روايات

رواية ضبط وإحضار الفصل العاشر 10 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار الفصل العاشر 10 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار الجزء العاشر

رواية ضبط وإحضار البارت العاشر

ضبط وإحضار
ضبط وإحضار

رواية ضبط وإحضار الحلقة العاشرة

اشتهرت هذه المدربة المميزة بمهاراتها الفائقة في تدريب وتعليم السيدات بمختلف الأعمار على فنون الدفاع عن النفس، وتم الاستعانة بها في أكثر من مؤسسة عسكرية وتابعة للشرطة لتولي هذه المهمة الجادة، فأثبتت جدارتها، وأُشيد بكفاءتها وبدورها الفعال في نقل خبراتها إلى الغير. كانت متحمسة لنقل خبرتها العملية للجميع، السيدات والرجال على حد السواء، لهذا اهتمت بتوضيح كل التفاصيل بدقةٍ وروية.
تحت مظلة التوتر، وقفت كلتاهما بعد انتقــال جميع الدارسين إلى الصالة الرياضية الواسعة الملحقة بالأكاديمية، تنظران بترقبٍ إلى المدربة الرياضية المخضرمة التي استمرت في شرح المبادئ الأساسية لفنون الدفاع عن النفس بشكلٍ نظري، قبل أن تطبق ذلك عمليًا بعد تطوع أحدهم لمعاونتها. كانت الاثنتان تنتفضان بتفاوتٍ بمجرد أن تؤدي حركة عنيفة تطرح بها ذلك المتطوع أرضًا. تكلمت “رشا” مشيرة بيدها نحو العنق:
-لو ضربتوا اللي بيهاجمكم من النقطة دي هتسببوا ليه اختناق لحظي، وبتكون فرصة إنكم إما تهاجموه، أو تهربوا، على حسب خطورة الموقف.
ثم وجهت كلامها إلى “عمر” تستأذنه:
-ممكن حضرتك تتفضل تعمل تجربة عملية قصادهم.
تقدم خطوة للأمام مبديًا ترحيبه:
-مافيش مشكلة.
التفت ناظرًا نحو رفيقه يطلب منه:
-تعالى يا “أمير”.
مَثَّل كلاهما أنهما يتشاجران يدويًا مع بعضهما البعض، ليقوم بعدئذ “عمر” بتأدية الحركة التي شرحتها المُدربة قبل لحظات، وزاد عليها بإضافة بعض المهارات الخاصة ما بين الالتفاف والمراوغة ليبدو التمثيل أقرب للواقع عنه مجرد محاكاة عادية.
التصقت “بسنت” برفيقتها، وتعلقت بذراعها لتهمس لها:
-ده لو هما هيدربونا بالشكل ده هيبقى اسمه تحرش مش دفاع عن النفس.
كتمت “بهاء” ضحكة وشيكة، واستطردت:
-استني أما نشوف هينهوها إزاي.
تصلبت “بسنت” في موضع وقوفها، واقشعرت شعيرات جلدها عندما رأت “عمر” يلقي بـ “أمير” ويطرحه أرضًا في خفةٍ بعدما تمكن من الإمساك به من ذراعه فقط، لتهمس بذهول:
-شوفتي الرزعة، دي فيها ديسك.
كانت رفيقتها مثلها، مشدوهة بما يدور، وراحت تقول هي الأخرى:
-أنا عصعوصي مش هيستحمل هبدة من دول.
وافقتها في الرأي هاتفة:
-ولا أنا وحياتك يا “بيبو”
جلجل صوت “رشا” فجــأة مناديًا:
-الآنسات يتفضلوا من هنا، وأنا هكون معاكو حالًا.
نظرت كلتاهما إلى بعضهما البعض بترددٍ، وبقيتا تتابعان ما تقوم به الشابات من حولهما، ليضطرا في النهاية للتحرك، ومجاراة البقية. ألقت المدربة أوامرها التوضيحية قائلة:
-كل اتنين يقفوا قصاد بعض، وياخدوا وضعية التشابك.
قلدت “بسنت” نفس ما تفعله الأخريات، وطلبت من رفيقتها في صوتٍ خافت:
-بصي يا “بيبو” احنا الاتنين ستر وغطا على بعض، نمثل إننا بنتخانق ومقطعين بعض، جايز يقتنعوا ويحلوا عن سمانا.
على الفور رحبت باقتراحها قائلة:
-اتفقنا.
ما إن أطلقت المدربة صافرتها حتى بدأ التلاحم ما بين الشابات وبعضهن البعض، وكذلك الشباب، لتقوم بتوجيه كل ثنائي على حدا ليتمكنا من تحسين مهارتهما، وعاونها في الإشراف والإرشاد كلًا من “عمر” و”أمير”. تقدمت “رشا” من الصديقتين، وتطلعت إليهما بسخريةٍ قبل أن تستطرد:
-كده ما ينفعش، ده مش تدريب.
أشارت لها “بسنت” بيدها محتجة:
-ما أنا بضرب أهو، حتى شوفي.
دون أن تدرك بعقلها كيف أمسكت بها من رسغها، أو حتى تمكنت من لف ذراعها خلف ظهرها، وجدت “بسنت” نفسها مجبرة على الانحناء، والجلوس على ركبتها، في وضعية ذليلة، ومن خلفها “رشا” توجهها:
-الصح تعملي كده.
تقوست شفتاها في تحسرٍ قبل أن تهمهم:
-أه يا دراعي، محدش قالي إنه هيحصل فيا كل ده!
وجهت “رشا” أمرها إلى “بهاء”:
-جربي معاها قصادي تاني.
هزت رأسها بالإيجاب، وحاولت تقليد ما قامت به؛ لكنها فشلت، فاضطرت أن تعيد المحاولة عدة مرات حتى نجحت في إخضاع رفيقتها التي راحت تولول في تذمرٍ.
………………………………………
بدأت التدريبات تأخذ منحنًا أكثر جدية، مع إصرار المدربة على تجربة كل ما يمكن أن يفيد الدراسين، ليتمكنوا في النهاية من إتقان عدة حركات بسيطة للدفاع عن أنفسهم. مجددًا طلبت “رشا” المشاركة في استعراض حركة بعينها:
-هنستأذنك توريهم من تاني يا سيادة الرائد.
كعادته قال “عمر” مرحبًا:
-تمام.
هذه المرة استعان بأحد شباب الدارسين للتلاحم معه، وقبل أن يرفعه من خصره وينطرح به أرضًا هتف:
-بصوا كويس.
كتمت “بسنت” شهقتها المذهولة، بينما همهمت “بهاء” بانبهارٍ:
-ده خده سوبلكس.
اشتدت عروق “عمر”، وبدا متأهبًا للقــتال اليدوي، فمالت “بسنت” مرة ثانية على رفيقتها معلقة في نبرة خفيضة:
-شايفة العضلات والمجانص؟
ردت بصوتٍ مماثل في خفوته:
-أه شايفة!
سألتها في شيءٍ من الممازحة:
-طب إنتي عندك عضلات؟
جاءت إجابتها متهكمة:
-لأ، عندي عضم بس.
ردت عليها “بسنت” بهزة خفيفة من رأسها:
-الحال من بعضه، جلد على عضم!
كان من الصعب عليها مغالبة تخيل الشعور بالألم، خاصة مع كل حركة عنيفة تؤدى أمامها، فماذا عن تجربته فعليًا؟ لذا كان من الطبيعي أن تبحث عن أي وسيلة تنجيها من التهلكة .. مدفوعة بغريزة الخوف خاطبت “بسنت” رفيقتها في خفوتٍ وجدية:
-بقولك إيه ما تيجي نخلع من هنا قبل ما يقولولنا نجربها!
فكرت “بهاء” للحظاتٍ وكأنها تحسب ذهنيًا مخاطر المجازفة بفعل ذلك، حينما وجدتها صامتها، واصلت إقناعها لتهرب معها:
-هما ملخبوين مع باقي المجموعة، مش هياخدوا بالهم مننا، ولا من شاف ولا من دري.
أخيرًا حسمت “بهاء” أمرها، وشبكت يدها في يد رفيقتها لتسحبها معها مرددة:
-طب يالا بينا.
