رابط من التجاذب بينهما، فقطعت عليها السبيل لذلك الانسجام المرسوم فقط في مخيلتها بترديدها المستمتع:
-أنا رايحة أنام، ومتشكرة على العباية، كانت حلوة عليا.
وكأنها ذكرتها بما لفت نظرها، فعنفتها:
-ما دولاب بنات عمك مليان حاجات حلوة، ملاقتيش إلا عبايتي يا “بيبو”؟
جاء ردها مستنكرًا:
-هو أنا رايحة أقابل عريس؟
لم تكمل باقي عبارتها إلا في رأسها:
-ما هو شافني في أسوأ حالاتي، بكيس الزبالة!
تنبهت إلى “فادية” وهي مستمرة في عتابها:
-برضوه يا “بيبو”، الانطباع الأول بيدوم.
أطرقت رأسها قليلًا لتردد بصوتٍ يعبر عن حرجها، وبالكاد خرج من بين شفتيها:
-وأنا انطباعي معاه مليان بيض ونسكافيه، وعجة، وحاجات تانية!
………………………………………..
تألقت النجوم في السماء المظلمة لتلألأ فيها بعظمةٍ وجلاء، فكانت تشاهدهم بلا مللٍ من خلف زجاج نافذتها، وكأنها تسبح بعقلها في الأفق الواسع الممتد أمامها، تنهيدة وراء أخرى تحررت من صدرها لتخفض بعدها بصرها ناظرة إلى الساعة الذكية التي تلقتها منه كبديلٍ عن هدية زوجة عمها المُعطلة. تأملتها “بهاء” بتحيرٍ، والعديد من الأفكار المتخبطة تدور في رأسها، نفخت في سأمٍ، وتساءلت:
-هو طبيعي أني أفكر فيه بعد كل اللي حصل؟
ظهرت على تعبيرات وجهها تكشيرة مستهجنة، وأخذت توبخ نفسها:
-أصلًا ده ما ينفعش، ومش منطقي.
أوصدت النافذة، وأسدلت عليها الستائر، لتسير نحو تسريحة المرآة، تركت الساعة الذكية على سطحها الزجاجي، بجوار قنينة العطر، لتتجه إلى فراشها. ألقت بجسدها عليه، وخاطبت نفسها بحسمٍ:
-هي فترة وهتعدي، وهيتنسى ده كله.
استمرت على نفس الوتيرة المتشددة، لتقضي في المهد على بذرة ما يتخلل مشاعرها:
-غلط إني أعمل كده، ما جايز يكون مرتبط، ليه أعشم بنفسي بوهم؟
وضعت الوسادة على رأسها، وضغطت بها على وجهها مكملة تحذيرها الصارم لنفسها:
-إياكي تسمحي لنفسك تفكري في حاجة مش من حقك!
انتوت ألا تتساهل مع نفسها مُطلقًا إن تراخت وسمحت لعقلها بمواصلة التفكير فيه، عقدت العزم على أن تكون حريصة تمام الحرص على ألا تتعمق في أي شيءٍ يخصه، ولتبقي مشاعرها وأحاسيسها المضطربة على السطح، لئلا تقع في وهم الحب أحادي الجانب.
……………………………………….
رغم أن يومه كان حافلًا بالكثير من الأحداث، إلا أنه لا يقارن بطرفة رؤية “بهاء” على هذه الوضيعة الساخرة، فكلما تذكر تداركها لصدمة قيامها بإعطائه كيس القمامة بعفويةٍ تتسع ابتسامته، حتى تلبكها لرؤيته في منزلها، وخجلها من مظهرها غير الأنيق أثناء استقبالها له، واستنكارها لهديته المفاجئة، بل وهروبها المفتعل من محيطه كان محببًا إليه، ويشعره بالسرور والراحة.
استرخى “عمر” في رقدته على فراشه، متكلمًا دون صوتٍ:
-أنا مشوفتش زيها بصراحة.
مضى الوقت طويلًا عليه وهو لا يزال شاردًا في استعادة تفاصيل زيارته بكل ما حدث فيها، كأنما يريد حفرها بعمقٍ في ذاكرته للأبد، فلا تُمحى بسهولة، وليظل مستمتعًا بها دومًا. اعترف لنفسه في لحظة تهورٍ عابرة:
-وهي تستاهل إن الواحد يفكر فيها، وما يسبهاش!
…………………………………………
في موعد التدريب الأساسي بالأكاديمية، كلتاهما كانتا تجلسان في مقعديهما المعتادين بالقاعة الدراسية، وترتديان الزي الرياضي حسب الرسالة الإلكترونية المرسلة بضرورة الالتزام به في هذا اليوم. برطمت “بسنت” في تذمرٍ، وهي تتلفت حولها كاللصوص، وكأنها تخشى قدوم أحدهم لمباغتها بالأسلحة:
-أنا مش عارفة سمعت كلامك إزاي، ووافقت أكمل.
تنهدت “بهاء” قبل أن تخاطبها بنبرة عقلانية:
-مقدمناش غير إننا نخلصه، علشان ما تبقاش خسارة من كله، فلوس ومجهود.
كانت غير مقتنعة بتبريرها، وهمهمت بإحباطٍ:
-وربنا احنا هنخسر صحتنا على آخره.
لفت نظرها الساعة الذكية التي ارتدتها حول معصمها، فسألتها بفضولٍ:
-الساعة دي جديدة ولا إيه؟
خفضت من نبرتها وهي تجيبها:
-ما أنا قولتلك إن “عمر” جابهالي مكان اللي اتكسرت وقت ما جه عندنا.
هزت رأسها معقبة:
-أيوه صح، أنا تركيزي بقى صفر اليومين دول.
ما لبث أن انتفضت في جلستها كالمصعوقة عندما ولج “عمر” إلى القاعة، ومن خلفه “أنس” و”أمير”، ليستهل الأول حديثه مخاطبًا الجميع:
-صباح الخير.
لمعت عيناه بومضة غريبة عندما أبصر “بهاء” جالسة بين الحضور، كان سعيدًا للغاية لتواجدها، بعد انقطاعٍ لعدة أيامٍ، وكأن في ظهورها بهجة لذيذة، ومن النوع المحبب إلى النفس، بينما همهمت “بهاء” في خفوتٍ شديد حينما رأته يتطلع إليها بهذه الطريقة المربكة لها:
-استر يا رب.
إلى جوارها دمدمت “بسنت” بصوتٍ خافت، وفي استياءٍ مرتاع:
-هيجي منين الخير واحنا شايفينكم؟!
وقف الثلاثة متجاورين، وبشموخٍ، ليستأنف “عمر” كلامه بسلاسةٍ:
-النهاردة عندنا حاجة لطيفة، واثقين إنها هتكون مفيدة جدًا ليكم على المستوى الشخصي، وبعيدًا عن النظريات المعتادة وروتين الدراسة.
ما إن سمعت “بسنت” ذلك حتى برقت عيناها في قلقٍ، واستطردت بتوجسٍ:
-هما دول عندهم حاجة لطيفة ولا خفيفة، ده كله ضرب في المليان!
وكأن قلبها قد تنبأ بما تخشى حدوثه، فقد ظهرت من وراء الثلاثة شابة تبدو رغم هدوء ملامحها قوية العضلات. قدمها “عمر” إليهم بعدما تنحى للجانب ليعطيها مساحتها للحديث:
-كابتن “رشا” النهاردة هتكون ضيفتنا في المحاضرة.
في رنة تفاخرٍ أردفت “رشا” قائلة:
-شكرًا ليك سيادة الرائد، وحقيقي شرف ليا أكون متواجدة هنا في الأكاديمية.
تقدمت في خطاها لتمسح الجالسين بنظرة شمولية عامة، قبل أن تتابع:
-طبعًا حضراتكم أول مرة تشوفوني، بس أنا المسئولة عن تعليم مبادئ فنون الدفاع عن النفس، مش بس هنا، لأ في أماكن تانية مهمة، زي العمليات الخاصة.
بدا الجميع مصغيًا بانتباه كامل لما تفوه به، فانتشت لرؤيتهم على هذه القدر من الاهتمام، وأكملت:
-من تقييمات التدريب الميداني الأخير، تم استدعائي لتدريب حضراتكم، وبمساعدة المتخصصين على المهارات الأساسية للفنون القتالية.
تولى “عمر” مهمة التوضيح عندما قرأ علامات الحيرة على وجوه الجالسين:
-ببساطة مطلوب من حضراتكم تتعلموا كام حركة بسيطة تساعدكم في حماية نفسكم، وقت الخطر…
ركز بصره على “بهاء” تحديدًا، حينما استأنف باقي جملته، وكأنه يقصدها به1ا الكلام الجاد:
-وخصوصًا السيدات والآنسات اللي بيكونوا مطمع لأي حد بيفكر إنهم لقمة طرية وسهلة.
تلبكت “بهاء” من نظراته المصوبة نحوها، شعرت وكأنه يسدد سهامًا إليها لتخترقها، فتفسد عليها خططتها بالصلابة والجمود في حضوره، بينما انقبض قلب “بسنت” بقوةٍ، وتساءلت في خوفٍ قد أخذ يبزغ على وجهها قبل نبرتها:
-هما ناويين على إيه؟
في سخرية مستترة علقت “بهاء”، وقد تهدل كتفاها للأسفل:
-شكله هيبقى تدريب نينجا!
وكأنه كان ينقصها ذلك، فاستطال وجهها في صدمةٍ لتردد بتهكمٍ:
-يا ختاي، هو كل المآسي كده جاية على مقاسي؟
ما لبث أن تملك الفزع من أوصالها، وراح يتفشى في باقي جسدها، لتشتكي بتحسرٍ وعجز إلى رفيقتها:
-أنا مش هستحمل شلوت واحد من أي حد ……………………………….. !!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ضبط وإحضار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى