روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل السادس عشر 16 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل السادس عشر 16 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء السادس عشر

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت السادس عشر

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة السادسة عشر

طالت نظرات محمد لوجه صالح بشكل جعل الاخير يظن أنه به شيء خاطئ، هل تعجب هيئته ؟؟
هو خرج باكثر ثياب منمقة لديه، إن اعتبرنا أن البنطال الجينز والقميص الابيض ثياب منمقة، فهو الآن في واحد من أكثر طلاته تأنقًا .
وبعد صمتٍ طويلٍ من محمد والذي كان يدرس صالح ببطء، تحدث الاخير بتأفف حاول ألا يظهره علنيًا أمام تلك الأعين المتفحصة :
” هو ولا مش هو، ولا عايزني اعيد السؤال ؟!”
رفع محمد حاجبه بسخرية لاذعة :
” وكمان هتعيد السؤال ؟! ده انت قلبك ميت بقى ”
تشنج فم صالح بتهكم شديد وحنق :
” قلبي ميت عشان بسأل على بيت رانيا ؟؟ ليه بسأل عن البيت الابيض ؟؟”
ارتفع حاجب محمد بشكل مثير للغرابة، هذا الشاب أمامه يتحدث له بشكل لا يعجبه، وفي أمر بالطبع لا يحبه، ما شأنه وشأن شقيقته .
” أنا شايفك واخد راحتك اوي وأنت بتتكلم عن رانيا، ومفيش اي القاب حتى أو تحفُظ في كلامك ولا كأنك اخوها في الرضاعة ”
هز صالح رأسه بهدوء يضع كفيه داخل جيب بنطاله :
” والله انا معرفش هي بتهبب ايه …قصدي بتدرس ايه في حياتها عشان اقول ليها لقب، بعدين لا مش اخوها في الرضاعة، بس قريب هيكون فيه صلة قرابة، ودلوقتي ممكن ادخل ولا هفضل على الباب كده ؟؟ ”
وكاد يضيف على جملته جملة أخرى تمثلت في ( ولا أنتم كلكم كده عيلة معندكمش ريحة الذوق ؟!) لكن آخر ذرات تعقله هي ما منعته من ذلك واستطاع الطبيب العاقل المثقف داخله التفوق على الرجل البدائي .
ابتسم صالح بسمة سخيفة، يرى محمد يرمقه بنظرة مخيفة قبل أن يبتعد عن الباب يمد يده يدعوه للدخول بنبرة أثارت ريبته :
” لا ازاي، اتفضل طبعا، الكلام ده بالذات مش هينفع على الباب كده، بالاخص أنه واضح حضرتك ماشاء الله على معرفة طيبة باختي ”
دخل صالح المنزل ينظر حوله باهتمام وهو يتمتم بصوت منخفض :
” معرفة طيبة ؟؟ والله أنت اللي طيب ”
افاق من شروده على صوت محمد الذي دعاه صوب غرفة كبيرة تقبع في نهاية البهو الضخم وهو فقط يدقق النظر في كل شيء، ليبدو الأمر في ظاهره أنه مهتم بالمنزل، لكنه في الباطن كان مهتمًا بالبحث عن ساكنة المنزل .
جلس صالح وأمامه ارتاح محمد بشكل متحفز كأنه يتجهز للانقضاض عليه في أي لحظة :
” حضرتك بقى كنت بتقول ايه ؟! كنت بتقول تقريبا صلة قرابة ورانيا وحاجات كده ”
هز صالح رأسه وقد رضخ لنتيجة تهوره التي أوصلته لتلك اللحظة، بالطبع هو لم يكن يطرق منزلهم ليسألهم عن حالتهم، هو جاء هنا نتيجة تهوره، لكنه سيكمل ذلك الطريق بتعقل .
” أيوة، أنا كنت جاي اطلب ايد رانيا ”
في تلك اللحظة استمع الاثنان لصوت رجولي يردد بتعجب أمام باب الغرفة :
” تطلب ايد رانيا ؟؟”
رفع صالح رأسه ليرى أن هناك شاب في عمره أو اكبر قليلًا يرمقه بملامح كارهة كأنه جاء يطالبهم بمبلغ مالي كبير .
لكنه في الحقيقة لم يأبه وهو يكرر جملته :
” أيوة جاي اطلب أيدها ”
ضحك محمد بسخرية ينظر باستصغار واستخفاف لصالح، الذي لم يعجبه كل ما يحدث الآن، لكنه يدرك في مثل تلك المناسبات عليه أن يتسم بالهدوء .
لكن محمد لم يكن يضع اعتبارًا لأي شيء :
” والله أنت واحد دمك خفيف ”
” الله يكرمك، ابويا دايما يقولي كده”
ابتسم محمد بسمة أوسع، لكنها كانت ابعد ما يمكن عن معاني البسمة المعروفة، كانت ضحكة متهكمة، غاضبة، قبل أن يقول دون تفاهم وشعور أن شقيقته الصغيرة هناك من يود اخذها منهم قبل حتى أن تنضج وتستطيع التصرف وحدها، يقتله .
” طب فاكر الباب اللي دخلت منه من شوية ؟!”
هز صالح رأسه بهدوء يحاول أن يجاريه في سخريته :
” يعني لو شوفته تاني ممكن افتكره ”
” جدع اطلع من الاوضة وامشي على طول هتلاقيه في وشك، اخرج منه ومشوفش وشك تاني هنا ”
رفع صالح حاجبه بعدم فهم، ينظر لعبدالله الذي كان ينتظر أن ينتهي كل ذلك قبل شعور جبريل وعبدالجواد بما يحدث، لكن أمنيته ذهبت في مهب الريح حينما اعترض صالح :
” معلش بس انت اساسا عرفت أنا مين ولا حياتي ايه ولا رفض لمجرد الرفض ؟!”
هز عبدالله رأسه يجيبه بهدوء :
” مش كده بس احنا اختنا لسه صغيرة ومخلصتش دراستها، واحنا رافضين خالص فكرة الجواز ليها حاليا ”
قد يبدو سببًا مقنعًا لأحد آخر غير صالح :
” صغيرة مين ؟؟ رانيا صغيرة ؟! ”
حسنًا هنا واكتفى محمد وقد شعر أن ذلك الشاب من طريقة حديثه، يعلم من هي شقيقته وربما يتقصاها أو يزعجها، أو حتى يغازلها بشكل فج كما يفعل الرجال عادة، وهذا ما يثير به غريزة بدائية لحماية شقيقته بشكل مرضي من أي رجل في محيطها بعدما رأى كل تلك الكوارث التي تحدث مؤخرًا :
” وأنت بقى يا شاطر تعرف رانيا منين ؟!”
هل كانت نبرته للتو مستهينة ومستخفة به ؟؟ نعم كانت، هذا ما شعره وهذا ما لا يقبله، وفورًا أزاح صالح شخصية الهادئ جانبًا واستدعى كل ذرة بدائية داخله :
” وأنت مالك ؟! هاتلي والدك اتكلم معاه، مش هو ولي أمرها برضو ؟!”
انتفض جسد محمد بشكل مرعب جعل عبدالله نفسه ينهض سريعًا يمسك مرفقه خوفًا أن ينقض عليه ويقتل صالح الذي لم تتحرك به شعرة واحدة يراقب ما يحدث أمامه وكأنه يشاهد عرضًا هزليًا .
” أنت هتستهبل ياض ؟؟ جاي تطلب اختي وداخل فاتح صدرك ولا كأنك من باقي عيلتها، ومش عايزني اعرف عرفتها منين ؟!”
هز صالح رأسه يقف في وجه محمد يُذكر نفسه أنه لا يريد بناء عداوة الآن مع هذا الرجل :
” والله ردي كان بناءً عن طريقة كلامك معايا، يعني مثلًا لو كنت قولتلي، احكيلي يا صالح يا حبيبي عرفت اختي منين، أنا مكنتش حوشت حاجة عنك ”
رسم محمد ملامح سخرية على وجهه :
” وكمان اسمك صالح ؟؟؟”
” عندك اعتراض على الاسم ولا ايه؟؟ بعدين أنت من وقت ما دخلت هنا وأنت قاعد تتأمر ولا كأنك صاحب البيت، هو مش فيه كبير هنا ؟؟ ”
فتح عبدالله عيونه بصدمة من تحدي صالح ومجابهته لمحمد الذي تلاشت ملامح غضبه فجأة وارتسم جمود اكبر على وجهه يردد بصوت مرتفع :
” جبريـــــل، عبدالجــواد ”
رفع صالح حاجبه وارتفع طرف شفتيه في تزامن متهكم منه يضم ذارعيه لصدره :
” خير ؟! دول الأمن بتوع البيت ولا ايه ؟؟”
وفجأة وجد صالح شابين آخرين يدخلون للغرفة، أحدهم يعلمه جيدًا وهو الذي رآه في القاهرة وظن بكل غباء أنه العقبة الوحيدة أمامه، لكن يبدو أن عبدالجواد هو اهون الجميع هنا، فذلك الآخر جبريل والذي يحمل ملامح قاسية دخل متحفزًا :
” فيه ايه يا محمد ؟؟”
تحدث صالح وهو لم ينزع عيونه عن محمد حتى :
” مفيش يا استاذ جبريل، عقبال عندك جاي اطلب ايد اختك ”
بمجرد انتهاء تلك الجملة وجد صالح الأربعة يتجمعون حوله مشكلين عصابة كعادتهم، وجبريل يردد جملته بحاجب مرفوع :
” جاي تطلب ايد اختي ؟؟”
حك صالح أنفه وهو يهتف بنفاذ صبر :
” واضح كده أن العيلة كلها عندها تأخر فهم ”
رفع عيونه لهم يقول بملل :
” أيوة يا استاذ جبريل أنا العريس و جاي اطلب ايد اختكم، اياكش نخلص وننقل على الجملة اللي بعدها”
جذب محمد تلابيب ثيابه بشكل جعل عين صالح تتحرك لتثبت عليها، ومن ثم رفع حاجبه :
” دي كانت أول مرة البس فيها قميص مكوي في حياتي عشان اسيب انطباع كويس عندكم، لكن الواضح أنكم شوية همج مش نافع معاكم ادب ”
و محمد لم يهتم بكل ذلك، يجذب له صالح يقول بشر وتحذير :
” أنت لو عايز تعيش تخرج دلوقتي باحترامك ”
نظر له صالح طويلًا قبل أن يقول بملل :
” يا اخي أنا عندي ميول انتحارية أنت مالك ”
تأفف وهو يدير نظراته في المكان حوله قبل أن يصيح بصوت مرتفع :
” هو فين ابوكم؟! سايبكم طالقين نفسكم على الناس زي التيران كده ليه ؟؟”
وفجأة رفع صوته وهو ينادي :
” يا حاج … ألا الحاج اسمه ايه ؟!”
لم يجبه أحد وقد احمرت الأعين غضبًا، وخاصة جبريل الذي ضم قبضتيه ولم يكد يبادر بشيء حتى أثار صالح استفزازهم أكثر وأكثر يقول ببسمة واسعة :
” تمام محمد شكله الكبير صح ؟؟ ”
ولم يجبه أحد مجددًا، لكنه لم يهتم مجددًا يقول بصوت مرتفع :
” يا ابو محمد ما تيجي تشوف عيالك، أنت يا عم ابو محمد ما تربي عيالك شوية مش كده ”
أنهى حديثه يتمتم بحنق يحرك نظره بين الاربعة :
” وانا اللي بقول على رانيا شلق؟؟ ما هو حقها، عايشة مع اربعة همج، ده الحمدلله أنها مش بتخبي موس تحت لسانها”
وفي الطابق العلوي .
كانت مروة تنظر لرانيا بغيظ والاخيرة تضحك بصوت مرتفع :
” أنتِ بتضحكي على ايه ؟؟ بقولك اخوكِ كسر دماغ الراجل وبعدين يقولي معلش اصل عصبني ”
غمزت لها رانيا :
” بيغير يا مير…”
صمتت فجأة بتعجب وهي تقول :
” ايه ده؟؟؟”
” ايه؟”
” فيه صوت كده، سمعتيه ؟؟”
انصتت مروة جيدًا، لكنها هزت كتفيها بالرفض :
” لا مفيش صوت ”
وفجأة ارتفع صوت نداء صالح مجددًا لتعلو شهقات رانيا بصدمة وهي تحمل حجابها بسرعة تصرخ بعدم تصديق :
” ده صالح ”
نظرت مروة لاثرها بعدم فهم :
” صالح مين ؟؟ ”
نفس الوقت هبط رؤوف الدرج ينصت بعدم فهم لتلك الاصوات الصاخبة، يرى ركض رانيا أعلى درجات المنزل بشكل أثار ريبته وجعله هو نفسه يركض خلفها، ظنًا أن كارثة قد حدثت، وقد صدق ظنه حينما وجد جميع ابنائه قد تجمعوا حول شاب طويل القامة، ليفهم دون أن يتساءل حول هويته ما الذي يحدث …
وقبل أن يفتح روؤف فمه للتحدث عن أي شيء، سبقه صوت آخر جذب جميع أنظار من بالغرفة.
وقد كان ذلك صوت رانيا التي صاحت دون أن تستوعب شيء حولها أو مع من تقف وبين من تتحدث :
” صـــالـــح ؟؟؟”
__________________________
شعر معتز بارتجاف جسده جراء تلك الكلمات التي ألقتها ميمو في وجهه، ابتلع ريقه يستدعي كل ذرة هدوء داخله ودموعه بدأت تتساقط ندمًا :
” أنا مكانش قصدي يا بنتي، سامحيني”
وضع يده أعلى صدره وسعاله ازداد بجنون يردد كلمات خرجت بصعوبة ودموع الندم تتقطر أعلى وجهه كالسيول المتساقطة من جرفٍ شاهقٍ:
” أنا بس كنت عايز اقولك اني آسف، حقك عليا ”
نظرت ميمو حولها ثواني قبل أن تعود له تتشدق بدهشة وملامح مذهولة، صوتها خرج هامسًا بنبرة اقرب للفحيح :
” ايه ده؟! محصلش حاجة ”
نظر لها معتز من بين دموعه بتعجب لتقترب منه ميمو تجلس على طرف الفراش تقول بهدوء وتهكم :
” اعتذارك يعني مغيرش حاجة يا معتز، مرجعش عيلتي ولا رجعني زي ما كنت، غريبة ده انا قولت أنك جايبني وقاعد تزن عليا بقالك شهور، وعندك الحل السحري اللي يرجع كل حاجة زي ما كانت ”
بكت وفاء تتدخل في الحوار ترى حالة زوجها التي ساءت أكثر وهو يجاهد لالتقاط أنفاسه :
” يا بنتي هو عمك ماله ومال عيلتك، هو غلط اه لما جوزك لللي ما يتسمى جوزك، بس هو والله كان بيحبك وكان فاكر أنه كده بيـ ”
نظرت لها ميمو بأعين حمراء ووجها قد بدأ ينقبض بشدة ودموعها تتجمع تصرخ في وجه زوجة عمها لاول مرة في حياتها تقاطع كل تلك الكلمات التي تدرك كذبها :
” لا …لا يا مرات عمي، جوزك ده اهون غلط عمله في حقي هو انه جوزني لجاد، يا شيخة ياريته جوزني ليه وسكت، والله ما كنت هزعل ”
أنهت حديثها تستدير صوب عمها كالرصاصة وهي تقول من بين دموعها :
” ولا ايه يا معتز ؟؟ آسف اللي قولتها دي كانت على أنك جوزتني لجاد ولا أنك دمرت عيلتي وضعيتها ؟؟”
بكى معتز وهو يمد يده يحاول الامساك بيدها، لكن ميمو نفضتها باشمئزاز وغضب تصرخ فيه بجنون :
” إياك، إياك تلمسني، أنت واحد قذر وحيوان، سامع يا معتز، اقسم بالله العظيم لو بينك وبين الجنة غفراني، عمري ما هغفرلك ولا اسامحك، لو شوفتك بتموت قدامي كده مش هسامحك، وأحمد ربنا إني لسه مراعية الدم اللي بينا وصلة القرابة وأنك راجل كبير ومريض وإلا والله لكنت دمرتك زي ما دمرت عيلتي، فاكرهم يا معتز ؟؟”
أنهت حديثها تحمل الحقيبة بقوة مخيفة، لكن وفاء ركضت خلفها تبكي بشدة تتمسك بيديها مترجية :
” استني بس يا مَقْدِس، استني ابوس ايدك، عمك ملوش ذنب في اللي حصل لعيلتك، هو واحد مريض وبيموت، سامحيه ابوس ايدك ”
جذبت ميمو يدها من يد زوجة عمها وهي تتحدث من بين دموعها بجبروت وقلب تشبع من قسوة جاد حتى فاضت كؤوسه :
” لو آخر نفس في حياتي عمري ما هسامحه يا مرات عمي، قوليله إني لآخر لحظة هفضل ادعي عليه ربنا ينتقملي منه، وخليه يشكر ربه إني معملتش فيه زي ما عملت في القذر التاني ”
أنهت حديثها تجذب يدها من يد وفاء بقوة، ومن ثم تحركت صوب الباب دون أن تأبه لبكاء وفاء ولا تواسلاتها، هي أيضًا توسلت، لكن هل وجدت صدى لتلك التوسلات ؟؟
وقبل أن تفتح الباب تحدثت بصوت ميت :
” ابقي اسألي جوزك على لعبته مع جاد لأن شكلك فاتك كتير اوي يا مرات عمي، عن اذنك، ووقت ما تحتاجي حاجة كلميني، أنتِ اللي تحتاجي مش هو ”
تركت ميمو وفاء تقف في المنزل وهي تحدق في الباب بصدمة وتعجب، قبل أن تنتفض على صوت سعال زوجها وصراخه باسم مَقْدِس، لتهرع له تعطيه ادويته وكلمات مَقْدِس ما تزال تتردد في رأسها بقوة .
ترى ماذا تقصد بحديثها ؟؟
أنهت ميمو حديثها تندفع من ذلك الباب المتهالك، تشق طريقها خارج تلك الحارة وصدرها يعلو ويهبط بقوة وصور عديدة تتحرك أمام عينيها.
وهيئة ميمو ذات الثياب المنمقة والخطوات المدروسة، أثارت ريبة الجميع في المكان، خاصة مع نظراتها التي كانت مثبتة وكأنها تراقب شيء يسير امامها، دموعها تهبط بقوة وصوت جاد يتكرر في أذنها بجمل قتلتها أكثر من جلدات حزامه .
ومن بين كل ذلك أبصرت ضوءً في آخر نفق ظلامها، كان يقف مستندًا على سيارته باسترخاء شديد وهو ينظر صوب الزقاق الذي خرجت منه، لم يرحل كما طلبت منه، بل انتظرها خوفًا ألا تستطيع العودة وحدها.
انتفض صلاح حينما وجدها تتحرك صوبه بخطوات سريعة بملامح جامدة كمن نجى لتوه من موتٍ محتمٍ
اعتدل ينظر لها بفزع :
” ميمو، مالك ؟؟ حصل حاجة ؟!”
اجابته ميمو بصوت يظهر فيه الخواء واضحًا وملامح متألمه وبشدة :
” عايزة أخرج من هنا، مش عايزة افضل في المكان ده ”
فتح لها صلاح الباب بسرعة دون أن يتحدث بكلمة، يشير لها أن تدخل وحينما فعلت لحق هو بها، وتحرك بالسيارة في صمت شديد، وكأنه بذلك يمنحها كل الوقت لتهدأ وتتمالك نفسها….
ألقت ميمو رأسها للخلف وهي تغمض عينيها تتنفس بصوت مسموع، صوت وصل لصلاح وهي تردد :
” كله هينتهي، كله هينتهي ”
___________________________
يقف أمام منزل العائلة الشاهق، والمبني على تقاليد عتيقة ربما انتهت ولم يعد لها وجود في عصرهم الحالي، لكن سكان ذلك المنزل مازالوا في ضلالهم القديم، ولذلك نبذوه هو ووالده حينما وجدوا منهم اعتراض وتهكم على تلك التقاليد .
نظر محمود جواره لوالده الذي كان متأفقًا مثله وأكثر من تلك الدعوة التي اتتهم بلا مقدمات، ربما ليضمن شقيقه الكبير ألا يتملصوا منها .
” هو مش المفروض عمي كان اتبرى مننا بعد اللي حصل ؟!”
هز ماجد كتفه يتنهد بنزق :
” مش فاهم أنا ايه الاصرار على وجودنا ده، ولا كأن المناسبة مش هتكمل غير بينا ”
” ما هو فعلا مش هتكمل من غيرنا، يعني بزمتك لو احنا مكناش بنحضر الاجتماعات دي مين اللي هيكون التسلية بتاعتهم ؟؟”
تحرك ماجد صوب الباب الداخلي وخلفه محمود :
” مفيش، لأن محدش في العيلة دي خرج ناشز غيري انا وأنت وأمك الله يرحمها، كنا تلات منبوذين، وبقينا اتنين، الله يرحمها ”
ابتسم محمود يترحم في نفسه على والدته، ثم اقترب يميل على والده :
” اصبر بس اتجوز النواعم ونرجع تلات منبوذين تاني، واجيبها تتطرد معانا من كل مناسبة ”
نظر له ماجد بتهكم وكأنه يتساءل عن الرومانسية التي تظهر على ملامح ابنه والمترافقة مع تلك الكلمات.
انفتح باب المنزل من رئيس الخدم الذي منحهم بسمة وهو يرحب بهم مشيرًا صوب غرفة السفرة :
” الكل مستنين حضراتكم في اوضة السفرة ”
هز ماجد رأسه يسير وخلفه محمود يصفف خصلاته الشقراء باصابعه، وعيونه تدور في المكان قبل أن تقع على حقيبة بلاستيكية سوداء في يد والده :
” ايه ده يا ماجد أنت داخل عليهم بكيلو موز ولا ايه ؟؟”
رفع ماجد الحقيبة أمام عين محمود يقول بجدية :
” كيلو موز ايه، خسارة فيهم، دي شنطة حاطط فيها علبة اكل، عشان لما يقلبوا علينا ناخد اكلنا ونروح ناكل في البيت”
فتح محمود عينه بانبهار :
” طب والله تستحق لقب عالم ”
ابتسم ماجد بتكبر يرفع رأسه للأعلى وهو يردد :
” امال يعني كل مرة يسدوا نفسنا ونروح ندور على حاجة نأكلها في البيت؟؟ ”
ربت محمود على كتف والده، ثم أقبل عليه معانقًا يقبل وجنته :
” والله أنت خسارة في العيلة دي يا ماجد”
” والله يا بني أنا خسارة في الكل حتى انت، مش عارف ايه اللي رماني في العيلة دي، الله يرحمها امك الوحيدة اللي عمري ما استخسرت نفسي فيها ”
انطلقت ضحكات محمود بصخب جذب جميع الأنظار له، بعدما دلف للغرفة مع ماجد، وفجأة اعتدل في وقفته حينما رأى الكل يرمقونهما بتهكم شديد وكأنهم دخلوا المكان حاملين رؤوسهم أعلى اكفتهم .
تنحنح ماجد يخفي الحقيبة السوداء خلف ظهره، يبتسم في وجوه الجميع، يتحرك صوب مقعده الذي تُرك له في نهاية الطاولة وجواره مقعد محمود .
جلس محمود جانب والده يهمس بحنق :
” طبعًا سايبين لينا آخر كرسيين، مقعدنا في الـ naughty corner، شوية عنصريين طبقيين”
صمت فجأة حينما سمع صوت تنحنح عمه الأكبر يجذب انتباه الجميع له، والمقصود بالجميع هنا ماجد وابنه، فقد كانا هما الوحيدان اللذان يتحدثان .
نظر الكل له، ليبتسم رأفت بفخر شديد وهو يقول :
” انهاردة كلنا مجتمعين عشان نحتفل بترقية ابني حبيبي وخليفتي ”
وقبل أن يستوعب أحد ما يحدث ارتفعت أصوات التصفيق والتهنئة لابن عمه الأكبر، نظر لوالده بملل، يرى جمل التهاني والفخر تهبط أعلى رأس ابن عمه، والجميع يتحدث بجمل متداخلة ..
” طبعًا مش ابن رأفت، هيكون ايه غير بطل زي أبوه ”
” كنت عارف والله إن الموضوع مسألة وقت وترفع راسنا كلنا ”
” لا لا يا رأفت الموضوع ده ميبقاش على الضيق كده، لازم نعمل احتفال كبير والكل يعرف ”
ومن بين كل تلك التهاني تحركت عين رأفت صوب ماجد ومحمود، يضم قبضتيه أعلى الطاولة وعيونه ترسل لهم رسالات حانقة :
” ايه يا ماجد مسمعتش يعني ليك صوت، ولا أنت مش فرحان لابن اخوك ؟؟”
ابتلع ماجد قطعة الدجاج التي كان يمضغها مرددًا بهدوء وبسمة تاركًا الشوكة والسكين :
” لا ازاي، أنا كنت مستني الكل يخلص يا رأفت عشان ابارك، ألف مبروك يا ساجد، رفعت راس مصر كلها، عقبال ما تاخد مكان ابوك يارب ”
نظر رأفت لمحمود في انتظار أن يمطر ابنه بوابل من التهاني والمباركات، لكن محمود ابتسم بغباء يشير لوالده :
” وانا زيه برضو، نفس الكلام بالضبط ”
اهتز جسد رأفت في ضحكة ساخرة يرمق العائلة حوله بنظرات فخر، ثم تلاشت تلك النظرات ليحل محلها نظرات استهزاء حينما نظر لشقيقه وابنه :
” وأنت بقى يا حبيبي عملت ايه في حياتك ؟؟”
نظر محمود لجميع الأعين التي توجهت عليه وقال :
” الحمدلله أنا زي الفل يا عمي تسلم، عايش عادي اهو ”
” عايش عادي، هو ده اللي أنا عايز أوصله ليك، أنك عايش بل هدف، لا ترقيات ولا تقدم في وظيفة اساسا على قدها، فيها ايه يعني لو كنت سمعت كلامي ودخلت شرطة ؟؟ مش كان زمانك دلوقتي قاعد جنب ساجد وكلنا بنبارك ليك ؟؟”
نظر له ساجد في استخفاف، لكن رد محمود خرج بلا اهتمام :
” لا متقلقش يا عمي أنا مستريح جنب بابا، خلي ساجد واخد كرسيين عشان يكفوه هو ورتبته، مش عايزين نضيق عليهم ”
ضرب رأفت الطاولة أمامه :
” هو ده اللي انت ناصح فيه، الهبل والتريقة، إنما تعمل حاجة فايدة لا ازاي يحصلك حاجة، أنت واحد فاشل وهتفضل طول عمرك فاشل ”
انتفض جسد ماجد يدافع عن ابنه في وجه أخيه بشراسة دون وضع أي اعتبار للعمر :
” رأفت التزم حدودك، ابني مش فاشل، ابني ناجح اكتر من أي واحد فيكم هنا، واللي هيجي عليه سنتي هاجي عليه عشرة ”
أشار له محمود وهو يقول :
” خليه يابابا يتكلم عادي، ما أنا متعود على كده من عمي اللي مش شايف في الدنيا وظايف غير الوظايف اللي فيها نجوم ونسور”
نظر لهم رأفت بقوة :
” ايه يا بن ماجد، هتفوق علينا دلوقتي ؟! كلنا هنا عارفين أنت مين واخرك ايه ودخلت طب ازاي ودماغك عاملة ازاي وأنك واحد غبي ”
وجاءه الرد كالرصاصة من فم محمود الذي وقف يضرب طاولة الطعام بقوة وهو ينظر للجميع :
” بمزاجي …غبي بمزاجي يا عمي، لأن صدقني أنا لو اتعاملت مع العيلة دي بعقلي مش هيعجبك اللي هيطلع مني، فخليني غبي مش مهتم بكلامكم احسن عشان محدش يزعل مني ”
انتفض جسد رأفت وقد تصاعدت حدة الأجواء واشتعلت النظرات المتقاذفة بين الاثنين :
” أنت بتهددني يا ابن ماجد ؟!”
صاح محمود في وجهه بقوة شديدة :
” ابن ماجد ده هو اللي تعب وطلع عين اللي خلفوه عشان يحقق حلمه ويدخل كلية بمجهوده، جبت مجموع عالي وحققت حلمي وحلم اهلي وبشرف، ها يا عمي بشرف مش بالوسايط، وابن ماجد ده يعرف اكتر منكم كلكم في أي حاجة ”
صمت ينظر لجميع الأعين التي اتسعت صدمة من انفجار محمود بهذا الشكل فيهم دون وضع اعتبار لشيء :
” أتحداكم حد هنا يكون شايف ابعد من رتبته، اتحدى اي واحد فيكم يكون عارف نص المعلومات اللي اعرفها، مش انا اللي فاشل يا عمي، ابنك وعيال عمي اللي اخدوا السنة على اتنين وفي الآخر نجحوا بالفلوس هما اللي فشلة، اللي كل كام سنة بيترقوا بالواسطة هما اللي فشلة مش انا اللي بتعب وبشتغل بكل ذرة فيا ”
نغزه ماجد في خاصرته وهو يردد واضعًا يده أمام فمه :
” فرمل شوية، لاحسن يبيتونا في الحجز أنا وانت ”
ابتسم محمود يرى ملامح الشحوب قد علت جميع الوجوه :
” أنا مش هنكر أن دوركم في المجتمع كبير وكبير اوي ومشكورين عليه وربنا يعينكم، بس احنا كمان عايشين معاكم يا عمي والوظيفة اللي أنت بتقلل منها دي، مفيش واحد من اللي حواليك ممكن يوصلها لو وقف على ايده ورجله، الوظيفة اللي مش عجباك دي هي سبب الترقية اللي فرحان بيها، لأن لولا وظيفتي مكنتوش عرفتوا توصلوا لنص الأدلة اللي بتساعدكم تنجحوا في التحقيق وتترقوا، فوق يا عمي أنتم مش عايشين لوحدكم ”
ابتسم وهو ينظر لهم يشير بعينه لوالده أن ينهض :
” اظن الاحتفال خلص، اتمنى متعزمونيش تاني على مناسبة لو ده هيكون استقابلكم ليا أنا و والدي، والدي اللي اخذ جوايز عالمية وساهم في اكتشاف علاجات لأمراض كتير ”
أنهى حديثه يتحرك خارج الغرفة وخلفه ماجد الذي ابتسم بسمة جانبية، يخرج علبة الطعام يجمع بها كل ما تطاله يده ثم اغلقها :
” اظن سمعت ابني يا رأفت، لو مش هتحترمونا يبقى متعزومناش، والمرة الجاية اعملوا المكرونة البشاميل باللحمة بطلوا استرخاص ”
خرج ماجد سريعًا خلف محمود، يردد بفخر وهو يربت على كتفه :
” جدع ياض يا محمود ابن ابوك والله ”
نظر له محمود بحنق شديد :
” ايه يا ماجد مسمعتش ليك حس غير في جملة واحدة وبعدين اخدت دور الصامت وسيبتني أنا أتكلم ”
ابتسم ماجد يرفع الحقيبة في عين محمود :
” كنت بجيب العشا بتاعنا ”
بادله محمود البسمة، وسعادة كبيرة اخذت تتقاذف من أعينه :
” كان فيه طبق ورق عنب كده عيني هتطلع عليه، جبت منه ؟؟”
ربت ماجد أعلى الحقيبة بفخر :
” عيب عليك، جبت كل الاكل اللي بنحبه، مش هيبقى سَم بدن وسدة نفس ”
ضحك محمود بقوة وهو يميل على ماجد يقبل وجنته بقوة، وماجد يضمه بذراعه في حب شديد، فما لديه في هذه الحياة اغلى منه!!
صغيره الحبيب وفخره، لم يكن يومًا ليتمنى أن يكون لديه ابن افضل من محمود .
_________________________
” طب تحبي نروح في حتة معينة، أي حاجة ممكن تفرد وشك بدل ما هو مكشر كده ؟؟”
نظرت له ميمو ثواني، قبل أن تستند على النافذة دون أن ترد بكلمة، معلنة بذلك إضرابها عن أي تواصل في الوقت الحالي .
وصلاح ذلك المسكين الذي يحاول أن يعيدها لما كانت عليه قبل دخولها لذلك الزقاق الذي بدا كما لو أنه مفتوح على عالم موازي كئيب أخذ منه ميمو خاصته ببسمتها الجميلة، وألقى في وجهه تلك المنطفئة .
” طب قوليلي اعمل ايه وتكوني كويسة؟! ”
نظرت له ميمو نظرات ضبابية قبل أن تهمس بصوت منخفض موجوع :
” احيانا بيوسوس ليا شيطان إن كل اللي حصلي ده كتير اوي ومكنتش استحق اعيش كل ده، إني المفروض دلوقتي اكون عايشة في بيتي ومع اهلي في سعادة ”
هبطت دمعة موجوعة تتنافى مع تلك البسمة المرتسمة أعلى شفتيها :
” احيانا بفكر إن بابا لو مكانش كده، هل كان ممكن دلوقتي اكون حققت حلم ماما وبقيت مذيعة كبيرة !!”
شعر صلاح بوجعها يتسرب له، معيدة عليه تساؤلات قضى ليالي يتقلب وهو يطرحها على عقله، ليالي قضاها يضم له صالح بعد كابوس راوده، يربت أعلى ظهره وعيونه شاخصة في اللاشيء يفكر ماذا كان سيحدث لو أنه كان هناك ؟! ماذا لو كان هو من تلقى تلك الصدمة بدلًا من صالح ؟!
” فيه ايام كتير اوي كنت بفكر لو الشاب ده مدخلش بيتنا وقتل امي، هل يا ترى كنت هبقى هنا بحارب في اللاشيء لأجل انتقامي، ولا هكون قاعد في مكتبي مش شايل هم حد ولا بفكر في مشاكل حد ”
نظرت له ميمو من بين دموعها بتعجب، تلك كانت المرة الأولى التي يأتي فيها صلاح على ذكر والدته بهذا الشكل، هل قُتلت ؟!
نظر لها ببسمة صغيرة وقد قرأ السؤال المطروح في عيونها، لكنه لم يستطع أن يتعمق بتلك النقطة أكثر، لتتفهم هي تهربه بعينيه وتقول بهدوء :
” ولما بتحس كده بتعمل ايه عشان تستريح ؟!”
عاد بنظره لها وقال ببساطة :
” بروح على صالح احضنه وبعدين انام وانا متأكد إن ربنا هيعوضني أنا وهو خير”
صمت، ثم حدق في وجهها بنظرات مفهومة لها :
” لكن مؤخرًا لما بقيت بفتكر اللي حصل او بزعل بقى فيه شيء اضافي لوجود صالح هو اللي بيهون عليا، شيء كل ما افكر فيه احس إن قريب هفرح ”
علت نظرة فضول غريبة أعين ميمو، تحدق في وجهه بترقب لمعرفة ذلك الشيء الذي اصبح سلوانه في الآونة الأخيرة، وضربات قلبها تعلو بقوة كأنها تخبرها أنها في داخلها تدرك جيدًا ذلك الشيء ..
وصلاح ذلك الخبيث لم يعطها ما ترنو إليه من نظراتها، بل بكل بساطة واراه خلف نظرات حنونة هادئة وهو يتساءل لصرف انتباهها :
” أنتِ بقى لما كنتِ بتزعلي وأنتِ صغيرة كنتِ بتعملي ايه؟!”
تلاشت نظرات الفضول شيئًا فشيء، ومجددًا عادت بسمتها ترتسم على فمها باتساع وحنين شديد :
” كل ما ما كنت بزعل، كنت بقول لنادر أو مازن وبيجبوا ليا آيس كريم ”
ضحك صلاح ضحكة صغيرة يتحرك بالسيارة اسرع :
” بس كده ؟؟ ده أنتِ كنتِ طفلة قنوعة جدًا، ده صالح لما كان بيزعل أو يعيط وهو صغير مكانش يهدى إلا لما يصرف مصروفي ومصروفه على البيبس والحلويات، وفي الآخر بعد ما يخلص اكل يرمي نفسه على السرير ويكمل عياط، ويفضل يشتكي قد ايه هو طفل مسكين مقهور والدنيا جاية عليه ”
ضحكت ميمو وهي تهز رأسها بيأس على ما يقول :
” صالح اخوك ده توليفة عجيبة والله، مش طبيعي لسانه وكلامه، مفيش انسان طبيعي بيعيش كده”
” لا فيه، صالح عايش كده من سنين وشايف أنه زي الفل، بس مسيره هيجليه يوم يتعلم فيه ازاي يلم لسانه ”
أنهى حديثه، ينظر على جانبي الطريق باهتمام شديد، بينما هي ابتسمت و عادت لصمتها مجددًا لا تدرك ما يفعل، حتى شعرت بتوقف السيارة، نظرت للمحيط تستكشف اين توقفوا، لكن صوت غلق باب السيارة اخرجها من ذلك وهي تسمع صوت صلاح يردد :
” استنيني لحظة وراجع ”
نظرت له بعدم فهم :
” رايح فين ؟؟ ”
سار صلاح بظهره وهو يشير لها في حركة مسرحية على أحد المحلات الصغيرة خلفه :
” هجبلك آيس كريم يا مودمزيل ”
فتحت ميمو عيونها بصدمة، لم تتوقع أن يأخذ حديثها على محمل الجد بهذا الشكل ويسارع لتنفيذه، لكن صلاح كل ما فعله هو أنه غمز لها وقال :
” بس مش معنى كده انك تعتبريني زي مازن أو نادر”
ضحكت عليه بصوت مرتفع لتنتعش ضربات قلب صلاح واخيرًا وتعود لمسارها الطبيعي بعدما أبصر إشراقة بسمة جديدة بعد عواصف حزنها ..
ورغم أنه لم يكتفي بهذا المشهد، إلا أنه استدار ليحضر لها ما تريد وكله أمل، أنه يومًا ما سيخترق ذلك السد الذي تحيط به نفسها وينتزعها من أحزانها ..
_______________________________
ها هو يفعلها للمرة التي لا تعلم عددها، يقتحم العيادة كفرقة مكافحة الارهاب، يجذب مريضها ويأمره أن يأخذ ميعادًا آخر من المساعدة الشخصية الخاصة بها، ثم يلقي بنفسه أعلى مقعد المرضى ويتنهد بصوت مرتفع .
كل ذلك وهي لم تحرك ساكنًا، بل استمرت تدون ما كانت تفعل قبل دخوله وكأنه ما وطأ المكتب، وبعد أن انتهت نهضت تخرج من المكتب حاملة حقيبتها، ثم توجهت صوب مكتب الممرضة حيث كان مريضها الذي طُرد لتوه يصرخ ويعترض عما حدث..
ابتسمت زهرة بلطف شديد :
” اتفضل يا استاذ رضا دي الأدوية الجديدة اللي هتمشي عليها لغاية معاد الجلسة الجاية، وبعتذر على اللي حصل بس الاستاذ اللي دخل المكتب حالته مستعجلة شوية، ارجو تقدر الموقف ”
وسريعًا تبدد غضب الرجل وهو يمنحها بسمة متفهمة :
” ولا يهمك يا دكتور ربنا يعينك يارب، عن اذنك ”
ابتسمت له زهرة، ثم نظرت للمساعدة الشخصية الخاصة بها تقول بهدوء شديد :
” كده باقي حد يا تيسير ؟!”
” لا يا دكتور مفيش حد انهاردة غير الحالة اللي دخلت من شوية ”
ابتسمت لها زهرة تنزع معطفها واضعة إياه على مكتب تيسيير تردد بهدوء شديد :
” لا الاستاذ مش حالة، الاستاذ جاي يهزر بس ”
ختمت جملتها وهي تعدل من وضعية ثيابها تتجهز للرحيل، لكن قبل أن تخرج من المكان بأكمله قالت ببساطة :
” معلش يا تيسير لما الباشا اللي جوا يصحى قفلي العيادة وروحي ”
هزت تيسير رأسها لتمنحها زهرة بسمة صغيرة وهي تغادر بلا اهتمام بسعيد أو بما يفعل، هي ملت تلك اللعبة، وإن كان الصراخ والتهديدات والتحذيرات لم يأتوا بثمارٍ معه، إذن ستتبع نهج جديد، ستتجاهله بكل بساطة …
صعدت للسيارة تتحرك بها من المكان بأكمله تحاول أن تتنفس لتهدأ بعد يوم طويل ملئ بالضغوطات والحالات، تشعر أنها تحتاج لاستشارة عاجلة كي لا تقع تحت وطأة ما تعالجه، فأحيانًا يحتاج الطبيب النفسي لطبيب آخر يسمعه ويفرغ له بما حمله طوال عمله …
زفرت بملل شديد تلمح سيارة تتبعها، ولم تكن بحاجة للتفكير لتعلم من هو قائد تلك السيارة، ورغم أن ذلك الموقف أثار حنقها، إلا أنه أيضًا رسم بسمة صغيرة أعلى فمها تتذكر موقفًا مشابهًا له ..
” يا ابني أنت مش هتبطل تمشي ورايا ؟؟ والله العظيم المرة الجاية هنادي ليك امن الجامعة ”
توقف سعيد بصدمة من طريقتها تلك في الصراخ عليه، حكّ شعره قليلًا بتوتر :
” أنا والله مش قصدي ازعجك، أنا بس كنت عايز اتعرف ”
رفعت زهرة حاجبها ساخرة :
” وهو أنك تمشي ورايا كل يوم في الجامعة ده مش ازعاج بالنسبة ليك؟؟ بعدين مين قالك اني عايزة اتعرف عليك ؟؟ أنت مين اساسا عشان اقف واتعرف عليك ؟!”
مدّ سعيد يده بسرعة كبيرة ولهفة :
” أنا سعيد الاشموني زميلك هنا في تجارة، شوفتك من اسبوعين كده في ساحة تجارة و…”
ضربت زهرة يده الممدودة بكتباها السميك ليجذب سعيد يده متأوهًا بنزق وهي تردد بأعين مشتعلة :
” يا اخي يا ريتني ما روحت ساحة تجارة، كل ده عشان اجرب سندوتش سجق وياريته كان يستحق ”
ابتسم سعيد مقترحًا بحماس شديد :
” لو بتحبي السجق اوي كده انا ممكن اشتريلك سندوتشات سجق كتير وكويسة، في مطعم في وسط البلد بيعمل ..”
لكن زهرة قاطعته وهي تقول منهية ذلك الحوار الذي يتكرر معها يوميًا لكن مع تغير الشباب، الجميع يأتي هنا للدراسة عدا بعض الشباب الذين يأتون للتسكع ومرافقة الفتيات، وهي بحمقها ونظراتها البلهاء وثيابها التي توحي لك بسذاجة من يرتديها، كانت صيدًا ثمينًا لمثل ذلك النوع من الشباب .
” اسمع يا استاذ سعيد، يا ريت متقاطعش طريقي تاني عشان المرة الجاية هعملك مصيبة سامع ؟!”
” طب والسجق ؟!”
” ابقى كله انت”
أنهت حديثها تتحرك من أمامه بحنق شديد وهو يتابعها ببسمة بلهاء يراقب ذلك الفستان اللطيف وتسريحة شعرها المنمقة، ومشيتها الهادئة ليقول ببسمة وصوت مرتفع :
” خلاص بكرة هجيب ليا أنا وأنتِ وناكله سوا ”
وقد كان في اليوم التالي قفز سعيد أمامها بالعديد والعديد من شطائر السجق وهو يركض خلفها في الجامعة يحاول أن يقنعها بتناوله معها، ومن ثم أصبح كل يوم يقفز لها بالورود والسجق، يسير خلفها في كل مكان، مبرزًا إعجابه بها، متغاضيًا عن أي فتاة سقطت صريعة هواه، ونالت عيناه وملامحه الوسيمة منها، متحججًا بأنه وجد زهرته واكتفى بها ..
لتنجذب له زهرة دون إرادة، انجذبت لـ لطفه وبسماته ومرحه، انجذبت له كما الفراشة للنيران، ومر عام آخر استغله سعيد أيما استغلال ليوقعها فيه حتى غرقت بلا سترة نجاة، لكن دون أن تظهر ذلك.
حتى اختفى فترة وعلمت من الجميع أن والدته مرضت بشدة؛ لذلك أصبح يتغيب، ليعود بعدها سعيد شخص آخر بملامح أكثر سوداوية ووجه مقتضب، لم يعد يلاحقها بجسده، بل فقط اكتفى أن يفعل بعيونه، حتى تخرجت وعلمت بسفره، ومن ثم وفاة والده وحين عودته، بدأ جحيمها مع سعيد آخر، سعيد أكثر اصرارًا على الحصول عليها …..
فاقت زهرة على صوت ارتفاع زمور سيارة خلفها لتشعر بغضبها يعلو أكثر وأكثر، ماذا ؟؟ ألم تتعهد لنفسها منذ دقائق معدودة بأن تتبع معه اسلوب التجاهل لتنجو من شِركه ؟؟ ما بال عقلها الآن قد بدأ يجهز لاشعال الحرائق ؟؟
سمعت صوت يأتيها من سيارة سعيد التي جاورتها دون شعور منها :
” ايه يا قلبي كده تسيبيني نايم في العيادة لوحدي وتمشي ؟؟ هونت عليكِ؟؟ طب حتى كنتِ جبتي غطا بدل ما أنا البرد اكل عضمي ”
نظرت له زهرة ثواني بلا اهتمام ظاهري، ثم قالت بهدوء شديد :
” ألف سلامة عليك، ابقى شوف دكتور ”
” ما أنا كنت جايلك يا دكتورة، اصل انا بقالي يومين وانا الصداع هيموتني، تنصحيني بأيه ؟!”
اجابته زهرة بحنق شديد اخفته جيدًا أسفل نظراتها :
” انصحك تخف ثقالة وأنت هتبقى زي الفل ”
” طب مفيش حل تاني؟؟ زي مثلا اني اربي زهرة في بيتي ؟؟”
ابتسمت زهرة بسمة جانبية ساخرة :
” والله زهرة مش مستنية تربية، ولو مستنية هتكون آخر شخص يعمل كده يا سعيد، أنت شخص غير مؤهل لتربية الزهور يا سعيد”
” ليه، ده انا حتى بحب الزهور”
حدقت في وجهه واخيرًا :
” حبك للزهور مش كفاية، محتاج تأمن ليها بيئة مناسبة وإلا هتدبل منك مهما كنت عاشق ليها، وأنا وأنت عارفين اوي البيئة اللي أنت عايش فيها عاملة ازاي ”
صمت سعيد وهو ينظر لها بتفكير قبل أن يقول بغموض :
” ولو غيرت البيئة هتوافقي ؟!”
ابتسمت ببرود تهز رأسها :
” محتاج اكتر من تغيير البيئة يا سعيد، لأن حتى لما تغير البيئة بتاعتك، وتروح بيئة جديدة هتفسدها، لأنك مغيرتش من نفسك قبل ما تغير بيئتك ”
أنهت حديثها وهي تزيد من سرعة سيارته لتبتعد عنه لكنه سارع بالقول :
” أنا مكنتش بسألك يا زهرة، أنا فعلا هغير البيئة وهتكوني معايا وقتها ”
ضحكت زهرة بصوت مرتفع :
” احلم، الاحلام ببلاش يا سعيد ”
وبمجرد انتهاء جملتها عادت فجأة بسيارتها في شكل غريب، ومن ثم التفت خلف سيارة سعيد لتصدمها بقوة من الخلف وبغيظ مكبوت مرتين متتالتين، ثم أسرعت مرة أخرى بالسيارة وسبقته وهي تقول بصوت مرتفع :
المرة الجاية مش هتكون عربيتك هي اللي قدام عجلاتي يا سعيد ”
راقب سعيد رحيلها وهو يصفر بإعجاب شديد لتلك الشراسة الواضحة في تصرفات زهرة :
” فداكِ العربية يا روحي المرة الجاية هجبلك واحدة غيرها تخبطي فيها ”
أنهى حديثه وهو يسرع صوب منزله وعيونه تلتمع بنظرات مريبة …
________________________
شعرت رانيا بالأرض تدور بها، لتفكر في لحظة عن الوقت الذي قد تستغرقه لحفر الأرض أسفلها ودفن نفسها قبل أن يصل لها إخوتها الذين اتسعت أعينهم بصدمة وكان أول من تحدث فيهم هو كابوسها الأكبر.
” صالح ؟؟؟ ده ايه ده ؟؟؟ يعني ايه صالح ده ؟!”
ابتلعت رانيا ريقها تتراجع ببطء حتى أخفت جسدها خلف والدها الذي كان هو أيضًا يحدق فيها مصدومًا من معرفتها لشاب وهي التي عاشت عمرها خلف أسوار شاهقة تعلوها لافتة واضحة خُطّ عليها ( ممنوع دخول الرجال ) .
جذب صالح وجه محمد له بعدما كان يوجه اسئلته المتتالية لرانيا دون أن يمنح لها فرصة الرد، يقول بجدية :
” خليك معايا هنا وانا هقولك يعني ايه صالح ده ؟!”
نظر له محمد بشر يبعد يد صالح عنه صارخًا :
” أنت متدخلش بيني وبين اختي، بعدين أنت لسه واقف هنا ليه ؟؟ اتفضل أخرج معندناش بنات للجواز”
نظر صالح لرؤوف الذي كان يتابع كل ذلك بحيرة لا يدري أي ردة فعل يجب أن يتخذها، وتمسك رانيا به بقوة يوتره …
لكن صوت صالح أخرجه من كل ذلك وهو يبعد يد جبريل عنه نافضًا إياها بلا اهتمام :
” ايه يا ابو محمد مربتش عيالك ليه ؟؟ من وقت ما جيت وهما لافين حواليا زي النحل، مش عارف اتكلم معاهم زي الناس ”
نظر رؤوف لابنائه بتحذير :
” عاجبكم كده ؟؟ ابعدوا عن الراجل خلينا نتكلم ”
اعترض عبدالله بحنق :
” نتكلم في ايه ؟؟ الموضوع منهي، حضرتك عارف أن رانيا مش هتتجوز دلوقتي ”
وافقه عبدالجواد وداخله تشتعل غيرة حارقة على شقيقته وفكرة أن يسرقها أحدهم منه تقتله، خاصة الأن ومع هذا الشاب _ ذو الوجه المألوف_ والذي ثبت أن رانيا تعرفه .