……………………………………………
دون أن يُحدثا أدنى جلبة، تسللت كلتاهما بحذرٍ إلى خارج الصالة الرياضية، تنفست “بسنت” الصعداء لأنها نجحت في الهروب مما اعتبرته جحيمًا مؤقتًا، وتمشت باسترخاءٍ مع رفيقتها تضحك على ما اعتبرته استغفالًا للآخرين. سرعان ما تبدلت قسماتها المبتهجة إلى فزعٍ جلي، فبدت وكأنها رأت عفريتًا من الجن، لتشهق مرددة عندما اعترض “أنس” طريقهما:
-أعوذ بالله من غضب الله.
اغتاظ الأخير من ردة فعلها المبالغ فيها، ونظر إليها شزرًا قبل أن يدور بعينيه على الاثنتين متسائلًا:
-على فين يا حلوين؟
لم تستسغ “بهاء” مطلقًا تواجده في محيطها، ولم تحبذ التعامل معه تحت أي ظرف، فهو لا يتوانى عن إزعاجها حينما تأتيه الفرصة لفعل ذلك، لهذا أجابته بتجهمٍ:
-رايحين الحمام، في مانع؟
سألها في تشككٍ، وهذه النظرة النارية مصوبة إليها:
-إنتو الاتنين سوا؟
على قدر المستطاع حاولت تجاهل سخافته المستفزة معهما، وردت:
-أه، عادي بتحصل.
بينما أضافت “بسنت” بسِحنةٍ منقلبة:
-نداء الطبيعة مالوش ميعاد.
كتف ساعديه أمام صدره مستطردًا وهو يغمز بعينه:
-شكلكم ناويين تكتوا في المداري.
اتسعت عينا “بسنت” في ذهولٍ، في حين ضاقت نظرة “بهاء” نحوه مدمدمة:
-أفندم!
حل تشابك ذراعيه، ثم وجه إصبعه تجاههما مكملًا:
-الحركات دي عدت علينا كتير.
قبل أن تفكر إحداهما في الاعتراض عليه، تفاجأت الاثنتان بقيامه بالإمساك بهما من ذراعيهما بيديه الاثنتين، شدهما في غلظةٍ نحو صالة التدريب هادرًا بهما:
-اتفضلوا معايا.
قاومته “بسنت” بأقصى طاقتها، وهددته علنًا:
-لو ما سبتنيش هصوت.
لم يعبأ بتهديدها قائلًا:
-وريني.
جرهما جرًا إلى الداخل، و”بسنت” تصيح عاليًا:
-الحقوني، هيموتني.
بالطبع نجح صوتها في لفت أنظار الجميع إلى ثلاثتهم، تشكلت علامات الحيرة والتساؤل على أوجه الناظرين، في حين أسرع “عمر” نحوهم، وتدخل متسائلًا بضيقٍ جم، ونظراته المحتدة مرتكزة على موضع يديه على ذراعي كلتيهما:
-في إيه اللي بيحصل هنا؟
تركهما “أنس” بعدما دفعهما بخشونةٍ للأمام مجيبًا إياه في شيءٍ من التهكم:
-جايب الجوز دول من برا، عايزين يفلتوا من التدريب.
في الحال اقتربت “بسنت” من رفيقتها لتحتمي بها، بينما تقدم “عمر” خطوتين للأمام، لتصبح كلتاهما خلفه، وكأنه درع لهما ليدرأ الأذى عنهما، وفي نفس الآن يغدو في مواجهة “أنس” الذي لا يكف عن مضايقتهما. رمقه بهذه النظرة الصارمة قبل أن يخبره:
-هو أصلًا مش إجباري عليهم!!
استنكر ما وصفه بتساهله معلقًا بوجومٍ:
-من إمتى بقى في الكورسات هنا إجباري واختياري؟!
ثم سلط نظرته الاحتقارية على الشابتين مُتمًا جملته ذات التلميح غير البريء:
-ولا هي لناس وناس؟!!
رد عليه في صوتٍ أجش صارم:
-أنا فاهم شغلي كويس، وعارف بعمل إيه.
ابتسم في استخفافٍ قبل أن يرد:
-لأ واضح.
تحداه متسائلًا:
-تحب تجرب تتدرب معايا؟
تحسس “أنس” عضلاته قائلًا بنفس الأسلوب التهكمي المستهتر:
-يا ريت، ده أنا حتى نفسي أشوف قدراتي وصلت لحد فين.
انتصب “عمر” في وقفته السامقة، فظهر انتفاخ عضلاته المصقولة، ثم أشار له ليتحرك نحو منتصف الصالة الرياضية قائلًا، وابتسامة مغترة تعلو محياه:
-زي الفل، اتفضل.
تقدم الاثنان معًا للأمام، ومن ورائهما همهمت “بسنت” في تشفٍ:
-يا رب تفرمـــه!
لترد عليها “بهاء” كذلك، مشاركة إياها نفس مشاعرها المتحيزة ضده:
-أمين، ويطلع من تحت إيده على المستشفى.
……………………………………
وسط أصوات التحميس التي لا تهدأ، تأهب “عمر” و”أنس” للتنافس في الحلبة الرياضية، لتقف “بهاء” و”بسنت” متجاورتين، في بقعة مكنتهما من رؤيتهما بوضوح. هاجم “أنس” أولًا، واستخدم ذراعيه تارة، وقدميه تارة أخرى، من أجل السيطرة على خصمه وهزيمته، بينما تمكن “عمر” من صد كل محاولاته لإسقاطه أرضًا، ليتولى بعدئذ مهمة الهجوم عليه، لم يتساهل مُطلقًا معه، وأذاقه من الركلات واللكمات، ما أفسد مظهر وجهه، وما سيترك آثار الكدمات على جسده لعدة أيام، لتنتهي الجولة بعد عدة دقائق بهزيمة “أنس” وحسم المكسب لصالح “عمر”.
صفقت “بسنت” ابتهاجًا بالنصر الكبير، وهللت:
-والله يستاهل.
أضافت عليها “بهاء” في سرورٍ:
-علشان يبطل يضايقنا.
ظهرت ابتسامة “بسنت” العريضة وهي تكمل:
-إن شاء الله يفضل راقد في السرير لحد ما نخلص التدريب ده.
التقت عينا “بهاء” بنظرة “أنس” النارية المتوعدة، فأشاحت ببصرها بعيدًا لتقول وهي تدير ظهرها إليه:
-شوفي بيبصلنا إزاي، هيمـــــوت طبعًا مننا.
تأبطت “بسنت” ذراعها قائلة:
-تعالي بعيد عنه أحسن، بدل ما يفش غِله فينا.
تناثر الجميع وافترقوا في هيئة مجموعاتٍ صغيرة، كانت معظمها ملتفة حول “عمر”، خاصة من الشابات، حيث بدا لهن كفارس الأحلام المغوار، أحست “بهاء” بشيءٍ من الغيرة تناوشها داخليًا وهي ترى غيرها يثنين على أدائه البدني الفائق، لم تدرك أنها أصبحت عابسة الملامح تقريبًا، لتنتبه لهذا وصديقتها تسألها:
-مالك؟ في حاجة بتوجعك؟
ادعت الابتسام نافية:
-لأ، عادي…
ثم تابعت بنزقٍ:
-مش المفروض نشكر الرائد “عمر” على مساعدته لينا؟
هزت “بسنت” رأسها موافقة بلا ترددٍ:
-أيوه، واجب.
سارت كلتاهما تجاهه، انتظرتا لعدة لحظاتٍ ريثما يصبح بمفرده، لتبادر “بهاء” بالحديث إليه في أدبٍ:
-سيادة الرائد ممكن كلمة؟
تقدم ناحيتهما ليصبح معهما فقط، ليستطرد قائلًا بابتسامة صغيرة لبقة:
-اتفضلوا.
أجلت “بهاء” أحبال صوتها متمتمة:
-شكرًا على كل اللي عملته علشانا.
قال مومئًا برأسه:
-ده واجبي.
نظرت إليه بتمعنٍ، لتشعر بهذه النغزة اللطيفة في أوتار فؤادها، وكأنه يعزف معزوفة راقية عليه بكلماته وهو يخاطبها:
-أنا زي ما وعدتك قبل كده، مش هسمح بحاجة تضايقك في اللي فاضل من التدريب.
خفقان قلبها تضاعف مع صدق عباراته، فتلبكت قليلًا وهي ترد بحرجٍ طفيف:
-كلك ذوق.
