رواية مصطفى أبوحجر الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم آلاء حسن
رواية مصطفى أبوحجر البارت الرابع والثلاثون
رواية مصطفى أبوحجر الجزء الرابع والثلاثون
رواية مصطفى أبوحجر الحلقة الرابعة والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
-٣٤- الأعتراف
لم يكن قد تجاوز الأربع والعشرون من عُمره عندما قابلها لأول مرة في إحدى ورش تعليم الكتابة المرموقة في أواخر التسعينات ..
التفت برأسه كجميع الجالسين إلى ذلك الباب الخشبي الداكن الذى ارتفع صريره من ورائه، فتوقفت عيناه على تلك الصغيرة المُرتبكة والتي بدا عليها أنها لم تتعد سنواتها العشرون بعد، تطايرت شُعيراتها القاتمة القصيرة حول وجهها الأبيض المُنير بشغب بفعل تيار الهواء الخريفي الناتج عن فتح باب القاعة والذى ساهم في دفعها إلى الأمام دفعًا رغم مُقاومتها نظرًا لصغر حجمها ونحول جسدها، إلى أن قام أحدهم بإغلاقه من ورائها فتوجهت هي إلى إحدى المقاعد الخالية تعتليها على استحياء شديد واطرقت برأسها خجلًا دون أن تنبس ببنت شفة ..
راوده ذلك الشعور المُميز الحالم حينها وكأنه يُتابع فيلم سينمائي برزت إحدى بطلاته بالتصوير البطيء لتخطف أنظار البطل الذي احتبست أنفاسه إثر مراقبتها ..
فظلت عينيه مُثبتة عليها طوال الورشة رغمًا عنه إلى أن أنفض الجمع بعد حوالى الساعة عقب انتهاء المحاضرة، فرآها تُلملم مُتعلقاتها بتوتر شديد وكأنها طفلة تعجز عن ترتيب حقيبتها بعد أن لاحظت سُرعة مُغادرة الحضور بعشوائية مُربِكة بينما هي لازالت في مكانها، لذا اقترب منها هو عارضًا مُساعدته بلطف ..
ابتسمت له بخجل دون أن تنطق فأعانها على ترتيب ما تبقى من أشيائها ليلاحظ في النهاية خلو القاعة من البشر إلا منهما، كادت أن تُغادر مُسرِعة فور انتهائها لكنه استوقفها قائلًا بصوته الدافئ من ورائها :
_ مصطفى أبو حجر ..
التفتت إليه بابتسامة هادئة رقيقة قائلة بلكنة غير مصرية واضحة :
_ نوال طلال ..
مد يده مُصافحًا قبل أن تبرُز تلك الابتسامة الآسرة من بين شفتيه وهو يقول بثقة :
_ مش مصرية صح ..
صافحته بوجنتين مُتوردتين نضحا على وجهها الأبيض فبدوا كحبتي كرز نضجا بداخل أرض مُغطاه بالثلوج، وبصعوبة قالت وهى تُحاول الهرب من عينيه المُسلطتان عليها :
_ أردنية ..
ازدادت ابتسامته جاذبية بعد أن لمح لمعة الخجل داخل عينيها فتعمد الاحتفاظ براحتها الصغيرة داخل كفه لبضع لحظات قبل أن تقوم هي بسحبها من بين خاصته بصعوبة قائلة وهى تنتوي المُغادرة :
_ عن إذنك ..
أسرعت الخُطى مُغادرة بينما هو قال من ورائها بصوت واضح بعد أن حك مؤخرة رأسه بكفه :
_ هبقى موجود بكرة في الورشة، أنا هِنا كل يوم ..
وكما توقع لم يخب ظنه بها والتقيا في اليوم التالي، وفى تلك المرة تعمد هو الجلوس على مقربة منها دون أن يُحادثها، إلا إنه رغم ذلك لم يفُت عليه نظراتها التي سُلطت عليه بين الفنية والأُخرى، لذا في اليوم التالي ودون مقدمات تجاور مقعديهما عن عمد لم تُمانعه هي بل بدت وكأنها مُرحبة، فتلامست الأكتاف بعفوية لأكثر من مرة، وفى كُل مرة كانت تتبعها ابتسامة اعتذار منه تارة ونظرة خجل منها تارة أخرى، وظل كليهما على هذا المنوال حتى أنه لم يكتمل الأسبوع إلا ونشبت علاقة صداقة بين الطرفين تشوبها البراءة والخفر من طرفها بينما يُسيطر عليها الإعجاب والانجذاب الواضح من طرفه ..
كان الفارق في العُمر بينهما أقل من خمس سنوات، لذا تحولت تلك العلاقة سريعًا من مُجرد صداقة إلى حُب متبادل، لقد كان يتضح على إماراتها علامات الانبهار التام به ولم تبذل هي جُهدًا لإخفاء إعجابها ذلك، فعلى الرغم من صغر سنه إلا أنها رأت به ذلك الشخص الناضج المسؤول والذى يستطع تحمل مسؤوليتها واحتواء نوبات جنونها، وهو أيضًا أحب كونها صغيرة لينة لم تمر بتجارب الحياة بعد فيستطيع تشكيلها على طِباعه بسهولة كأي رجل شرقي يرغب في أن تكون محبوبته مُجرد تابعة له تُلبى أوامره دون أي نقاش أو جِدال، وهذا ما برعت به الفتاة خاصة مع تلك الهالة التي أحاطته بها عندما لاح لها بمظهر الشاب المثقف الواعِ كثير الاطلاع والمعرفة واسع الأفق مُتفتح الذهن، بالإضافة إلى كتاباته المُرهفة المتميزة التي أطلعها عليها كُل حين وآخر ..
لم تعلم هي أن تلك الكتابات لم تكن منسوبة إليه من الأساس بل هي مُجرد مُحاولات ناجحة لزملائه مُرتادِ الورشة نقلها هو من على ألسنتهم في أيام متفرقة دون هدف حين فشل في الوصول إلى ذلك المستوى من الارتقاء في الكلمات فجمعها داخل مدونته الورقية عله يستطيع الاستفادة منها في إحدى الأيام ..
وبالفعل كانت المُنجية له حين طلبت منه في مرة أن يقرأ لها إحدى خواطره، لقد اعتاد أن يقرأ في صوت مليء بالعُمق كأنه صدى من عالم بعيد جميل، وكان يقرأ لها بصورة خاصة وكأنه يُوجه كُل كلمة إليها، كأنه يُناجيها، ويبُثها أشواقه، لذا مس صوته قلبها على الفور ولم تتشكك للحظة واحدة أن تلك الكلمات لا تخصه بأي حال من الأحوال ..
ذات يوم وفي إحدى المرات أثناء جلوسهما بذلك المكان الهادئ المُطل على إحدى المناظر الطبيعية الخلابة التي تجلى فيها إبداع الخالق بصورة تُثير الحس الفني لوصفها والتأمل في تفاصيلها، اقترحت هي دون تخطيط اشتراكهما في تأليف خاطرة سريعة عن ذلك الجمال من حولهما وقامت هي بالفعل بالاسترسال من غير تفكير بل وأخرجت كلمات وتعبيرات رقيقة مُرهفة ناعمة تُعبر عما بداخلها من إعجاب لتلك الطبيعة الخلابة، وعندما انتهت نظرت إليه بتساؤل في انتظار كلماته لكن تحديقه بها زادها ارتباكًا ظنًا منها أن كلماتها لم تُثير أعجابه فتسائلت عيناها بحيرة دون أن تنطق، فما كان منه إلا أن مد يده لتُلامس خاصتها وهو يقول بأعين تُشع حُبًا :
_ تتجوزيني ..
*****************************
م
لأت علامات الدهشة والذهول وجه مصطفى وهو يستمع إلى ذلك الاسم الذى ولى على رؤية صاحبته أكثر من عشرون عامًا فارتعشت أوصاله رغمًا عنه وتسارعت أهدابه في التحرك بتوتر وهو يتساءل بحلق جاف :
_ نوال !
أجابه وكيل النيابة بثبات :
_ إيه تنكر علاقتك بيها دي كمان، مكنتش متجوزها ؟
أجاب مصطفى دون تفكير :
_ لا كانت مراتي بس احنا أتطلقنا من أكتر من عشرين سنة …
ابتسم وكيل النيابة بسخرية مُتسائلًا :
_ وياترى الطلاق كان قبل ما تقتلها ولا بعد ما قتلتها ؟
لم تتغير معالم وجه مصطفى المندهشة، بل استمر على ذهوله وهو يتساءل ببلاهة :
_ هي نوال ماتت ! اتقتلت ! امتى ! وأزاي؟
تأفف وكيل النيابة قبل أن يقترب بجسده إليه مُعلقًا بخفوت بعد أن ضيق عينيه بحذر :
_وده بقى يافنان اللي عاوزينك تجاوبنا عليه، قتلتها امتى وإزاي وليه ؟ ودفنت جثتها فين هي كمان ؟
في تلك اللحظة وفى وسط عاصفة الاندهاش التي شملت موكله، تدخل أيمن قائلاً باعتراض كعادته :
_ معلش يافندم تقصد إن مفيش جثة ولا في أي معلومات عن قتلها، يبقى على أي أساس بتتهم موكلي بالقتل ؟
زفر وكيل النيابة بضيق بعد اضطراره للإفصاح عن سبب الاتهام فقال بنبرة ساخرة :
_ جرا إيه يامتر، هو أنت مش متابع السوشيال ميديا وتطورات قضية موكلك ؟ من ساعات نزل منشور قالب الدنيا من على حساب أخت نوال طلال بتتهم موكلك فيه بقتل أختها اللي مش عارفة توصلها من سنين، وأنها معاها جوابات منها قبل اختفائها بتوضح خوفها من جوزها اللي كان مش طبيعي في الفترة الأخيرة ..
لاحت شبه ابتسامة ساخرة على وجه أيمن مُعلقًا :
_ يعني مفيش بلاغ رسمي يافندم يبقى إزاى توجه إتهام لموكلي عشان مجرد بوست على الفيس بوك احتمال كبير يبقى متفبرك أو إشاعة نظرًا لمكانة الأستاذ مصطفى الاجتماعية ..
ثُم اضاف مؤكدًا استنتاجه :
_ وبعدين يعني هي اختها افتكرت اختفائها اللي من عشرين سنة فجأة كدة دلوقتي ؟ بصراحة حاجة مش منطقية خالص ..
أجابه وكيل النيابة بهدوء دون أن يهتز له رمش بينما نظراته الثابتة مُسلطة على مصطفى وهو يقول مُوضحًا :
_ ما هو عشان مكانة الأستاذ مصطفى الاجتماعية القضية قربت تبقى قضية رأى عام يامتر والمنشور المذكور ده بقى تريند فى ساعات قليلة والناس بقت عاوزة تعرف الحقيقة، هل الكاتب المشهور ده مجرد قاتل متسلسل بيستغل شهرته ووجوده في الوسط الأدبي عشان يستغل الفتيات وبعد كده يقتلهم!
في تلك اللحظة خرج مصطفى عن صمته أخيراً ليُعلق بتهكم مخلوط بالدهشة :
_ أستغلهم ! دي كانت مراتي !
أجابه وكيل النيابة باستخفاف :
_ وآلاء بردو كانت مراتك !
زفر مصطفى بقوة قبل أن يمسح وجهه بكفيه قائلًا بقلة حيلة بعد أن نفذت جميع حُججه :
_ أنا بعترف إني وعدتها بالجواز واستغليت مشاعرها بس أنا مقتلتهاش والله العظيم ما قتلتها ونوال أنا معرفش حاجة عنها من بعد ما طلقتها وسافرت على الأردن ..
تساءل وكيل النيابة برسمية :
_ وياترى طلقتها ليه ؟
أجابه مصطفى بثبات بعدما أشاح بنظره عنه قائلًا :
_ مكنش في توافق ..
هز وكيل النيابة رأسه قبل أن يقول بصوت هادئ راغبًا في استدراجه إلى الحديث مُعلقًا :
_ أنت بتتكلم وكأن الطلاق حصل بصورة ودية، اُمال إيه الجوابات اللي كانت بتبعتها لأختها أنها خايفة منك واللي خلت أختها تتهمك بقتلها، كنت بتضربها ولا بتحبسها مُستغل إن أهلها مش في مصر وأنها ملهاش مكان تروحه ؟
اتسعت عيني مصطفى بذهول قائلًا بسرعة نافيًا تلك التهمة عنه :
_أنا عمري مامديت إيدى عليها ولا أهنتها ولا كان في بينا أي خلاف من الأساس ..
اومأ وكيل النيابة برأسه عدة مرات قبل أن يقول مُستحثًا إياه على الحديث :
_ يبقى تقول سبب مقنع لطلاقكوا أقدر أصدقه ..
وقبل أن يُجيب مصطفى تدخل أيمن مقاطعًا :
_ عاوز ألفت نظرك يافندم إن لحد دلوقتي مفيش أي دليل على موكلي عشان حضرتك تستجوبه في موضوع شخصي زي ده وهو مش مضطر إنه ……
إلا ان صوت مصطفى المُتحسر تصاعد مُمتلأً بالألم والقهر بعدما سلط نظراته على بقعة ما عند قدميه قائلًا بذُل :
_ عشان مبخلفش ..
عم الهدوء أركان الغرفة لعدة لحظات قبل أن يستطرد صاحبها بآلية رغم عنًا عدم اقتناعه :
_ ولما هي طلبت منك الطلاق عشان الخلفة، أنت قررت تعاقبها بقتلها ؟
لم ينتبه مصطفى إلى كلماته التي خرجت من بين شفتيه وكأنها مُسجل صوتي لشريط ذكرياته الأليمة والتي طالما رغِب في تناسيها قائلًا بحروف تُقطر وجعًا :
_ لا قررت أسرق روايتها وأنسبها لنفسي ..
عم أرجاء الغرفة صمت واجم بعد أن اُحتبست الانفاس لبضع ثوان واتسعت أعيُن أصحابها بذهول فشعر الجميع بأن آذانهم لا تلتقط الكلمات بصورتها الصحيحة، لذا تبادل المحامي ووكيل النيابة النظرات لعدة لحظات قبل أن يقطعها ذلك الأخير قائلًا بكلمات ثابتة لم يبدو عليها أي انفعال :
_ سرقت روايتها !
ظهرت لمعة خفية بداخل مقلتي مصطفى وهو يُجيبه بنبرة أقرب للظفر بعدما تغيرت ملامحه من الألم والذُل والحسرة إلى النقيض قائلًا :
_ كان لازم أوجع قلبها على تعبها زي ما كانت دايمًا بتحسسني إني ناقص وفيا عيب، مجرد ما عرفت إني عندي مشكلة في الخِلفة بدأت نظرتها ومعاملتها ليا تتغير، وكأنها فجأة اكتشفت إنها متستاهلش واحد زيي معيوب وإن جوازها منى جه عليها بخسارة..
صمت المُتحدث قليلًا قبل أن يُتابع بخُذلان وكأن جرحه ينزف من جديد :
_ لو كانت طلبت الطلاق على طول كنت هسيبها تروح لحالها وأحافظ على اللي بينا، لكن هي فضلت أنها تمثل دور المُضحية اللي بتضحي بأمومتها عشان خاطر جوزها العقيم، بس للأسف هي كانت عاوزة تبان كدة بس قدام الناس وفعلًا تمثيلها كان مُتقن لدرجة أن الكل أتعاطف معاها وضربوا بيها المثل في الإخلاص والتفاني، في الوقت اللي كانوا بيبصولي فيه بشفقة وبسمعهم من ورايا بيتكلموا عن نقصي واستغلالي ليها، وهي كمان مسابتش يوم إلا وفكرتني فيه قد إيه هي ضحت عشان تبقى معايا، حاولت بكل الطرق أردلها تمن وجودها معايا وحققتلها كل اللي تطلبه في نفس الوقت اللي كُنت بتعالج فيه من غير ما تعرف رغم إنها عمرها ما فكرت تقولي في مرة وهي بتفكرني بعجزي إني اتعالج أو إن في أمل إننا نخلف في يوم من الأيام ..
تحرك مصطفى بجزأه العلوى ليتكأ على راحتيه بضعف كمن هزمته السنون مُكملًا :
_ صرفت اللي ورايا واللي قدامي على كل طلب تطلبه وعلي علاجي على مدار سنة ونص لحد ماجت في يوم وقالتلي مش هقدر أكمل وعرفت بالصدفة إن في حد في حياتها مستنيها تتطلق مني عشان يتجوزها ..
خرجت ضحكة قصير ممزوجة بالحسرة من بين شفتيه مُكملًا وكأنه يُحدث نفسه :
_ ببساطة كدة وفجأة اكتشفت إنها مش قادرة تكمل، بين يوم وليلة لقت البديل وحجتها إنها مش هتقدر تعيش من غير أطفال !
تحولت ملامح وجهه إلى الغاضبة واحتدت نظراته وكأنه يهم بالانتقام من جديد قائلًا :
_ غصب عنى لقيت جوايا كمية كره عمري ما حسيتها قبل كده لحد وبقت بتزيد يوم بعد يوم وأنا بشوف نظرة الحسرة والشفقة عليا في عيون اللي أعرفهم ..
لمعت عيناه ببريق خاطف قبل أن تعود إلى انطفائها من جديد مُكملًا :
_ منكرش إني فكرت في قتلها في وقت من الأوقات بس كُنت أجبن من إني أعمل كده فملقتش غير روايتها اللي قعدت حوالي سنة تكتب فيها، وفي اليوم اللي حددناه للطلاق واللي كان نفس يوم سفرها للأردن عشان تقولهم على طلاقها مني وتاخد معاد لعريسها الجديد عشان يسافرلها، وقبل ما تنزل من الشقة كنت أخدت الرواية، مكنش في بالي أنشرها بس لما حاولت لقيت دار النشر بتوافق عليها بمنتهى البساطة، لأول مره أحس بنشوة الانتصار وأنا شايف تعبها متوقع بإسمي، الرواية نجحت بعكس ماكنت متصور ووقتها بس حسيت إن ده تعويض ربنا ليا ..
جاهد وكيل النيابة للتحدث وكأنه بُهت مما استمع إليه للتو، فقال بحيرة مُتسائلًا :
_ وهي تقبلت سرقتك ليها عادى ومحاولتش حتى تثبت ملكيتها للرواية ؟
ابتسم مصطفى ساخرًا وهو يُجيب بعد أن عاد أدراجه إلى جلسته المُعتدلة :
_ هتصدقني لو قولتلك إنها مظهرتش تاني أو يمكن محستش أصلًا إن روايتها ضاعت منها لأنها وبعد شهور عدتها ما انتهت كانت مشغولة بشهر العسل مع عريسها الجديد …
صمت وكيل النيابة لعدة لحظات بينما عينيه مُثبتتين على المُتحدث، مُحاولاً تجميع شتات أمره وتحليل كلمات مصطفى ما بين الصدق والكذب قبل أن يقول دون ترتيب مُرغمًا كمن يُحافظ على سير الحديث بكلمات مبهمة مرت على خاطره يعلم إجابتها المنفية مُسبقًا فقال برتابة بلا هدف يُرجى :
_ وياترى هتفني قتلك لآلاء بإيه، إنك بردو أخدت رواياتها ونسبتها لنفسك ؟
خرج ذلك التساؤل من بين شفتي وكيل النيابة يلحقه عبوس صاحبه مُنتظرًا الحُجة الجديدة للمتهم تلك المرة، فليس من المعقول أنه سيردد نفس الكلمات ونفس الحُجج التي من الجائز أن تكون قصص خيالية من تأليفه ليس اكثر ..
لكن ذلك العبوس سُرعان ما أنفرج لتتسع الأعين من تحته بدهشة مُتزايدة عِند نطق مصطفى بلا إحساس :
_ آه انا بعترف إني سرقت رواياتها ونسبتها لنفسي ..
فغر المُحقق والكاتب بجواره بالإضافة إلى أيمن أفواههم جميعًا غير مُصدقين ما يقوله ذلك الأحمق والذى لم يستغرق في الصمت كثيرًا بل استرسل بكلماته غير عابئًا بما يمكن أن يحدث له بعد ذلك، وكأنه أراد فجأة التطهر من ذنوبه جميعًا بعد أن كشف عن عُقدته وواجه نفسه بحقيقتها فوضح ساردًا :
_ ومش آلاء بس، بنات كتير …
بنات كتير كانت بتبعتلي كتابات ليها تاخد رأيي فيها واللي بتعجبني كتاباتها بتقرب منها من غير تفكير، حتى لو مفيش أي مشاعر أو إعجاب جوايا ناحيتها، كل همي كان إنهم يقعوا في شباكي وبكلمتين حلوين كنت بعرف آخد اللي أنا عاوزه، وأنشر الرواية باسمي وبعد كدة أشوف حد تانى، واللي كانت بتفكر تهددني أو تفتح بقها كنت بهددها أنا كمان بمكلماتي معاها والشات ما بينا إني هبعتهم لأهلها واللي ببقى مسجلهم وشايلهم لوقت زي ده ..
تردد وكيل النيابة كثيرًا قبل أن يخرج عن صمته ويتفوه بحذر :
_ عاوز تفهمني إنك أصلًا مش كاتب ..
ظهرت لمعة زهو في عينيه كالمجنون أو المُضطرب وهو يُجيبه كمن يفخر بنفسه :
_ ولا عُمري في يوم كنت كاتب، كُل اللي بعمله إني بزود على الروايات اللي تعجبني شويه اقتباسات سردها مُتقن من كاتبات تانية مش معروفين أوى عشان تبان في المجمل أنها عميقة مع قصة وحبكة مظبوطة وده أهم أسباب شهرتي إني قدرت أجمع بين كل ده …
علق وكيل النيابة ساخرًا كرد فعل تلقائي :
_ تقصد تجمع بين كل السرقات ..
سُرعان ما أفاق ذلك الأخير من تلك الحالة التي تلبسته من الذهول فقال مُستطردًا بضيق بعد أن تذكر قضيته الأساسية والتي عليه حلها :
_ عمومًا كُل اللي قولته ده مينفيش عنك تهمة القتل وميبررش الأدلة اللي لقيناها عندك، بالعكس ده بيثبت دوافعك للتخلص منها ..
هز مصطفى كتفيه بلامبُالاة وكأنه لم يعد يهتم بالعالم ولا لِما يحدث به فقال حاسمًا الأمر :
_ وأنا قولت كُل اللي عندي، ومعنديش كلام تاني أقوله، ومعرفش الحاجات دي وصلت هدومي وعربيتي ازاي ..
تابع وكيل النيابة تساؤلاته باهتمام وكأنه لم يكتفِ بحديث المُتهم فقال بفضول :
_ طيب اشمعنى آلاء اللي علاقتك بيها وصلت للمرحلة دي ومهددتهاش زي الباقي عشان تبعد عنك ؟
ظهرت علامات الحيرة على وجه مصطفى من جديد مُعلقًا :
_ بالعكس أنا هددتها أكتر من أي حد وفعلًا بدأت أبعت مُكالمات ليها معايا لأهلها لما اتفاجئت بيها بتجيلي البيت بعد ماأتجوزت ومكنش في طريقة أبعدها عني بيها غير إني أنفذ تهديدي عشان أهلها هُم اللي يبعدوها بطريقتهم ..
واعتقد إنهم نجحوا في كدة بدليل انها اختفت شهور طويلة لدرجة إني افتكرت أن خلاص الموضوع خلص وبدأت أنساها وفجأة ظهرتلي يوم الحادثة من غير أي مقدمات ..
قاطع أيمن كلمات مصطفى دون مقدمات مُعلقًا :
_ معلش يافندم حضرتك قولت إن أخوها هو اللي مقدم البلاغ، ليه ميكونش هو اللي حط الأدلة الجنائية لموكلي عشان يدبسه في الجريمة، يعني بعد كلام موكلي ده فممكن هو عاوز ينتقم منه لأنه سبب انتحار أخته ..
تحرك وكيل النيابة بمقعده يُمنةً ويسارًا عدة مرات بعد أن استرخى بجسده أعلاه قبل أن يُجيب بمنطقية :
_ وهو أخوها هيعرف منين إنها انتحرت ؟
أجاب أيمن بعد تفكير استمر للحظات :
_ يمكن أخوها كان ماشي وراها وشافها وهى بتنتحر بعد ما قابلت موكلي ..
وكيل النيابة بسخرية واضحة :
_ يعنى يامتر أخوها هيشوفها بتموت نفسها ويسيبها مرمية في الصحرا ويبقى كُل همه ينتقم من أستاذ مصطفى ويحطله الأدلة في بيته وعربيته !
امتقع وجه أيمن بوضوح وشحب لونه غير قادرًا على اثبات حُجته، لذا وجه الأول كلماته إلى مصطفى من جديد مُتابعًا بعدما فرغ من أسألته :
_ في أي حاجة حابب تضيفيها ؟
هز مصطفى رأسه بضعف نافيًا فقال وكيل النيابة إلى الكاتب بجواره :
_ أكتب يابني يستمر حبس المتهم أربعة أيام أخرى على ذمة التحقيق ..
بعد عدة دقائق وعقب خروج مصطفى محني الظهر مُكبل بالأصفاد، دلف إحدى الضباط العاملين على القضية بالملابس المدنية إلي غرفة وكيل النيابة قبل أن يجلس بارتياح فوق إحدى المقاعد الجلدية قائلًا بفضول :
_ إيه الأخبار أعترف بحاجه ..
أشار وكيل النيابة إلى الكاتب بجواره سامحًا له بالانصراف قبل أن يُجيب قائلًا بوجه يعتليه معالم الحيرة :
_ مش هتصدق اللي قاله ..
ثم أضاف مُستطردًا بوجه مذهول :
_ طلع حرامي ..
عقد الضابط حاجبيه بحيره متسائلًا ببديهية :
_ حرامي إزاى .. قتلها بغرض السرقة !
هز وكيل النيابة رأسه نافيًا بسخرية وهو يوضح :
_ لا هو كدة كدة كان سرقها من زمان، الأستاذ طلع حرامي روايات لا كاتب ولابيعرف حتى يمسك قلم ..
فغر الضابط فاه باندهاش حقيقي مُحاولًا استيعاب الأمر قبل أن يقول بعدم تصديق :
_مش معقول، بقى كُل الشهرة اللي هو فيها دي وطلع كده !
ثم أضاف بعد قليل من الصمت أضاعه في التفكير ومن ثَم تساءل :
_ يعنى قتلها عشان متفضحهوش ؟
القى وكيل النيابة رأسه إلى الوراء وأغلق عينيه بإرهاق واضح قبل أن يقول وكأنه يُحدث نفسه :
_ لحد دلوقتي بينفي تهمة قتلها، رغم كل الدلائل اللي لقيناها في بيته وعربيته واللي تثبت عليه الجريمة إلا إننا للأسف مش هنفضل كتير مُدعيين إننا لقينا الجثة واللي من غيرها مش هنقدر نثبت إن الدم اللي لقيناه في هدومه وعربيته هو دمها ..
هز الضابط رأسه موافقًا وهو يقول :
_ أنا كان رأيي إنك تقولهم من الأول إن الجثة كانت لذكر وملهاش علاقة بالقضية بس أنت اللي فضلت إنك متوضحلهمش ومش فاهم وجهة نظرك ..
زفر وكيل النيابة بضيق قبل أن يُجيبه :
_ لو مكنش في جثة فمكنش هيبقى في أي سبب لاستكمال التحقيق أو إننا نطلع مُذكرة التفتيش، كنت فاكر مجرد معرفته باننا لقينا الجثة ده هيخليه يرتبك ويعترف أو يقول أي حاجة، خصوصًا لما نواجهه كمان بآثار الدم اللي لقيناها وشهاده الشهود إنهم شافوها معاه آخر مرة، إنما اللي حصل إني لقيته أعترف بحاجة تانيه خالص ومعرفش هو قال كدة ليه مع إن ده مش دليل على إنه مقتلش ، بالعكس ده كدة وضحلي الدوافع اللي تخليه يقتلها فعلاً لكونها بتهدد كيانه وسمعته والموضوع مطلعش مجرد خيانة زوجية ..
هز الضابط رأسه بتفهم مُعلقًا :
_ طب وناوي تعمل إيه ؟
أجاب وكيل النيابة بحيرة واضحة وهو يُبحلق في السقف من أعلاه مُفكرًا :
_ مش عارف أنا فعلاً حاسس إنه مقتلهاش وإنه صادق في حكاية انتحارها، بس الجثة راحت فين، الجثة هي الحاجة الوحيدة اللي هتبين طريقة قتلها..
ثم أضاف عقب تذكره :
_ ده غير خبر قتله لمراته الأولانية ده كمان، ليه يظهر في الوقت ده بالذات وياترى حقيقي ولا لا ومين وراه ؟
اعتدل في جلسته من جديد قبل أن يتساءل باهتمام :
_ حاولت تعرف مصدر الخبر أو الحساب اللي نزل عليه ؟
هز الضابط رأسه نافيًا وهو يقول مُوضحًا :
_ للأسف الخبر متاخد اسكرين شوت والحساب اللي نزل من عليه اتقفل ومش عارفين نوصل للي عمله وده طبعًا بعد ماالاسكرين دي اتنشرت على كل المواقع بسرعة خرافية وطريقة مش طبيعية أبدًا ..
ضيق وكيل النيابة عينيه مُفكرًا وهو يُعقب :
_ كده مقدمناش إلا إننا نوصل لأخت نوال دي بأي طريقة ونعرف منها الحقيقة، يمكن هي اللي تحللنا اللغز ده .
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)