ومحمد كان فقط يرمق صالح ورانيا بنظرات مخيفة، ليخرج عن صمته متسائلًا :
” أنا لسه معرفتش إجابة سؤالي، مين صالح ده ؟؟ وتعرفيه منين ؟؟”
ابتسم صالح يرفع عن رانيا الحرج مجيبًا للمرة الثانية على سؤال محمد :
” ما هو لو نقعد ونتكلم زي البشر هتعرف مين صالح وهتعرف كل اللي عايزة، إنما انت من وقت ما أنا دخلت وأنت واقف زي الحارس المرمى اللي مستنى أي مصيبة تترمي عليه عشان يردها تاني ”
اشتد غضب محمد من تدخله للمرة الثانية بينه وبين أخته، واشتعل فتيل الغيظ في أعينه وهو يسحب صالح من تلابيب ثيابه مرددًا بفحيح :
” أنت اساسا مين عشان اقعد معاك واتكلم زي البشر ؟؟ أنت تاخد نفسك وتمشي من هنا قبل ما انسى أنك في بيتي واهينك اكتر من كده سامع ؟؟ ”
ابتسم له صالح يبعد يده بقوة :
” والله ويشهد ربنا إني كنت جاي وناوي اتعامل معاكم باحترام عشان العيش والملح اللي هيبقى بينا وباعتبار أنك هتكون خال الاولاد، لكن واضح كده انك مش حابب نتفاهم ”
نظر صالح لرانيا التي كانت تختفي خلف والدها تنظر له بتردد نظرات مختطفة متوارية عن أعين الجميع، ليبتسم لها غامزًا هو الآخر غمزة استطاعت الاختفاء بمهارة عن أعين إخوتها ومن ثم استدار صوب والدها وقال :
” اقدر اجي لحضرتك اتكلم امتى بهدوء ؟؟”
وبمجرد نطق تلك الكلمة حلق الأربعة حوله ليزفر بضيق وقد مل الأمر :
” هو أنتم ما بتصدقوا انطق كلمة عشان تلفوا حواليا؟! مش كده يا حبايبي سيبوا مسافة عشان النفس ”
جذبه جبريل يقول بشر :
” محمد حذرك كتير بس الظاهر أنك مش بتفهم، اختنا دي تنساها وتبعد عن هنا واياك، سامع اياك نشوفك قريب من البيت ده تاني ”
ختم كلماته يجذب صالح للخارج، والاخير قرر أن يخرج في تلك اللحظة حتى لا يزيدها على رانيا، فكل فعل سيصدر منه، سيكون له بالمقابل ردة فعل على رانيا .
لكن وقبل أن يخطو خارج الغرفة انكب يعانق رؤوف الذي صُدم منه وقبل أن يتساءل عما يفعل سمع صوت صالح يربت على ظهره وهو يقول :
” أنا واثق فيك يا حمايا أنك هتنقذ الهبلة اللي وراك دي من شوية التيران اللي مخلفهم، خلي بالك هروح اجيب ابويا واخويا واجي نتفق على العفش ”
أنهى حديثه يقبل رؤوف الذي فتح عيونه بصدمة، و يغمز لرانيا التي فغرت فاهها بصدمة كبيرة لا تصدق ما يقول، صالح جاء لخطبتها هي ؟؟ في أي عالم هم ؟! ما الذي حدث ؟؟
خرج صالح من الغرفة وهو يرفع يديه في الهواء يردد ببسمة واسعة :
” ماشي يا شوية همج، بس راجع تاني، والمرة الجاية هجيب المطوة بتاعتي معايا عشان اشكالكم دي أنا عارفها كويس ”
سار ببرود شديد صوب الخارج وهو يصفر بشكل مسموع للجميع في اللحظة، يغني بصوت مرتفع يعلو أكثر وأكثر وكأنه يقصد إيصال رسالة شديدة اللهجة، ورغم أن صالح لم يكن من ذلك النوع الحالم لسماع تلك الأغاني إلا أن جلسته مع محمود افادته الآن وهو يردد باندماج :
” بتحدى العالم كله وانا وياك
وبقول للدنيا بحالها إن انا بهواك
وانت حبيبي وقلبي وروحي معاك
قربني ليك .. سبني اعيش احساس هواك ”
في تلك اللحظة اشتعلت أعين محمد الذي أطلق سبة نابية وهو يركض للخارج وخلفه جبريل الذي أطلق توعدًا شديد اللهجة، لكن الاثنان خاب املهما حينما سمعا صوت اغلاق الباب بقوة وعنف شديد، ومن ثم صوت تحرك سيارة بعيد عن منزلهم .
تنفس محمد بشر يعود ادراجه صوب غرفة الضيوف حيث الجميع، وحينما خطى لها وجد أن عبدالله وعبدالجواد قد جهزا الجلسة لاستجواب رانيا مجلسين إياها على مقعد أمام الأريكة وجلسوا ينظرون لها بترقب .
صدر صوت محمد :
” دلوقتي بقى عايز اعرف كل اللي حصل ومين الحيوان ده ويعرفك منين، والأهم انتِ تعرفيه منين ؟؟”
أنهى محمد جملته وهو يميل على المقعد يمسك به محدقًا في أعين رانيا التي ابتلعت ريقها تنظر حولها للجميع، قبل أن تبتسم بغباء بسمة لهم …
وفي الخارج وحينما تحرك صالح بالسيارة أخرج هاتفه يجري اتصالًا مهمًا، وبعد ثواني تحدث بجدية يخرج من محيط منزل رانيا :
” الو يا حاج اخبارك ايه ؟!”
صمت يسمع رد والده :
” والله وأنت كمان يا حاج واحشني، لكن أنا متصل بيك عشان افرحك ”
تنحنح قبل أن يضيف بمشاكسة :
” اصل انا قررت أخطب وكنت عايزك يعني تيجي معايا لبيت العروسة ”
تشنج وهو يستمع لجملة والده الذي قال :
” مين اللي بيتكلم ؟؟ صلاح ؟؟ هتخطب يا بني ؟؟”
” صلاح مين يا حاج أنا صالح، هو أنت مش مسجل رقمي ولا ايه ؟؟”
” صالح مين ؟؟ صالح ابني أنا ؟؟ عايز تخطب ؟؟ ليه ؟!
نفخ صالح بحنق من نبرة والده المصدومة ليس وكأنه عشّم الجميع بأن يظل راهبًا طوال حياته :
” أيوة يا حاج صالح ابنك، وليه، فعشان حسيت إني قربت انقرض وقولت لازم اتكاثر، ولقيت بنت الحلال خلاص ”
” مين دي؟؟ وهو أنت بتعمر مع أي بنت ؟! اوعى تقولي رجعت لسجدة ”
انكمشت ملامح صالح بحنق شديد حين ذكر سجدة في الحديث، وهو من تجاهلها منذ شهور طويلة:
” سجدة مين بس يا حاج ؟! لا دي واحدة تانية كده ”
” مين دي وبنت مين ؟! مين أهلها ؟! ”
ابتسم صالح بسمة واسعة :
” لا من الناحية دي فاطمن يا حاج أهلها ناس محترمين على قدهم وماشيين جنب الحيط، ومش بتوع مشاكل أبدًا ده انا روحت ليهم زيارة بس عشان امهد الموضوع كانوا هيشلوني من على الأرض شيل والله، بص أنا مش هتكلم كتير أنت تيجي بنفسك وتشوفهم ”
وصل له صوت والده الذي يبدو كما لو أنه أحب تلك الفكرة، صالح ولده الذي فقد الامل به يريد أن يخطب ويتزوج، وايضًا فتاة من عائلة جيدة محترمة، هل يحلم ؟؟
” ماشي يا بني شوف معاد مع اهلها وانا هاجي نتقدم ليها، ده يوم المنى ياحبيبي ”
” تسلم يا حاج، هظبط الدنيا واكلمك …”
ألقى الهاتف جواره وهو يبتسم بسمة واسعة لا يدري سببها أو هل ما فعله هو الصحيح ؟! وكانت إجابة قلبه هي نعم، الآن فقط شعر بالارتياح، ارتياح بدد حيرة كانت تقتات عليه منذ علم بسفر رانيا وابتعادها عنه، لا يدرك أحبًا ما يكنه لها أم مجرد تعلق، لكن يدرك جيدًا أنه ايًا كانت مشاعره نحو رانيا فهو لن يتخلى أبدًا عن تلك الراحة التي كان منبعها فكرة ( أن رانيا ستصبح له ) .
_____________________
كان يحمل المثلجات بحرص شديد وكأنه يحمل بين يديه قوارير غالية، ابتسم حينما وصل أمام السيارة ليميل نصف ميلة يردد أمام نافذة ميمو يراقص حاجبيه :
” مساء الخير يا مودمزيل طلبتي آيس كريم ”
ابتسمت له ميمو بامتنان، تخرج من السيارة تمد يديها لتأخذ من بين يده المثلجات، لكن فجأة قطع طريق يدها يد أخرى تدفعها جانبًا بقوة حتى سقطت على السيارة بأعين متسعة .
فتح صلاح فمه وهو ينظر لها بخوف من أن تكون قد تأذت، لكن صاحب اليد التي دفعتها وقف بينها يمد له كتاب خاص به :
” ممكن توقيع هنا ؟؟ أنا كنت بقرأ الكتاب ده في العربية وشوفتك وأنت داخل المحل ده مصدقتش عيوني، فكرت اني بتخيل ”
مال صلاح بجسده جانبًا ينظر إلى ميمو التي اعتدلت في وقفتها ترمق ما يحدث بتهكم شديد، لكن الفتاة لم تنتبه لكل ذلك بسبب حماسها الشديد.
ابتسم لها صلاح بسمة صغيرة هادئة :
” ليا الشرف طبعًا يا آنسة لكن للاسف أنا ..”
قطع حديثه ينظر ليديه اللتين تحملان المثلجات، لكن الفتاة لم تفقه لاشارته وهي تخرج من جيب بنطالها شيء:
” أنا معايا قلم اهو ”
” تمام، بس المشكلة مش في القلم، أنا ماسك الايس كريم و..”
قاطعته الفتاة تأخذ منه أحد المثلجات، ثم مدت له القلم بلهفة :
” وقع ليا باسم ميرا، أنا كنت جيت قبل كده لحضرتك المعرض بس للاسف اول ما وصلت الدار قالولي أنك مشيت، يا ريتني كنت جبت باقية الروايات والكتب تمضي عليهم ”
كانت الفتاة تتحدث باندماج شديد وعفوية كبيرة لدرجة أنها أخذت تتناول من المثلجات دون شعور وهي تراقب صلاح يضع الكتاب أعلى سيارته ويكتب عليه كلمات راقية بخط منمق كشخصيته .
كل ذلك وميمو تراقب ما يحدث ببلاهة، حتى انتفضت فجأة من الفتاة التي ألقت هاتف بين أحضانها :
” معلش ممكن تاخدي لينا صورة سوا ؟؟”
نظرت ميمو للهاتف وهي ترمش بعدم فهم، ثم رفعت عيونها لصلاح الذي ابتسم لها بسمة صغيرة يشجعها على فعل ما تريده الفتاة، زفرت ميمو بحنق، ترفع الهاتف ولم تكد تلتقط الصورة حتى رأت الفتاة اقتربت من صلاح بغية احتضانه ..
فجأة انتفض صلاح صارخًا بردة فعل طبيعية :
” ايه فيه ايه ؟؟”
احمر وجه الفتاة خجلًا وقد اتسعت عيونها ترفع يديها في الهواء :
” أنا آسفة والله، غصب عني أنا بس عشان متعودة اني طول الوقت بتصور مع بنات و…مكانش قصدي والله ”
نظر لها صلاح بحذر، يحاول أن يخفف من خجلها الذي زاده هو بردة فعله، ابتلع ريقه يقترب منها مرددًا بهدوء :
” ولا يهمك، حصل خير، اهدي ”
نظرت له الفتاة بخجل شديد تكاد تبكي :
” والله ما كان قصدي أنا بس سرحت متعودة اتصور وانا حاضنة صحابي ”
أدرك صلاح مقدار طيش الفتاة وعفويتها، لذلك تغاضى عن الأمر محاولًا إخراجها من حالتها تلك ممازحًا :
” خلاص يا آنسة حصل خير، يلا ناخد الصورة قبل ما الايس كريم يسيح ”
ابتسمت الفتاة بسمة واسعة وهي تنظر للهاتف وكذلك فعل صلاح الذي استوعب فجأة حينما رأى المصور أن ميمو معهم، ابتسمت له ميمو بسمة واسعة سخيفة قبل أن تلتقط لهم عدة صورة ومن أعطت الفتاة الهاتف والتي حملته ورحلت وهي تقول ببسمة :
” بجد أنت لطيف اوي اوي، شكرا اوي على الايس كريم ”
ومن ثم رحلت الفتاة مخلفة ورائها عاصفة تكاد تنتزع جذور صلاح من هذه الحياة، ابتسم صلاح بسمة صغيرة يحك رأسه بتردد من ملامح ميمو المقتضبة.
ابتلع ريقه يقدم لها المثلجات، لتتقبلها منه ببسمة واسعة تردد بصوت رقيق مضحك :
” بجد أنت لطيف اوي اوي، شكرا على الايس كريم ”
شعر صلاح بالتهكم المبطن في صوتها، لكنه حاول ألا يضغط على تلك النقطة وهو يقول ببساطة وبسمة :
” العفو على ايه ”
وضعت ميمو المثلجات في فمها بقوة، ثم أدخلت رأسها من النافذة تلتقط حقيبتها، وبعدها وقفت تنزع المثلجات من فمها مجددًا تقول بغضب :
” المرة الجاية ابقى احضنها ومتكسفش البنت يا حنين ”
رفع صلاح حاجبه :
” أنا مش فاهم فيه ايه !! البنت اتوترت ونسيت عادي يعني بتحصل كتير ”
” بتحصل كتير ؟؟؟”
وتلك النبرة المنخفضة أثارت ريبة صلاح الذي تراجع عن جملته :
” لا مش معايا، أنا قصدي يعني في العموم بتحصل كتير و…”
لكنه لم يكمل جملته وهو يرى ملامح ميمو قد اشتغلت بالغضب أكثر تضربه بالحقيبة في رأسه بخفة :
” أنت مينفعش معاك غير صالح يسففك التراب عشان يتصور ”
أنهت حديثها تنطلق للطريق توقف سيارة وتصعد لها دون حتى أن تنظر خلفها لصلاح الذي كان يفتح فمه بيلاهة لا يفهم ما حدث منذ ثواني، نظر لأثر السيارة التي رحلت، لكن فجأة انقشع فمه عن بسمة واسعة، يخبر نفسه بغيرتها، وهو يصعد لسيارته يلحق بها :
” وانا مالي بصالح، أنا عايز اتصور البوم فرحي …”
_________________________
كان يسير في ممرات المركز الذي يعمل به وعلى فمه مرتسمة بسمة واسعة، قلبه يركض أمامه يريد أن يسبقه ليصل إلى مراده، فحينما علم من رفيقه أن اللواء قد عاد للمركز في وقت متأخر من الليل سعد كثيرًا وجاء يزفه ما وصل له .
توقف أمام باب المكتب وقبل أن يمد يده لطرق الباب وصل له صوت ليس بالغريب مطلقًا وهو يردد :
” يا فندم أنا بعمل كل اللي بيتأمر مني، ازاي بس اتنقل لمركز تاني، أنا غلطت في ايه عشان كده ؟؟”
فتح رائد عيونه بصدمة مما يسمع، محسن مدلل المركز بأكمله سيتم استبعاده من المكان ؟! ما الذي حدث في هذه الحياة، هل تركه زوج خالته العزيز والذي يمطره بالتوصيات وغيرهم ليتم ترقيته دون جهد.
وكم اسعد قلب رائد أن يتم معاملة محسن كعامة الشعب هنا، لكن تُرى ما الذي شحذ غضب اللواء ضده ؟!
واتاه الرد من فوره حينما استمع لصوت اللواء يقول :
” أنت تحمد ربنا أنك متحولتش للتحقيق بسبب عملتك، بقى يا حضرة الظابك تتقفش بحشيش في كمين ؟؟ ولولا معارف جوز خالتك كان ظابط الكمين اتسبب ليك بوقف عن العمل ”
رفع رائد حاجبه بحنق، حتى وهو يُوبخ، يتم توبيخه باحترام لأجل عيون زوج خالته، ما هذا الدلال ؟!
مسح وجهه وقرر العودة لمكتبه لحين انتهاء اللواء من محسن وحتى يرتب أوراقه قبل أن يخبره بما عمل عليه الايام السابقة في صمت شديد .
ارتسمت بسمة ماكرة أعلى وجهه وهو يدخل مكتبه، ثم ألقى جسده أعلى مقعده يعيد الايام السابقة في رأسه، هو ما كان ليضيع يومًا له عبثًا ما كان ليتركهم يفلتون بفعلتهم بهذه السهولة، والآن ها هو على أعتاب إنهاء تلك المهمة ووضع نقطة في نهاية الحكاية .
ابتسم بتمني، قبل أن يستمع صوت العسكري يدخل يؤدي له التحية العسكرية بكل احترام :
” اللواء طالب حضرتك يا فندم ”
نهض رائد من مقعده يتحرك خلف العسكري، ثم تركه وسار منفردًا صوب مكتب اللواء وفي طريقه أبصر محسن الذي كان لأول مرة يدفن وجهه ارضًا، لكن بمجرد أن مر بجواره رأى منه نظرة غريبة لم يفهم لها معنى، لم ينظر له أو يهتم به، بل سار واثق الخطى، هو لن يضيع حياته بالتفكير في محسن ومشاكله .
طرق رائد الباب ودخل حينما سمع صوت اللواء يطلب منه الدخول .
” حضرتك طلبتني يا فندم ؟!”
رفع رأفت رأسه لرائد يرمقه بغموض أثار الريبة في قلب رائد، وقد تحفزت جميع اجزاء جسده يعتدل في وقفته ليتلقى أي اوامر شامخًا، يستمع لحديث اللواء يردد بهدوء :
” سيادة النقيب حصل مستجدات في القضية الخاصة بالعصابة ”
سارع رائد بالتحدث لما جاء لأجله، وكله أمل أن يكون ذلك بداية نجاحه المأمول :
” أنا كنت جاي لحضرتك مخصوص عشان ابلغك اني وصلت لجـ..”
قاطعه صوت رأفت يقول بجدية وهو يضم كفيه أعلى المكتب الخاص به :
” هيتم تسليم القضية لشخص تاني وأنت هتتولى مهمة غير دي، وكمان الشاهدة اللي حضرتك محتفظ بيها مبقاش ليها لازمة تقدر تخلي زمتك منها ”
ضحك رائد بعده تصديق :
” حضرتك بتتكلم جد ؟؟”
” امال ههزر معاك يا حضرة الظابط ؟!”
مسح رائد وجهه لا يفهم متى ستقرر تلك الحياة أن تضحك له، ألم تمل من الضحك عليه، ما بال الأمور كلما ظنها قد حـلت تتعقد أكثر وأكثر ؟!
” يا فندم أنا خلاص وصلت لجلال اساسا وكنت جاي اخد أمر بالتحرك عشان اقبض عليه، ثم الشاهدة اللي حضرتك بتقول عليها ملهاش لازمة تبقى خـ ”
” ميخصنيش يا حضرة الظابط كل اللي بتقوله ده، اللي قولته يتنفذ، دي أوامر ان الظابط ده يمسك القضية ”
اشتد غضب رائد وقد شعر أن الحياة تستمر في صفعه مرات وراء مرات دول كلل أو ملل :
” يا فندم يمسك قضية ايه ؟؟ أنا خلاص خلصت القضية، مبقاش فيه قضية ؟؟ ناقص بس الترقية عشان القضية تتقفل، ايه هتسلموه هو الترقية !!”
وبقايا الغضب في دماء رأفت انتفضت من أسفل رماد هدوءه وهو يضرب مكتبه بجنون صارخًا بصوت هز أرجاء المكان بأكمله :
” أنت هتجادلني في الأوامر يا حضرة الظابط؟؟ ”
ضغط رائد على شفتيه وهو ينظر أمامه بقوة قائلًا :
” العفو يا فندم، تحت امرك، هسلم كل المعلومات للظابط الجديد، ده انا عيوني ليه، أي اوامر تانية ؟؟”
أشار له رأفت بالخروج وهو يخرج هاتفه يتحدث مع أحدهم :
” أيوة يا وائل، مر الصبح على المركز عشان تستلم القضية اللي قولتلك عليها ”
في تلك اللحظة خرج رائد من المكتب وهو يرى المكان يدور من حوله وعيونه أضحت ضبابية من دخان غضبه، لا يرى أمامه شيء، كان مقدرًا أن يكون اليوم هو يوم سعده، جاء سعيدًا بخبر عثوره على جلال بعدما بذل في سبيل تلك القضية كل ما يمتلك .
دخل مكتبه والغضب عماه ليقطع تلك الاشرطة التي تزين اكتفاه يلقيها ارضًا وبعدها امسك جميع الملفات التي جمع بها المعلومات ومزقها اربًا بغضب جنوني ملقيًا إياها في سلة المهملات ومن ثم خرج وأحضر كبريت ثم أشعلها والنيران تنعكس في عينيه .
وفي ثواني كان العسكري يقتحم المكتب بخوف وهو يردد :
” فيه ايه يا فندم؟ حريق ولا ايه ؟؟”
نظر له رائد ببسمة سوداوية :
” لا متقلقش يا سامح، دول شوية ورق كل شوية يطيروا بسبب المروحة ويزعجوني فقررت احرقهم، المهم فيه ملفات مهمة خاصة بالقضية هيجي ظابط بكرة يطلبهم منك ”
أنهى رائد حديثه يتحرك صوب مكتبه يمسك ورقة بيضاء يخط عليها المعلومات التي ستساعد ذلك الضابط في إكمال المهمة والقبض على جلال، ومن ثم أعطاها لسامح وهو يقول بجدية شديدة :
” خلي بالك يا سامح لاحسن الورقة دي فيها كل المعلومات بتاعة القضية وخطيرة، سلمها بايدك للظابط اللي جاي بكرة لاني إجازة ماشي؟!”
هز سامح رأسه يراقب رحيل رائد، ليأخذه فضوله لرؤية تلك المعلومات الخطيرة التي من شأنها مساعدة الضابط في إيجاد المتهم، لكن بمجرد أن قرأ المعلومات شعر بالبلاهة تتملكه، فالورقة قد خُطّ عليها بيد رائد معلومات عن المجرم والتي كانت عبارة عن :
( الاسم : جلال……النوع : ذكر )
في الخارج صعد رائد للسيارة الخاصة به يصفر باستمتاع شديد، وقد قرر أنه لم ولن يدع أفكاره السوداء تسيطر عليه، يريدون القضية إذن ليشبعوا بها، لكنه لن يعطيهم أي شيء وصل له وليتحملوا نتيجة تحطيمه مرات ومرات، حتى وإن طُرد فهو لم يعد يهتم، انتهى الأمر …
وصل للمنزل وهبط من السيارة ليصعد الدرجات بخطوات واسعة وبمجرد أن وصل للطابق سمع صوت فتح باب الشقة المقابلة له وصوت تسبيح تردد بلهفة :
” رائد طمني عملت ايه ؟؟ بلغتهم أنك لاقيت جلال ؟؟ هتترقى صح ؟؟”
ابتسم رائد بسمة باهتة يستدير لها بعدما كان على وشك فتح الباب، ينظر لها بأعين غامضة ضبابية :
” لا الإدارة شافت أن فيه ناس اكتر مني أحق بالترقية دي”
تعجبت تسبيح حديثه، لكنها لم تأبه به كثيرًا، بل كل ما انتبهت له هو نبرته الساخرة الممازحة وهو يردد محركًا كتفيه :
” يلا حصل خير، مش اول مرة اسيب قضية في نص الطريق لحد تاني يكملها، ربنا يقدرني واساعد الشباب الصاعد بمعلوماتي اللي بجمعها في كل قضية ”
ابتسمت تسبيح بتقدير له ولما يفعله، وقد كانت الراحة واضحة في عينيه أثناء الحديث، لتقترب خطوات قليلة مرددة بمؤازرة :
” ربنا يكتر من امثالك يارب ويجعلك دائما سبيل لمساعدة الناس ”
ضحك رائد وهو يتخيل ملامحها إن علمت كيف ساعد الضابط الجديد، لكنه لم يعلق على الامر يسمعها تضيف بتوتر :
” رائد أنا …أنا عملت ليك مشاكل ؟؟ ده بسببي ؟! ”
ابتسم رائد بحنان، ثم تنفس بصوت عالي وبعدها قال :
” لا يا تسبيح مش بسببك، بالعكس أنتِ المكسب الوحيد اللي طلعت بيه من القضية دي ”
نظرت تسبيح ارضًا تفرك يديها، تود لو تمتلك ما يمكن أن يساعده الآن في تخطي محنته، وهي التي كانت ستخبره ردها بعدما استخارت الله في أمر زواجها منه، والذي رغم عدم منطقيته لها، إلا أنها شعرت بالراحة تتسرب لقلبها .
رفعت تسبيح رأسها ترى أنه كان يرمقها ببسمة صغيرة حنونة شجعتها على قول ما تريده، لكنها ترددت لثواني بسبب ما حدث له، هل هذا وقت أو مكان مناسب لإعطاء موافقة على أمر مصيري كالزواج ؟؟ أيا ليت والدها كان حيًا لكانت تدللت وأخبرته أن يسأل والدها وهو سيخبره رأيها، لكن أنّى لها بوالد الآن وقد واراه التراب ؟!
” رائد بخصوص الموضوع اللي كنت قولته قبل كده، قصدي يعني الجواز و…”
صمتت فجأة حينما تناهى لمسامعها ومسامع رائد صوتًا اجشًا رجوليًا صارمًا :
” أيوة بخصوص موضوع الجواز يا حضرة الظابط، أنا كمان جاي عشان اعرف موضوع الجواز ده ”
استدارت عين رائد للدرج فجأة يرى والده يقف وجوراه صلاح الذي صعد لتوه يشير على رقبته بعلامة الذبح، ورائد ابتلع ريقه يردد ببسمة وقد علم أن الليلة لم تنتهى بعد :
” حاج سليمان حبيبي …”
________________________
تنام قريرة العين في خيمتها، تتقلب يمينًا ويسارًا تحاول البحث عن وضعية مريحة للنوم، وهناك بسمة واسعة تتوسط فمها، قضت اجمل لحظات حياتها مع مختار الذي تفاجئت بنومه على صوت غنائها .
ابتسمت تحاول الشرود في أي شيء لتسقط في النوم وفي رأسها تعيد ذكرى أول لقاء لها مع مختار حينما كان ما يزال على اعتاب شبابه واحضرته ميمو للعمل معها بعد وفاة والدها .
كانت نيرمينا تركض في المنزل بسعادة كبيرة تحمل فوق ظهرها حقيبة المدرسة، تقفز في كل مكان كالكرة المطاطة وهي تصرخ أنها حازت شهادة تقدير من معلمتها، لكن فجأة توقفت في منتصف المنزل بخوف حينما أبصرت شاب طويل القامة يرتدي الاسود وينظر صوبها بخواء جعلها تنظر حولها بخوف تبحث عن أخيها أو ميمو، ومن ثم عادت بنظرها له لتجده ما يزال يطيل لها النظر .
” على فكرة أنا من البيت هنا ”
لكن مختار لم يبدي أي ردة فعل تجعلها تعلم أنه سمعها، لذلك تحركت ببطء صوب الداخل تمر من جواره لكن عين مختار كانت تتابعها لتقول ببسمة خوف :
” أنا بس عايزة اطلع فوق، ماشي ؟؟”
وكالعادة لا ردة فعل، صخرة لا حياة فيها .
حركت نيرمينا انظارها في المنزل قبل أن تتحرك صوب مختار بحرص شديد وفضول قادها لتتأكد من شيء في عقلها، وبمجرد أن وصلت له مدت اصبعها وغرزته في ذراعه تتأكد أنه ليس رجلًا آليًا كتلك الفتاة التي شاهدتها مؤخرًا في الاخبار، وبمجرد أن شعرت بطراوة جسده أسفل اصبعها حتى امسك مختار اصبعها بقوة لتطلق هي صرخة عالية مرتعبة أتى على إثرها ميمو برعب لتنجدها من بين يديه..
” فيه ايه يا نيمو يا قلبي، اهدي ده مختار الحارس الجديد بتاعي ”
اختبأت نيرمينا بين احضان ميمو وهي تنظر لمختار بخوف :
” ده بيبصلي، شوفي بيبصلي ازاي، هيقتلني وانا نايمة ”
ضحكت ميمو تقبل رأسها بحنان :
” يقتلك ايه بس، متقلقيش هو هنا عشان يحميكِ مش يأذيكِ، صح يا مختار ؟!”
لكن مختار لم يبدي أي ردة فعل، وميمو قالت ببساطة :
” شوفتي ؟!”
” شوفت ايه ؟؟ هو مقالش حاجة ”
جذبتها ميمو بصعوبة لتقترب من مختار وهي تقول :
” لا هو قال، قال إنه مش هيأذيكِ خالص، مختار صديقي وهيكون صديقك أنتِ كمان ”
التمعت أعين نيرمينا وهي تنظر له ببسمة واسعة تقول بلهفة مراهقة في الرابعة عشر تبحث عن رفيق لها كالجميع :
” بجد هتكون كده ؟؟”
لم يجبها مختار بحركة لتمد يدها تقول :
” أنا نيرمينا ممكن تقولي نيمو طالما هتكون صاحبي ”
لكن مختار نظر ليدها، ثم تحرك بتجاهل للخارج ونيرمينا لاحقته بنظراتها المنبهرة لطوله لتردف ببسمة واسعة :
” خلاص كده بقينا صحاب يا مختار ؟؟؟”
أفاقت نيرمينا من أفكارها الغبية والبلهاء قليلًا على صوت حركة غريبة خارج الخيمة الخاصة بها، رمشت تبحث بيديها على المصباح اليدوي لتنير به وتبحث عما يتحرك في الخارج، لكن لا شيء .
ابتلعت ريقها وقد بدأت ضربات قلبها تزداد، تحركت على ركبتيها صوب الخارج، ثم استقامت في وقفتها تتحرك بصعوبة بسبب الظلام الكثيف الذي لم يستطع كشاف الإنارة الصغير أن يبدد إلا جزء بسيط منه .
وأثناء بحثها عن مصدر ذلك الصوت سمعت صوت خطوات خلفها تزداد لتستدير وتبحث عن المتسبب في تلك الأصوات، لكن مجددًا لا شيء .
ابتلعت ريقها وقد شعرت أنها بطلة في أحد افلام الرعب، لتقرر أن تعود صوب خيمتها تحتمي بها حتى الصباح، لكن وقبل أن تفعل ارتفعت الاصوات أكثر لتشعر بالرعب داخلها يزداد وغيرت طريقها متجهة صوب خيمة مختار بخطوات سريعة تصرخ باسمه :
” مخــتــار …مخــتــار ”
لكن وقبل أن تنطق باسمه للمرة الثالثة ارتفعت صرخاتها تبدد ذلك الصمت الكئيب في المكان بأكمله ورنّ صداها في الجبال من حولها ……
______________________
بدأت الآن المرحلة التالية تحت عنوان ( جنون مضاعف ومتعة مضاعفة )
وما حدث لم يكن سوى الإحماء لبداية المعركة …

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى