رواية نوسين الفصل الثالث 3 بقلم رحمة سيد
رواية نوسين الجزء الثالث
رواية نوسين البارت الثالث
رواية نوسين الحلقة الثالثة
أخذت زفير بصوتٍ عالٍ ما أن وقعت عيناها على الشخص الذي كان يقف كاللص خلفها، والذي لم يكن سوى خالتها، التي سألتها بهدوء وهي تقترب منها:
-مالك يا برقوقة؟
فهزت البرقوقة رأسها نافية وهي تجيبها ببساطة تجانست مع التهكم الملتصق بلسانها:
-لا مفيش أي حاجة، أنتي كنتي هتخلي برقوقة تقطع الخَلَف بس.
-ما أنتي اللي عمالة تتكلمي بصوت واطي لوحدك هنا ولا كأنك شغالة مع أمن الدولة!
لوت شفتاها مشيرة لنفسها بضحكات متقطعة يخالطها الاستهجان:
-بذمتك دا منظر واحدة شغالة مع أمن الدولة! وأشتغل معاهم إيه بقا ان شاء الله؟ يخوفوا بيا المساجين؟
-وحياتك ولا حتى دي هتنفعي فيها.
فاعترضت بتذمر:
-في كلام أحسن من كدا وبيدي نفس المعنى على فكرة.
قالت بصلافة وهي تشير بعينيها نحو الشاي:
-فين الشاي يا برقوقة وبطلي رغي.
توسلتها نوسين محاولة إقناعها:
-بطلي تقوليلي برقوقة، أسمي نوسين، او أقولك.. بلاش نوسين ياستي دا أسم مسهوك أساسًا، قوليلي نونا زي ما الناس بتقولي.
سألتها بلامبالاة:
-وأنا مالي بالناس؟
راحت تحاول استعطافها مضيقة عينيها وما بين حاجبيها كقطة وديعة:
-يعني يرضيكي يا خالتي أبقى شابة كبيرة زي الوردة كدا والناس تسمعك بتقوليلي برقوقة!
-أنتي برقوقة وهتفضلي برقوقة حتى لو بقا عندك تسعين سنة.
تابعت دون وعي لما يتسرب من لسانها السليط:
-هو أنتي هتفضلي عايشة لحد ما يبقى أنا عندي تسعين سنة وتقوليلي يا برقوقة!
فشهقت الاخرى صارخة فيها بصدمة حادة:
-بنت! أنتي قولتي إيه؟ بتفوولي عليا يا برقوقة؟!
وضعت يدها على فاهها سريعًا تكتمه وكأنها تمنعه من الثرثرة المُطلقة وغمغمت:
-اسفة، ماقولتش، ماقولتش.
فتحركت خالتها لتخرج من المطبخ وهي تأمرها بصلابة:
-اتفضلي يلا هاتي الشاي وحصليني على برا.
تمتمت مغلوبة على أمرها:
-حاضر.
ثم عضت يدها بغيظ وهي تطلق صرخة مكتومة مرددة لنفسها وداخلها رغبة بالبكاء تتصاعد:
-أنا اللي جبته لنفسي، أنا مني لله.
****
أحضرت “نوسين” أكواب الشاي لهما، مدت يدها بالكوب لخالتها اولًا فأخذته شاكرة إياها، ثم عمر فعل المثل ولكنه بالطبع لم يفوت فرصة مضايقتها بسبب لسانها السليط، فرسم ابتسامة أبرزت أسنانه دون أن تتلون بالمرح، وقال بنبرة صبيانية بعض الشيء:
-تسلم إيدك يا أنسة برقوقة.
إنتبهت خالتها للفظ “أنسة” الذي خانه وهرب من سجن التحفظ والحذر الذي يُقيمه عقله، فعقدت ما بين حاجبيها وكادت تنطق متساءلة، ولكن نوسين دعست على قدم “عمر” بغل سببه الظاهري خطأه العفوي أمام خالتها ولكنه في الحقيقة بسبب ذلك اللقب الذي تكرهه أكثر من أي شيء، وأردفت من بين أسنانها:
-الله يسلمك يا حبيبي.
فسارع عمر باغتصاب ابتسامة زائفة على شفتيه، وردد بقليلٍ من التوتر وهو ينظر نحو خالتها كاتمًا الألم الطفيف في قدمه:
-بهزر طبعًا.
أنقذه صوت طرقات على الباب، فتوجهت نوسين نحوه لتفتحه، تفاجأت امامها برجل في بداية عقده الثامن، يرتدي بذلة سوداء، وبين يديه باقة ورود حمراء، وعلى وجهه المُجعد ترتسم ابتسامة واسعة سعيدة، وجواره امرأة اصغر منه عمرًا، يتماثل فمها لابتسامة مشابهه للاخر، فهزت نوسين رأسها وهي تستفسر بهدوء:
-نعم؟ انتوا مين؟
تراجعت الابتسامة عن شفتيها قليلًا وهي تخبرها:
-أنا فوزية جارتكم، امال فين ثريا ؟؟
أشارت بيدها للداخل وهي تجيبها بينما عيناه لم تنزاح عن ذلك الرجل بشك:
-جوه، بس مين الاستاذ؟
-دا الاستاذ ممدوح العريس.
للحظات لم تستوعب نوسين ما سمعته جيدًا، فرددت ببلاهه تلقائية:
-عريس! هي خالتي كانت لسه بتدورلي على عريس، بس أنا اتجوزت خلاص يا طنط.
إنكمشت ملامح الرجل وكأن الحديث الدائر أصابه بالضيق، فيما اعترضت فوزية في حنق من غباء نوسين:
-بتدورلك إيه وأحنا مالنا بيكي، دا عريس ليها هي.
إستعلمت من جديد بسذاجة أصابت عقلها فجأة وكأنه توقف عن العمل بسبب المفاجأة:
-هي مين؟
تأففت بنفاذ صبر:
-يوه! خالتك، هي فين ناديها كدا.
ابتعدت نوسين من أمام الباب وهي تشير لهما نحو الداخل، وعقلها عاد من جديد يعمل ببطء في تحليل ما وقع على اذنيها، فاتسعت حدقتيها وفتحت فاهها وهي تغمغم لنفسها بعفوية متذكرة:
-اااه، اتاريها لابسة الحتة اللي على الحبل، وحاطالي روچ أحمر، وأنا اللي قولت دا السن وعمايله، طلعت مش سهلة ثريا دي.
إنتفخت اوداج الرجل بغرور ذكوري وداعب بأصابعه خصلاته البيضاء المصففة بعناية، فانتبهت لهما نوسين وقالت بابتسامة مصطنعة مرحبة:
-اتفضلوا، العروسة جوه.
دلفا معًا نحو الداخل، فنهضت خالتها “ثريا” ترحب بجارتها وصديقتها بمودة:
-بنت حلال يا فوزية لسه كنت هقول لبرقوقة تناديكي.
-تناديني إيه ما أنتي عارفة إن أحنا جايين.
أعلمتها فوزية متعجبة، لتسألها ثريا بتعجب لا يقل عن تعجبها:
-أنتوا مين، وجايين فين؟!
مالت عليها تتشدق بعتاب خفيض أقرب للتوبيخ:
-يوه يخيبك يا ولية أنتي رجعتي تنسي تاني، طب لمي الدور حتى قدام الراجل.
همست ثريا بفضول:
-راجل مين؟
لبت سؤالها الفضولي بهمس مماثل من بين أسنانها ضاغطة على حروفها:
-العريييس.
وكأن الادراك ضرب عقلها كبرق في ليلة مظلمة ليُنيرها بغتةً، فبدأت وجنتاها تتورد شيئًا فشيء وهي تُنزل رأسها ارضًا وتفرك أصابعها بتوتر خجول، متابعة برقة فتاة في العشرين من عمرها وليست امرأة في عقدها السابع:
-اهلًا وسهلًا يا استاذ ممدوح، اتفضلوا.
فتقدم ممدوح مبتسمًا وتودد لها:
-يزيد فضلك يا ست الكل.
بينما نوسين تهز رأسها مراقبة اياهم بابتسامة بلهاء غير مصدقة وهي تردد بتأثر كاذب:
-يا حبايبي!
ثم إنتبهت لعمر الذي كان غارق في الضحك، وكأنها تذكرت وجوده للتو، فاقتربت منه متسائلة بغيظ:
-أنت بتضحك على إيه؟
أجابها بحروف متقطعة من بين ضحكاته التي كان يحاول كتمانها:
-بصراحة أنا كنت مفكر إن أنتي بس اللي لاسعة، بس ماشاء الله طلعت العيلة كلها هوبا.
ضمت ذراعيها لصدرها، وتلفظت بتبرم:
-نعمل إيه بقا في طيش الشباب اللي جايبلنا الكلام دا.
استعار انتباههما صوت “ممدوح” الذي قطع همهماتهما الجانبية، بقوله الجاد الهادئ موجهًا حديثه لـ ثريا:
-أنا جيت النهارده عشان أطلب آآ….
قاطعته “ثريا” حين خفضت رأسها ارضًا من جديد، وتفوهت بحرج:
-لا لا ماتتكلمش معايا أنا، أهلي وعزوتي أهم قاعدين، بنت أختي وجوزها، وفوزية زي أختي بالظبط.
نظرت نوسين صوب عمر مُحركة شفتاها بصوت يكاد يسمع وهي تضرب على صدرها برفق في زهو:
-تربيتي.
ثم تنحنحت وتشبثت بقناع الجدية وهي تحثه على المتابعة:
-اتفضل يا استاذ ممدوح سمعاك.
كرر ممدوح كلماته متممًا إياها:
-أنا جيت عشان أطلب إيد مدام ثريا.
أدت “نوسين” دورها على أكمل وجه حين تكلمت:
-والله يا ولاد انتوا فاجئتوني، بس انتوا عارفين إن مفيش احسن من توفيق راسين في الحلال.
ثم هزت رأسها وأكملت بترفع به لمحة شقاوة:
-فـ سيبلنا وقت نفكر ونرد عليك يا استاذ ممدوح، بس طبعًا مش هنلاقي حد أحسن منك لبنتنا.
هنا تدخلت “فوزية” بابتسامة منشكحة:
-وأنا رأيي من رأي برقوقة.
كزت نوسين على أسنانها بغضب داخلي، ثم جمجمت لنفسها بحروف ملكومة بالكيد:
-والله لولا إنك ست كبيرة بس، الله يسامحك يا خالتي.
في تلك الاثناء كان حديث داخلي من نوع اخر يدور بعقل “عمر” الذي كان يتابعهم بصمت والابتسامة تُصر على التعلق بثغره رغم المرارة التي لازالت عالقة بجوفه، فمَن كان يصدق أنه سيتحول وضعه من شخص على حافة الانتحار، لشخص يقبع وسط جلسة عائلية بنكهة كوميدية مرحة تجبر شفتاك على الخضوع لابتسامة حقيقية.
****
بعد فترة…
خرجت “نوسين” من المطبخ، وكان المرحاض يقع في الردهة التي تسبقه، وكانت يداها مُبللة، فتوجهت نحو عَلّاقة المناشف الموضوعة امام المرحاض، وبدأت تجفف يداها، وقميص “عمر” الذي تركه حتى يُنهي اغتساله يقبع جوار المنشفة، اصطدمت يداها بالقميص بطريقة عارضة وهي تضع المنشفة، فسقط القميص على الأرض، وسقطت منه محفظة نقود عمر، كاشفة عن جزء من محتواها..
إنحنت نوسين لترفع القميص من جديد، ثم أمسكت بالمحفظة والصورة التي سقطت منها، لتجدها صورة لشابة جميلة في مقتبل عمرها، لم تمنع نفسها من تفحصها بشرود وهي تتساءل عن ماهيتها، وعن مدى أهميتها ليحتفظ عمر بصورتها معه دائمًا ؟!
فتح عمر الباب دون مقدمات فوقع بصره على “نوسين” التي تمسك بمحفظة نقوده في يد، والصورة في اليد الاخرى، فتوسعت عيناه بصدمة، ثم انتشلهما من بين يديها بعنف مزمجرًا فيها بنبرة متوحشة:
-أنتي بتعملي إيه؟!
اربكتها المفاجأة ونجحت في سد بؤرة الردود داخلها، فبدأت تحاول تجميع شتات حروفها لتكوين اجابة مُقنعة:
-أنا آآ كنت آآ…
ولكنه لم يمهلها الفرصة التي كانت فاشلة من الأساس، بل تابع بزئير شرس وكأنها أخرجت الوحش الساكن داخله من مكمنه:
-أنتي مين سمحلك إنك تفتشي في حاجة تخصني؟
هزت رأسها نافية بسرعة تحاول نفي تلك التهمة عنها:
-لا طبعًا أنا مافتشتش في حاجة.
فهز عمر رأسه باستهانة مشيرًا بعينيه نحو يدها ساخرًا منها:
-اه ماهو واضح، وإيدك تشهد عليكي.
توقد احشائها بلظى الظلم دفع حروفها المتلكئة دفعًا، فإندفعت بحدة:
-مش من حقك تتهمني لمجرد إنك شوفتها في إيدي، ما يمكن وقعت من غير قصد وأنا كنت بجيبها من الأرض.
وبالطبع لم يصدقها بل واصل شن هجومه المتهكم عليها:
-اوووه، إيه الصدفة الجريحة دي؟ يعني مش فضولك مثلًا اللي خلاكي تفتحيها وتشوفي.
فسر لها عقلها حديثه باحتمالية ظنه أنها تهتم به شخصيًا، لذا تكلمت بغلاظة:
-أنت أخر واحد في الدنيا ممكن فضولي ياخدني إني أعرف عنه حاجة.
ولم تعطه حقه الرد بل انتقلت دفة الهجوم إليها وهي تهدر فيه بحنق:
-وبعدين أنا اللي مفروض أشك فيك مش العكس خالص!
-فعلًا؟! دا على أساس إن أنا اللي اقتحمت حياتك زي اعصار الستة ريختر؟ وصحيتي لاقيتي نفسك في بيتي؟
إنكمشت ملامحها وإرتفعت امارات الغضب عليها وهي تردف بندم واهتياج:
-منا لو أعرف إنك هترد جميلي بالطريقة دي كنت سيبتك يكسروا مخك المضلم دا مش مناخيرك بس.
اقترب منها عدة خطوات وعيناه تتواصل بصريًا مع فاهها، بنظرة أشعرتها أنه يود قتلها وتمزيق لسانها، بينما يواصل من بين أسنانه:
-أنتي إيه، أنتي إيه بجد لسانك دا إيه مبرد! مابيقفش خالص.
رغم تراجعها التلقائي إلا أنها انبأته بشجاعة تُحسب لها:
-وقف كتير وسكت على ظلم كتير بس خلاص بقا كفاية.
رفع حاجباه معًا غير مصدقًا يتلفظ بسخرية تجلت بين حروفه كعين الشمس:
-سكت على ظلم؟ استحلفك بالله لتقولي مين الجاحد اللي قدر يظلمك دا، عايز أعبرله عن شكري وامتناني.
اجابتها التالية كانت مقتضبة، ولكن المشاعر المكبوتة بين خلاياها كانت جمة؛ بعد أن حشدهم الأسى في كلمة واحدة:
-الزمن.
لوهله لم ينطق وهو يستشعر مدى صدق الاجابة الباهتة التي توحي بماضي كريه، ولكنه لم يتراجع عن تهديدها علنًا بصوت أجش:
-صدقيني لو تعديتي حدودك معايا واقتحمتي خصوصيتي مرة تانية كدا، هتشوفي الظلم اللي بجد.
ناطحته بعناد صلب:
-مابجيش بالتهديد على فكره.
-امال بتيجي بإيه؟ ها ؟
سألها بخفوت شبه حاد، وهذه المرة اقترب اكثر من سابقتها، بل اكثر من اللازم حتى أوشك على محو مسافة الأمان بينهما، فأطبق قربه على دقات قلبها المسكينة يخنقها حتى فقدت اتزانها، وتثاقلت أنفاسها بينما تتراجع للخلف كلما اقترب اكثر..
حتى أوشكت على الاصطدام بعَلّاقة المناشف خلفها، والتي كانت مربوطة أطرافها بسلك رفيع حاد بارز، ودون تركيز منها كادت تلتصق به وينغرز في ظهرها..
ولكن قبل أن يحدث وضع عمر يده خلف ظهرها، تحديدًا بينها وبين العَلّاقة ليمنع اصطدامها بها بحركة تلقائية لم يفكر فيها، فأصبح الوضع كارثي أكثر..
فقد أصبحت “نوسين” شبه ملتصقة بصدره وذراعه يحيط بها، ارتعشت في استجابة فطرية، واحتكاكهما البسيط أجج بقلبها شعور لحظي غريب لم يباغتها سابقًا رغم سنوات عمرها الستة والعشرون، شعور لاهب كألسنة النيران، إن استمر ستذوب فيه كـ شمعة رقيقة..
ببنما عمر ما أن استشعر ملمس جسدها الغض حتى أحس وكأن ماس كهربائي سار أسفل جلده حارقًا إياه بقسوة الادراك…
فانتفض مبتعدًا عنها على الفور وهو يتمتم بخشونة:
-مش تاخدي بالك من اللي وراكي!
هزت نوسين رأسها، ورغم أن الكلمات كانت حاضرة داخل عقلها إلا أنها كانت مترنحة إثر اللحظات السابقة فلم تخرج للنور..
فاستدار عمر عنها وكاد يخرج، ليجد أمامه خالتها، تنقل نظراتها بينهما، ثم سألت:
-في إيه؟
هزت نوسين رأسها نافية وردت بصوت به بحة خفيفة:
-مفيش يا خالتي.
نظرت “ثريا” نحو الصورة التي لا زال عمر ممسكًا بها، فإلتقطتها من بين أصابعه بخفة ودون اذن، وتفحصتها وهي تسأله بفضول بزغ بحدقتيها:
-مين دي؟
كادت نوسين تصفق لها بحماس على جرأتها التي لم تتحل هي بها لتسأله عمَن تكون، ولكن التهليل الداخلي تحول لطنين قاسي سببه رده التالي الجاف:
-مراتي.
ثم انتشل الصورة من بين يديها بهدوء وغادر وكأنه لم يفجر قنبلة مدوية للتو !
نظرت “ثريا” نحو نوسين والسؤال يبرق بعينيها بقوة، ولكن قبل أن يتولى لسانها مهمة تجسيده كانت نوسين توضح بربكة خفية:
-يقصد اللي كانت مراته يعني.
لم تهدأ ثريا بل تابعت استجوابها:
-أنتي اتجوزتي واحد كان متجوز قبل كدا؟
اومأت برأسها مؤكدة بلامبالاة:
-اه عادي يعني يا خالتي، ماهو أنا كبيرة برضو مش صغيرة، مش دا رأي كل الناس؟!
ابتلعت صدمتها السابقة على مضض، ولكنها بدأت تلومها على غباءها البَيّن:
-طب هنعديها دي، ازاي بقا جوزك يبقى لسه شايل صورة مراته القديمة معاه؟ طالما لسه معاه يبقى أكيد لسه جواه حاجة ناحيتها يا غبية.
