روايات

رواية غوثهم الفصل المائة وستة 106 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة وستة 106 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة وستة

رواية غوثهم البارت المائة وستة

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة وستة

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد وعشرون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
غَريبٌ أنا حتى عَنيِّ
تائهٌ أنا في السُبل مني؛ لكني أرجوك
أرجوك يا رحيم يا صاحب العفو الكريم
أن تَمنُ عليَّ وبنور هُداك تُرشدني.
فإن التيه لم يوجعني بذاته، لكن
المؤلم أن القلب عن سُبلك ضللني.
وآهٍ من تيهٍ يؤلم المرء بالبعد
عن السُبلِ وعدم العودة يؤلمني.
_”غَـــوثْ”
__________________________________
أخبروا صفحات التاريخ أن لا تُغلَق كُتبها
فرُبما أحتاجُها، فمثلكِ أنتِ حقًا يُشبه كل ما هو نادر الوجود، في حين أن مثلي في كُل السجايا موجود، لقد فكرتُ مرارًا في طريقةٍ تُسعفني لكي أوصف بها لكِ حُبي، حُبي الذي أشبه معكِ الصراع في حربي، حربٌ دخلتُ فيها أرضٍ مُحتلة والمُحتل ترك فيها أثره وفَلَّ، رُبما حينما رأيتكِ في مرتي الأولىٰ حسبتكِ لوحةً أنتِ نادرةَ الوجودِ، وكأنما هُناك فنانٌ أخطأ في الاستخدام وترك لقلبه حُرية التعبير عنكِ، فخرجتي أنتِ نتيجةً لرؤية القلب قبل العَينين، والآن سأخبرك بعدما أرُهف سمعي لمشاعري لتُملي عليكِ يا “رهـف” ما يتواجد في داخلي، ففي السابق كنتُ أنا “عُـدي” الجندي الثانوي في حربٍ هادئة، غدوت من بعد رؤياكِ بطلًا في حربٍ دامية، تلك الحرب أضحت مسلوبة الراء رغمًا عني، فتحولت من جندي في الحرب، لمقاتلٍ في الحُب، حيث حرب تشبه تلك التي خاضها المحاربون لأجل غزو “عـكا” المُحصنة ولم يفعلها سوى “الأشرف خليل” فدعيني أقتدي به لعلني أفلحُ في غزو حصونك المنيعة، وحتى يحدث ما أردنا أنا وقلبي سأظل مقدامًا في حربي، حربي التي معكِ أضحت مسلوبة الراء، وياليت في ساحة المعركةِ يجمعنا لقاء.
<“لن تجد غوثًا غير الذي يُغيثك كل مرةٍ”>
فتحت “فـاتن” باب الغرفة لتجد “سـامي” في مواجهتها وحينها شهقت هي بفزعٍ من طلته المهيبة أمام وجهها فجأةً بتلك الطريقة وقد أزدردت لُعابها بخوفٍ لتجده يسألها بخبثٍ:
_خير يا تونة؟ رايحة فين دلوقتي؟.
رجعت للخلف وهي تتنفس بحدةٍ وجاوبته بضياعٍ وخدرٍ تحت أثر صدمتها برؤيته الغير هوينة عليها:
_كنت بدور على تليفوني، كان هنا ومش لقياه.
أبتسم لها بخبثٍ أكبر ثم قبض على خصلاتها فجأةً وهو يضع الهاتف نصب عينيها وهو يهدر من بين أسنانه مُتجاهلًا صرخاتها المُتألمة:
_تليفونك اللي عليه رقم “عبدالقادر العطار” وابنه ورقم “نَـعيم الحُصري”؟ بتضحكي عليا أنا يا “فـاتن”؟ طب وريني بقى مين هينجدك من تحت إيدي، ورحمة أمي لأخليكِ تتعلمي الأدب وتتربي من أول وجديد.
أنهى صراخه الهادر وهو يُلقيها أرضًا حتى أرتطم جسدها بالأرض الرُخامية أسفل منها وهي تصرخ بألمٍ وقد خلع هو حزام بنطاله وبدأ ينهال عليها بالضربات يُكيلها لها وهو ينعتها بأفظع الكلمات المُشينة وهي تصرخ في محاولةٍ منها لإيجاد غوثٍ قد يُنقذها منه، لكن يبدو أن نهايتها كُتِبت على يديه، عاد لبربريته وهجميته القديمة في التعامل معها، حيث طريقته الغجرية الخالية من كل آدمية وهي أسفل قدميه تحاول جر جسدها الضعيف لكنه ظل ينهال عليها بالحزام وهي تصرخ من شدة الآلم وظلت تُنادي باسم ابنها و. “يـوسف” سويًا حتى تبع أفعاله بصفعةٍ فوق صفحة وجهها تلاها صفعاتٌ أُخرىٰ فوق جسدها وهي تصرخ بملء صوتها.
ظل يطلب منها أن تتحدث وهي تمتنع حتى لا تتسبب في الإيذاء لأي أحدٍ وكأنها لم تأمن مكره وغدره، تعلم أنه قد يشعل النيران في المدينة بأكملها لأجل مصالحه دون أن يلتفت ويرى من أحرقته النيران، وقد ابتلعت الحديث في جوفها حتى قبض على كومة خصلات من رأسها يَشُدها ثم أضاف بنبرةٍ هادرة يُخرج نيرانه فيها:
_بقى أنا يا واط** واحدة زيك تلعب بيا؟ نسيتي نفسك يا “فـاتن”؟ نسيتي إن لولايا ولولا الفلوس اللي دفعتها مكانش زمانكم عايشين عيشتكم دي؟ بس ماشي هتقلب على الكل وأنتِ أولهم، ووريني مين هيلحقك، وهتفضلي هنا زي الكلب محدش هيلحقك وابني أنا هجيبه بمعرفتي.
ألقاها من جديد لترتطم بالأرضية أسفلها وهي في حالة إعياءٍ واضحة، حيث أضحت بين المطرقةِ والسندان وهي على مشارف الموت المُريع وقد أخرجت صرخةً واحدة من جوفها المُلتهب وكأن نيران العالم موقدة في جسدها وطالت روحها وآخر ما رآته كانت صورة “مصطفى” قبل أن تغيب عن وعيها.
في الأسفل تسلق “سـامي” الدرج كمن ينجو من الطوفان وهو يخرج من البيت وقد راقبه “فـيصل” حارس المنزل وطالع أثره بخيبة أملٍ وقد وصله صوت صرخاتها المُستغيثة وعليه أخرج هاتفه بلهفةٍ وعلى عُجالةٍ يطلب رقم المُغيث الذي سيقوم بحل الموقف.
__________________________________
<“لا نريد منكم إسعادنا، يكفي ألا تأذونا”>
في مدينة “شـرم الشيخ”..
كان “يـوسف” أنهى مروره على المعرض وعلى عمل الشباب وأصحاب المشاريع الصُغرىٰ وما إن شعر بالخمول يسري في جسده قرر أن يتوجه إلى غُرفته وقد ولجها لكي ينعم بالراحةِ وما إن وقف على أعتابها من الداخل صدح صوت هاتفه برقم “فـيصل” ورغم تعجبه إلا إنه جاوب عليه بثباتٍ ليجده يُبادر في الحديث بلوعةٍ:
_يا باشمهندس “يـوسف” ألحقنا، الست “فـاتن” كانت بتصرخ من شوية وأستاذ “سـامي” كان معاها وشكله كان بيضربها وأنا مش عارف أعمل إيه والبيت فاضي هنا.
توسعت عيناه وهوىٰ فؤاده أرضًا في مكانهِ وهو يقف محله ثابتًا وقد هتف الآخر يستفسر منه بنبرة صوتٍ مُرتابة:
_أعمل إيه يا باشمهندس، الست قطعت الصوت مرة واحدة وأنا خايف عليها، وفي نفس الوقت مش هقدر أتحرك أو أدخلها ومحدش هنا خالص، أحسن تروح فيها.
حاول “يـوسف” لملمة شتات نفسه والتمسك بثباتهِ وهتف بصوتٍ يتأرجح بين الضياع والإدراك ما بين الاثنين سويًا:
_أنا هتصرف يا عم “فـيصل” خليك معاها وحاول تخلي مراتك تشوفها، لحد ما أتصرف.
أنهى الحديث معه وأغلق الهاتف وهو يقف في موضعهِ كمن تلقى ضربة عتية فوق رأسه، لا يعرف لأي أرضٍ يخطو ويتحرك أو يتجه وكأن الضربات تسقط عليه من كل حدبٍ وصوبٍ، في تلك اللحظة هي الأصعب عليه، حيث بدأت رأسه تختلق الأصوات وهي تحاربه بتلك الطريقة وحينها أرتخت أعصابه وظهرت عروقه النافرة رغم عدم اشتداد قبضته فوقها، ووقف يُناظر المكان بعينين خاويتين والحرب قد رُفِعت سيوفها في أرض رأسه، حيث هُنا لا “أيـوب” يوقفه، ولا “عـهد” تحتويه وتلملمه من شتاته، ولا “غـالية” تحتضنه، ولا “قـمر” تُمازحه..
هنا حيث لا مجال للهدوء وهو في أحلك لحظات غضبه، وقد تعالى صوتٌ داخله يصرخ فيه قائلًا:
_أنتَ هتسكت؟؟ هي مهما عملت برضه تستاهل دفاعك عنها، مش علشانها هي، علشان أبـوك حتى اللي موصيك عليها دا، هتقوله إيه؟ مقدرتش أنفذ وصيتك؟.
تدخل صوتٌ آخر يُعاديه وهو يهتف بحدةٍ:
_وأنتَ مالك؟ هي أصلًا تستاهل كل حاجة، من بدري وهي عاملة كدا في نفسها وداست على كرامتها علشانه، يبقى خلاص شوف حالك وسيبك منها، ولا هنوقف حالنا علشانها؟.
بدأ الحوار هكذا ثم استكمل لحربٍ ومشاجرةٍ وكل صوتٍ فيهما يفرض نفسه عليه وكأنه هو الأرض بذاتها التي أختلت نتيجة قوة الطرفين فيها، وقد أمسك رأسه بكلا كفيه يصرخ لكي تسكت الأصوات وتنتهي الحرب، لكن لا الأصوات تَكف ولا الحرب تتوقف، وفي هذه اللحظة ولج “عُـدي” له وما إن رآه بتلك الحالة الغريبة أقترب منه يحاول جذب انتباهه لكن يبدو أن حالته كانت في أشد كُربتها لذا رفع رأسه نحو “عُـدي” يرمقه بتيهٍ وشتاتٍ ثم هتف بصوتٍ أقرب للإنفعال:
_حاسب من وشي يا “عُـدي”.
وقف الآخر يُطالعه بتعجبٍ وهتف بلهفةٍ خوفًا عليه:
_أنتَ مالك؟ ما كنت كويس يا “يـوسف” حصل إيـه؟.
في تلك اللحظة الجدال والمناقشة لن يفيداه بأي شيءٍ، والأفضل أن يختفي الآخر من أمـامه حتى لا يتلقى عواقب تهور الآخر وقد أدرك ذلك “يـوسف” سريعًا فدفعه بعيدًا عنه وهرب من أمامه كمن يحمل قُنبلة موقوتة أوشكت على الإنفجار وحينها فتش في نفسه عن حلٍ يفرغ فيه طاقته السلبية التي نتجت عن مجموعة إضطرابات حدية مع بعضها.
ظل يركض حتى وصل إلى حوض السباحة بداخل الفندق وعليه قرر أن يقف أمامه يقتبس من الهدوء حوله أي شيءٍ يُسعفه في التخلص من الضجيج الذي لم يتوقف بداخله، أراد أن تكف كل الغوغاء بعيدًا عنه لكن كيف سبيل الخلاص إن كانت علة الطُرقات تسكنه؟ حينها أخرج سجائره يشعل واحدة من العلبة فوجد “شـهد” تجاوره وياليتها ما فعلتها، ها هي تقترب من هاوية الخطر لا محالة.
حاول تجاهلها وأغمض عينيه حتى لا تزداد حالته سوءًا وقد وقفت هي في مواجهته تهتف بنعومةٍ بالغة خالطها الحزن الذي رُبما يكون صادقًا:
_لقيتك لوحدك قولت آجي أشوف مالك، فيه حد مزعلك ولا إيـه؟ متخانق مع “عـهد”؟ ولا زعلان إنك لوحدك هنا.
أنهت جملتها وهي تضع كفها على كتفه وقبل أن تُكمل فعلتها دفع كفها بحدةٍ مندفعة وهتف يُحذرها بصوتٍ هادرٍ:
_إيدك متتمدش تاني، شكلك ناسية إنك على ذمة راجل، ومالكيش دعوة بمراتي واسمها ميجيش على لسانك، وإذا كنت زعلان بجد فأنا زعلان إني هنا من غيرها في نفس الوقت أنتِ موجودة في نفس المكان، يبقى خليكِ في حالك.
رمقته ذاهلةً وهي تتبعه بعينيها الواسعتين وقد كاد أن يتحرك من أمامها فوجدها تعترض طريقه بحجة العمل وما كان أمامه إلا دفعها بعيدًا عنه وعن طريقه حتى سقطت أرضًا أسفل قدميه صارخةً بألمٍ وهي تمسك بطنها التي تألمت إثر دفعه لها.
وفي نفس اللحظة التي أولاها هو ظهره فيها صدح صوت هاتفه برقم ” أيـوب” فعلم أن الغوث قد أتاه كما المعتاد وعليه جاوبه بلهفةٍ وهو يسير هائمًا على وجههِ:
_”أيـوب” محتاج منك خدمة، “سـامي” ضرب “فـاتن” وتقريبًا حياتها هناك بتضيع لو تقدر تعمل حاجة أعملها أنا مش بجبرك، بس أنا مش فاهم أروح فين، أنا تـايه أوي ومش عارف أعمل إيـه.
تفهم الآخر حالته سريعًا وهتف بلهفةٍ يُطمئنه:
_متقلقش، أنا هروح أشوفها وممكن آخدها من هناك خالص، أوديها في شقة من شقق العمارة اللي والدتك فيها، متقلقش، بس خلي يحد يجيب دكتور يشوفها.
استحسن “يـوسف” حديثه وأغلق معه الهاتف ثم أرتمى على أول مقعدٍ رُخامي يقابله وأمسك رأسه المُتألمة من الصداع الذي داهم رأسه فجأةً وهو يحاول أن يوقف الألم المُتمادي دون وجـه حقٍ وهو يضرب في خلايا رأسهِ كاملةً.
خرج “أيـوب” من مركز الصيانةِ يهرول نحو سيارته وقد أخرج هاتفه يطلب رقم شقيقه لعله يسبقه نحو هناك نظرًا لبعد المسافة بين الطريق الصحراوي وبين منطقة الزمالك، وبكل آسفٍ لم يجاوبه الآخر وقد قرر أن يزيد من سرعة السيارةِ حتى يصل إليها مُسابقًا في حركته ذرات الهواء، وقد وصل إلي هناك في وقتٍ قياسي وولج البيت بنفس منوال الخُطى السريعة وقد أرشده حارس البيت وولج إليها ليجدها طريحة الفراش والدماء تملأ وجهها وكذلك كفيها المتورمين فعلم أنه كان إعتداءً بمثابة تحدٍ سافرٍ وقد حملها على ذراعيه وخرج بها من البيت كمن يلوذ بنفسه وأهله من القرية الظالم أهلها.
__________________________________
<“لا تلومن صاحب القلب الحزين على بكائه”>
قد يلوح سؤالٌ في أفق المرء يُطيح بكل ثباته،
هل حقًا نحن أحياء أم أن المسألة فقط وقتية؟
حيث تلك الأنفاس المتبادلة بين شهيقٍ وزفيرٍ هي ما تؤكد حياة المرء صدقًا، أم أن إعلان الموت فقط يحتاج لوقتٍ غير ذلك؟ في الحقيقة ثمة بعض الذكريات حينما تمر في العقل يتأكد المرء من حتمية موته ولاسيْما من الشك في ذلك…
وقد جلست “نِـهال” في الشقة شاردة الذهن وهي تُطالع الفراغ بعينيها الخاويتين وكأن الذكريات تكالبت عليها حتى تصل لتلك المرحلة الغريبة من الصمت والحزن، تعلم أنها رُبما تكون مُخطئة في حقه، لكن رغمًا عنها هي لم تنصاع سوى لصوت عاطفتها، حيث الضياع في جبهة الذكريات بين مقاتلات في حربٍ مُهلكة، وقد أتى ذلك الكوكب الصغير الذي حفظ قوة العالم أجمع في دفء قلبه وقد جلس بجوارها يبتسم لها وهو يسألها بمزاحٍ:
_مالك يا ماما، أكونش مزعلك لا سمح الله؟.
أنتبهت له وقد أبتسمت على الفور ما إن تلاقت المُقل ببعضها ورآت حنو نظراته المصوبة نحوها وهتفت بتيهٍ وهي تحاول الإحتفاظ بثباتها قدر الإمكان وألا تبكي أمامه:
_لأ مش مزعلني، ولو زعلانة من كل الدنيا أنتَ بالذات هجيلك تراضيني يا “إيـاد” أنا بحبك أوي وأكتر من أي حد.
توسعت ضحكته أكثر ثم حصر نفسه بين ذراعيها لتطوقه هي بهما وتضمه نحوها كمن ربح الحصول على القمر وقد مسحت على خصلاته لتجده يهتف بنبرةٍ طفولية يُغدقها الحنان:
_وأنا بحبك برضه، عارفة؟ أنا دفعت دم قلبي علشان الجوازة دي تتم، روحت الجامع وحطيت مصروفي كله هناك علشان تتجوزي بابا، وكل يوم فضلت أدعي ربنا علشان تيجي تعيشي معايا هنا، ولما جيتي بقيت بدعي إنك متزعليش وتمشي من البيت، علشان خاطري بقى متزعليش وأضحكي.
تراقص قلبها بين أضلعها فرحًا بهذا الحديث وقد ضمته أكثر نحو موضع نبضها وهي تمسح فوق رأسه وكتفه وقد ضحكت بسعادةٍ حيتما حرك أنامله الصغيرة فوق معدتها يقوم بدغدغتها لينقطع صوتها من الضحكات العالية التي تسبب فيها هو، ليزيل ما تسبب فيه والده.
في الأسفل في حديقة البيت تحديدًا كان “عبدالقادر” يجلس بمفرده وقد أسند رأسه فوق ظهر المقعد حتى استمع لصوت باب البيت وعقبها ظهور طلة ابنه البكري، فرفع صوته مُناديًا له حتى أقترب منه يسأله بهدوءٍ ثابت:
_خير يا بابا، فيه حاجة؟.
أشار له أن يجلس مواجهًا له وقد جلس “أيـهم” بتعجبٍ حتى باغته والده مستفسرًا بسؤالٍ لم يتوقعه هو من أبيه:
_هي “نِـهال” زعلانة ليه؟ أنتَ ضايقتها؟.
رفع حاجبيه بذهولٍ وطالع والده بتعجبٍ وهو يتمنى ألا تكون فعلتها هي وشكته لوالده حيث الفعل الذي يبغضه ويكرهه هو، لكن الآخر خيب ظنه حينما أضاف مُردفًا سبب حديثه:
_هـي مقالتش حاجة خالص، هي بس باين عليها إنها زعلانة، وأنا عارفك عِندي ودماغك ناشفة أوي، ويمكن تكون صممت على حاجة وزعلتها، حصل إيه يا “أيـهم”؟
تنهد هو مُرغمًا بثقلٍ ثم أضاف بضجرٍ من الحديث:
_محصلش حاجة يا بابا، الفكرة كلها إني فتحت معاها موضوع الخلفة، قولتلها نروح نكشف ونشوف حل علشان نبدأ العلاج وربنا يكرمنا، إحنا بقالنا شهور مع بعض ومستقرين الحمدلله وأنا أتأكدت إنها بنت حلال وهتصوني وتصون ابني، وبحاول أخليها تثق فيا، بس شكلي أتغابيت بقى علشان تقريبًا هي لسه مش مستعدة.
طالعه والده بعتابٍ من نظراته وهتف بحكمةٍ أكتسبها من سنوات عمره وحياته العملية من بين شتى أجناس البشر:
_أنتَ فيك عيب وهو إنك متهور بزيادة، عصبي وإنفعالي وممكن تضيع كل اللي بتعمله بحركة واحدة تندفع فيها، شوف من غير ما أشوفك أنا عارفك وعارف أنتَ عملت إيه، بس مش هفكرك إنها ليها ظروف خاصة بيها هي، وتجربتها مكانتش سهلة أبدًا، ومن غير ما ندخل في تفاصيل، دورك إنك تصلح اللي حصل دا، وأنا علشان عارف دماغك هساعدك، أطلع ناديهم علشان ناكل مع بعض.
أنهى الحديث ثم تحرك من مكانه ولحقه في الحركة “أيـهم” الذي صعد نحو شقته وهو يتأكد أنه سيجدها تبكي وتجلس بمفردها حزينة وشاردة بعد موقفه معها وحديثهما أمسًا وبمجرد أن فتح الباب وصله صوت الضحكات العالية بشكلٍ يسرق الانتباه وقد أقترب يقف على بعدٍ منهما هي وابنه ليجدها توقف ضحكاتها وهي تقول بصوتٍ متقطعٍ:
_خلاص بجد بطني وجعتني، ولا أزغزك أنتَ كمان؟.
حرك رأسه نفيًا وهتف بنبرةٍ ضاحكة وهو يرتمي عليها لتضمه بين ذراعيها من جديد وأضاف يمازحها بقولهِ:
_شوفتي الحياة هنا حلوة إزاي معايا؟ والله بابا دا عيشته نكد، أنا عارفه والله، تعالي نسيب البيت ونروح نتفسح يومين في إسكندرية نغير جو ونخليه يقدر قيمتنا وبعدها نرجع تاني.
فور إنتهاء حديثه وجد نفسه يُنتشل من جوارها بشكلٍ غريبٍ وكأن هناك سفينة فضائية أنزلت ضوئها فوق الأرض لكي تخطفه ولم يكن الفاعل إلا والده الذي هتف بحنقٍ من بين أسنانه المطبوقة فوق بعضها:
_بتقول إيه يا حيلة أبـوك؟ كرر كدا تاني.
توسعت عينا الصغير ولوىٰ فمه بتهكمٍ ووالده يمسكه من أعلى سترته وقد وقفت “نِـهال” بخوفٍ لتجد الصغير يهتف بمزاحٍ يُلملم به بعثرة الموقف:
_بقول إن الإنسان الواطي زيي كدا عمره ما يعرف قيمة الحاجة غير لما تضيع منه وأنا علشان حابب أعرف قيمتك عندي، بقول نبعد شوية، وعلى رأي “بيشوي” أبعد حبة تزيد محبة.
ضحكت “نِـهال” بصوتٍ عالٍ رغمًا عنها من موقف ذلك العابث الصغير فيما تنهد والده ثم أنزله أرضًا وهتف بخنوعٍ بعض الشيء له:
_ماشي، هسكتلك بس علشان ضحكتها وخليتني أشوف المانجا دي كلها، بس يا أنا يا أنتَ، يلا تعالوا علشان جدك تحت مستنينا ناكل مع بعض كلنا.
خجلت هي من إطرائهِ عليها وعلى ضحكتها وقد تورد وجهها حينما وجدته يُمعن النظر في وجهها وعليه تحرك هو يمسك ابنه وهي خلفهما بعدما غطت رأسها وتبعتهما للأسفل وقد جلست بجوار والده وفي مواجهته وابتسمت لحماها الذي وزع نظراته بينهما روحةً وجيئة ثم شرعوا في تناول الطعام.
بعد مرور بعض الوقت أنهوا فيها الطعام وقف “عبدالقادر” ووجه حديثه لهما بنبرةٍ جامدة بعض الشيء لكن برغم ذلك لم ينفك عنها الود حينما هتف:
_أنا عاوزك يا بنتي في كلمتين ممكن؟.
حركت عينيها نحو موضع وقوفه ورغم ذلك لم تملك الجُرأة لكي ترفض مطلبه بل تبعته نحو غرفة مكتبه وجلس هو في مواجهتها بعدما أشار إليها نحو موضع الجلوس وبعد مرور أقل من دقيقة لاحظ هو توترها ونظراتها الخائفة فابتسم لها وهتف بنبرةٍ هادئة:
_متتوتريش كدا، بصي أعتبريني زي والدك بالظبط، وأنا هتكلم معاكِ بصراحة كأني بكلم “آيـات” وعارف إنك عاقلة وقلبك كبير وعقلك زيه، أنا هكلمك عن نفسي، كنت شاب صغير وحيد أهلي وأبويا الله يرحمه الشيخ “بـكر العطار” كان إمام المسجد هنا وراجل الناس كلها بتحبه، جاب ورثه كله وجه يتاجر هنا بعدما أخواته كلهم ماتوا ربنا يرحمهم جميعًا، المهم يعني أنا كنت تحت طوعه هو وأمي، مكانش ليا حد خالص، لحد ما مرة كدا روحت شغله تبعه في قرية وسط بلد أرياف وقابلت هناك “رُقـية” ومن ساعتها مقامتش ليا قومة خالص، ضيعت مني هناك ورجعت بجسمي بس سيبت روحي عندها..
أبتسم ما إن تذكر رؤيتها أمامه وهتف بنبرةٍ ناعمة ومخملية كأنه تمر أمام عينيه في الحال:
_كنت بعمل شغل رخام هناك تبع أبويا لمسجد أبوها بانيه لأهل البلد، وهي كانت بتجيب لينا الفطار والأكل وتدعيلنا وتمشي، كل ما تيجي كنت بتشد وأتلغبط، كانت جميلة والوحيدة اللي كانت محتشمة ومغطية شعرها كامل، وضحكتها كانت حلوة أوي، أحلى من طلة الشمس بعد الغيوم، كنت بدعي ربنا الشغل ياخد وقت مننا علشان أشوفها، ولما جيت هنا بقيت بدور عليها في كل الوشوش، ببص لكل بنت محجبة وأفتكرها، لحد ما روحت قولت لأبويا وهو كتر خيره راح بنفسه الصبح يطلبها من أبوها، وساعتها ماكنتش أعرف اسمها لحد ما هي قالتلي اسمي “رُقـية” وساعتها أنا خليتها “رِقـة”..
ارتسمت بسمة هادئة على جانب ثُغره ثم أضاف بنفس الشجن الذي طغى عليه منذ بداية الحديث:
_بقت معايا وليا، أخت وأهل وعزوة، بقت بيتي حتى لما أبويا مات أنا ملقيتش غيرها هي أسند عليه ووقفت في ضهري، وإحساس يُتمي راح يوم ماهي قالتلي إنها حامل، ساعتها الفرحة طيرت عقلي، لقيت نفسي مش عارف أتصرف ولا أعمل إيـه بس هي معايا، ودا كان كفاية أوي، فرحت إن حبي معاها بيكمل، وإني هشيل عيالي منها، وإن عيلتي هتكبر بيها هي.
طالعته هي بتأثرٍ وسألته بنبرةٍ باكية وكأنها لا تصدق أنها تستمع لقصة واقعية مثل هذه:
_كنت بتحبها أوي كدا؟.
رفع عينيه الشاردتين في مسلك الذكرىٰ وأضاف بولهٍ وهو يتذكر أصغر تفاصيلها الرقيقة:
_كنت بحب حروف اسمها نفسها، كانت كل حاجة عندي، بيتي ومالي وبنتي وصاحبتي وعمرها ما زعلت مني ولا زعلتني، لو الطيبة والحنية ليهم اسم تاني كنت هخليهم باسمها هي، ولو البيوت بناسها العمرانة ليها اسامي كنت هخليهم باسمها هي، ولو الدنيا دي كان ينفعها اسم تاني برضه كنت هخليها باسمها هي، كنت بحمد ربنا كل يوم إنها معايا، لحد ما سابتني لوحدي، سابتني وسابت معايا ٣ حتت منها وفي كل واحد فيهم سابت طبع، وسابتلي الشكل في ملامح “آيـات” وسابتلي المسئولية والدعم في “أيـهم” والأخلاق والحنية والتدين في “أيـوب” وسابتلي قلبها كله قبل ما تمشي…
سكت هُنيهة يسيطر على عبراته وهتف بثباتٍ:
_أنا بقولك كدا علشان أنا راجل وحبيت قبل كدا، يمكن أكون عشقت كمان مش حبيت، وعيالي حتة مني ويهمني فرحتهم، عاوزك تعرفي حاجة مهمة، إني مشوفتش فرحة في عيون “أيـهم” زي ما شوفت فرحته بيكِ في حياته، خصوصًا من بعد تجربته الأولى اللي دفع فيها كتير أوي من مشاعره، مش بقولك ابني ملاك بجناحين بس على الأقل كراجل يستاهل إن اللي معاه تفهمه، وهو بيحبك وعاوز منك عيال يكبر بيهم عيلته، وعامةً الراجل لما بيحب بيتمنى عيلته تكبر، علشان كدا ابني عاوزك أنتِ تكبري عيلته، ودا حقك علينا، أنتِ دلوقتي ملزومة مننا، يعني واجبنا إنك تاخدي كل الرعاية مننا، روحي وجربي وربنا يكرمكم، لكل داءٍ دواء وأنا مع “أيـوب” أتعلمت إن ربنا معندهوش مستحيل، دا كرم سيدنا “زكريا” عليه السلام وإمرأته عاقر، ثقي في ربك يا بنتي وتوكلي عليه.
عاد الأمل من جديد يتفاقم بداخلها وهي ترمقه بعينيها الباكيتين وقد ضحكت له بامتنانٍ أفصحته عيناها حتى وجدته يقترب منها ثم لثم جبينها كأنه يسترضيها وهتف بعاطفةٍ أبوية خالصة:
_أنتِ هنا بنتي، وفي عيني الاتنين واللي يزعلك كأنه زعلني، بس أنا بقى محبش أشوف بنتي زعلانة، وأهد الدنيا علشانها، تحبي أطلع أجيبه من شعره اللي فرحان بيه دا؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تضحك له ثم هتفت بصوتٍ مختنقٍ من الحماس والحُب الذي ملأ قلبها:
_هو مش مزعلني والله، أنا اللي لسه بخاف من حاجات قديمة ملهاش أي وجود وسايباها تتعبني، وهو حقه إنه يعيش حياته صح، وعلشان خاطرك هحاول تاني وتالت وربنا يكرم باللي فيه الخير.
ابتسم لها حماها وقد شكرها بعينيهِ ليجدها هي تلك المرة تمتن له بنظراتها ثم خرجت من غرفة المكتب وتركته هو غارقًا في وله الذكرىٰ برفقة حبيبته الفقيدة، أو باللغة الخاصة هي جنة الأيام المُهداة له رحمةً من الخالق.
__________________________________
<“إذا قصر كفك عن الخير، فلا تمده بالشر”>
في منطقة حارة “العطار”..
أوقف” أيـوب” سيارته أمام البناية المنشودةِ منه وقد نزل وحمل “فـاتن” على ذراعيه وولج بها البناية ركضًا وهي في حالةٍ يُرثىٰ لها وقد سبق وهاتف “بـيشـوي” الذي سبقه إلى هُناك بالطبيب وقد وضعها في أقرب غرفة قابلته وولج خلفه الطبيب الذي بدأ في فحصها وقد كتب لها الروشتة الطبية وطلب وضع المحلول الطبي لها ومعه إبرة طبية مُسكنة للآلام حتى يقل ألم عظامها شيئًا فشيءٍ وقد وقف “أيـوب” يُتباعها بقلة حيلة وهو يتابع عمل الطبيب وأوامره.
وقد مرت نصف ساعة تقريبًا تم فيها تركيب المحلول الطبي لها ووضع الإبرة المُسكنة فيه، وقد جلب لها الدواء أيضًا وقد وقف يتابعها بعينيه وهي مُضجعة فوق فراشها لاحول لها ولا قوة إلا بالخالق العظيم، الرحمن الرحيم، وقد خرجوا من غرفتها وهي ما بين الوعي واللاوعي تذكر اسم ابنها و ابن شقيقها معًا.
وفي الخارج وقف “بـيشوي” برفقة رفيقه وهتف بصوتٍ حزينٍ أغدقته الشفقة لتلك المرأة المسكينة طريحة الفراش:
_الست مبتهدلة خالص يا “أيـوب” دا كأنه فرمها بعربية فوق الطريق، والحل إيه طيب؟ هتفضل هنا ولا نعمل محضر ولا نبلغ عنه؟.
حرك كتفيه وهتف بضياعٍ كونه تأثر من كل الأحداث المُتصاعدة حوله:
_مش عارف يا “بـيشـوي” بس أنا محتار، أنا هعتبر نفسي أمين عليها لحد ما أشوف بابا، هي قريبته وأكيد ليه حق يفكر في اللي يلحقها هي، ولسه موضوع ابنها دا أنا مش عارفه ولا عارف هو راح فين.
هتف جملته الأخيرة بحيرةٍ وضياعٍ فيما تلون وجه الآخر وهو يُطالعه بنظراتٍ أجاد فيها إخفاء الحقيقة حيث هتف مستفسرًا بنبرةٍ كاذبة:
_إيه دا؟؟ هو لسه مظهرش خالص؟ غريبة.
تنهد “أيـوب” ثم تحرك معه لخارج الشقة التي وُجدت في الطابق الثالث بنفس البناية وقد قرر أن يصعد للأعلى حيث مكان والدة زوجته وقد وقف يُطرق الباب حتى فتحته له هي وأبتسمت من مجرد رؤيته ورحبت به قائلةً:
_أتفضل يا حبيبي، أؤمر.
_الأمر لله وحده، أنا كنت عاوز حضرتك في كلمتين ضروري لو أمكن، ممكن بعد إذنك؟.
هكذا كان رده الذي نعم بكل التهذب وهو يرد عليها حتى رحبت هي به وأشارت له أن يدخل وما إن ولج وجد “قـمر” تخرج من الداخل وقد طالعته بنظراتٍ نارية جعلته يتعجب منها وما أزاد غيظه منها أنها تركته وولجت للداخل من جديد فيما جاورته أمها تسأله بإهتمامٍ:
_خير يا “أيـوب” نعم يا حبيبي فيه حاجة مزعلاك؟.
حاول كثيرًا ترتيب الحديث على طرف لسانه وقد قرر أن يحدثها بصورةٍ مُباشرة وهتف بثباتٍ:
_بصي أنا مش جاي أجبرك على حاجة ولا هقولك تعملي حاجة غصب عنك، أنا بس هقولك حاجة من باب الإنسانية وربنا يعلم إني مش عاوز أضغط عليكِ، الست “فـاتن” أخت أستاذ “مصطفى” ربنا يرحمه تحت في الدور التالت، بس للآسف حالتها صعبة أوي، جوزها الله ينتقم منه ضربها ومقطع جسمها، أنا جيبت ليها دكتور وعلاج وبدور على حد يرعاها، بس حاليًا تقدري تساعديها؟ وعلى فكرة “يـوسف” اللي كلمني وقالي ألحقها.
استمعت له بدهشةٍ وقد ترقرق الدمع في عينيها على الفور وهتفت بنبرةٍ جامدة تصنعت فيها القسوة رغم هشاشة مشاعرها:
_أنا مش هقدر للآسف إني أساعدها علشان أنا مش مسمحاها، دي كانت عارفة إني عايشة وفيا النفس وسكتت، سابت ابني يتـيتم في الدنيا وأنا حية ومساعدتهوش، مجاتش مرة تريح قلبي المحروق عليه طول العمر دا، أنا مش عارفة أسامحها حتى، ولو هعمل حاجة هعملها علشان خاطر روح “مصطفى” اللي مقامه كبير عندي، إنما هي فملهاش حاجة عندي ومش عاوزة يكون ليا صلة بيهم إكرامًا لابني اللي مترحمش وسطهم ولحد دلوقتي لسه أذاهم طايله.
ولجت في تلك اللحظة خرجت “أسـماء” من الداخل حيث كانت في مطبخ الأخرى وما إن خرجت كان الحديث بالفعل وصلها فهتفت بشفقةٍ بعض الشيء رغم جمودها:
_بلاش “غـالية” علشان متتعبش وهي معاها، طالما في نفس البيت أنا معنديش مشكلة أساعدها أنا أو أخلي بالي منها، وطالما “يـوسف” عارف وكلمك يبقى خلاص، أهو صدقة عن صحتها، وأنتِ ياختي بطلي تشيلي نفسك الهم وتقولي علشان خاطر “مصطفى” هو خلاص ربنا يرحمه وربنا يوعده بالجنة، متزعليش نفسك علشان كلب من عيلة “الراوي” دول عرر وبالذات مرات “سـامي” دي عيوطة.
أطمئن “أيـوب” أخيرًا على الأخرى وقد أخرج مُفتاحًا من ميداليته ثم أعطاه للأخرىٰ حتى يعود لها من جديد ويطمئن عليها بنفسه مع والده، لكن ما جعله يتعجب هو إختفاء القمر من سماه، حيث طلت عليه وأختفت من جديد دون حتى أن تُبالي به وبتواجده، هل يُعقل غضبت منه بسبب غيابه عن الذهاب معه؟.
تعالت الأفكار في رأسهِ لكنه قرر أن ينسحب لعلها تأخذ مساحتها الشخصية وقد ترجل هو من البناية بتيهٍ وكأنه أتى لهنا كي يصاب بتخمةٍ أصابته وأصابت مشاعره وخاصةً مع موقف زوجته الغريب، فهذه لم تكن نفسها التي تسعد لرؤيتها أمامها وكأنه فتى أحلامها الخاص بها وعلى كلٍ الغد قريب وسيعلم كل شيءٍ بنفسهِ.
__________________________________
<“أكرمك بالله بالعقل، لما تُهين نفسك مع الوضيع؟”>
قيل في خُرافة قديمة على ألسنة مؤرخين الحب
أن الصُدف هي أبواب البدايات للحياة الجديدة حيث تواليها خلف بعضها يجعلها مؤكدة من باب الحتمية، وإذا زادت صُدفِكَ عن ثلاثة صُدف فأعلم أن أبواب البدايات واربت لأجل دخولك منها…
في منطقةٍ ما قُرب منطقة حارة “العطار”..
خرجت “آيـات” بصحبة “جـنة” من محل تجاري خاص ببيع ملابس المُحجبات والأزياء الشرعية بكافة أنواعها وقد أبتاعت لنفسها بعض الأشياء الجديدة وكذلك الأخرى التي طلبت منها المعاونة والدعم لكي تعود من جديد للطريق الصحيح وقد أخرجت “آيـات” هاتفها تطلب رقم زوجها وفقًا لإتفاقه معها على ذلك، وقد أنتظرته حتى وجدت سيارة ما تقترب منهما وترجل هو منها وتبعه شقيقه الذي ما إن نزل لاحظ وقوف “جـنة” فهتف يستفسر بسخريةٍ:
_هو أنتِ؟ إيه حكايتك بقى؟.
أنتبهت له هي حينما وجه الحديث لها وهتفت بضيقٍ وضجرٍ منه ومن حديثه معها:
_هو أنتَ مراقبني؟ كل شوية أشوفك؟.
سخر منها بملامحه وهتف بمحاكاةٍ لطريقتها:
_أراقبك؟ ليه أنتِ “چورچينا” ولا إيـه علشان أراقبك؟ أنا جاي مع أخويا أنتِ بقى إيه حكايتك معايا؟ كل شوية تطلعيلي في البخت، وتعكري مزاجي، الله يسامحك.
أحتقنت الدماء في وجهها وأولته ظهرها وقبل أن ينطق من جديد تدخل شقيقه يمنع عنه صدور هذا الفعل وقد هتف يعتذر من الجميع بقولهِ:
_أنا آسف يا جماعة، هو جـه يقعد معايا وياخدني علشان رايح عند بابا، ولما عرف قال ييجي يوصلني هنا بالعربية علشان منركبش مواصلات، الغلط مني، أنا آسف يا آنسة “جـنة” حصل خير يا جماعة.
تدخلت “آيـات” تهتف بنبرةٍ هادئة حتى تزيل التوتر المخيم عليهم وتُضفي صفاءً محله:
_حصل خير يا جماعة مفيش مشاكل، بعدين بتحصل ساعات المواقف دي كذا مرة ورا بعض، في النهاية كلنا أخوات في الإسلام، والمفروض نلتمس لبعض الأعذار.
ضحك لها “تََـيام” وطالعها بفخرٍ ثم أقترب منها يهمس لها بفخرٍ يُثني عليها بصدقٍ:
_أنا قولت المفروض يكون اسمك ملاك، مبقاش فيه منك وسط الناس خلاص، زيك زي حمامة السلام بعد حياة كلها دوشة وشر، أنتِ خير الدنيا كله فيكِ.
رفعت عينيها نحوه وهي تُطالعه بحبٍ خالصٍ فاض من عينيها ونظراتها وقد تدخل “مُـحي” يهتف بسخريةٍ أخرجتهما من تلك الحالة:
_ممكن يا حبايبي لو مفيهاش بعد إذن الفراشات دي نركب العربية ونروح؟ علشان الآنسة “چورچينا” وراها مصالح.
حركت “جـنة” رأسها نحوه بحدةٍ وقد تلاقت عيناه بعينيها حيث عينيه الرُماديتين مع عينيها الخضراوتين ليدرك هو أن هناك أعين لم يراها في حياته قط، نظرات رغم حُنقها إلا أنها كانت صافية وبريئة، أعين تمنى أن تُطيل النظر له وكأنه يستمع لصوت قلبه وهو يقول:
“رأيتُ من العيون والمُقل عجبا،
إلا هاتان أطاحتا بعقلي وذهبا”
كانت هي الأسرع حينما حركت رأسها بعيدًا عنه ليدرك هو أنه أطال نظراته لها وعليه ولج السيارة مُسرعًا وجاوره شقيقه وفي الخلف جلست هي بجوار رفيقتها ولولا أنها أخبرت والدتها ووالدها أنها سترافق “آيـات” ذهابًا وإيابًا لكانت تركتهم ورحلت بمفردها.
__________________________________
<“أنتَ من فعلت الخطأ، لا تلوم على الآخرين”>
الإنسان دومًا هو مقياس الخطأ في نفسه،
فلا يُحق لمن أخطأ في حق نفسه أن يلومن على الآخرين، يشبه الأمر في حقيقته كبطلٍ رئيسي تغيب عن المسرح ومن ثم يعود حزينًا حينما يأخذ غيره محله….
أخبرت “ماريـنا” شقيقتها بما حدث من زميلها بالعمل وقد أخبرتها أيضًا عن تهديده لها وتعرضه لطرقاتها وأن “يـوساب” رآهما سويًا في ذلك الوضع وأخبرتها أنه أتى بها لهنا ولم يتفوه بالمزيد بل أطمئن أنها وصلت بسلامٍ وأختفىٰ وقد أغتاظت منها شقيقتها فهتفت بإنفعالٍ توبخها:
_أنتِ تستاهلي أكتر من كدا يا “مـارينا” علشان أنا مشوفتش حد زيك بيضحي بنفسه وسمعته من اللاشيء كدا، أنتِ المفروض بنت في جامعة وليكِ وقارك وإحترامك، طيش الشباب دا مش نافع، تخلي واحد زي دا ملهوش لازمة يهددك كدا؟ علشان هو مريض وحيوان فاكر الناس كلها زيه في إنعدام الأخلاق، و “يـوساب” محترم علشان لم الموقف، رغم إنه حاليًا بقى في حكم خطيبك، ولو زعل معاه حق.
أندفعت في الحديث بغيظٍ وهي تتوالى عليها بالكلمات الحانقة وقد سألتها “مـارينا” بضجرٍ أقرب للبكاء بعدما تهدج صوتها:
_أنتِ ليه بتزعقيلي طيب؟ أنا بقولك علشان أرتاح من الإحساس الرخم دا، تيجي أنتِ تزودي عليا كدا تعبي؟ بعدين أنا ماكنتش عاوزة يكون ليا علاقة بيه هو اللي حيوان وقليل الأدب كمان، علشان مش محترم نفسه، المفروض إن هو اللي كان بيكلم بنت تانية غيري وأنا عرفت، يبقى بأنهي حق بقى راجع تاني يتدخل؟.
تنهدت شقيقتها بثقلٍ ثم قررت العدول عن حدتها معها وهي تقول بنبرةٍ أكثر دفئًا وحنوٍ لشقيقتها التي لازالت تفكر بطريقة لم تتلائم مع عمرها وعمر عقلها:
_علشان أنتِ مش بتفترضي غير تفكيرك بس، مش بيهمك تفكير اللي قدامك إيه أو عواقب تفكيره دا، أنتِ لما من الأول حسيتي إن “يـوساب” بيكلم الدكتورة أو فيه حاجة بينهم أوام روحتي تكلمي الزفت دا، وتوهمي نفسك إن فيه حد تاني عاوزك، رغم إن دا مش صح، إحنا مش سلع للرغبة، إحنا بشر من مشاعر بتتأثر بكل حاجة حواليها يا “مارينا” وحقك على نفسك إنك تهتمي بيها وبصورتها، ودلوقتي حددي بقى أنتِ عاوزة إيـه؟.
كاد أن يُداهمها البكاء لتزرف العبرات خلف بعضها لكنها تماسكت وهتفت بثباتٍ واهٍ أمام رغبتها في البكاء:
_عاوزة أخلص السنة دي على خير، وأنجح وأتخرج وبعدها نشوف موضوع جوازي دا، وكدا كدا “يـوساب” قال إنه هيعمل نص إكليل بعد فرحك، يبقى خليني في المذاكرة دلوقتي علشان مشيلش مواد، بس أنا خايفة الزفت دا ييجي لبابا، أنا بترعب من قلبته عليا وهو علطول بيقلب عليا أنا.
ضمتها الأخرى بأحد ذراعيها تمسح على كتفها ثم هتفت تُطمئنها بحديثٍ دافيء عبر بالطمأنينة نحو قلبها:
_يبقى خلاص ذاكري ومتفكريش في حاجة تانية، صدقيني كل حاجة هتعدي وبأمانة ربنا أنتِ بقالك فترة راسية وناضجة متخليش الواد العبيط دا يرجعك تاني عن اللي حققتيه، روحي ذاكري وموضوع “روماني” دا أنا هحله متقلقيش، ولا أقولك أقلقي علشان بصراحة كلنا لازم نخاف.
رفعت “مارينا” عينيها نحو شقيقتها تُطالعها بنظراتٍ مُرتابة وقد هتفت الأخرى تمازحها بما يزيد ارتياب تلك النظرات:
_”بيشوي” بكل آسف هو اللي هيقدر يحل المشكلة دي.
توسعت عينا “مـارينا” وهتفت ساخرةً:
_لأ كدا خلاص بقى الله يجحمه، كان حقير.
أنهت جملتها وقد أرتفع صوت الضحكات من الاثنتين سويًا بسخريةٍ على هذا الموقف وعلى خوفهما من “بـيشـوي” صاحب الطباع الحادة القوية الذي لم يتوانى ولو لثوانٍ في استرداد حقوقه سريعًا من سارقيها، وعليه يُقرر أن يتعامل مع غريمه بالطريقة التي يستحقها، هذا المُذاع سيطه في المنطقةِ بأكملها متحدثين عن قوته ودهائه في التعامل، ومعه النسخة الأخرىٰ منه حيث “أيـهم” وفي روايةٍ أخرىٰ على لسان أحد قاطني الحارة أنهما كما الأسدين في حارة “العطار” وقد ازداد الأمر ووصل لخارجها.
__________________________________
<“اليوم لم أكن هُنا، وياليتكِ أنتِ هُنا”>
وأخيرًا مع حلول الليل بدأ الضجيج يهدأ ويصل لمرحلة الاستقرار لكن بعدما اُستنزفت طاقته كُليًا لكي يُسكت رأسه، حيث سار وجال وهام على وجههِ، وأشعل السجائر كما اشتعلت النيران في جـوفه، هناك عدة مصطلحات ربما توصفه لكنها لن تكفي ما يمر به، حيث الضجيح، الغوغاء، القهر، الظلم، الاستبداد، التيه والضياع، والشتات، كلها مصطلحات شملت ووفت لكل ما يُعايشه ويضمره في نفسه، هذا الذي حل على سنوات عمره الخراب رغم أن سنواته يُطلق عليها سنوات الربيع…
عاد أخيرًا من تجوله وقد وصل للغرفةِ فوجد “عُـدي” ينتظره وحينها تذكر ما فعله قبل رحيله فهتف بثباتٍ يعتذر منه بنبرةٍ مُحشرجة خشنة:
_أنا آسف إني زعقتلك وأتعصبت، ماكنتش في وعيي وجت فيك أنتَ، متزعلش مني بس وربنا أنا لو أقصد عمري ما أعملها.
وقف الآخر بجوارهِ وهتف بنبرةٍ ودية يرفع عنه الحرج بقولهِ الهاديء الحكيم:
_متزعلش نفسك أنتَ، أنا نزلت دورت عليك تحت بس ملقيتكش، طلعت تاني يمكن تحتاج حاجة مني، على العموم متضايقش نفسك، بعدين كان مالك صح؟ خدت في وشك ومشيت ومعرفتش مالك.
تنهد “يـوسف” وهتف بضياعٍ وتيهٍ أكثر:
_المصيبة إني مش عارف مالي، أنا تايه كدا والمفروض أكون فرحان، بس أنا جوايا جزء غضبان وهيموت ويحرق البلد كلها، صدقني لو أعرف كنت أرتاحت وقولت بس حتى دي مش مالكها بإيدي للآسف.
مسح الآخر على كتفه وحقًا فقد كل كلمات المواساة، فمباذا يتحدث أمام تائهٍ ضل الطريق؟ بالطبع لن يوفيه الحديث بالكلامِ أي شيءٍ وقد صدح صوت هاتف “يـوسف” فتركه “عُـدي” وولج الشرفة يجلس فيها ومعه الحاسوب الخاص به، في تلك اللحظة وقعت عيناه على “رهـف” تتحدث في الهاتف مكالمة فيديو مع والدتها في الشرفة المجاورة له وقد ظهرت السعادة عليها وهي تتحدث وتشير في الهاتف لهما، بنفس التوقيت كان هو غريقًا فيها وفي ملامحها وطريقتها التي تجمع كل النقض معها، حيث القوة والضعف، الثبات والمرونة، النُضج والطفولة البريئة، فيها كل شيءٍ عدا ملاحظتها له.
وقد أنهت هي المكالمة وهي تبتسم بسعادةٍ وألتفتت بجانبها الآخر لتجده يتابعها كما أعتاد فأوزعته بسمةً هادئة جعلته يبتسم هو الآخر ثم هتف لها بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يباركلك فيها، شكلك بتحبيها أوي.
تنهدت بعمقٍ وهتفت باسمة الوجه والعينين:
_هي كل حاجة عندي، بحبها أوي كأنها أخر أمل ليا في الحياة، ماما ميكفيهاش كلام خالص، كل مرة بيأس في حاجة بحاول علشانها هي من تاني، وكل مرة بحس نفسي ضعيفة برضه بحاول علشانها هي، بستغرب أوي إزاي حد ممكن يدي كل طاقة الحب دي من غير مقابل، بس ماما عرفتني إزاي.
أومأ لها موافقًا وهو يبتسم بعينيه كمن يطالع الحلوىٰ المُحرمة عليه، والذنب فقط أنه أشتهاها هي، قلبه البريء يود أن يركض نحوها لكي يُخبرها بما يحفظه لأجلها، وعقله الناضج يخبره أن هذه ماهي إلا خطوة تحتاج لبعض التريث منه حتى لا يُفسد بقية الخطوات، فمثل تلك الموضوعات تشبه السير في حقل الألغام، ربما خطوة تُنجيه وخطوة تُهلكه.
في الخارج كان “أيـوب” هو من يتحدث مع رفيقه وقد طمأنه وأخبره أنه فعل ما بوسعه لأجل عمته وأنها أضحت في كنفهِ أخيرًا، وقد هدأ “يـوسف” بشكلٍ أكبر وشكره بامتنانٍ له، لكن نيران ثأره لم تهدأ ولم تَخمُد، بل طفقت النيران تزداد أكثر من تلك العائلة الماجنة التي وصلت أفعالها لمرحلةٍ صعبة معه، وقد أغلق الهاتف وقبل أن يُخفيه صدح من جديد لكن تلك المرة برقم “عـهد” فضغط على الإيجاب وما إن وصله صوتها أغمض عينيه وسحب نفسًا عميقًا وهو يقول بصوتٍ غلفه الحزن:
_كان نفسي تكوني هنا، كنت هرتاح.
استشعرت هي تعبه من مجرد الجملة التي ألقاها عليها فهتفت بثباتٍ تمسح على قلبه بحديثها:
_أعتبرني معاك، قولي إيـه مزعلك وأنا هسمعك، صدقني أنا مش قدامي حل غير إني أسمعك وأقف في صفك، حتى لو غلطان أنا مش هقدر ألومك، حصل إيه عندك زعلك كدا؟.
رفع كفه يُخلل أنامله بداخل خصلاته ثم نطق أخيرًا بقلة حيلة أعربت عن حال قلبه المُشتت كما حال رأسه:
_المفروض إني أفرح وأكون فخور بيه، بس جوايا حد تاني مش فرحان ومتضايق، أنا عاوز حد يفهمني ويرتب الكركبة اللي جوايا، أنا أنهي “يـوسف” فيهم، أنا كنت قربت أنسى إني ضايع كدا.
حديثه وشتاته أكدا لها أنه يُعاني من أزمـة نفسية بسبب إضطرابه لذا استجمعت شجاعتها وهتفت بثباتٍ:
_يمكن علشان أنتَ سايب نفسك يا “يـوسف”؟ مش هنكدب على بعض إنك بتعاني من مشكلة نفسية، جرب كدا تبص للمشكلة من ناحية تانية هتلاقي إنها لازم تتحل، مش غلط إنك تعترف بالمشكلة وتسعى لحلها، الغلط إنك تديها ضهرك وتمشي كأنك مش شايفها.
حسنًا هي أكملت عليه لتدفعه للسير في طريق الخطأ وقد هتف هو بتعجبٍ منها وكأنه لم يستسغْ حديثها بشأن هذا الموضوع لديه:
_وهو أنا بكلمك علشان تقوليلي إني مجنون يا “عـهد”؟ بعدين دا إيـه علاقته إني متضايق أصلًا وحاسس إني مخنوق رغم إني هنا المفروض أكون فرحان؟ قفلي يا “عهد” على السيرة دي الله يكرمك، أنا مش ناقص.
تنهدت هي بثقلٍ وعلمت أن الحديث عبر الهاتف لن يُجدي نفعًا وعليه قررت أن تَكُف عن الحديث وصمت هو الآخر ثم هتف من بعد صمتٍ قاتلٍ لهما:
_حقك عليا، متزعليش مني بس أنا يمكن علشان منمتش وأعصابي بايظة حاسس إني متلغبط أو تعبان، على العموم تصبحي على خير، هروق شوية وأبقى أكلمك بس مش حابب أكلمك وأنا كدا، سلام.
أغلق الهاتف معها ثم أرتمى فوق الفراش أخيرًا يحاول الهروب من كل شيءٍ حوله لعله يهرب من العالم بأكملهِ ومن نفسهِ، وإذا فعلتها رأسه وهدأت وأقامت معه معاهدة السلام من المؤكد هو سيمتن لها كثيرًا لكونها رائفةً به.
__________________________________
<“بسجية كل فردٍ منا يسكن شخصٌ حنون”>
بعد مرور أربعة أيام من كل الأحداث المُتصاعدة..
كانت الأحداث أهدأ على الجميع سواء إن كانوا في مدينة “القاهرة” أو بمدينة “شرم الشيخ” مرت نسمات هادئة بعض الشيء دون العلم بما يُحاك في الخلف من مُخططاتٍ وردود أفعالٍ لما سبق من حدوث أفعالٍ.
وفي منتصف اليوم أمام مشفى الأمراض العقلية خرج “مُـنذر” من المشفى بعدما أنهى عمله ليجد تلك المتذمرة كما أضحى يُلقبها تقف بجوار سيارتها وهي تكتم صرخاتها وتُطبق أسنانها ببعضها وحينها أقترب منها يُتابعها بعينيهِ وقد أنتبهت هي له فأعتدلت في وقفتها المُنحنية نحو إطار السيارة ثم هتفت بتوترٍ تُفسر سبب موقفها:
_أنا آسفة، بس أنا المرة دي بجد هتفرتك من الغيظ، المرة دي أنا أتغابيت، خليت “جـواد” يمشي لوحده وسبقني، والكاوتش نام أو مات باين، هروح إزاي؟ إحنا قرب الصحرا.
كانت تتحدث بسخطٍ وقد حرك هو رأسه نحو إطار السيارة ثم أعتدل يواجهها وهو يتحدث بثباتٍ يستفسر منها:
_طب والاستبن فين مش معاكِ؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تقول بإندفاعٍ فيه:
_وأنا هخليه معايا ليه وأنا مبعرفش أركبه؟؟.
رفع هو حاجبيه ساخرًا منها ثم أضاف بتهكمٍ على طريقتها في التحدث معه:
_علشان في موقف زي دا ممكن حد زيي كدا يركبهولك، بس نقول إيـه بقى؟ مش كل الناس منعمة بالذكاء.
ضيقت جفونها ترمقه شزرًا فيما تنهد هو ثم هتف بثباتٍ مُشيرًا إلى دراجته البخارية لكي يعرض عليها إقتراحه:
_طب الدنيا ليلت خلاص، والوقت أتأخر وصعب تلاقي مواصلات غير لما تمشي كتير، ممكن أوصلك بطريقي.
حركت رأسها نحو موضع إشارته ونحوه وهي تفكر مليًا في حديثه وعرضه وقد وقعت في أزمةٍ كأنها حُصرت بين المطرقة والسندان فأضاف هو من جديد يستخدم سياسة الطرق فوق الحديد الساخن ليلهب حماسه:
_قرري براحتك، بس أنا كدا كدا هامشي وأسيبك، الدنيا هنا ليل وضلمة وعلى ما تطلبي “أوبـر” فيها ساعة دي، ولو مطرت عليكِ كدا هتبقى كملت، قولتي إيـه؟.
في الحقيقة بعد كل ما تحدث عـنه هي أقتنعت بحديثه وعليه قررت أن توافقه وأنتظرت حتى أعتلى هو الدراجة ثم ركبت خلفه على استحياءٍ حتى بدأ في القيادة بسرعةٍ كبرى شق جزيئات الهواء بأصغر محتوياتها وقد تمسكت هي في سترته الجلدية بخوفٍ وحينها تعجب هو منها فألتفت لها يُحدثها بنبرةٍ عالية حتى يصلها صوته من وسط الهواء:
_أمسكي كويس علشان أنا مبعرفش أسوق بالراحة، ومش مسئول لو وقعتي، خلي بالك من نفسك.
زادت قوة مسكتها له وعنفته موبخةً بقولها:
_مرة علشان الشخص اللي معاك أكسر القاعدة وقلل السرعة، كدا هموت وأنا مش مستعدة أموت دلوقتي، لسه محققتش أحلامي كلها.
ضحك رغمًا عنه ثم رفع السرعة أكثر حتى صرخت هي وضحكت في آنٍ واحدٍ حينما طارت خصلاتها للخلف بفعل حركات الهواء وقد تردد صوت ضحكاتها عاليًا وقررت أن تعيش التجربة بأكملها لطالما أُتيحت لها الفرصة فعليها استغلالها كاملةً، وقد تابعها هو بطرف عينه ووجد نفسه يبتسم فضلًا عن بسمتها وصوت ضحكاتها وهي تُمازح ذرات الهواء بملامحها المتحمسة.
وبعد مرور ما يقرب الساعة كانت هي أرشدته لحيث الطريق نحو بيتها وقد أوقف هو الدراجة أخيرًا لتترجل هي منها ووقفت مقابلةً له وهي تقول بإمتنانٍ لكل ما عايشته الآن:
_متشكرة جدًا، بجد ممتنة لموقفك أوي وإنك وصلتني لهنا، وعلى فكرة ركوب الموتوسيكل طلع حلو جدًا، ولما آجي أشتري واحد هخليك تعلمني السواقة، شكرًا يا دكتور.
ابتسم بخفةٍ تلك البسمة التي تُزين جانب ثُغره ثم تنهد وهو يجدها تتحرك صوب مدخل بيتها فقرر أن يتحدث معها لذا أوقفها مُناديًا على اسمها مُجردًا من الألقاب:
_فُــلة!!.
ألتفتت له تطالعه بقلبٍ ينبض بقوةٍ لكونه يناديها بتلك الطريقة لمرته الأولى منذ أن ألتقىٰ بها ليضيف هو بثباتٍ كأنه لم يفعل أي شيءٍ من قبيل ما يسرده عليها:
_أنا مبعرفش أكدب وأخدع حد، أنا اللي نيمت الكاوتش بتاعك علشان تجربي ركوب الموتوسيكل، يعني قولت طالما الحل موجود يبقى مفيهاش مشكلة إني أستغل الحلول المُتاحة، على العموم فرحان جدًا بالمشاركة دي، هستناكِ تجيبي الموتوسيكل علشان أعلمك.
رماها بغمزةٍ من عينه ثم تحرك من أمامها بدراجته حتى طالعته هي بذهولٍ من وقاحته وصراحته ومن تماديه في الفعل وقبل أن تعقب وجدته فر من أمامها مثل السراب ولم تجد له أثرًا، وبدلًا من الإنفعال أو العصبية وجدت نفسها تُناقض ذاتها وهي تبتسم رغمًا عنها ثم ركضت نحو البيت بحماسٍ كمراهقةٍ رآت حبيبها السري خلسةً من عائلتها.
_________________________________
<“للعبة دومًا قوانين، وكذلك لها كُبار”>
الأيام المارة في الإنتظار تُحتسب بالضعف، حيث الوقت العصيب القاتل الذي يجعل المرء في إنتظارٍ قاتلٍ له من كل حدبٍ وصوبٍ، لكن لكل إنتظارٍ نهاية، ومن بعد النهاية دومًا تأتي البداية…
كان “سـامي” حينها في بيت “الراوي”…
إنسان طامع تجسد فيه الشيطان، يبدو كأنه تجرد من إنسانيته كُليًا وأضحىٰ مسخًا يسير خلف أهواء شيطانه، وقد أنتظر المكالمة الهاتفية الأخيرة بنفاذ طاقة الصبر لديه وعليه قرر أن يتوجه نحو المنطقة التي وصله عنوانها في رسالةٍ أنتظرها كثيرًا، وقد ذهب إلى هناك من شابين قام بتأجيرهما من شركة حراسة ليقوما بحمايته، وقد وصل إلى منطقة التجمع الخامس… حيث مكان تواجد ابنه من بعد مراقبةٍ دامت لكثير من قِبلهِ..
وصل إلى البناية والطابق والشقة أيضًا وحينها طرق الباب بقوةٍ وهو يصرخ باسم ابنه لعله يخرج له وحينها فُتِيح الباب وتفاجأ هو بالفاعل حينما وجد “إيـهاب” وخلفه “إسماعيل” وقد أبتسم بزاوية فمه وهتف يتشدق بنزقٍ:
_دا أنتوا عاملين حزب؟ وسع ياض خليني أجيب ابني.
تحرك “إيهاب” وأفسح له المجال وقد ولج الآخر مثل الإعصار يبحث عن ابنه بعقلٍ طـار منه وفل بعيدًا وقد أغلق “إيـهاب” الباب بالمفتاح وما إن عاد له الآخر وحاول أن يخرج دفعه للخلف وهتف بتشفٍ صريحٍ فيه:
_بتوجع أوي وأنتَ تايه على اللي يخصك صح؟ أعتبرنا بنلعب مع بعض، وعلى عهدنا كل لعبة ليها قوانين، بس برضه ليها كبار وزي ما اللعبة ليها كبير، ليها عمهم.
واثق الخُطى يمشي ملكًا، وقوي البنية يسير فخرًا، وهذا رجلٌ تربى وسط الخيول وتعلم الشِعر، فلا يوقفه جبانٌ ولا يؤرقه ضبعٌ، هذا الفارس في المعركة يحمل سيفه، وما ذنب الفارس إن كان العدو جبانًا؟.
______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى