رواية مصطفى أبوحجر الفصل الثامن 8 بقلم آلاء حسن
رواية مصطفى أبوحجر البارت الثامن
رواية مصطفى أبوحجر الجزء الثامن
رواية مصطفى أبوحجر الحلقة الثامنة
-٨- طَرقات الحُب
كان الليل قد حل عليه وهو لازال داخل شُرفته التي أعتاد العمل بداخلها من قبل غروب الشمس إلى أن تخور قواه ويتوقف عقله عن العمل في أي ساعة من ساعات الليل الطويل، عم الهدوء الأرجاء وهبت نسمات الليل العليلة على شُرفته التي انبعث منها ضوء جهاز الكمبيوتر المحمول خاصته بعكس الشُرفات من حوله والتي سيطر عليها الظلام والسكينة، فهو يقطن في الطابق العُلوى من منزل مُكون من طابقين بداخل إحدى المُجمعات السكنية الراقية المرموقة ..
تصاعدت أبخرة قهوته التي أعدها لنفسه مُنذُ عدة دقائق في نفس الوقت الذي قام فيه بتشغيل أسطوانة من أسطوانات الموسيقى كلاسيكية الطابع، هادئة الأنغام والتي تُساعده على تنمية خياله والغوص داخل أحداث قصته ..
أرتشف عدة رشفات من قهوته وتمطأ بجسده الطويل بتكاسل قبل أن يُقرر استكمال ما بدأه، فتوجه إلى جهازه الموضوع أعلى المنضدة البلاستيكية وجلس أمامه مُرتديًا نظارته الطبية الشفافة وارتفعت أصابعه للكتابة أعلى لوحة المفاتيح، إلا أن رنين هاتفه الذى أرتفع في تلك اللحظة أوقفه للحظات تطلع فيها هو إلى هوية المُتصل قبل أن يُجيب حين ظهر له الرقم الخاص بصاحب دار النشر الخاصة به، فغادر مقعده وتوجه إلى سور الشُرفة العريض ليتكأ عليه قبل أن يقول بصوته الدافئ الوقور :
_ أستاذ شفيق …
أتاه صوت الطرف الآخر قائلًا بتردد :
_ أتمنى مكونش أزعجتك ..
نظر مصطفى إلى ساعته التي لم تتجاوز العاشرة مساءًا قبل أن يقول بترحيب :
_ لا أبدًا أتفضل أنا تحت أمرك ..
تشجع المُتصل للحديث فقال بتملق واضح :
_ أولاً أحب أباركلك على نجاح روايتك .. واللي قبل نهاية المعرض كانت الطبعات التلاتة ليها خلصوا وحاليًا بنطبع في الرابعة ..
أجابه مصطفى بامتنان :
_ مبروك علينا كلنا ..
خرجت ضحكات المُتصل بشكل مُتتابع قبل أن يقول مُشجعًا :
_ هنمضي امتى عقد الرواية الجديدة ..
أجابه مصطفى بذهول :
_ رواية إيه .. مش لما أجمع أفكاري الأول وأشوف إذا كنت هكتب حاجة جديدة ولا لا ..
أجابه شفيق بتملق زائد :
_ وهو أنت هتغلب ياأستاذ مصطفى .. وبعدين خلاص القُراء بقوا مستنين روايتك كل سنة مش هينفع متنزلش بحاجة جديدة ..
تأفف مصطفى من إلحاحه فأجاب بلهجة قاطعة :
_ والله أنا مقدرش أديك كلمة دلوقتي ..
ثُم أضاف عقب أن وردت فكرة ما على رأسه فالتمعت عيناه بدهاء :
_ علي الأقل لحد ما أدرس العروض اللي متقدمالي .. وأشوف أنهى أحسن بالنسبالي …
تغيرت لهجة شفيق بإذلال حتى أصبحت أقرب للرجاء وهو يقول :
_ عروض إيه بس اللي تفكر فيها، إحنا تحت أمرك في اللي تطلبه والمقدم بتاعك جاهز من دلوقتي زي كُل مرة عشان تشتغل بنفس ..
تصنع مصطفى التبرم والانشغال مُجيبًا :
_ إن شاء الله هرد عليك قريب …
شفيق بإلحاح :
_ طيب الرواية الجديدة هتكمل بيها أجزاء السلسلة !
صمت مصطفى للحظات مُفكرًا قبل أن يقول :
_ لا أعتقد كفاية كدة على السلسلة وناوى أجدد أسلوب كتابتي شوية وأجرب حاجة جديدة .
شفيق بحماس :
_ وأنا في انتظارك ياأستاذنا .. مهما كان اللي هتكتبه ..الدار بتاعتك ومكملة معاك إن شاء الله..
مصطفى باقتضاب :
_ إن شاء الله.. هنبقى على تواصل مع السلامة ..
أغلق مصطفى هاتفه على عجل دون انتظار رد الطرف الآخر، ثُم أخذ يعبث بشاشة هاتفه بشرود مُفكرًا بهدوء وهو يُتابع مؤشر الساعة على شاشته، فعلت وجهه علامات التردد لبضع لحظات قبل أن يستجمع شجاعته ويتخذ قراره ويقوم بذلك الاتصال الذى ألح عليه طوال اليوم غير عابئًا بشيء سوى الاستماع لصوتها ولو لثوان، وكما تمنى سُرعان ما جائه صوتها عذبًا رقيقًا يشوبه مسحة من الحزن الواضح وهى تقول :
_ آلو ..
أجابها بصوت خفيض وكأنه يخشى على قوقعتها من التأذي قائلًا :
_ خايف أكون أتصلت في وقت مش مناسب …
تحدثت مُجيبة فظهرت دلائل البُكاء بداخل نبرتها الرقيقة وهي تقول نافية :
_ بالعكس أنا كُنت محتاجة حد أتكلم معاه …
كان من السهل عليه الشعور بحُزنها فتساءل على استحياء :
_ في حاجة مضايقاكي !
زفرت بحرارة قبل أن تُجيبه دون تفكير :
_ حاجات مش حاجة واحدة ..
أحست بالدفيء بين طيات صوته الحاني وهو يقول :
_ طب أحكيلى لو معندكيش مانع ..
تملكها الخجل من صوته المليء بالاهتمام فأجابت بتردد :
_ مش عاوزة أدوشك بمشاكلي …
علق على الفور مُشجعًا :
_ إيه اللي خلاكي تقولي كده .. إحنا مش بقينا أصحاب ..
شعر هو بتنهد ابتسامتها التي أصدرت صوتًا خافتًا وهى تقول بخجل :
_ ياخبر .. وهو أنا أطول ياأستاذ مصطفى …
خرج صوته مُحذرًا بمرح :
_ ها قولنا إيه !
لم ير هو تلك الابتسامة العريضة التي زينت وجهها المُتورد وقلبها المكلوم بل وأشرقته من جديد بعد خُذلانه، فظهر إحساسها ذلك بين طيات كلماتها وهى تقول بهمس يشوبه الخجل الواضح مُرردة ما أخبرها به ذلك الصباح :
_ مصطفى بس ..
هَمس هو الآخر أثناء نظره إلى إحدى النجمات المُنيرة بعيدًا في السماء وكأنه ينظر إليها، فمد ذراعه إلى الأعلى وفرد راحته قبل أن يثنى إصبعيه الإبهام والسبابة وقربهما وكأنه على وشك الإمساك بشيء قبل أن يبتسم ابتسامة أظهرت تجعيدتي فمه وهو يقول كأنه يتحدث إلى طفلة :
_ برافو عليكى .. أيوة كدة مظبوط يا …
ثُم أضاف بعدما أغمض إحدى عينيه ليُحدد موضع تلك النجمة التي وقعت عليها اختياره، ويقرب إليها إصبعيه بهدوء حتى وضح للرائي أنه تمكن من الإمساك بها، في نفس الوقت الذى تحدث فيه فمه بلسان قلبه قائلًا بهمس :
_ يا نجمة مُصطفى بس ..
*****************
تجمعت خُصلات غُرتها البُنية الناعمة خلف أُذنيها بمُساعدة أصابع صاحبتها الرقيقة، فظهر وجهها القمحي المُستدير الرقيق بأكمله؛ بخلاف عينيها بلوني البُندق الدافئ واللتان اختفيا وراء نظارتها الطبية الواسعة والتي ظهر بداخلهما جزء من حاجبيها المُنعقدين بجدية وهى تُراجع إحدى الملفات الكتابية بداخل جهاز الكمبيوتر الموضوع أمامها، بُناءًا على طلب أسامة منها للاطلاع عليه، وما إن انتهت منه حتى رفعت رأسها قائلة بنبرة عملية جادة :
_ أنا شايفاه مُناسب ..
كان يجلس وراء مكتبه في مكانه المُعتاد بينما هي جلست أعلى إحدى المقاعد من أمامه بقدها الصغير وملابسها المُتناسقة وكأنها تُحفة فنية أنيقة، مُتطلعة إليه بعينيها اللامعتين بنشاط وإصرار، بينما شفتيها اللتان نادرًا ما كانا يكُفان عن الابتسام؛ انكمشت ابتسامتهم بعدما تحدثت صاحبتهم عدة كلمات مُتتابعة لم ينتبه إليهم ذلك الشارد، حتى لفظت اسمه لأكثر من مرة بصوتٍ عالٍ نوعًا ما نجح في اجتذاب انتباهه بالأخير، فألتفت إليها مُتسائلًا ببساطة :
_ ها قرتيه …
أجابته بابتسامتها العذبة :
_ وقولت رأيي كمان ..
ثُم ما لبثت أن قالت بمرح :
_ بس الظاهر إنك كُنت في ملكوت تانى ..
ألقى عليها نظرة طويلة مُترددة فبدا وكأنه سيهم بقول شيء ما شغل تفكيره إلا إنه تراجع في اللحظات الأخيرة وبدلًا عن ذلك قال بجدية راغبًا في إنهاء اجتماعه والجلوس وحده لبعض الوقت :
_ طيب ياجيداء نتكلم في العرض ده وقت تانى، جمعي كده المُميزات اللي شايفاها والعيوب اللي مش في صالحنا ونبقى نتناقش ..
أجابته على الفور بفطنة وذكاء بعدما أدركت مُخططه، فحاولت استدراك الحديث قائلة :
_ أنت قلقان من نسبة الشراكة ..
زفر هو بقوة مُجيبًا :
_ بصراحة الموضوع كله مش مريحني والست نفسها مش مضبوطة كده وسلوكها …..
عدلت جيداء من وضع نظارتها فوق أنفها وقالت مُقاطعة :
_ وإحنا مالنا ومال سلوكها وطريقتها .. ده شغل وعقود وشراكة …
شرد هو من جديد رغمًا عنه، مما دعاها للقول ببشاشة يشوبها الشك بعدما ضيقت عينيها :
_ أوعى تكون بتفكر فيها !
لأول مرة مُنذُ أيام تظهر ابتسامته أعلى فمه فأنشرح قلبها فور رؤيتها وشعرت بالارتياح للحظات، خاصة وهو يقول بسخرية :
_ للأسف مش ذوقي خالص ..
شجعته على الحديث بابتسامتها العذبة ونظرتها الصافية فتساءلت بخجل وهى تستند برأسها على راحتها وكأن كُل ما فيها يتنهد :
_ وياترى ذوقك عامل إزاى !
أراح أسامة مؤخرة رأسه على مسند مِقعده من ورائه قائلًا بزفرة حارة بعدما تجمعت صورة حبيبته بخياله :
_ إنسانة رقيقة وهادية، صوتها واطي وبتتكسف من خيالها، عينيها واسعة وصافية وابتسامتها واسعة بتنور وشها اللي زي البدر .. وشعرها بلونه الطبيعي …
تساءلت هي بخفوت وكأن كليهما بداخل حلم هادئ :
_ وياترى شعرها لونه إيه ..
تخللت الابتسامة الحالمة وجهه قائلًا وكأنه يُربت على شُعيرات حبيبته بجفنيه :
_ بنى وناعم .. ناعم جدًا …
أحمرت وجنتي جيداء في الحال وهى تُداعب شُعيراتها القصيرة في ظنٍ منها أنه يقصدها، إلا أنها رغم ذلك تساءلت بِخُبث وكأنها تنتظر لفظه باسمها :
_ أنا ليه حاسة إنك بتوصف حد مُعين مش مُجرد وصف عام ؟
أفاق أسامة من شروده مُتنبهًا لما تفوه به، فأعتدل في جلسته بجدية قائلًا بارتباك :
_ لا ده بيتهيألك ..
ثُم أضاف بعدما جال على خاطره من جديد ذلك التساؤل الذى شغل عقله لأيام عقب حديث محبوبته القاسي، وفى لحظة اهتزت بها ثقته بنفسه خرج سؤاله للجالسة أمامه :
_ أفرضي إنك في يوم صرحتي لحد بحُبك بس هو صدك غصب عنه، وبعد كدة جالك وأعتذر لك وقالك إن هو كمان بيحبك من زمان .. بس الاعتذار ده أتأخر سنين، ياترى هتقبلي اعتذاره وتنسى اللي حصل وتكملي معاه ولا مش هتسامحيه ..
التمعت عينا جيداء بسعادة وخفق قلبها بشدة، فأجابت بلهفة :
_ أكيد هسامحه عشان ..
توردت وجنتيها بعدما ضغطت على شفتها السُفلى بخجل مُكملة :
_ لسة بحبه ..
التمعت عيني أسامة بحماس ولكم سطح مكتبه بقبضته قائلًا بانفعال :
_ بالضبط لو لسة بتحبيه ..
لكن ذلك الانفعال أتبعه غمامة حزن مرت على عينيه وهو يقول بيأس :
_ إنما لو مسامحتيش ورفضتي اعتذاره وحُبه تبقى خلاص مبقتيش بتحبيه صح ..
ترددت جيداء لبضع ثوان مُحاولة فهم المغزى من وراء سؤاله، بل من وراء حديثه بالعموم بعدما أختلط عليها الأمر، لكنها في النهاية أجابت بحيادية :
_ بيتهيألي إني لو مسامحتهوش يبقى بردو لسه بحبه أو على الأقل شاغل مساحة من تفكيري، أصل لما حُبنا لشخص بيخلص ساعتها مبنحسش أي حاجة ناحيته .. لا غضب ولا كُره ولاعتاب ولا بيبقى في حساباتنا أصلًا ..
تبددت غمامة الحُزن من عينيه في ثوان وتبدلت ببريق لامع حيثُ بدا وكأن الشمس أشرقت من جديد بعد ليل طويل دام لأيام، فتساءل بتردد :
_ يعني تقصدي إن لسه في أمل ..
فشلت هي في فهم ما يقصده من وراء كلماته فقضبت ما بين حاجبيها مُتسائلة بحيرة :
_ أمل في إيه بالظبط !
لم يُجبها أسامة بل أكتف بالصمت مُفكرًا، فغادرت هي مقعدها بهدوء بعدما تخلصت من
عويناتها ووضعتها أعلى المكتب بجوار جهاز الحاسب الآلي، واقتربت منه عدة خطوات قائلة برجاء :
_ أسامة ممكن تحكيلي على اللي محيرك للدرجادي وشاغل بالك .. مش أنت بتثق فيا !
رفع رأسه إليها بابتسامة دافئة قائلًا بعدما تلاقت عيناه ببندُقيتها اللذان سُرعان ما ذكرانه بأنهار عسل حبيبته، فتأملهما لبضع لحظات قبل أن يفيق من شروده قائلًا بجدية :
_ أكيد طبعًا ياجيداء ده إنتى دراعي اليمين ..
رمقته بنظرة طويلة مُعاتبة قبل أن تقول بابتسامتها المُعتادة :
_ بقالك أسبوع متغير في كُل حاجة حتى معايا، هو أنا زعلتك في حاجة !
أجابها دون تفكير :
_ بالعكس إنتى شايفة شغلك بمنتهى الدقة والأمانة.. إيه اللي خلاكي بتقولي كده !
عادت هي من جديد إلى مقعدها قائلة بتأفف :
_ أسامة أرجوك متعاملنيش برسمية كأنى مُجرد حد بيشتغل معاك، اللي بينا أكبر من كدة .
أتكأ بمرفقيه على سطح مكتبه مُجيبًا :
_ أكيد طبعًا إنتى مكانتك مختلفة عن أي حد بيشتغل معايا وإنتى عارفة كدة ..
أتسعت عينا جيداء بسعادة وكأنما الدُنيا باتت تحت أقدامها فقالت بفرحة غامرة تتقافز بين كلماتها :
_ بجد .. يعني …..
غادر أسامة مِقعده قبل أن يُقاطعها مُوضحًا :
_ يعنى زي ماقولتلك قبل كدة بنت أعز أصدقائي وزى أختي الصغيرة وصديقتي المُقربة .
غادرت هي الأُخرى مقعدها وسلطت نظراتها عليه مُعاتبة وهى تقول :
_ بس أنت عارف إني ….
قاطعها من جديد بلهجة حازمة مؤكدًا :
_ إنتى عارفة إنه مينفعش ..
في تلك اللحظة عبس وجهها وملأ الحزن قسماتها مُتسائلة بألم :
_ أسامة .. أنت في حد في حياتك ؟
ولاها ظهره مُجيبًا بعدما نكس رأسه إلى الأسفل راغبًا في الهرب من واقعه وماضيه :
_ إنتى عُمرك شوفتي حد في حياتي من ساعة ماعرفتيني !
ظهر الانفعال بين طيات صوتها وهى تقول بتعجب :
_ ما هو ده اللي مجنني .. عُمرى ما شوفت معاك حد سواء هِنا أو في نيويورك .. يبقى ليه رافضني !
ألتفت إليها مُجيبًا بصدق وبنبرة حانية :
_ مقدرش أرفضك .. لو فكرت فيكي بعقلي هلاقي فيكى صفات ومميزات كتير عمرى ماهلاقيها كلها في إنسانة واحدة .. كفاية إنك بتفهميني من قبل ما أتكلم ..
تساءلت بلهفة عقب صمته :
_ ولو فكرت بقلبك ؟
تنهد أسامة بحرارة قبل أن يُجيب وكأنه يُربت عليها برفق :
_ إنتى اللي لو فكرتي فيا بعقلك مش هتلاقينى مناسب ليكي بأي شكل من الأشكال ..
تصاعدت كلماتها برجاء مُوضحة :
_ بس قلبي مش عاوز غيرك …
عاد أسامة أدراجه من جديد إلى مقعده قائلًا بجدية :
_ أرجوكي متصعبيش الأمور علينا، خلينا زي ما أحنا أصحاب وبنشتغل وبس .. ده الإطار المُناسب لعلاقتنا ..
عادت الابتسامة لوجهها من جديد قائلة بأمل :
_ توعدني إنك تسيب الأمور تمشى لوحدها .. يعنى لو حسيت في يوم بمشاعر من ناحيتي تصارحني …
أجابها ساخرًا دون أن يعي، فخرجت كلماته تُقطر مرارًا وألمًا :
_ مش يمكن ساعتها متقبليش آسفي وحُبى وتقولي إني دمرتلك حياتك، ساعتها هتبقى ضيعتي وقتك على الفاضي ..
زادت الابتسامة بين شفتيها وكأنها تُربت عليه والتمعت البندقتين اللتان احتضنتا صورته بداخلها بحنان كقلب اُم ملتاع، قائلة :
_ عُمر الوقت اللي يمر وأنا مستنياك يبقى وقت ضايع .. هفضل أستناك لحد آخر يوم في عمرى .. حتى لو ..
صمتت قليلًا قبل أن تُضيف بلهجة قاطعة وكأنها تعلم بما يدور من ورائها :
_ حتى لو كان أو لسة موجود في حياتك حد غيري ..
******************************
أسبوع . سبعة أيام قد مرت على لقائها بأسامة بعد غياب دام لأكثر من عشر سنوات كاملة،
لم ينته العذاب بمُجرد انتهاء اللقاء بل أستمر في صورة أُخرى، والداها اللذان عَلِما بما حدث فاستنكروا فعلتها وظهر سخطهم عليها في صورة إهمال وجفاء وعدم اهتمام لم تعتده منهما وخاصة من والدتها ..
حاولت هي تلك الفترة العصيبة الانشغال بابنتها وبعملها وبتطبيق المُلاحظات التي أطلعها عليها مصطفى، والتي انتهت منها بالأمس وأرسلتها إليه كاملة بعد تعديلها على وعد باللقاء اليوم لمعرفة رأيه والمُناقشة من جديد ، أو هكذا أوهمت نفسها وهى توافق على مُقابلته للمرة الثانية ..
كان لقائها معه في تمام الرابعة عصراً في النادي كما السابق، ورغم ذلك تغيبت عن عملها ذلك اليوم حتى تأخذ كفايتها من النوم فلا تبدو بشرتها مُجهدة شاحبة بعد تلك الليالِ التي سهرتها لإنهاء ما طلبه منها، إلا إنها استيقظت في موعدها المُعتاد وانشغلت بانتقاء ملابسها والوقوف أمام المرآه مُعظم اليوم وكأنها عروس تتأهب لزفافها ..
وكالمُعتاد وصلت قبل الموعد المُتفق عليه بعشر دقائق كاملة وتوجهت إلى نفس الطاولة السابقة كما أتفقا، لكنها تفاجئت بوجوده يجلس في انتظارها تلك المرة ..
وقفت لبُرهة بمكانها تتأمله من بعيد قبل الاقتراب منه (كما فعل هو من قبل دون أن تعلم)، كان يرتدى كنزة خريفية صفراء اللون أضافت وهجًا مُحببًا إلى بشرته السمراء، وكان يجلس جلسته المُفضلة واضعًا ساق فو أُخرى وهو ينفث دُخان سيجارته ببطيء، مُشمرًا عن ذراعيه الفتيتين وكأنه شاب في العقد الرابع من عُمره، لاحت التفاته منه إلى الوراء حيثُ الأطفال يلهون عِند حمام السباحة في نفس الوقت الذى تقدمت هي فيه إليه فلاحظت تقسيمات عضلات رقبته التي خلت من التجاعيد تمامًا بل وبدت مع صدره العريض وكأنها مرسومة بداخل لوحة من لوحات العصر الروماني والتي اتسمت بإظهار تفاصيل الرجال أقوياء البنية ومفتولي العضلات ..
لم ينتبه هو لها سوى عِند وصولها إلى طاولته قائلة بصوت خفيض خرج بصعوبة من بين شفتيها :
_ مساء الخير ..
ارتفعت نظراته إليها مُرحبًا دون أن يقوم من مقامه أو يتحرك قَيد أُنمله، بل اكتف بابتسامته الجذابة قائلًا :
_ مساء النور ..
نظرت شمس إلى ساعة يدها قبل أن تقول بلهجة حاولت إخراجها مرحة لإخفاء خجلها :
_ أنا ماتأخرتش على فكرة …
ضاقت عيناه حتى كادت أن تختفِ وهو يبتسم إليها من جديد ابتسامة أكبر قائلًا :
_ حتى لو أتأخرتى العُمر كله .. عندي استعداد أستناكي ..
أطرقت شمس برأسها خجلة بعد جلوسها بينما هو أطفأ سيجارته داخل المنفضة قائلًا :
_ لا ده مش وقت الغروب خالص على فكرة ..
نظرت إليه شمس بعدم فهم وهى تلتفت حولها حيثُ الشمس لازالت ساطعة إلا أنه قال مُوضحًا وهو يتأمل ملامحها الرقيقة :
_ عاوز أفضل شايف الشمس قُدامى كده على طول .. وتكون بتضحك كمان .. ممكن تضحكي ..
فى تلك اللحظة فهمت هي ما يرمى إليه فابتسمت خجلًا من كلماته التي لم يسبق أن وُجهت إليها مثيلها يومًا، هي فقط تقرأ عنها بداخل تلك الروايات التي تعشقها ..
ظل مُحدقًا بها لبُرهة من الزمن، بينما هي ظهر على محياها علامات التوتر مُحاولة الهرب من نظراته المُباشرة، وساد الصمت للعديد من الدقائق حتى قطعه قائلًا :
_ برافو عليكى التعديلات اللي عملتيها نقلت الرواية في حتة تانية خالص ..
ابتسمت شمس بسعادة طفولية مُعلقة :
_ بجد يعني عجبتك ..
أجابها بجدية :
_ أنا مبعرفش أجامل.. أكيد لو مكنتش عجباني من الأول مكَنتش هطلب منك تعدليها..
صمت قليلًا قبل أن يُردف :
_ ولا هطلب منك إنك تنشريها عندي ..
عبست شمس بغير فهم فأضاف هو :
_ عندي في جروبي والصفحة الرسمية ليا..
كادت الفتاة أن تقفز من مكانها من فرط الحماس غير مُصدقة تلك الفرصة التي منحها لها فقالت دون تفكير :
_ أنت بتتكلم بجد .. وحياة أبوك ..
سُرعان ما تداركت تجاوزها فتسمرت ملامحها لبُرهة قائلة بارتباك :
_ آسفة بجد مش قصدي ..
وبعكس ما توقعت، انفرجت ابتسامته واتسعت، فلأول مرة تراه يُقهقه ضاحكًا مُتخليًا عن رزانته وجديته ومظهره الوقور، فتناست هي الأُخرى خجلها وأخذت تتأمله بشكل صريح، خاصة تلك التفاحة في وسط عُنقه تعلو وتهبط كاللحن الصاخب الذى يؤسر القلوب ..
وفى النهاية لم تستطع هي إلا أن تبتسم بهيام أثناء تطلعها به لتُدرك حقيقة وقوعها بصورة كاملة في حُب ذلك الأربعينى الماثل أمامها ..
انكمشت ابتسامتها المرتعشة وهى تراه يستعيد وقاره من جديد قائلًا بعد أن اغرورقت عيناه بالدمعات من إثر الضحكات المُتتالية :
_ إنتى عارفة بقالي قد إيه مقابلتش بنت على طبيعتها زيك كده ..
أخفضت نظرها عنه مُعلقة عما خرج منها سهوًا :
_ والله أنا مقصدش المعنى الحرفي يعني .. أنا ..
فوجئت به يعلو عن معقده وتمتد أصابعه إلى أسفل وجهها لترفعه إليه قائلًا بعتاب :
_ قولتلك ده مش وقت غروب خالص .. مُمكن لما تتكلمي معايا تبصيلي …
ارتعشت مفاصل شمس إثر لمسته التي ملأت أنفها برائحة عِطره المُمتزجة ببقايا رائحة الدخان على أصابعه، فخلفت مزيجًا مُثيرًا جعلها تشعر بالدوار للحظات، وتسارعت دقات قلبها بِعُنف حتى أحست أن جميع من حولها يستمعون إليه ..
بالفعل هو شعر بما حدث لها عقب مُلامسته لوجهها الصغير، فابتسم بداخله وهو يحتل مقعده من جديد قبل أن يقوم بتغيير مجرى الحديث قائلًا بجدية :
_ بجد إنتي موهوبة ياشمس ودى مش مجاملة ..
هزت هي رأسها دون أن تنطق وذلك الدوار لازال يُراود رأسها، فأردف هو مُكملًا :
_ بس الناس مبتنجذبش أوى إنها تقرا لحد جديد خصوصًا لو أول عمل ليه .. بيبقوا خايفين إن يكون الكاتب المبتدئ ده معندوش حبكة أو أسلوبه ضعيف او قصته مليانة أخطاء إملائية ..
هزت هي رأسها بتفهم فأردف ناصحًا :
_ عشان كده أنا مش عاوزك تنزلي الرواية باسمك …
حاولت شمس استيعاب ما يرمي إليه، إلا أن ذلك الضعف الذى سيطر عليها منعها من ذلك، فطلبت منه التوضيح أكثر قائلة :
_ مش فاهمة ..أُمال هتنزل باسم مين ..
ابتسم هو مُوضحًا :
_ مش باسم حد .. أنا هطلب من المصمم بتاعي يعملك غُلاف من غير ما يحط عليه اسمك، ولما الرواية تنزل عندي .. هيعتقدوا في الأول أنها من تأليفي فده هيشجعهم يقروها، وفى الوقت اللي فعلًا تحقق النجاح اللي إحنا عاوزينه ساعتها أعلن إنك انتي اللي كاتباها ..
صمت قليلًا مُراقبًا ردة فعلها قبل أن يقول مُهنئًا وكأنه يشجعها على تلك الخطوة دون تفكير:
_ وكده يبقي إنتى دخلتي عالم الكتابة من أوسع أبوابه ..
انفرجت أسارير شمس من تهنئته رغم عدم اقتناعها، إلا أنها لم يسعها سوى أن تقول بامتنان :
_ أنا بجد مش عارفة أقولك إيه على كُل اللي بتعمله علشاني ..
سلط مصطفى نظراته الساحرة على عدستيها التي لم تخجل منه تلك المرة، فقال بصوت أقرب للهمس :
_ قولي موافقة ..
أجابته دون أن تشعر كالمُنومة مِغناطيسيًا :
_ موافقة ….
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)