سألها بمكرٍ، وهو يراقب ردة فعلها عن كثبٍ:
-شغالة الساعة معاكي مش كده؟
عفويًا نظرت إليها، واحتضنتها بيدها الأخرى، لتشعر بسخونةٍ غريبة تنبعث من وجنتيها، وكأن عروقها قد فاضت بالدماء الدافئة فجأة، سرعان ما خفضت بصرها في خجلٍ لتتجنب تحديقه، قبل أن ترد بتلعثمٍ محسوس في نبرتها:
-آ.. أيوه، تسلم عليها…
لتتهرب من حصار نظراته المتابعة لها، جذبت رفيقتها من ذراعها قائلة بتعجلٍ وارتباك:
-تعالي نشوف كابتن “رشا”، شكلها عايزانا.
تولت “بسنت” عنها مهمة الاستئذان بعد التزامها الصمت لوقتٍ طويل، فأردفت:
-عن إذنك.
وكأنها أطلقت ساقيها للرياح، اندفعت بعيدًا عن محيطه، ورفيقتها تحاول مجاراة خطواتها، لتعلق في عبثيةٍ، وهذه الابتسامة الفرحة تصدح على شفتيها:
-واخدة بالك من اللي أنا واخدة بالي منه؟
ادعت جهلها مرددة بتوترٍ خجل:
-قصدك إيه؟
ضحكت في تسليةٍ قبل أن تقول بنفس الأسلوب المشاكس:
-شكل الصنارة غمزت.
نفت في التو ما تسعى صديقتها لتأكيده:
-دي تهيؤات.
استمرت “بسنت” على ضحكها المستمتع، قائلة بعدها بحبورٍ:
-ما هي بتبتدي كده!
سرى المزيد من الخجل بدمائها، فكان كفيلًا للحفاظ على سخونة وجنتيها، وانعكاس الحمرة بهما، ومع هذا ظلت تراوغ وتدور حول ما فاهت به رفيقتها لتلهيها عن ذكر هذه المسألة مجددًا.
………………………………..
فيما بعد، تجاذبت الاثنتان حديثًا روتينيًا بينهما، خلال استعدادهما لمغادرة الأكاديمية بعد انقضاء التدريب في الصالة الرياضية، أثناء سيرها البطيء، استطردت “بهاء” في نوعٍ من الشكوى:
-احنا محتاجين باسط عضلات بعد كل الفرهدة دي.
ردت “بسنت” بتذمرٍ ساخر:
-وده هينفع معانا؟ احنا نفسنا اتقطع.
استوقفهما في منتصف الطريق الصوت المنادي:
-يا آنسات!
التفتت “بهاء” ناظرة خلفها وهي تتمتم:
-استر يا رب.
رأت كلتاهما ما يحمل في يديه من زجاجات مشروب مثلجة، قدمها لهما قائلًا بلباقةٍ:
-اتفضلوا، حاجة ساقعة تعوضوا بيها الطاقة اللي خسرتوها.
بلا تفكيرٍ اختطفته “بسنت” من يده قائلة في مديحٍ:
-والله إنت بتفهم.
نظر لها بتعجبٍ، فصححت من زلة لسانها مبتسمة ببلاهةٍ:
-قصدي عندك ذوق.
كان حلو اللسان رغم صرامة ملامحه، حيث تبسَّم لها قائلًا:
-ألف هنا.
تحدثت إليه “بهاء” قائلة بامتنانٍ بعدما أخذت خاصتها:
-شكرًا ليك.
في نفس الأسلوب المهتم سألهما:
-معاكو عربية توصلكم ولا لأ؟
ابتلعت “بسنت” ما في جوفها بتعجلٍ لتجيبه:
-أه أنا جاية بعربيتي.
استحسنت ذلك معلقًا بإيجازٍ:
-كويس.
وكأنه يبحث عن وسيلة لإطالة الحديث معهما، فسألهما في شيءٍ من الفضول:
-سمعتوا عن اليوم الترفيهي؟ تحبوا تشتركوا فيه؟
تبادلت الاثنتان نظرات حائرة، لتبادر “بهاء” في الاستفهام منه:
-يوم ترفيهي بتاع إيه؟
في حين علقت “بسنت” بتهكمٍ، وهي تدلك ذراعها:
-هو إنتو أصلًا ليكم في الترفيه؟ أشك!!
كان لا يزال محافظًا على ابتسامته الودودة وهو يخبرهما:
-أه، طبعًا، احتفاليتنا كل 3 شهور.
في نبرة ممازحة سألته “بهاء”، وحاجبها مرفوع للأعلى:
-ودي بتعملوا فيها إيه؟ بتخلصوا على بعض؟!!
ضحك أولًا قبل أن يوضح لها سوء الفهم لديها:
-مش للدرجادي، احنا بنقضي وقت لطيف سوا، كأننا عيلة واحدة، وفي كل مرة بنختار مكان جديد نتجمع فيه، القادة والأساتذة مع الطلبة.
سكتت كلتاهما، ولم تتمكنا من منحه الرد المباشر، ليخاطبهما في رجاءٍ:
-أتمنى أشوفكم فيه.
جاء رد “بهاء” دبلوماسيًا إلى حدٍ ما:
-إن شاء الله هنفكر في الحكاية دي.
هز رأسه بتفهمٍ، ليقول بعدها:
-تمام، هستأذنكم أشوف اللي ورايا.
أشارت له “بهاء” بيدها ليمضي في طريقه قائلة:
-اتفضل.
انتظرت ذهابه لتتوجه بسؤالها إلى رفيقتها:
-إيه رأيك؟
علقت “بسنت” حقيبتها على كتفها قائلة بإرهاقٍ:
-أنا مش قادرة أفكر دلوقتي، محتاجة أنام الأول.
لحظتها رفعت “بهاء” ذراعها لتلفه حول كتفيها، فتضمها إليها، وقالت بحنوٍ:
-ماشي يا “بسبوسة”، نتكلم آخر النهار لما نرتاح ونفوق.
…………………………………….
شروده صار كثيرًا في الآونة الأخيرة، خاصة حينما يختلي بنفسه في غرفته، كان يشعر بالعجز عن فعل أي شيء اعتاد ممارسته حينما يمتلك وقت الفراغ، يبدو أنها استحوذت على تفكيره للدرجة التي جعلت أي شيء يُقارن معها بلا قيمة. ولجت السيدة “نهيرة” إلى غرفة ابنها، نادته لأكثر من مرة لكنه لم ينتبه إليها، مما أكد لديها ذلك الشعور الأمومي بأنه يكن المشاعر الخفية لإحداهن، رغم سعيه لإنكار ذلك في البداية. لم تستطع كبح نفسها من سؤاله:
-شايفاك ساكت كده، ومش بتتكلم معايا زي عوايدك.
فرك “عمر” مؤخرة عنقه قائلًا بعد حمحمة مقتضبة:
-بفكر في الشغل.
حدقت في عينيه مباشرة لتسبر أغوار عقله، قبل أن تراوغه في سؤالها:
-الشغل برضوه ولا حد في الشغل؟
لم يستطع إخفاء ما يستثير عواطفه مؤخرًا عليها، ومنحها ردًا شبه مُرضٍ لها:
-يعني، من ده على ده!
ابتسمت السيدة “نهيرة” في حبورٍ لأنه أخيرًا قد تخلى عن فكرة العزوبية، وربما عثر على ضالته المنشودة في إحداهن، لهذا دعت له بصدقٍ:
-ربنا يرزقك يا حبيبي ببنت الحلال اللي تستاهلك.
وكأن طيفها الرقيق قد تجسد أمامه، ليحتل الفضاء الوهمي الذي لا يراه سواه، ليجد نفسه يردد في رجاءٍ كبير:
-يا رب.
………………………………………..
حرصت على رفع شعرها ولفه وربطه في منتصف رأسها قبل أن تلامس وجنتها الوسادة الناعمة، تثاءبت “بهاء” بصوت مسموع، ومطت أطرافها بإرهاقٍ، لتخفض من يدها حتى تتحسس بطنها المنتفخ، وهي تئن، يبدو أنها لم تتعلم من درس الماضي، وتناولت وجبة أخرى دسمة بصحبة عائلتها، لترجو من الله ألا تصاب بعسر الهضم أو تعاني من آلام معدتها، ناهيك عن خوضها لأحد الكوابيس العجيبة.
كان من الأسلم لها تناول الدواء، فأخذت واحدًا لتهدئة معدتها، وغرقت بعدها في سباتٍ عميق، كانت محظوظة للغاية لتجد نفسها هذه المرة تخوض حلمًا ليس هو ضيفه المزعج فيه، حيث كانت على هيئة كَنكَة صنع القهوة، اندهشت باستنكارٍ لأن بدنها المعدني غير نظيف، ويحتاج لإزالة العالق فيه من آثار حرق بقايا القهوة. تساءلت “بهاء” مع نفسها في تبرمٍ:
-طب مين هيجي ينضفني دلوقت؟
ثم أمعنت النظر في ذراعها المعدني متسائلة بعبوسٍ:
-وبعدين إيدي قصيرة أوي، هيمسكوني إزاي منها؟
قفزت على طاولة المطبخ الرخامية في سعادة كبيرة عندما رأت زوجة عمها قادمة، هللت تناديها:
-طنط “فادية” أهي.
حينما اقتربت منها الأخيرة أمرتها في حماسٍ:
-هاتي السلك وادعكي كويس يا طنط.
راحت زوجة عمها تفرك، وتدعك، وتزيح البقايا الملتصقة عن كل جزء فيها حتى ظهر لمعانها، لتخبرها “بهاء” بعدئذ بشيءٍ من الشكوى:
-شايفة القعر مش نضيف لسه، عايز يتحك أكتر.
راقبتها وهي تضع سائل التنظيف اللزج على السلك المعدني، قبل أن تقوم بمسح بدن وعائها الصغير من الداخل ليصبح أكثر لمعانًا وبريقًا، وكأنه قطعة من المرآة. تباهت بمظهرها البراق قائلة:
-يا سلام، والله بقى شكلي جميل وحلو.
انتشت حينما وجدت زوجة عمها تحملها لتضعها على الموقد، وطلبت منها بسعادة عامرة:
-ولـــعي عين البوتجاز عليا واعملي أحلى قهوة فيا!
كانت تبتسم كالبلهاء وهي ترى بدنها في أبهى حلة، وكأنها ابتاعتها للتو، لتستفيق بعدها “بهاء” وهي مذهولة من حلمها هذه المرة. اعتدلت في رقدتها متسائلة بارتباكٍ قلق:
-يا ترى هيحصل فيا بعد كده إيه؟!!!
………………………………………
بعد مكالمة غير مريحة، تلقاها منها قبل يومين، التقى بها في هذا المطعم المعزول عن زحام المدينة، ليعرف منها سبب إصرارها على مقابلته بالرغم من القطيعة بينهما. أتت “ميرا” على الموعد المحدد، فسارت في غنجٍ ودلال، لتتجه إلى الطاولة المحجوزة مسبقًا، حيث يجلس “أنس” عليها. استقرت جالسة في مواجهته، لتتفاجأ بجفاء معاملته وبروده، تفرست في ملامحه، ورأت ما تبقى من آثار التورم أسفل عينه، كانت غير قادرة على منع نفسها من الابتسام وسؤاله:
-دي وحمة في وشك؟
أعطاها نظرة مفاداها أنه لا يقبل المزاح في هذه المسألة تحت أي ظرف، ليقول في غلظةٍ:
-إنتي طلبتي تقابليني علشان تستخفي نفسك معايا؟
بسمةٍ من العنجهية والتعالي أجابته:
-أكيد لأ.
وضع “أنس” ساقه فوق الأخرى متسائلًا بنفورٍ:
-خير، عايزة إيه؟
تنهدت هاتفة في هدوءٍ مريب:
-أقولك على حاجة مهمة، بس لما نشرب حاجة الأول.
نقر بأصابعه على سطح الطاولة في تعصبٍ ملحوظ، ليأمرها بغير صبرٍ وهو يدعي انشغاله بالنظر إلى شاشة هاتفه المحمول:
-مش عايز، معنديش وقت أضيعه.
قالت باقتضابٍ بعدما أرجعت ظهرها للخلف كأنما تستعد للتمهيد لما هو قادم:
-أوكي.
بدت نظرتها في هذه اللحظة قاتمة، قاسية، مغلفة بكل أنواع الشرور، وهي تدعي كذبًا، وبلا وجه حق:
-أنا عايزاك تعرف إن اللي بوظ كل حاجة كانت بينا هي .. صاحبتي “بهاء” ……………………………… !!
……………………………………………….

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ضبط وإحضار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى