رواية مصطفى أبوحجر الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم آلاء حسن
رواية مصطفى أبوحجر البارت التاسع والعشرون
رواية مصطفى أبوحجر الجزء التاسع والعشرون
رواية مصطفى أبوحجر الحلقة التاسعة والعشرون
-٢٩- الأكذوبة
اعتدلت جالسة بعدما نجح في جذب فضولها، فانفرجت شفتاها عن ابتسامة مُرتعشة قبل أن تتساءل بهدوء :
_ خير ياحبيبى !
قربها إليه وقبلها من مقدمة رأسها مُتأملًا إياها لبضع لحظات قبل أن يُجيبها بخيلاء وفخر استترا تحت نظرات عينيه الدافئة :
_ الفيلم مُرشح لجايزة مهرجان في دولة عربية وأنا من ضمن ترشيحات أفضل كاتب السنادي ..
قفزت دلالات الفرحة الصادقة أعلى وجه المُستمعة والتي انفرجت ملامحها والتمعت عيناها باستبشار، فقالت مُباركة على الفور وهي تحتضنه مُهنئة :
_ حبيبي ألف مبروك، متعرفش الخبر ده فرحني قد إيه .. تستحقها بجدارة ..
ثُم استدركت مُتسائلة :
_ المفروض معاده امتى ؟
أجابها بهدوء وهو يُشعل سيجارته :
_ خلاص هيبدأ كمان يومين ..
شردت عنه مُفكرة بصوتٍ عال :
_ بس أنت لازم تحضر صح !
فلتت منه ضحكة صامتة مُستخفة قبل أن يضم حاجبيه قائلًا بتهكم :
_ أكيد يعني ياشمس دي حاجة بديهية ..
ثُم ما لبث أن أضاف بلهجة قاطعة بعدما نفث دُخان سيجارته :
_ مسافر على طيارة بكرة ..
اتسعت عيني شمس بذهول لعدة لحظات مُحاولة استيعاب الأمر، قبل أن تفيق من صمتها قائلة كمن أصابها مَس :
_ بكرة !! وساكت كُل ده ! أنا كدة مش هلحق حتى أجهز وأوضب الشنط ..
خرجت منه ضحكة صغيرة للتخفيف من توترها، وامتدت أصابعه إلى وجهها يعبث ببشرتها الناعمة وهو يقول بهدوء راغبًا في بثه داخلها :
_ ملوش لزوم الربكة اللي انتي فيها دي، هم يومين بالعدد، شنطة واحدة صغيرة هتقضي الغرض ..
غادرت شمس مقعدها وكأنها لم تستمع إليه، فقد كان تفكيرها مُنشغل بالكثير من الأشياء التي قفزت على رأسها في الحال، فتابعت وكأنها لا تعي وجوده :
_ لازم أكلم ماما أبلغها إن يارا هتقعد عندهم كام يوم، وابدأ أشوف هاخد إيه معايا، أعتقد لازم ألبس فستان سواريه ..
صمتت لبُرهة مُفكرة قبل أن تُضيف بعد أن تطلعت إلى الساعة المُعلقة على إحدى الحوائط والتي أشارت إلى الحادية عشر مساءًا لتقول وكأنها تُحدث نفسها :
_ هيبقى في محلات فاتحة دلوقتي أنزل أشوف حاجة تنفع ولا استنى لبكرة ..
وجهت إليه كلماتها من جديد متسائلة عقب تذكرها :
_هي الطيارة الساعة كام؟ أوعى تكون بدري ..
أوقف مصطفى حديثها المُسترسل بصعوبة مُقاطعًا بحزم :
_ ممكن تسمعيني أنا بقول إيه، ملوش لزوم كل ده لأني مسافر لوحدي ..
هُيئ لها للوهلة الأولى أنها لم تسمعه، إلا أن علامات الخيبة كانت تملأ نبرات صوتها المُرتعش بعدما تبخر حماسها في ثوانِ ليحل محله تلك الانقباضة مُتسائلة بعدم فهم :
_ لوحدك إزاى يعنى ؟
شعر هو بما راودها من خيبة، فأطفأ سيجارته بداخل المنفضة بجواره وغادر مقعده قبل أن يقترب منها مُحاولًا اجتذابها داخل أحضانه قائلًا :
_ متقلقيش هُم مجرد يومين بس مش أكتر وفى اليوم التالت هتلاقينى قدامك ..
كانت جامدة كلوح الثلج لا يبدو عليها أي انفعالات، ودون أن تسأله قام هو بالاستطراد مُبررًا :
_ زي ماانتي شايفة الوقت ضيق وكمان مينفعش تسيبي يارا كُل ده، والدعوة اللي معايا ليا أنا بس، يعنى لو سافرتي معايا مش هتعرفي تحضري وهتقعدي لوحدك في الفندق، غير طبعًا إنك مشغولة بكتابة رواية المعرض واللي لازم تخلصيها في أقرب وقت، بس أوعدك ياحبيبتى بعد ما تخلصيها هاخدك ونسافر نقضي أسبوع كامل في دبي ..
تحركت إحدى ملامحها الجامدة أخيرًا فاضحة ابتسامتها الساخرة والتي لم يراها هو، لكنه استمع إلى كلماتها الخافتة وهى تقول بصورة آلية :
_ أخلصها ! هو إحنا مش اتفقنا إننا هنكتبها مع بعض ولا أنت رجعت في كلامك !
ربت على ظهرها برفق قائلًا دون تفكير وكأنه يُهدهدها كالطفل الصغير :
_ أكيد ياحبيبتى .. أكيد ..
ثُم أضاف مُنبهًا :
_ متنسيش إن خلاص المعرض فاضل عليه أقل من ٣ شهور ولازم ننجز كمان عشان الرواية تلحق تتطبع ويتعلمها الغلاف ..
وكأن الحياة قد دبت داخلها فجأة، لقد انتفضت من داخل أحضانه مُبتعدة عنه بعدما سمحت لعاصفتها الهوجاء بالهبوب قائلة بحدة بعد أن طفح بها الكيل :
_ الرواية الرواية الرواية .. وهو مش المفروض إن الرواية دي عمل مُشترك بينا واتفقنا إننا هنعمل كل حاجة مع بعض، ولا أنت خلاص بقيت ضيف شرف في البيت وفى الروايات اللي بتنزل باسمك كمان ..
لم يتوقع البتة سماع تلك الكلمات منها، فأحمر وجهه بغضب واضح، وانتفخت عيناه وجحظت كمن يوشك على الاختناق، بينما صدغي فكه تحركا بعصبية واضحة، خاصة بعد ان أكملت حديثها مُردفة تفضح كُل ما خبأته داخلها طوال تلك الأيام المُنقضية :
_ شهر ونص ..
شهر ونص بتقولي كل أسبوع .. الأسبوع الجاى هفضي نفسي ونكتب مع بعض كملي انتي، وأنا زي العبيطة بكمل لحد ما قربت أخلص نص الرواية وأنت حتي معندكش وقت تقرا اللي أنا كتبته أو تسألني عملت إيه ..
احتفظ بصمته فأكملت هي بتهكم وسخرية واضحين :
_ بس أنا عارفة إنك مشغول، بصراحة ربنا يكون في عونك ويقويك على سهراتك اليومية و اللي مبترجعش منها إلا وش الفجر مش قادر تُصلب طولك، لدرجة إنك بقى العادي بتاعك تصحى العصر يادوب تتغدى وتنزل .
تحركت شمس من مكانها بعصبية وشرعت في الالتفاف داخل أرجاء الغرفة كالأسد الجريح وهى تُكمل دون توقف :
_ مبقاش عندك وقت لبيتك ولا لمراتك ولا حتى لكتابة الرواية اللي المفروض إن اسمك هيتحط عليها …
وبعد كُل ده كمان مش مسموحلي أسألك رايح فين ولا جاي امتى ولا بتسهر مع مين ..
لم يستطع البحار الاستمرار في هدوئه المُصطنع أمام ما تلفظه تلك العاصفة من غضب مُهين فقرر مُغادرة قاربه الآمن والذى أوشك على الهلاك ليُجدف بذراعيه وبجسده وسط صخب أمواج البحر الهائج فقال بسخرية اخفى ورائها جم غضبه منها :
_ بقى المُحاضرة دي كلها عشان بقولك مش هينفع تسافري معايا ..
أجابته بتحد على الفور بعدما أحست باقتصار دورها في حياته على إنجاز مهامه فقط، فقالت مُوضحة ونظرات الغيظ تملأ وجهها :
_ لا ياسيادة الكاتب العظيم، الموضوع مش عشان حتة سفرية خالص، أنت مبقتش موجود في حياتي أصلًا ولا كأني متجوزة وسايبني محبوسة بين أربع حيطان أكتب زي المكنة وسيادتك كل يوم في خروجة شكل الله أعلم مع مين وفين …
ولاها ظهره مُتأففًا قبل أن يقول بضيق :
_ هنبدأ بقى الأسطوانة اللي مبتخلصش ..
بادلته ضيقُه بسخرية وهي تتجه إلى أطراف الغرفة قائلة :
_ تقصد هننتهي، عمومًا أنا هحضرلك شنطتك وهروح عند ماما من بكرة بدري أبات عندها لحد ما ترجع من سفريتك، ساعتها هيبقى لينا كلام تانى ..
وقبل أن تتحرك ما تبقى من خطوات مُغادرة أردفت دون أن يسألها :
_ آه وبالنسبة للرواية ..
اتبعت قولها بصمت دام لبضع ثوان أرهف هو فيها السمع لكل زفير أخرجته قبل أن تنطق أخيرًا قائلة بقلة حيلة وكأنها لا تقو على الرجوع في اتفاقها :
_ متقلقش هكملها ..
تنفس مصطفى الصعداء فور نطقها لآخر كلماتها، واستعاد هدوئه وهو يتوجه إليها يمنعها من الخروج قائلًا بعدما لامس ذراعها بأصابعه :
_ شمس أنا مش عاوز أسافر وانتي زعلانة مني، لازم تعرفي إني مش بعمل كل ده ليا، انتي فاكراني ببقى مبسوط وأنا برة البيت معظم الوقت كدة، بجد انتي متعرفيش المجهود العصبي والنفسي اللي ببذله وأنا مع ناس مش طايقهم، بس للأسف مضطر عشان أزود العلاقات وفى الآخر ده كله عشان ……
قاطعته قائلة بازدراء بعد أن تملصت من أصابعه، وابتعدت عنه دون أن تنظر إليه قائلة :
_ متكملش مش عاوزة أسمعك بتقول عشاني أو عشان بيتنا، للأسف اللي بتعمله ده بيبعد المسافات بينا مش بيقربها .
لم تنتظر إجابته تلك المرة بل غادرت مُسرعة كي لا تنهار أمامه وتفضحها دمعاتها، بينما هو ظل ثابتًا بمكانه لعدة دقائق يبدو عليه التردد قبل أن يُنير هاتفه برسالة إلكترونية من رفيقته في السفر والتي لم تكن سوى .. بطلة فيلمه الماضي والقادم !
*****************************
رغمًا عنك في بعض الأوقات ..
تمُر عليك ليالِ تتلذذ فيها بالسكون والصمت المُطبق عن كل شيء غير مُباليًا بما يدور حولك، يُسيطر عليك حزنك الذى انحسر بداخل روحك فلا تستطيع البوح به حتى إلى أقرب الأشخاص إليك كي لا تترك ندبة أو حزنًا في قلب أحدهم فتتثاقل الكلمات على أطراف لسانك وتنعدم رغبتك في الحديث أو حتى العتاب ..
ذلك هو ملخص ليالِ شمس القادمة ..
بدءًا من هذه الليلة التي قضتها في غرفة ابنتها لأول مرة مُنذ زواجها مرورًا بتلك الأيام في منزل والدها حتى رجوع زوجها من احتفاله، نهاية بأيام أكثر قهرًا لازالت في انتظارها عقب تلاشى تلك الغشاوة من أمام عينيها ..
قضت شمس يومها الأول داخل بيت أبيها صامتة حزينة مُختبأة أعلى فراشها مُتلحفة بغطائها كي لا يستمع أحدًا إلي نحيبها أو يرى مقلتيها اللتان تحول بياضهما إلى اللون الوردي بفعل التهاب تلك الشُعيرات الرقيقة الرفيعة داخلها والتي ازداد احمرارها بصورة واضحة من كثرة البكاء ..
فسر الأبوان حالة ابنتهما تلك واعتزالها مجلسهم وإهمالها لابنتها بسبب تعلقها الشديد بزوجها والذى لم تفترق عنه مدة زواجهما والتي تعدت السبعة أشهر إلى الآن ..
فتولى العجوزان أمر الصغيرة حتي استطاعت الأم في النهاية الخروج من شرنقتها بعد أن اكتفت من البكاء وجلد الذات، مُتذكرة تواجد أبويها وابنتها بجوارها داعمين لها مهما كانت الظروف، حتى لو بائت حياتها الزوجية بالفشل للمرة الثانية ..
أما في اليوم التالي مساءًا..
اجتمعت العائلة الصغيرة كما اعتادوا دومًا أمام التلفاز حيثُ الجدة تتربع أعلى الأريكة الشبه متهالكة وأمامها تلك المنضدة الحديدية قديمة الطراز يعلوها طبق كبير من فاكهة الخريف على مُختلف ألوانها ..
انشغلت مجيدة بتقطيع التفاح بينما الصغيرة بجوارها تتناول حبات الموز بنهم شديد ومن بعدها يجلس الجد مُداعبًا حفيدته التي لم تنقطع ضحكاتها السعيدة منذُ وصولها إلى بيت جديها ..
أما شمس فقد جلست بجسدها الصغير أعلى إحدى المقاعد ضامة ركبتيها إلى صدرها حيثُ ألتفت ذراعيها حولها كمن تحتمى من أذى مُحتم على وشك الاصطدام بها ..
تناول محمود قطعة التفاح من زوجته قائلًا قبل البدأ في قضمها :
_ ماتجيبيلنا قناة دبي كدة ياشمس يمكن ابن عمتك يظهر على التلفزيون ولا حاجة ..
خرجت شمس عن صمتها مُتسائلة باستغراب وكأنها قد تناست :
_ أسامة !
ابتلع محمود ما بفمه قبل أن يُجيبها مُوضحًا :
_ آه يابنتى عنده تكريم تبع الشركة بتاعته في مهرجان من بتوع السينما دول ..
هزت شمس رأسها بتفهم بعدما استطاع عقلها القيام بوظيفته أخيرًا، لكنها اعقبت مُتسائلة :
_ انتوا عرفتوا ازاى إنه هيتذاع على التلفزيون ..
ثُم أضافت داخلها مُتمتمة :
_ مصطفى مقاليش أي حاجة عن الموضوع ده ..
في تلك اللحظة كانت مجيدة تُعِد طبقًا مُتنوعًا من حبات الفاكهة اللذيذة لابنتها، فمدت ذراعها به إليها وهى تُجيب على تساؤلها قائلة :
_ ابن عمتك جه يسلم علينا قبل ماتيجى بيوم وأكد علينا اليوم والساعة ..
ثم أضافت مُتهكمة بنبرة ذات دلالة :
_ فيه الخير والله إنه افتكرنا وزارنا قبل ما يسافر ..
التقطت شمس ما بيد والدتها وتركته جانبًا بجوارها قبل أن تُطأطأ رأسها خجلًا من تلميحات والداتها الواضحة عن زوجها الذى لم يتكلف عناء إحضارها إلى منزل أبيها وإلقاء التحية قبل مغادرته، بل إنه وبعكس ما توقعت لم يُهاتفها قبل سفره أو عقب وصوله إلى وجهته ..