ألا تعلم؟ فما رأوه لا يحتاج للكثير من التفكير لإدراك ذلك، ولكنها الان في مهمة أصعب تشغل بالها.. مهمة تفسير ذلك الوخز الرقيق بالضيق داخلها !
أضافت خالتها بصوت خفيض وكأنها تخبرها بمكان كنز ثمين:
-يا عبيطة عشان تحافظي على جوزك وتخلقي مكان ليكي في قلبه لازم تعملي اللي هقولك عليه.
سألتها نوسين دون فهم:
-اللي هو إيه؟
اقتربت اكثر من اذنها وبدأت تهمس لها بنصائح جعلت وجنتا نوسين تتخضب وعيناها تتوسعان ببطء مصدوم..!
****
بعد فترة…
توجهت “نوسين” للغرفة التي خصصتها خالتها لهما باعتبارهما زوج و زوجة، وكان عمر بها، ولكنها لم تطرق الباب عمدًا، بل دلفت ببطء وبرود، ثم جلست على الفراش تضع قدم فوق الاخرى وهي تخبره بصلافة:
-كرمًا مني بس هسيبك تنام هنا النهارده عشان خالتي ماتشكش وهروح أنام أنا معاها، لكن من بكره هتطلع تنام في الاوضة اللي في السطوح وتتحجج بإنك لاقيت هنا شغل جديد مؤقت والشيفت بتاعك بليل.
لم يتكلم عمر ولكن عيناه تعلقت بحركة قدميها، واهتاجت امواجه الزرقاء بغضب بسبب حركتها، ولكنها كانت تملك نصيبًا لا بأس به من العناد الذي جعلها تتجاهل نظرته..
فتحرك ليجلس جوارها، ثم قال بسخرية تخفي بين طياتها حفيف الغضب:
-اي اوامر تانية سيادتك؟
هزت رأسها نافية بنفس البرود:
-لأ، لما يبقى في هقولك.
اقترب بوجهه من وجهها قليلًا، حتى أحست بهدير أنفاسه الغاضبة كحاله وهو يستطرد بخشونة:
-لما تقعدي قصاد حد أكبر منك اتعلمي تحترميه وماتحطيش رجل على رجل كدا.
سألته بشيء من الاستهزاء:
-وأنت عرفت منين إنك أكبر مني؟ مش يمكن أنا الأكبر؟
وقبل أن يرد قاطعته بنفس النبرة المستفزة التي بدأت تتفجر قشورها الظاهرية لتبرز ما أسفلها من غيظ مغلول:
-أنا أصلًا ماعرفش عنك حاجة ولا أنت تعرف عني، وهنتكشف بسببك على فكره، بسبب إن حضرتك عاملي فيها صندوق أسرار.
ثم اعتدلت بجلستها واستأنفت عاقدة ما بين حاجبيها:
-وازاي ماتقوليش إنك متجوز، وفين أساسًا مراتك دي؟!
زرقاوتاه بدت في اللحظات التالية كبحر شديد الظلمة لم تشرق الشمس فوقه يومًا، فأحست نوسين أن السؤال لامس وترًا حساسًا داخله، خاصةً حين لبى استفسارها بنبرة خشنة عميقة وفارغة:
-دي حاجة ماتخصكيش، ياريت ماتتقمصيش دور الزوجة وتكدبي الكدبة وتصدقيها، حاولي تتحكمي في فضولك شوية، لأني مش مُجبر أحكيلك حاجات خاصة.
تنهدت نوسين بضيق ثم ماطلته بملل:
-على الأقل لازم نكون عارفين عن بعض المعلومات السطحية العادية عشان الموقف اللي حصل من شوية مايتكررش.
-اسمي عمر محمد عبد الحميد، عندي ٣٢ سنة، كنت شغال محامي، اتخرجت من جامعة حلوان.
ردد بنفاذ صبر وكأنه يؤدي مهمة واجبة عليه، فأومأت نوسين برأسها ولم تعلق، ليرمقها بنظرات مستنكرة وفي فحواها استفسار عنها:
-وحضرتك مش ناوية تقولي؟
بابتسامة سمجة منتصرة لأنه وقع في فخها ببساطة، تشدقت بنفس كلماته السابقة:
-حاول تتحكم في فضولك شوية لأني مش مُجبرة أحكيلك حاجات خاصة.
أغمض عيناه بنفاذ صبر، ثم نهض وكاد يخرج من الغرفة لولا أن اوقفته بقولها الذي مَنت عليه به:
-اسمي نوسين عبد الرحمن مجاهد، عندي ٢٦ سنة، مكملتش تعليم بعد الثانوية عامة، وكنت شغالة في ورشة.
عقد ما بين حاجبيه متسائلًا:
-ورشة إيه؟
ردت ببساطة:
-ورشة ميكانيكة، صنعة إتعلمتها من أبويا الله يرحمه.
ثم نهضت وهي تلوح له بيدها مرددة بمرح:
-يلا سلاموز.
شيعها بنظرات حملت إعجابًا ببساطتها تسلل له ليتوهج بظلمة عينيه، متخطيًا حاجز الجمود لأول مرة، ولكنها لم تلحظه قبل أن ينقشع ويسيطر الظلام المتبلد على نظراته من جديد..
****
قفزت “نوسين” على الفراش الذي تنام عليه خالتها، فشهقت خالتها بفزع وهي تصيح فيها:
-إيه في إيه زلزال ولا إيه.
تمددت جوارها تدس نفسها بأحضانها ثم حركت كتفيها معًا وهي تدندن بمرح:
-إديني حنان من اللي أنا مش حاسه بقالي زمان.
هدرت فيها بانفعال مغتاظ:
-دا أنا هاديكي قلمين على وشك، في إيه يا بت يا مسخوطة أنتي مش هتعقلي ابدًا.
ضيقت نوسين عيناها وهي تغمغم بوداعة تراجيدية:
-أنا مسخوطة؟! دا أنا برقوقة حبيبتك يا خالتي.
تأتأت ثريا وراحت تهتف بضيق زاجرة إياها:
-أنا عايزه أنام يا برقوقة روحي لجوزك يديكي الحنان.
أصرت بابتسامة شقية:
-لأ ما أنا هنام معاكي النهارده وأنتي هتديني الحنان يا نبع الحنان.
-يابت أنتي هتفضلي خايبة لحد امتى؟ هو دا اللي وصيتك بيه؟
تشبثت نوسين بأحضانها وهي تهاودها:
-خلينا ننام بس دلوقتي، ومن بكره هركز على اللي وصتيني بيه جامد أوي.
وبالفعل غطت خالتها بالنوم الذي كان يسيطر عليها، فيما بقيت نوسين مستيقظة والنوم يجافيها بينما الأفكار تتلاعب بعقلها، وتشرد في التحول الذي أصاب هيكل حياتها لتضحي على النقيض لما كانت عليه تمامًا.
نهضت من الفراش، ووقفت جوار الشرفة تطلق بصرها على اللاشيء وتشرد فيه، إلى أن لمحت بعد قليل عدد من الرجال متجمعين سويًا ويبدو أنهم يبحثون عن منزل معين ويشيرون بأصابعهم نحو البناية التي يقطنون بها..
فاستقامت في وقفتها، وإتسعت حدقتاها وعَلت الإنذارات بعقلها وكأنه اصبح يخشى أي تجمع رجالي، هل هم نفس الرجال الذين يبحثون عنهم؟
ظلت تراقبهم لتتأكد من شكوكها، فوجدتهم يدخلون لمدخل البناية بالفعل..
حينها هبت راكضة بفزع نحو الغرفة التي ينام بها عمر و………….
****
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نوسين)