بدأت مراسم الحفل بداخل شاشة التلفاز، فاستدارت شمس بجسدها إليه باهتمام واضح، حيث أُفتتح المهرجان بتتابع وصول فنانو الوسط الذين سُلِطت عليهم أضواء الكاميرات أثناء مثولهم أعلى السجادة الحمراء الطويلة ليتهافت عليهم المصورون من جميع الجهات رغبة في التقاط الصور ولم تمض دقائق حتى ظهر أسامة مُعتليًا تلك السجادة برفقه لينا وباقي طاقم الإنتاج فعلقت مجيدة قائلة بحماس :
_ أسامه أهو يامحمود، بص الشياكة اللي هو فيها تقولش نجم في السيما ..
أجابها محمود مُتباهيًا :
_ أُمال إيه ده هو اللي بيقبض بتوع السيما مش عاوزاه يبقى أشيك منهم كمان ..
تعالت ضحكات مجيدة مُعلقة :
_على رأيك ياأبو شمس ..
لكنها سُرعان ما أضافت بعدما لفتت انتباهها مَن تجاوره فقالت بعدم رضا :
_ بس مين البنت أم شعر أحمر اللي جمبه دي اللي لابسة فستان ملوش لازمة …
كانت عيني شمس لا زالتا مُثبتتين على الفتاة ولكن تلك التي على يمينه ذات الشعر البندقي بنظارتها الطبية المُعتادة وملابسها المُحتشمة الأنيقة، والتي سُرعان ما أنصرف أسامة برفقتها مُختفيًا من المشهد، فقالت رادة على تساؤل والدتها :
_ اللي بشعر احمر دي شريكته في شركة الانتاج وبطلة الفيلم ..
لم تكد شمس تُنهى جملتها حتى ظهر مصطفى عقب اختفاء أسامة ليحل محله إلى جوار لينا لتجمعهم بعضًا من الصور قبل انصراف باقي طاقم الانتاج بالتدريج وتتبق لينا فقط بجواره يكاد جسدها أن يلتصق به بوقاحة بالغة، مُتحججة بتلك الوضعيات الخاصة بالتصوير بينما هو لم يُمانع البتة بل ظهرت ابتسامته المُغترة الواثقة وهو يلتف بذراعه على خصرها في وضعية حميمة مُبالغ بها ..
اتسعت حدقتي شمس مُحدقة بذلك المشهد الذى لم يستوعبه عقلها في البداية حيثُ كادت عينيها أن تقفزا من محجريهما غير مُصدقتين ما تخبرها بها إشارات عقلها عقب ترجمتها لتلك الصورة التي نقلتها لها عدستيها المذهولتين ..
أفاقت هي على كلمات والدتها الموجهة إليها قائلة :
_ يوه هي البنت دي ملهاش أهل إيه اللي بتعمله ده ومال جوزك سابيها تميل عليه كدة ليه، صحيح اللي أختشوا ماتوا ..
لكزها محمود بمرفقها مُعقبًا رغمًا عن عدم اقتناعه :
_ عادى يا أم شمس ده لزوم التصوير، إنتى عارفة بتوع السيما، ده شغل مصوراتيه ..
تشدقت مجيدة بتهكم قائلة :
_ واشمعنى ابن أختك معملش زيهم كدة ويادوب أتصور صورتين ومشى، والبت دي مالها لازقة في جوز بنتك كدة ناقص تبوسه من بقه ..
لكزها محمود بقوة تلك المرة كي تكف عن حديثها بينما شمس التزمت الصمت المُطبق وهى لازالت تُحيط جسدها بذراعها، في حين تحدثت مقلتاها التي امتلأت بالدمعات الثائرة المُتجمعة عند زاويتي عينيها راغبين في التحرر والإفلات إلى مجراهما .
أطلقت شمس سراحهم دون تفكير كي تنتهى سريعًا من احتجاجاتهم التي بدأت في استقطاب المزيد منهم ومسحت وجنتيها بخفة كي لا تلفت انتباه والديها من خلفها ..
وبعد نصف الساعة تقريبًا بدأت مراسم توزيع الجوائز وذُكر اسم الفيلم الذى لم يعلم أحد من الجالسين ورائها بأنها هي صاحبته، وسُرعان ما ذكر اسم مصطفى من مُذيع الحفل فتوجهت الأضواء المُصاحبة للكاميرات إلى مقعده والذى كان بالطبع مُجاورًا للينا ..
كادت مجيدة أن تُعلق كعادتها لولا أن أشار إليها محمود بالسكوت فأطبقت شفتيها رغمًا عنها ..
تحفزت عضلات شمس وانقبضت بقوة آلمتها، فماإن نُطِق أسم زوجها وتعالى التصفيق من حوله حتى ثُبِتت الكاميرا عليه أثناء احتضان الجالسة بجواره له بشكل صريح مُهنئة قبل أن يتوجه إلى الأعلى لاستلام جائزته، فما كان منها إلا أن أغلقت قبضتي راحتيها بقوة حتى انغرست أظافرها بباطن يدها آمره نفسها بداخلها مُتمتمة :
_ تماسكي .. أستجمعي شتات نفسك أمام أبويكي وأبكى بانهيار لاحقًا في وحدتك كعادتكِ دومًا ..
في الأخير تسلم مصطفى أبو حجر جائزته كأحسن مؤلف وسيناريست لهذا العام عن فيلمه الأول والذى لاقى نجاحًا مُبهرًا لم يتوقعه أحد ..
وقبل مغادرته للمنصة أراد هو توجيه كلمة شكر فصدح صوته من خلال مُكبر الصوت قائلًا :
_ الحقيقة أنا بشكركوا من كل قلبي على التكريم ده واللي بيوضح دعمكم للفن النظيف اللي بيوجه رسالة، واللي أتمنى إني أكون نجحت في توجيها من خلال فيلمى الأول ..
بس من مكاني ده أنا حابب أنوه إن النجاح اللي وصلتله ده مستحقهوش لوحدي ..
ثم أردف وهو يُشير بجائزته :
_ الجايزة دي مكنتش هستلمها النهاردة لولا الإنسانة اللي فضلت ورايا وشجعتني وصممت إني أخوض التجربة وألحت عليا عشان أوافق إن الرواية تتحول لفيلم ..
لم تصدق شمس ما ترامى إلى أذنيها في البداية لكن مع استرساله في الحديث بدأت عضلاتها المنقبضة في الانبساط تدريجيًا وأطلقت سراح قبضتي يدها ليتحرر إبهاميها قبل أن تلوح شبح ابتسامة أعلى شفتيها وهى تُتمتم بداخلها :
_ أنت بجد يامصطفى ، افتكرتني في وسط نجاحك ، افتكرتني وأنا بعيد عنك ..
أرهفت السمع إليه من جديد بعد أن أشرق وجهها كتلك الإشراقة التي شملتها عند تلفُظه باسمها لأول مرة ..
بينما هو تابع :
_ الإنسانة دي يمكن علاقتي ومعرفتي بيها مكملتش سنة بس في المدة دي أثبتتلي فيها قد إيه هي صادقة في إيمانها بيا وبموهبتي، كانت أول حد دعمني ولا زالت لحد دلوقتي مصدر دعم كبير في حياتي كلها ..
حقيقي بعتبرها تميمة الحظ بالنسبالى واللي هتفضل شريكة ليا في كُل أعمالي الجاية اسمها مع اسمى في كل عمل، عشان من غيرها مكنش اسم مصطفى أبو حجر هيدخل عالم الفن والسينما ويظهر للنور ..
اعتدلت شمس بجسدها بعد أن حررته من أسر ذراعيها المُحاوطين له ،لتجلس بارتياح وقلبها يُرفرف بقوة استعدادًا للاستماع إلى اسمها ورفع رأسها أمام أبويها فخرًا بزوجها المُدرك لقيمتها، ولوهلة كادت أن تقف مُصفقة عند تتابع قوله :
_ فخر ليا إني أقول إن الإنسانة دي هي ..
… لينا الوهداني بطلة الفيلم وشريكة الإنتاج ..
أكذوبة !!
تلك الحياة المُتكاملة المُرفهة المتأنقة في ثوب من الحرير الخالص، المُتوجة بإكليل أبيض من الحُب المُزهِر، والذى سقته هي مِرارًا بأوجاع قلبها ورفض عقلها وضعف روحها كي يستمر في النمو والازدهار، كانت مُجرد أكذوبة !!
لم تكن أكثر من وهم كبير عابث عاشت به هي لأشهر، حيثُ ارتفعت عاليًا مُحلقة راقصة كحورية اعتقدت أنها فازت بجنتها التي لاتُفنى، تحصد فيها النعيم بمختلف ألوانه من غير مُتحكم ولا رادع، فما من ملكة مُتربعة على عرش قلبه سواها، تعيش بداخل حلم جميل لذيذ توغلت به وصدقته قبل أن تصحو يومًا على حقيقة أنها لا تعدو عن كونها وصيفة لا أكثر، بل مُجرد مُحظية ككل أولئك اللوات مررن عليه من قبلها ..
أخبرته مِرارًا بانكسارها وضعفها وتعرت أمامه من ذلك الوجه الصلب القوى العابس رامية بأثقالها عليه، مُتخففة من أحمال الحياة على عاتقيها، فلطالما كانت هي – في السابق – السند والعائل والولي لابنتها ولذاتها ..
لذا سلمته نفسها وروحها قبل جسدها ظنًا منها أنه يستطيع حمايتها مما تخافه من متقلبات الزمن وغدر الليالِ لكن للأسف عجز هو في النهاية أن يحميها من أكبر مُوجِع لها .. من نفسه ..
فقد أحبَت هذا الجزء المثالي الظاهر منه دون أن تُدرك حقيقة أن ذلك هو أفضل ما لديه، وحين كُشِفَت الأجزاء المُستترة أمامها واستطاعت رؤيتها على حقيقتها – بعد كثير من مُراوغات قلبها الذى استسلم في النهاية عقب خُذلانه – فوجئت أن المُستَتَر أكثر قُبحًا مما تصورت ..
وكانت تلك الطامة الكُبرى، كان ذلك هو الوجع الأكبر عندما تتابعت الأجزاء المُخبأة في الظهور وحانت لحظة الاكتشاف !
اكتشاف ذلك التلاعب بقلبها، بضعفها واستسلامها، وجدت نفسها في نهاية المطاف ، شخص لم تنجح في التعرف عليه، فقدت الثقة بنفسها والإيمان بقدراتها بعد أن قامت فقط بتصديقه، بل بعد أن باركت كذباته ..
وطل عليها هذا الجزء المكسور بداخلها مادًا رأسه للخارج بتثاقل بعد أن أدمى فؤادها وأسال دمه ليُواجهها بضعفها مؤنبًا .. فكيف لها أن تُخدع إلى هذا الحد و تبتلع سوئه كاملًا كالمُغيبة بل وتمدد يدها للمزيد مُرحبة بسنابكُه تدهسها بقوة بعد أن أدرك وتأكد من مدى هشاشتها وضعفها !!
دار ذلك السؤال بخُلدها مرات عديدة عجزت عن إحصائها ..
الآن وبعد انكشاف حقيقته، كيف تواجهين حقيقتك! بل كيف تُفضلين أن ترين نفسك !
هل انتي مُجرد غبية استطاع هو استغلالها لصالحه أم بطلة مُضحية ضحت لأجل زوجها !!
أيُهما تتخيرين !!
لم يُفارِق هذا السؤال خُلدها طوال ليلتها الثانية في منزل أبيها بعد سماعها لكلمات زوجها، وعقب مُحاولاتها المُستميتة لإخفاء دمعاتها وإظهار تماسكها أمام والديها اللذان لم يتلفظا بحرف واحد تعليقًا على حديث مصطفى أو تصرفاته ..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)