روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثالث عشر 13 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثالث عشر 13 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الثالث عشر

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الثالث عشر

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الثالثة عشر

رفع الهاتف متعجبًا اتصال صلاح في ذلك الوقت المتأخر، فاخوه من ذلك النوع الذي ينام مبكرًا ليستقظ مبكرًا، واستيقاظه في هذه اللحظة لا يعني سوى وجود كارثة محتملة، وجميع أفكاره تركزت على ذلك الرجل الذي ينام في غرفته غارقًا في غيبوبة دفعه إليها محمود قسرًا .
” صلاح ؟؟”
وصل له صوت صلاح هادئًا مبددًا جزء صغير من مخاوفه :
” الو يا صالح، صحيتك ؟؟”
نظر صالح حوله بسخرية شديد :
” لا أبدًا أنا لسه منمتش اساسا ”
تنهد صلاح تنهيدة وصلت واضحة لأخيه :
” مالك يا صالح ؟؟ أنا مش عارف انام وانا حاسس أنك مش على بعضك من وقت كنت في الشقة وانا حاسك مش تمام، ودلوقتي حاسس اني مضايق، أنت كويس ؟؟”
شعر صالح بغصة تستحكم حلقه، رافضًا أن يثير خوف أخيه عليه، و أن يقلقه في مثل هذا الوقت خاصة وهو بعيد عنه، لكن جميع محاولاته بالتماسك تتلاشى أمام صلاح تحديدًا، نصفه الآخر والذي يشعر به حتى لو لم يظهر ما يضمره في نفسه…..
” صالح مالك ؟!”
خرج صوت صالح مصحوب بغصة حادة يحاول منع بكاءه من التردد على مسامع شقيقه :
” مفيش بس مخنوق شوية متقلقش ”
وصل لصالح صوت زفير عالي، تبعه صوت اغلاق باب بشكل عنيف، ومن ثم تحدث صلاح بهدوء مصطنع :
” كنت عارف إن فيه حاجة، أنا قدام بيت محمود انزل ”
تعجب صالح الأمر وهو يتحرك خارج الغرفة متوجهًا للاسفل، يعبر من أمام المطبخ وقد استغل عدم انتباه محمود الذي حشر نصف جسده في الثلاجة للبحث عن المزيد من الطعام :
” هنا ؟! بتعمل ايه في الوقت ده ؟!”
” أنا هنا قبل ما اكلمك، بس مرضتش اقولك ليكون ده بس هاجس مني واقلقك ”
فتح صالح الباب ليرى سيارة صلاح متوفقة أمام الباب وهو ينظر له بحنان مبتسمًا :
” مع إن المفروض الحركة دي اعملها مع حبيبتي، بس مش خسارة فيك ”
ابتسم صالح بسمة واسعة وهو يتحرك صوب صلاح يدس الهاتف في جيبه، ودون شعور منه ركض صوبه وعلى حين غرة القى نفسه في أحضانه بقوة كبيرة وهو ينفجر في بكاء عنيف لم يستطع إخراجه أمام محمود، لكن صلاح كان الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يظهر أمامه ذلك الطفل الصغير الذي كان يركض له حينما يناله شر، أو يصاب بوجعٍ صغير، هذا إن لم يشعر له صلاح ويركض له اولًا .
بكى صالح بقوة وهو يقول من بين كل شهقاته :
” ليه ماما …اشمعنا ماما اللي يحصل فيها كده ؟! ياريته كان أنا، يا ريتني كنت أنا اللي مت”
مسح صلاح على رأسه أخيه وهو يقبله بحنان شديد، لقد علم يقسم أنه شعر بالأمر حينما لاحظ اسوداد ملامحه في نهاية الجلسة، منع صلاح نفسه من الانغماس في موجة بكاء كأخيه :
” استغفر الله يا صالح ده قدر ومكتوب، بعدين ماما ماتت ظلم وهي في حكم شهيدة يا حبيبي، خلاص أهدى ”
تمسك به صالح بقوة وهو يزداد في البكاء وتلك الصور تتكرر أمام عيونه بشكل يقتله كل ثانية :
” لسه مش قادر، لسه حاسس روحي محبوسة في اللحظة دي، لسه شايف دمها سايح قدامي، أنا …أنا لو مكنتش وقفت كان ممكن أنقذها ”
” ده قدر ومكتوب يا صالح، وحّد الله، هي دلوقتي تلاقيها حاسة بيك وزعلانة، أنت عارف ماما مكانتش تحب تشوفك بتعيط ابدا ”
ازداد بكاء صالح أكثر وهو يتذكر حنانها وضمها له أمام أعين صلاح ووالده وهي تقول باستفزاز للجميع :
” هو فيه زي صالح حبيب أميرة، الدلوع واللي ليا، على الأقل بيقعد يسليني ويساعدني مش زيكم طول الوقت ماسكين جرايد ولا قاعدين قدام التلفزيون ترغوا، أنا طلعت من الدنيا دي بصالح بس ”
ارتجف جسد صالح بين احضان صلاح الذي كان يقبل رأسه وهو يقرأ بعض الأيات القرآنية عليه، يتذكر تلك الفترة القاسية التي مرت عليهم، مِن قتل والدته بشكل بشع شهده أخوه، ليدخل بعدها صالح في نوبة هيسترية جعلته يخشى حمل مشرط وصراخه أنه كلما لمس المشرط أي جسد رأى والدته مكانه، كان يبكي ويصرخ، وكاد يترك دراسة اختارها بنفسه، لولاه ولولا محمود الذي مهما وبخه أو صرخ به لن ينسى له يومًا ما فعله لأجل اخيه، عام كامل مر على صالح دون أن يعي من الدنيا شيء، عام كامل قضاه بين الاطباء والمصحات ليتعالج، صالح مر بالكثير وهو لن يسمح له بالعودة لتلك النقطة مجددًا ..
ابعد صلاح رأس أخيه عن كتفه ينظر له في عيونه يقول بقوة :
” أنتِ قوي يا صالح، أنت اقوى من اي حد، اقوى مني انا كمان، وانا واثق أنك هتقدر تتخطى كل ده، عشان خاطر أميرة اللي كان نفسها تشوفك سعيد في حياتك وناجح”
ابتسم صالح من بين دموعه وصوت صلاح لم يتوقف عن بث القوة له :
” فاكر أنا قولتلك ايه يوم ما دفنا ماما ؟؟”
هز صالح رأسه ليكمل بصوت خافت :
” قولتلي مش هسيب حقها ”
” وسيبته ؟؟”
نفى صالح رأسه يتذكر ما فعل صلاح بعد موت والدته، حيث نسي كل تعقله وحمل عصا ضخمة وركض لذلك المنزل الذي كان يأوي الشاب وحطمه بالكامل على رؤوس من به وهو يصرخ أنهم تسببوا في قتل والدته، ثم بدأ رحلة انتقامه منهم واحدًا تلو الآخر، فأخوه العزيز تسبب في سجن أربعة ممن كان لهم علاقة بالقاتل ومازال يكمل انتقامه….
” مش هسيبهم، ولا هسيب حق امي، أنا لسه منستش، أي واحد كان ليه علاقة من قريب أو بعيد بموتها، هخليه يندم، سامع، أنا مش هسيب حقها ”
هز صالح رأسه ليضمه صلاح مجددًا بحب :
” اتأكد إني هكون دايمًا هنا جنبك، أي وقت يا صالح، واي لحظة تحس أنك محتاج كتف تبكي عليه مش هتلاقي غيري، اوعى تبكي على كتف غيري يا صالح ”
صمت ثم أضاف وهو يمرر يده بحنان أعلى ظهره يحاول الخروج من تلك الحالة وجسد صالح ما زال يرتجف بين ذراعيه :
” خلاص بقى بتعمل كل ده عشان رانيا ماشية اروح اخطفهالك ومخليش حد يعرفلها طريق، بس متزعلش نفسك أنت ”
ضحك صالح من بين دموعه يرفع رأسه وهو ينظر لصلاح :
” اعمل كل ده عشان رانيا ليه ؟؟ من حبي فيها ”
ضحك صلاح بسخرية لاذعة :
” بالله عليك بلاش تعمل الحركتين دول عليا، واضح اوي عليك أن البنت طالعة من عينك، جو الاستفزاز وكل شوية تمشي وراها، هو نفس النهج اللي بتستخدمه مع أي حد تحبه، ولا ناسي كنت بتعمل ايه لميرو؟!”
ابتسم صالح بسمة حنين :
” هو فيه زي ميرو ؟!”
” أيوة، رانيا ”
نظر له صالح بوجه منكمش حانق وكأنه يرفض أن تُشبه أمرأة في هذه الحياة بوالدته الحبيبة، لا امرأة تشبهها، ولا في النساء مثيل لها، لكن صلاح لم يصمت، بل شرع يكمل بخبث :
” اكيد يعني أنت مش اهبل وواخد بالك اوي أن تصرفات رانيا، عنادها استفزازها، ضعفها ساعات، كل ده نفس اللي كانت بتعمله امي، ولا ناسي هي كانت عاملة ازاي ؟!”
حسنًا لحظة صراحة مع النفس، هو لم يسبق له وتواجه مع انثى بمثل دلال واستفزاز وعناد والدته، عدا رانيا التي وكأنها سحبته لعالمها دون أن يشعر بذلك.
كان صلاح يتابع تباين التعابير على وجه اخيه، ومن غيره يعلم كيف يتصرف أخيه إن شعر بحبه لشخصٍ ما، صالح الذي كان أكثر شخص اناني حينما يحب أحدهم، فهو يحبه بكامل كيانه دون منح عقله فرصة للتفكير حول ما يفعل، فقط يتصرف ما يراه سيقربه من ذلك الشخص، وفي المقابل هو يتوقع من ذلك الشخص أن يعشقه بكل ما فيه، ويتذمر أن شعر فقط أن هناك من قد يشاركه في حب ذلك الشخص، هكذا كان مع والدته، يلتصق بها كطفل ويتذمر إن شعرها تدلل أحد أبناء جيرانه، أو تعامل أحدهم كما تعامله، هو لا يعنيه أن تكون جيدة مع الآخرين، لكن لا يحب أن تعاملهم كما تعامل صالح، يحب أن ينفرد بمعاملة خاصة …..
ابتسم صالح يردد بصوت خافت :
” يمكن، بس أنت فاهم غلط، اكيد أنا محبتش رانيا في الفترة دي، خاصة إن زي ما قولت هي مستفزة عنيدة ومفيش لحظة واحدة عدت علينا بسلام زي البشر، فأكيد من بين كل البنات مش هحب واحدة مبعرفش اتكلم معاها في هدوء لثواني ”
” القط بيحب خنّاقة”
زفر صالح وقد شعر بالضيق من ذلك الحوار، هو لا يريد أن يزيد الحديث حول هذا الأمر، هي ستغادر وينتهي من كل ذلك ويعود لحياته الهادئة الهانئة المملة مجددًا ودون وجود أرق رأسه، لكن دون شعور منه يشعر بانقباض نابع من إحساسه الوشيك بالفقد، معقدة هي مشاعره، ألا يمكن أن تكون بسيطة أكثر !!
أنتبه صالح لنظرات صلاح له ليعو صوت زفراته الحانقة :
” متبصش كده، ما أنا ساكت ومش عايز اتكلم على حوارك أنت والست ام سعيد يا حنين ”
وفورًا سقطت ضربة على رأس صالح من يد صلاح الذي قال بغيظ شديد وغضب مكبوت :
” متقولش ام زفت، متجمعهاش في جملة واحدة مع الإنسان ده ”
رفع صالح حاجبه وارتسمت بسمة ماكرة على فمه فأصبح في تلك اللحظة أشبه بصلاح :
” قولتلي بقى، بتغير على الست ميمو؟؟ ناقص تقولي بتحبها و…”
” دي حقيقة ”
كاد صالح يكمل جملته لولا تلك الكلمات التي قاطعت حديثه لتتسع عينيه بشدة وهو يستدير ببطء صوب صلاح الذي كان يضع يديه في جيوب بنطاله يستند على السيارة بكل هدوء وكأنه لايعي ما أقره منذ ثواني، أو لا يهتم .
” أنت قولت ايه ؟!”
” قولت معاك حق، أنا فعلا كده ”
فغر صالح فمه اكثر واكثر :
” أنت بتتكلم كده عادي ؟؟ بكل بساطة !! أنت واعي بتقول ايه ؟!”
نظر له صلاح بطرف عيونه :
” ايه اول مرة تشوف واحد بيحب ؟؟ ”
شهق صالح بقوة يمسك صلاح من كتفيه :
” بتـ ايه ؟؟ بتحب ؟؟ ميمو ؟؟”
ابتسم صلاح بسمة واسعة :
” ولو أنا محبتش ميمو، هحب مين يعني ؟؟”
” صلاح أنت بتهزر؟؟ أنت عارفها من امتى اساسا ؟؟”
هز صلاح كتفيه دون اهتمام :
” مش هتفرق من امتى لاني حبيتها من اول مرة شوفتها اساسا، يا اخي البنت فيها مغناطيس، في الاول فكرت الموضوع مجرد اعجاب عادي عشان هي حلوة، لكن مع الوقت وكل مرة كنت بقابلها وأكلمها، اعرف إن مستحيل ده يكون مجرد اعجاب، أنا فعلا بحب ميمو، بحبها اوي كمان، والموضوع مجرد وقت لغاية ما تكون مراتي، ومش هتكون غير كده ”
هكذا ببساطة ؟؟ يعترف ويقر أنه سيتزوجها؟؟ هذا الرجل لا يمتلك شيء يُسمى تردد أو تأني أو حتى تفكير ؟؟ هو احبها إذن سيتزوجها ؟؟
ابتلع صالح ريقه وتساءل بخشية من ردة فعله :
” طب …وهي ؟؟”
” هي ايه ؟؟ قصدك هي هتوافق ولا لا ؟؟ ”
هز صالح رأسه يدرك جيدًا نظرات ميمو له، هي كذلك معجبة بأخيه هذا إن لم تكن تحبه ..
” هي ..يعني أنت فاهم حياتها وأنها كانت متجوزة و…”
” لا ”
لفظ واحد أطلقه صلاح قاطع به كلمات صالح الذي توقف دون فهم ما ترنو إليه تلك الـ ” لا ” والتي خرجت كرصاصة من فم أخيه .
” الموضوع ده إياك تذكره من قريب أو بعيد يا صالح، ميمو بالنسبة ليا ميمو وبس، لا متجوزة ولا أرملة ولا غيره، كل ده لا يعيني بقدر ما يعيني ميمو نفسها ”
تعجب صالح ردة فعله، لكنه لم يشأ أن يزيده وغيّر الحوار، ثم قال بهدوء دون أن يعلم هل يفعل ذلك لأجل إلهاء أخاه، ام لأجل تذكرة نفسه:
” رانيا ماشية بكرة ”
” عارف، وعشان كده كنت زعلان في آخر اليوم ”
عاند صالح :
” أنا مش زعلان عشان هي ماشية ”
” عندك حق أنت هتموت من الزعل، خليك كده لغاية ما ترجع بلدها وتتجوز وتجبلها عيلين، بعدين تستوعب حضرتك أنك كان لازم توقفها ومتسبهاش تمشي ”
نظر له صالح بشرود ليبتسم صلاح وهو يحدق بالسماء:
” الحياة مش هتستناك تفكر عشان تاخد الفرص بتاعتها، يا اما تخطف فرصتك، يا اما تقعد تبكي على اطلالها، فاهمني يا صالح ؟!”
حدق به صالح وهو يردد كلماته في عقله وصدره يعلو ويهبط في رتم هادئ…
وعلى بُعد صغير منهم كان يجلس محمود أعلى درجات المنزل الداخلية، يحمل طبق كبير من ورق العنب ويتناوله بتلذذ يتحدث لنفسه :
” والله بيقول حكم الراجل اللي شبه صالح ده، يا اما اخطف فرصتي يا امي ابكي على أبطالها”
صمت ثواني يحاول فهم ما قال منذ ثواني :
” مين أبطالها دول اللي ابكي عليهم ؟؟ ولا هي مكانتش أبطالها؟ ما علينا، المهم اننا عرفنا أن المفروض نخطف الفرصة ”
ابتسم وقد التمعت اعينه بما يتمنى فعله بكل ما تحمله الكلمة من معنى :
” نخطف الفرصة، يعني نخطف جوجو، سهلة والله ”
______________________
نعم كل ذلك هو ضريبة طاعته العمياء لاوامر ميمو، يا الله لو أنه رفض القدوم لتلك الرحلة المقيتة، لكان الان متمدد في الفراش الخاص به ينعم بنومة هنيئة، بدلًا أن يصبح هو الفراش لتلك الصغيرة التي سقطت في النوم دون شعور بمن حولها .
نظر مختار بطرف عينه لوجه نيرمينا التي كانت تغط في نومها أعلى كتفه، ويديها تضم مرفقه كما لو كان وسادة لها .
والاسوء من كل هذا هو صوت الموسيقى التي لم تتوقف منذ صعدوا الحافلة، ألا ينام هؤلاء القوم ؟!
نفذ صبر مختار من كل ذلك، يبعد رأس ميمو عنه ببطء، ثم نهض يبحث عن صاحب الهاتف الذي تم توصيله بنظام الصوت في السيارة وهو من يتحكم في الاغاني .
في ذاك الوقت كان البعض يغني ويحرك يديه في الهواء بسعادة، والبهجة منتشرة في المكان، لولا أن لمح مختار هاتف موضوع أعلى أحد رفوف الحافلة، امسكه ونظر به ليجد أنه هو المتحكم بالصوت ليضغط على زر الايقاف بكل بساطة ..
” ايه ده فيه ايه ؟؟”
” مين اللي قفل الاغاني يا جماعة ؟؟”
” فيه ايه ليه بقى النكد ده ؟؟”
كانت تلك هي الجمل هي المترامية حول مختار دون أن يهتم هو بأي واحدة منهم، ومن ثم نظر للمعلم المسؤول عن تلك الرحلة وأشار له صوب الجميع النائم بإشارة أن يحترموا أنفسهم ويحترموا النائمين وإلا أجبرهم هو على ذلك …
بالطبع لم يفهم رامي التهديد الواضح في أعين مختار، لكنه فهم رامي ما يقصد في العموم :
” خلاص يا شباب كفاية اوي كده وريحوا باقي الطريق عشان تكونوا فايقين لما نوصل ”
بدأت اصوات التذمر تعلوا في المكان، لكن مختار عاد مكان حيث نيرمينا التي كانت تحرك رأسها على المقعد بعدم راحة.
خلع هو سترته يلقيها عليها، ثم جلس مجددًا يجذب رأسها لكتفه واعاد هو رأسه للخلف يسقط في نوم عميق ورأسه تعرض صور قديمة له وبعض الأصوات التي جاءت له من مستنقع الماضي؛ مستنقع انتشلته ميمو منه …
” واد يا مختار، تعالى شوف الست هانم عايزة ايه ؟!”
رفع مختار رأسه عن الآلة التي يعمل عليها وتحرك بآلية صوب تلك السيدة التي ابتسمت له بسمة لم ترقه، لكنه لم يعلق عليها، ولن يفعل فهو ” مختار الأخرس” كما يدعوه الجميع هنا .
” ايه يا مختار مش قولتلك تعدي عليا تصلع ليا باب المطبخ ؟!”
مسح مختار ذلك الصبي الذي لم يخطو بعد ابواب الشباب، ومازال يقف في محطة مراهقته بعدما بلغ بالكاد الخامسة عشر من عمره …
ابتسمت السيدة تعلم أنه لن يتحدث :
” أنا قولت للمعلم بتاعك يبعتك تصلح ليا الباب لاحسن اتكسر ومبقتش عارفة اقفله ابدا”
وبملامح جامدة تحرك مختار وأحضر حقيبة العُدة، ثم سبق تلك السيدة صوب منزلها والذي يقع في نفس البناية التي يسكنها ..
وبمجرد أن توقف أمام الباب جاءت هي لتلتصق به وتفتح الباب :
” ادخل …ادخل مالك منكمش على نفسك كده ؟!”
لم يتحرك مختار خطوة لتفهم هي ما يريده فتسبقه للداخل، وقد تجنب هو أن تدس بجسدها معه في هذا الباب الضيق مثلما فعلت سابقًا، فهو يعلم أن تلك المرأة تلهث خلفه منذ سنوات، تحديدًا منذ بدأ جسده يظهر عليه علامات النضوج وتكبر قامته وتشتد عضلاته بسبب عمله الشاق، ليصبح مراهقًا في جسد شابٍ ..
دخل مختار خلف المرأة يدعو داخله أن يكون زوج تلك الغراب ممد أعلى الأريكة كذكر الاوز بثيابه الداخلية البيضاء يستشنق دخان الأرجيلة كما المعتاد منه .
لكن خاب ظنه وهو يسمع صوت السيدة تقول :
” تعالى متقلقش مفيش حد هنا ”
هل من المفترض ألا يقلق الآن ؟؟ لا والله بل إن قلقه قد ازداد وهو يرى نظرات تلك الغراب التي تحلق فوق رأسه، تنفس بصوت مرتفع يزيد من اقتضاب ملامحه علّها تخشاه وتتجنبه في ذلك الوقت .
دخل الممر ونظر لباب المطبخ الذي كان مرتكن للجدار وبدأ يمسكه ليضعه في المكان الخاص به، يميل بنصف جسده العلوي ليحضر أدواته لكن فجأة شعر بيد السيدة تتلمس مرفقه بشكل مثير وهي تنظر له نظرة ليست بالريئة اطلاقًا، ثم أعطته ما يريد لينتزعه هو من بين أصابعها باشمئزاز وغضب وود لو يهبط به فوق رأسها، لكنه سجن شياطينه في عقله وأكمل ما جاء لاجله …
في الوقت التي دخلت هي للمطبخ ويتنفس الصعداء ويكمل عمله، وحينما كاد ينتهى شعر بيدها تلمس يد وهي تقول بنبرة ظنتها مغوية، لكنه خرجت مقززة :
” عملتلك كوباية شاي ”
لم يهتم مختار بها وهو يبعد يدها عنه واكمل عمله دون أن يعطيها نظرة واحدة، وبمجرد أن انتهى ونهض امسك حقيبته وتحرك للفرار من المكان، لكن فجأة وجد من يضمه من الخلف كما لو كان خفاشًا التصق به، ودون أن يفكر في ردة فعل كان يستدير بقوة صافعًا المرأة بخشونة مسقطًا إياها ارضًا بقوة جعلتها تطلق صرخة مرتفعة.
لم يهتم هو بها وتحرك خارج المكان بأكمله وملامحه ما تزال جامدة، فهو رأى من النساء في حياته ما يجعله يبدو كصخرة امامهن، كل من قابلته تنظر له بشكل يثير في نفسه اشمئزازًا لدرجة ودّ لو يبصق في وجوههن .
افاق مختار من شروده على صوت تمتمات جوار أذنه ليرى أن نيرمينا كان تتحدث أثناء نومها وهي تردد كلمات غير مفهومة، سوى من كلمة ” بابا ”
ولأنه يعلم جيدًا ما فعله جاد بالجميع، أدرك أن حلمها لم يكن بالسعيد أبدًا، لذلك ربت أعلى كتفها بحنان حتى هدأت تمتماتها وانفك انقباض ملامحها ..
وهو ابتسم لها بحنان، حسنًا هناك نساء قد يستثنيهم من اشمئزازه، وعلى رأس تلك القائمة تقبع ميمو وتلك الصغيرة البريئة نيمو ..
_____________________
عادت واخيرًا لساحتها، وها هي تقضي امتع لحظات حياتها فوق الخيل ..
أسرعت ميمو داخل مضمار الخيل في النادي الذي تتمرن به، وكل ثانية تزيد من سرعتها وعلى فمها بسمة واسعة وكأنها في الجنة في تلك اللحظة.
لم تخف منذ آخر مرة ولم تبتأس، لم تفرغ غضبها في هواية تمثل لها الحياة، بل إنها جاءت وقبلت ذلك الخيل الذي أسقطها واطمئنت عليه، ثم صعدت أعلى ظهره وها هي تحلق الآن في المكان تجذب أنظار جميع من يجلس في المطعم المجاور للمدمار …
الجميع وخاصة الأطفال ينظرون لتلك الفارسة بانبهار، فهي في هذه اللحظة تمثل لهم احدى اميرات الأفلام التي يدمنون مشاهدتها.
وميمو بثيابها الخاصة بالخيل، ثياب سوداء وذلك الوشاح الذي تلفه أعلى وجهه وشعرها كان أشبه بتلك الاميرات بشكل كبير .
عيونها تبتسم وهي تزيد من سرعة ركض الخيل، قبل أن تبصر خيل اخر يجاورها وجسد يعتليه ويحاول أن يجاريها فيما تفعل، نظرت ميمو جوارها تتعجب من جرأة ذلك الذي يحاول تحديها في ساحته..
ومن غيره قد يفعل ويمتلك مثل تلك الجرأة .
ابتسمت ميمو وهي ترى وجه الفارس المجاور لها الذي استدار لها وغمز غمزة مشاكسة، ثم سبقها في المضمار لتبتسم ميمو واسعة، تنغز الفرس في معدته برفق وتطلق صرخة لتزيد من سرعتها أكثر..
وامامها كان صلاح لا ينظر خلفه أو جواره، فقط يركز على الطريق أمامه يسمع صوت حوافر الفرس خلفه حتى أبصر بطرف عينه ميمو تجاوره وهي تقول بصوت مرتفع :
” مش عيب تنزل تنافسني في ساحتي يا لذوذ ؟؟”
ابتسم لها صلاح بسمة واسعة وهو ينظر لها نظرة غامضة :
” مش عشان غيبت عن الساحة بمزاجي، تبقى ساحتك يا لذوذة”
وبمجرد انتهاء كلماته انطلق بعيدًا عنه ليثير في نفسها رجفة اعجاب جعلتها تزيد من ركض الخيل لتلحق به، وفي عيونها يلتمع تصميم مخيف لتجاور صلاح، ومن بعدها تخطته بسرعة مخيفة لدرجة بدأت ترى المكان حولها يسابقها ويركض معها وأصوات التهليل تعلو أكثر وأكثر وكأن الأمر انقلب لسباق وقبل أن تُعلن فوزها تخطاها صلاح في خطوات قليلة وجسده يعلو ويهبط فوق الخيل بشكل جعلها تبتسم باتساع اكبر تهتف بمزاح :
” يا جامد ”
واستمر السباق بينهما نصف ساعة تقريبًا ما بين فوز لها وآخر له لينتهي الأمر بفوز ميمو التي هبطت من فوق الخيل بكل رشاقة ولحق بها صلاح الذي تراجع في آخر جولة يمنحها فوزًا وهميًا .
فما يضيره أن يخسر سباق كهذا ويفوز بنظرة سعيدة وبسمة مشرقة منها ؟؟
ابتسم يراقب عمال الاسطبل يسحبون الخيل، وميمو تكشف وجهها له :
” مقولتش يعني أنك اتعلمت خيل ”
رتب صلاح خصلات شعره، يقترب منها وهو يقول بهدوء شديد :
” أنا بعرف اركب خيل من ايام ما كنت عيل صغير، وقت ما كنت ١٠ سنين، بدأت اركب خيل مع صالح في الأراضي ونتسابق ”
ادعت ميمو الصدمة تتراجع للخلف خطوات :
” وأنا اللي قولت، أنك هتقولي اتعلمته مخصوص عشان خاطرك يا ميمو ؟؟ وعشان اشاركك حاجة بتحبيها ؟؟ ”
ابتسم صلاح بسمة واسعة زادته وسامة، ثم همس لها :
” أنا اتعلمته عشان خاطرك يا ميمو وعشان اشاركك حاجة بتحبيها ”
أطلقت ميمو ضحكة عالية وهي تتحرك معه صوب اماكن تبديل الثياب التي تنقسم لغرف متعددة منفصلة عن بعضها البعض، الرجال في طرف والنساء في الآخر .
” خلاص بقى خيبت املي ”
” مستعد انسى اني اتعلمت خيل واتعلم من الاول، لو ضمنت أنك أنتِ اللي هتعلميني ”
توقفت ميمو في سيرها واستدارت له لتجده قد توقف عن المشي على بُعد خطوات منه، لتتساءل مدعية البراءة :
” واثق أنك هتستحملني وقتها ؟!”
رفع كتفيه في حركة بسيطة غير مرئية تقريبًا :
” جربيني وهتعرفي أن مفيش حد ممكن يستحملك قدي ”
ابتسمت وهي تدرك كل المعاني الخفية خلف حديثه :
” امممم هفكر ”
” مفيش مشكلة، وانا هعيد طلبي كل شوية يمكن يشجعك على التفكير ”
لوحت ميمو بيديها في الهواء وهي تتحرك صوب غرفة تبديل الثياب، بينما هو أعاد خصلات شعرة للخلف يردد بجدية :
” ميمو ”
توقفت ميمو تستمع لسؤاله الذي تردد كثيرًا في طرحه :
” هو أنتِ اسمك ايه ؟؟”
استدارت نصف استدارة وحدقت بعينه ثواني وعلت نظرة غامضة عيونها :
” ميمو ”
” لا، مش عايز الاسم اللي كله بيناديكِ بيه، عايز اسمك أنتِ، اسمك في البطاقة يا ميمو ”
صمتت ميمو ثواني وهي تنظر للأرض قبل أن تحرك حدقتيها واستقرت بهما على خاصتيه :
” بلاش، مش حابة اصحي صاحبة الاسم من غفوتها لما تسمعني بنطقه، خليها نايمة احسنلها، مش هتستحمل العالم ده ”
اقترب منها صلاح يسير الهوينة صوبها وكل خطوة تشعر ميمو بصداها في قلبها حتى توقف صلاح أمامها يطيل النظر داخل عيونها :
” أنا مستعد احميها من العالم ده ..”
ابتسمت بسمة حزينة تحاول ألا تعود لتلك النقطة من حياتها :
” وانا مش مستعدة أنها تظهر في العالم ده، على الأقل دلوقتي ”
تلك المرأة وكأنها عُجنت بالغموض، كل حركة فيها تنطق بغموض مثير، غموض كان يجذبه سابقًا ويثير لديه الفضول، بينما الآن فضوله يحرقه، يود لو يخترق كل تلك الأسوار التي تحيط نفسها بها وينتزع تلك التي تعمل على إخفائها، ويتولى هو حراستها ..
” وانا هكون مستنيها تظهر ”
” هتمل”
غمز لها صلاح بمشاكسة :
” يبقى مجربتنيش، ولا جربتي طولة بالي، أنا أكثر شخص ممكن يصبر على شيء، خاصة لو كانت حياته متوقفة على الشيء ده ”
اطالت النظر بعيونه قبل أن تتحرك بعيدًا عنه وهي تسير بظهرها :
” تمام يا لذوذ، خلينا نشوف صبرك هيوصلك لفين ”
أنهت حديثها تستدير وتزيد من سرعة خطواتها صوب غرفة تبديل الثياب لتلملم شتات نفسها، وهي تتنفس بصوت مرتفع بينما هو يرمقها بغموض :
” هيوصلني ليكِ يا …ميمو ”
________________________
كان يتجهز للذهاب إلى العمل فاليوم سيتم أخذ شهادة تسبيح؛ لذلك قرر الذهاب للعمل مبكرًا حتى ينتهي ويتفرغ للذهاب معها ..
أخرج هاتفه وفي نيته التحدث مع صلاح للقدوم والبقاء جوار ذلك الرجل في غرفة صالح، لكن قاطع نيته تلك رنين قوي صدر من هاتفه يعلن اتصالًا من والده .
ابتسم رائد يجيب أثناء ارتداء الحذاء الخاص به :
” صباح الخير يا والدي، اخبارك واخبار امي ايه ؟!”
اجابه والده بنبرة حنونة :
” الحمدلله يابني كلنا بخير وأمك بتوصلك سلامها وبتقولك مش آن الأوان ترجع بقى ”
أنهى رائد ربط حذائه ينهض ليحمل سلاحه ومفاتيحه الخاصة، يتساءل عن مقصد والده من تلك الكلمات :
” أوان ايه ؟! هو امي غضبت تاني وعايزني اروح ارجعها معاك ؟؟”
” يابني امك ايه اللي غضبت، بقولك هي اللي بتقولك ترجع، ما تركز معايا شوية ”
خرج رائد من غرفته يطل برأسه على ذلك الرجل قبل أن يغلق عليه غرفة صالح جيدًا، حتى لا يفر منهم ويحطم صلاح المنزل فوق رؤوسهم ..
” مركز اهو يا حاج، بس اصلي مش فاهم أوان ايه ؟؟ يعني ارجع اعمل ايه وشغلي هنا لسه حتى ما اخدتش الترقية ”
وصلت لرائد ضحكات والده العالية ويبدو أن مزاجه صافي منذ الصباح، وهذا إن دل على شيء يدل على أن والدته أعدت له الفطير الذي يعشقه ووضعت له بعض العسل ليصبح بمثل هذا المزاج .
” ما أنا عايزك عشان الترقية برضو يابني، بس دي ترقية في حاجة تانية ”
” ترقية ايه يا حاج ؟؟ هو أنت مسكت رئاسة الوزراء ولا ايه ؟!”
نفخ سليمان بملل ظنًا أن ولده يراوغه في أمر مفروغ منه ومعروف :
” أنت فاهم كويس قصدي يا رائد، منال خلاص اتخرجت من كام يوم والبلد كلها كانت هايصة وأبوها وزع لحمة على حسها ”
” ربنا يباركلهم، بس انا موصلش ليا لحمة ”
انتفض رائد بعدما كان يجلس براحة على الأريكة بسبب صراخ والده :
” لحمة ايه يا بني أنت ما تركز معايا شوية، بقولك منال اتخرجت ”
” يا أبا ما أنا مركز، أنت اللي عمال تلف وتدور على ايه مش عارف ؟؟ اتخرجت منال الف مبروك، اعمل ايه عايزني يعني اوصي عليها في الجامعة عشان تتعين ولا ايه ”
وكان الرد من والده سخرية لاذعة وحنق من ادعاءه الجهل، فهو يدري وولده جيدًا ما يدور حوله الحديث، لكن من حديث رائد فهو يحاول الإفلات :
” يا خويا بس وصي على نفسك الاول، أنت فاهم كويس اوي أنا قصدي ايه يا رائد، البنت خلاص اتعلمت واتخرجت ومبقاش ليك حجة، يعني تيجي عشان نكتب كتابكم ”
اسود وجه رائد وهو يتحرك صوب الباب وقبل أن يخرج قال بصوت منخفض جاد :
” اكتب كتابي على مين يا حاج؟! على واحدة مشوفتهاش من وقت ما كانت عيلة صغيرة ؟؟”
” رائد، مش عايز كتر كلام، أنا وأنت واهل البلد كلهم عارفين إن منال من صغرها ليك، وانا استنيت تخلص دراسة عشان نكتب كتابكم، فمتجيش تصغرني دلوقتي قدام الكل ”
زفر رائد وهو يفتح الباب ويخرج مغلقًا إياه بقوة رجت جدران المنزل، ثم أخذ نفس مرتفع وصل لوالده في الطرف الآخر من الهاتف :
” حاج الله يكرمك المواضيع اللي زي دي مش هزار، والحوارات اللي بتتكلم فيها دي بطلت من زمان حتى منال نفسها راحت الجامعة وعاشت حياتها وتلاقيها نسيت كل ده ”
” لو هي نسيت يا رائد فـ أهل البلد مش هينسوا يا ابني ”
ولأول مرة يتحدث رائد بهذه الحدة مع والده :
” خلاص خلي أهل البلد هما اللي يتجوزوا ”
وما وصل له من والده سوى صوت ثلاث رنات يعلنون انتهاء المكالمة ليزفر رائد بقوة وهو يمسح وجهه ومن غضبه ضرب الجدار بقدمه مطلقًا صرخة عالية يستشعر بأن احدهم هبط فوق رأسه بدلو بارد.
من اين خرج له والده بتلك الكارثة؟؟ من منال تلك التي يريده الزواج منها؟؟ شعر رائد بجسده يرتجف غضبًا وهو يعلم أن اصرار والده لن يتوقف عند حدود تلك المكالمة، بل سيمتد حتى إن وصل الأمر ليأتي هنا ويجره من ثيابه للقرية حتى يتزوج فتاة لا يعلم منها سوى اسمها.
في ذلك الوقت فتحت تسبيح الباب بسرعة فور ما سمعت صوته، وهي تود التأكيد عليه ألا ينسى معاد اليوم الخاص بها، لكن رؤيته بهذا الشكل أثارت بها خوف لتقترب ببطء تناديه بخفوت :
” رائد ..”
استدار لها رائد كالرصاصة لا يرى من بين موجات الغضب التي تغطي عيونه :
” نعم عايزة ايه من سي زفت ؟؟”
بُهت وجه تسبيح خلف غطاءه، تتراجع الخطوات التي سبق وتقدمتها، تقول بتردد شديد وقد صدمها برده عليها :
” أنا بس كنت عايزة افكرك بالمعاد انهاردة في …”
قاطعها رائد وهو يشعر بالنيران تشتعل داخله وقد تكون تلك المسكينة هي ضحية انفجاره، لذلك قرر الانسحاب باسرع وقت :
” مش ناسي حاجة، اول ما توصلي النيابة كلميني، عن اذنك”
ومن فوره انسحب من أمامها تاركًا تسبيح تواجه ما كانت تخشاه، قد سأم منها رائد ومل طلباتها، شعرت بقلبها ينبض بسرعة وهي تتراجع للشقة بحزن شديد وقد قررت ألا تنتظر منه شيئًا ولن تطالبه بشيء بعد اليوم، سوف تعتمد على نفسها منذ الآن وصاعدًا، وأول خطوة لتحقيق ذلك هو أن تعيد له كل دَينه …
عادت تسبيح للمنزل وهي تتجرع مرارة الموقف الذي وضعت نفسها بها، تشعر بنفسها كالعلقة التصقت برائد وكأنها لم تصدق أن هناك من يهتم به، ثم شرعت تمتص منه كل ما يعطيه لها كيتيمة مثيرة للشفقة، لحظة أوليست كذلك بالفعل ؟؟
ابتسمت بسخرية ترفع غطاء وجهها، قبل أن تستفيق على صوت رانيا التي خرجت مع هاجر وهي تتحرك صوبها تضمها بقوة :
” شكرا يا تسبيح على استضافتك لينا امبارح، بجد مش عارفة اشكرك ازاي ”
شعرت تسبيح برغبة عارمة في البكاء، لكنها لم تفعل وهي تبادل رانيا العناق :
” متقوليش كده تنوروا في أي وقت، كدة كده انا ضيفة هنا زيي زيكم ”
ابتسمت لها رانيا ولم تستشف مقدار المرارة في حديثها عكس هاجر التي كانت تتابعها بتعجب، قبل أن تنتبه لرانيا التي قالت بحزن :
” يلا يا هاجر ؟؟”
ابتسمت هاجر تربت على كتفها :
” مالك يابنتي زعلانة كده كأنك هتتنفي؟؟ دول هما ساعتين زمن وتكوني هنا وقت ما تحبي، ايه هتروحي مش هترجعي القاهرة تاني ؟؟ ”
ابتسمت لها رانيا بسمة صغيرة، ثم شردت في جملة اخذت تتردد في أذنها
” هترجعي صدقيني، اللي جرب القاهرة مش بيقدر يبعد عنها، خاصة بقى لو قابلني ”
رددت رانيا بصوت منخفض وهي تسير خلف هاجر لتحضر حقيبتها من المنزل :
” مين عارف، يمكن هرجع، بس امتى معرفش ”
__________________________
يمسك المدونة بين أصابعه والقلم موضوع خلف أذنه، كما لو كان يعمل نجارًا في إحدى الورش وليس طبيبًا في مشفى، بل وطبيب شرعي ذو مكانة مهمة .
لم يهتم صالح بشيء حوله وهو يسير صوب الغرفة التي سيقوم فيها بالعمل على إحدى الجثث مع رفيقه الوحيد في مثل هذه المهمات، وكالعادة وصل للباب الزجاجي الذي يفصل ممر المشفى عن ممر المشرحة، فتح صالح الباب وهو ما يزال ينظر في الورق أمامه، لكن فجأة سمع صوت نسائي جواره يتحدث برقة وامتنان :
” شكرًا يا دكتور والله، كل مرة باجي قدام الباب ده وانا شايلة الملفات مش بلاقي حد يفتحلي الباب غيرك، مش عارفة بجد الناس اللي بيسوءوا سمعتك دول ليه بيقولوا عليك كده ؟! أنت بجد شخص محترم ”
نظر صالح ليده التي تمسك الباب تفتحه _ لأجله _ هو حتى لم ينتبه أنها قادمة حتى، بينما الفتاة رمقته ببسمة واسعة تتحرك بالملفات بعيدًا :
” أنت فعلا جنتل مان اوي ”
تشنج وجه صالح بعدم فهم وقد اصطدمت تلك الكلمة للمرة الأولى بمسامعه، خاصة وهي تصفه هو تحديدًا :
” جنتل مان ؟! انا جنتل مان ؟؟”
ابتسم بعدم تصديق يسير في الممر ومازال ذلك الموقف يلوح أمامه، قبل أن يمتص شفتيه وهو يقول :
” أيوة فعلا أنا جنتل مان، بس مين يقدر ”
ضرب صالح الباب بقدمه في قوة كبيرة تسببت في انتفاضة جسد محمود الذي كان يجاور الجثة ويتحدث معها كعادته ليعلم صالح أنه عاد لنباتاته، هل ذلك الرجل لا يتذكر أنه حقير يستنشق مواد كتلك إلا وقت العمل ؟؟
وضع محمود يده أعلى صدر الجثة أمامه يربت عليه بهدوء :
” متقلقش يا عادل ده صاحبي، بس هو طور ميعرفش أن الابواب ممكن نفتحها بالأيد عادي ”
ارتفع حاجب صالح في تزامن ساخر مع ارتفاع طرف شفتيه، يرى رفيقه يشكوه لجثة …
تحرك صوب الخزانة الخاصة بالقفازات وكل ادوات التعقيم :
” شايفك يعني رجعت للزفت بتاعك، وانا اللي قولت ربنا تاب عليك من وقت ما لقيت البسكوتة بتاعتك ؟!”
استنشق محمود نفس صغير من لفافته يبرر لنفسه :
” ده عادل هو اللي عزم عليا بالسيجارة دي ومرضتش اكسر بخاطره، اصله …”
صمت ثم نظر لعادل ووضع يديه أعلى أذنيه كي لا يجرح مشاعره كجثة مغدور بها، وقال هامسًا :
” بعيد عنك اخواته قتلوه عشان الفلوس، وانا مرضتش ازعله لما عزم عليا بيها، يا عيني لسه واخد على خاطره منهم وكان بيشتكيلي من شوية، مش مصدق أن اخواته يعملوا فيه كده عشان شوية فلوس ”
أطلق صالح صوتًا ساخرًا من حنجرته، وهو يتحرك صوبه يمسك مشرطه :
” لا ملهمش حق، ده حتى المرحوم باين عليه كان طيب وابن حلال ”
استنشق محمود اخر انفاس سيجارته، ثم تحرك صوب سلة المهملات واطفئها ملقيًا إياها بها …
” الدنيا مبقاش فيها خير، تخيل أخواته كلهم ماشيين مشي بطّال وهو كان شغال ظابط شريف ورفض يمد أيده على قرش من فلوسهم، وحتى الورث خاف ياخد منه، لكن بسبب أن ابنه تعب راح أخد منه، لكن للاسف …”
قال صالح بتفكه :
” ابنه مات ؟؟”
” ايه ده أنت تعرف عادل ؟؟”
” لا اعرف المسلسل يا خفيف، اللي قولته ده كله مسلسل اساسا ”
تعجب محمود ينظر صوب عادل الشاحب أمامه يحاول تصديق ما قيل له :
” مسلسل ؟؟ مسلسل ايه ؟؟”
” العار ”
” أنا؟؟ ”
نفى صالح بسخرية لاذعة :
” لا يا حبيبي، ده المسلسل اسمه العار ”
حدق محمود في عادل بلوم وكأنه يستنكر أن يخدعه ويقص عليه احداث مسلسلات قديمة معروفة، نفخ بضيق شديد وهو يشرع يعمل مع صالح :
” تقريبا عادل المسلسلات واكلة عقله ”
أصدرت حنجرة صالح صوتًا ساخرًا :
” عادل برضو؟؟ ”
” قصدك ايه ؟؟”
” لا مقصديش، كان الله في عونه يا اخي اكيد واحد مقتول بأربع طعنات مش هيكون مركز، تلاقي الموضوع لف عليه ولا حاجة”
وافقه محمود بصمت وبدأ الاثنان يعملان بجد دون تلكؤ أو تكاسل، ورغم باله المشغول منذ الصباح لسبب لا يعلمه أو هو يعلمه وينكر، كان صالح يعمل بانهماك وكأنه يود أن يشغل باله عما يؤرقه بلا سبب …
لكن وكأن اسباب ارقه تمثلت أمامه لحظة وصل لمسامعه صوت محمود يتحدث بهدوء :
” هتيجي معايا بعد الشغل نوصل رانيا ؟!”
ادعى صالح الانشغال :
” نوصلها فين ؟! هنروح معاها اسكندرية ؟؟”
” لا، هنوصلها رمسيس وهي هتسافر من هناك”
رفض صالح ببساطة ودون حتى تفكير أو إعطاء عقله الفرصة ليسرح بخياله حول الأمر .
هز محمود كتفيه بلا اهتمام وقد كان هذا المتوقع من صالح :
” عامة هي هتمشي على الساعة ٣، لو حابب تيجي، وانا هروح اوصلها وارجع مع البسكوتة بتاعتي الفرنة”
رفع صالح عيونه لمحمود وقال بجدية وبسمة هادئة :
” أنا لغاية دلوقتي لسه مش مستوعب أنك فعلا بتحب هاجر وأنت واعي لنفسك ”
رفع له محمود رأسه :
” ليه يعني ؟؟ ”
” يعني انت في عالم وهاجر في عالم تاني ”
وكانت الإجابة من محمود في غاية البساطة إذ قال بتلقائية وكأن ذلك أمرًا طبيعيًا :
” خلاص اروح العالم بتاعها ”
ابتسم صالح ولم يعقب على حديث رفيقه سوى بجملة واحدة :
” ربنا يسعدك يا محمود تستحق كل الخير يا صاحبي ”
ابتسم له محمود وعاد ليعمل على الجثة مع صالح وهو يردد بجدية كبيرة :
” حاول متضيعهاش من ايدك ”
نظر له صالح بانتباه ليدعي محمود أنه لم يقل شيئًا ويكمل عمله باهتمام شديد، وصالح طار عقله في عالم آخر حيث افكار متلاطمة تدور حول تلك التي كانت في طريقا لمغادرة القاهرة، وتنفس هواء آخر غير الذي يتنفسه هو …
_____________________
يسير في المكان والشياطين تتراقص وتقيم الحفلات أمام ناظريه يشعر كما لو كان هناك بركان داخل رأسه وها هي حممه قد بدأت تتهاطل عليه ليرى المكان أمامه باللون الاحمر، حديث والده يتكرر في رأسه مرارًا وتكرارًا، ولولا معرفته أن كلمة والده كالسيف لكان تجاهل الأمر وادعى عدم الاهتمام ……
دخل رائد مكتبه يبدأ في عمله دون أن يرى أمامه، العالم يتحرك وهو فقط يحاول معرفة سبيل للخروج من ذلك المأزق..
ومن بين كل ذلك سمع صوت رفيقه وهو يتحدث بجدية :
” سمعت اللي حصل امبارح ؟!”
” لا، حصل ايه ؟؟”
ابتسم الشاب يردد بحسرة وقهر :
” محسن يا سيدي أخد مكافأة عشان المهمة اللي ماسكها نجحت، تقولش حظه بومب يا جدع ”
سخر رائد في نفسه دون الاهتمام لنظرات صديقه الفضولية :
” لا وأنت الصادق دي الوسايط هي اللي بومب ”
” بتقول ايه؟؟”
اعتدل رائد في جلسته ينظر لرفيقه ثم قال بهدوء :
“ويا ترى بقى الجريمة المرة دي ايه بالضبط ؟؟ حرامي شباشب ولا حرامي غسيل ؟؟ اصل محسن بيجي في الهايفة ويتصدر ”
نفى صديقه وهو ينظر في بعض الأوراق أمامه بجدية شديدة :
” لا ده بيقولوا مسك عصابة عاملة قلق في حارة كده، عاملين رباطية وبلطجة على الأهالي وسكاكين وحوارات كتير والأهالي قرفوا منهم وبلغوا عنهم ”
شعر رائد بمقدار الحظ السيء الذي يصاحبه فلو كان هو من تولى تلك المهمة، يقسم أن الأهالي هم من كانوا سيأتون لضمان المجرمين ومساعدتهم للخروج، بل وربما يقذفونه بالحجارة إن ذهب لاعتقالهم، فهو في هذه الحياة مهما اجتهد ومهما بذل من تعب لأجل أي شيء خسره في آخر ثانية..
استغفر ربه يمسح وجهه بحنق، لكن فجأة رفع عيونه بسرعة حين سمع فاروق يردد :
” القضية دي خلاص اتحولت للنيابة و…”
” أنت قولت ايه ؟؟”
تحدث فاروق بجهل لملامح التحفز التي علت وجه رائد:
” بقولك القضية دي خلصت واتحولت للنيابة و….”
ومجددًا عند نفس الكلمة قاطعه انتفاضة جسد رائد وهو يقول بفزع :
” النيابة …تسبيح ”
حدق به فاروق يراه يجمع اشياءه بسرعة كبيرة واللهفة تظهر واضحة عليه ليردف ببلاهة :
” تسبيح ايه ؟؟ الوِرد بتاعك يعني ؟؟ عايز سبحة ؟؟ معايا واحدة ”
لكن رائد لم يجبه وهو يخرج من المكان بسرعة كبيرة، ينظر في ساعة يده، معاد تسبيح كان منذ نصف ساعة، هل اتصلت به ولم يستمع للهاتف من شدة غضبه ؟! لكن لا اتصال او أي شيء .
توقف فجأة بفزع وهو يشعر بالدنيا تدور من حوله وفكرة واحدة قد قفزت لعقله :
” معقولة يكون حصل ليها حاجة ؟؟”
في تلك اللحظة اتصل سريعًا بصلاح يدعو أن يكون عاد للمنزل، يا ويلته قلبه يطرق بقوة حتى كاد يحطم صدره ويقفز منه ويسبقه لها …
في تلك اللحظة وجد محسن يقف في الممر يردد بتشفي وتفاخر:
” اهلا يا …رائد باشا، شوفت اللي حـ”
وقبل حتى أن يكمل جملته دفعه رائد دون اهتمام وهو يركض خارج المركز بأكمله، هبط درجات المركز وعيونه معلقة بالسيارة والهاتف أعلى أذنه :
” الو يا صلاح أنت روحت البيت ؟؟ تسبيح عندك؟؟”
وقبل أن يسمع رد من صلاح سمع نداء باسمه واحدهم يقترب منه وهو يقول :
” رائد لحظة …”
توقف رائد يتعجب ذلك الصوت الأنثوي الذي توقف أمامه وصاحبته تبتسم له بسمة واسعة تهتف بخجل وصوت ناعم رقيق :
” كويس اني لحقتك ”
في تلك اللحظة وصل له صوت صلاح يقول بجدية :
” لا أنا لسه برة، ليه حصل حاجة ؟؟ آنسة تسبيح حصلها حاجة يا رائد ؟؟”
ولم يكد رائد يستوعب كلماته حتى سمع كلمات الفتاة أمامه وهي تقول بلهفة وعيون تلتمع بنظرات غريبة غامضة بالنسبة له :
” أنت مش عارفني ؟؟ أنا …أنا منال فاكرني ؟؟؟”
____________________
تضمها بقوة وكأنها ستراها للمرة الاخيرة، تحاول منع دموعها التي تتحين أي فرصة للسقوط دون إرادة منها، تشعر أنها بمفارقة المكان ستفارق جزء من روحها .
قبلت رانيا هاجر وهي تزيد ضمها تهتف بصوت مختنق من الدموع :
” هتوحشيني اوي يا جوجو، هتوحشيني اوي ”
ابتسمت هاجر تكبت دموعها بصعوبة وهي البكاءة، الآن عليها أن تكون متماسكة لأجل رانيا، ومحمود جوارهما يستند على سيارته يراقبهما ..
ابتعدت رانيا أخيرًا عن هاجر، ثم نظرت حولها تبحث بعيونها عمن ينكره قلبها، العيون تبحث والقلب يخفي شوقه، ابتلعت ريقها وهي تنظر لمحمود :
” ارجوك خلي بالك من خالتو ”
” في قلبي ”
كادت تلك الجملة تفلت من أسر شفتيه لتحلق في المكان حولهما، لولا أنه منعها بقوة وتنحنح :
” اكيد متقلقيش، خلي بالك أنتِ بس من نفسك واول ما توصلي اتصلي بيها طمنيها ”
منحته رانيا بسمة صغيرة :
” متقلقش مش اول مرة اسافر لوحدي ”
” وانا اقلق ليه، هو أنتِ بنت اخويا ؟! أنا بس مش عايز النواعم تفضل مكشرة طول النهار بسببك”
التوى ثغر رانيا بحنق شديد تميل لتحمل حقيبتها، ثم اعتدلت في وقفتها وقالت :
” لو كنت قولت أنك قلقان عليا مكانش حصل حاجة على فكرة ”
ابتسم لها محمود بسمة مستفزة لترميه بنظرة مشتعلة تفتح فمها للصراخ في وجهه بكل ما تكبته من غضب تجاهه هو وصديقه الاحمق الغبي الذي حتى لم يكلف نفسه ليودعها، ماذا رانيا ؟؟ لِم قد يودعك ؟؟ هل هو أحد أفراد عائلتك ؟!
أفاقت رانيا من شرودها على صوت محمود الذي وصل لها متعجبًا :
” مش قولت أنك مش جاي ؟!”
رفعت رانيا عينها بلهفة تبحث عمن يوجه له محمود الكلام لتبصره بهيئته المعتادة ينظر لها نظرات لم تفهمها، ثم ابعد نظره وتحدث لمحمود :
” جيت عشان أنت بس اصريت عليا مش اكتر ”
أشار محمود لنفسه بتهكم ولسان حاله يصرخ بـ ( كاذب ) لكنه لم يتحدث واكتفى بإعطاء صالح نظرة مستهجنة ساخرة .
لكن الأخير لم يهتم له وهو يتحرك صوب رانيا التي كانت تحاول أن تدعي انشغالها في الهاتف، لولا سماعها لصوته يتشدق بهدوء :
” خلاص ماشية ؟؟”
” أيوة اهو هريحك ”
ابتسم صالح بسمة صغيرة يتأمل ملامحها ليسمع صوت صلاح في أذنه والذي كان يخبره أنها كوالدته، ليست نفس الملامح بالطبع، لكن الروح واحدة، يشعر بعودة والدته لجسد رانيا .
تنحنح ليخرج من تلك الغيمة التي احاطته وهو سطيرفع حقيبة في الهواء يقول بجدية :
” حبيت اودعك واجبلك هدية صغيرة كده، يمكن تفتكريني بالخير وتدعيلي، بدل ما تلعني فيا ”
أمسكت منه رانيا الحقيبة وهي متسعة العين وبفم مفتوح بشكل مثير للضحك، أمسكتها بعدم تصديق :
” دي …دي ليا أنا ؟؟ أنت جايبلي هدية وداع ؟؟”
وضع صالح يديه في جيب بنطاله يفرد قامته، ثم ابتسم يشير بعينه لها أن تفتح الهدية :
” يعني حبيت لما تفتكريني ميكونش خناق بس، قولت ابقى احسن منك ”
لم تهتم رانيا لكلماته وهي تتحسس الحقيبة بتعجب لتلك السخونة الصادرة منها وتلك الرائحة المعروفة، لم تشا أن تتعجل الحكم، فقالت وهي مبتسمة بسمة واسعة تمسك الحقيبة بيديها تفتحها بلهفة شديدة قبل أن تبدأ البسمة في التلاشي شيئًا فشيء :
” كشري ؟؟ جايبلي هدية وداع علبة كشري ؟؟ ليه بتودع اجنبي مسافر برة مصر ؟؟ أحنا عندنا كشري برضو، وايه ده كمان ؟! رغيف حواوشي ؟!”
ابتسم صالح بسمة واسعة وهو ما يزال يضع كفيه أي جيب بنطاله :
” رغيفين، اكيد يعني أنا مش معفن عشان اجبلك رغيف واحد، لاحظي اني صارف ومكلف، دول بقى يا ستي كشري من عند احسن محل هنا، وحواوشي من اشهر عربية حواوشي في القاهرة مش هتشوفي زيهم عندك في اسكندرية بالكشري ابو عدس اصفر بتاعكم والعيش باللحمة اللي عندكم”
تشنج وجه رانيا وهي ترفع رأسها كالرصاصة له :
” فوق ما انت معفن جاي تناقشني في اكلنا ؟؟ أنت اساسا دوقته عشان تحكم؟! أنت تطول اساسا ؟؟”
لم يهتم لها صالح وهو ما يزال يصف لها مميزات الهدية الخاصة به :
” ده كمان عشان تفطري في الطريق، وتفتكري القاهرة، صدقيني مش هتلاقي الحاجتين دول بالذات في اسكندرية، اكل وسط البلد يختلف برضو ”
” اسكندرية محافظة في مصر على فكرة، ده لو متعرفش”
رفع صالح حاجبه بذهول شديد :
” ايه ده بجد والله ؟؟ من امتى ده ؟!”
” اه والله شوفت، من شهرين كده أخدنا حتة تمليك على البحر فوق في الطراوة ”
ابتسم صالح وهو يحدق في ملامحها المغتاظة، نعم هذا ما يحب أن يراه حين وداعها، نظرات غاضبة وملامح مُستَفزة :
” ألف مبروك هتعملوا الافتتاح امتى ؟؟”
ضغطت رانيا على قبضتها بغضب شديد، ثم صرخت في وجهه :
” والله لولا أن الاكل ده نعمة لكن لبستك علبة الكشري ورغيف الحواوشي في وشك ”
” رغيفين ”
” يا اخي احرجتني بكرمك والله ”
” متتعوديش بقى على كده ”
تنفست رانيا بصوت مرتفع حاولت أن تتمالك نفسها أمام هذا الرجل المستفزة، ثم قالت بهدوء :
” أنت جاي مخصوص عشان تحرق دمي صح ؟!”
” لا والله جاي عشان اودعك”
خرجت جملته بتلقائية وبراءة شديدة منه، قبل أن يمد يده بحقيبة أخرى يعطيها لها لتقول بسخرية لاذعة :
” متقولش دي كوباية عصير قصب ولا طاجن بامية باللحمة ؟؟ ”
ضحك صالح بصوت مرتفع جذب انتباه محمود وهاجر اللذين ابتعدا عنهما ظنًا أنهما سيتصافيان …
توقف صالح عن الضحك يقول بهدوء شديد غريب عليه :
” لا ده فطار ليكِ بجد، سندوتشات وعصاير وشوية شوكولاتة، متاكليش كشري أو حواوشي على الصبح عشان ممكن تتعبي وتروحي مننا فطيس، ويقوموا رافعين بصماتي من الكيس ويلبسوني بلوتك ”
كانت رانيا مبتسمة في أول الجملة حتى بدأت ملامحها تنكمش مجددًا بغيظ في نهايتها، تتمنى لو تنتزع الحقيبة من يده وتهبط بها فوق رأسه بغضب، لكنها فقط انتزعتها منه بعصبية غير مبررة :
” شكرا والله من غيرك كنت هموت من الجوع ”
” يلا اياكش وأنتِ راجعة تاني تفتكريني بعلبة هريسة أو بسبوسة من اسكندرية، اهو أي حاجة من وشك ”
كان صدر رانيا يرتفع ويهبط بقوة شديدة من شدة غضبها، تعض شفتيها بقوة :
” ليه في القاهرة مش بتعملوا بسبوسة ؟؟”
انقشع وجه صالح عن بسمة جميلة لأول مرة تراها أعلى وجهه، بعيدًا عن بسماته المستفزة والساخرة والغاضبة، هذه كانت رقيقة هادئة، وكان الرد صادمًا أكثر من بسمته حيث اطال النظر لها، ثم تحدث بنبرة غير مفهومة :
” لا عندنا بسبوسة في القاهرة عادي، بس انا بحب بسبوسة اسكندرية اكتر، ملقتش في حلاوتها هنا ”
ولا تدري ما علاقتها بحديثها ليقفز قلبها ويتراقص داخل صدرها، ما بكِ رانيا وكأنكِ صانعة البسبوسة لتحمري خجلًا كالغبية أمام عينيه، مدت أناملها الصغيرة تعدل من وضعية حجابها، ثم أغمضت عيونها وكادت تجيبه لولا سماعها لصوت يناديها من خلفها جعلها تستدير بقوة …
فتحت رانيا عيونها بقوة تترك الحقائب ارضًا وهي تركض صوب صاحب الصوت الذي تلقفها بين أحضانه بحب شديد :
” وحشتيني يا قلبي، البيت كان مضلم من غيرك ”
ضمت رانيا نفسها لأخيها ولكم كانت تحتاج لمن تختفي بين أحضانه في تلك اللحظة عن أعين ذلك المتربص في الخلف ..
” عبدالجواد، وحشتني اوي، برضو جيت وتعبت نفسك ؟! قولتلك هركب عربية ”
ضمها عبدالجواد اكثر واكثر له وهي القصيرة صغيرة الجسد مقارنة بجسد أخيها الذي نُحت بسب عمله الشاق في المواقع :
” وانا عندي اغلى منك اتعب عشانه، بعدين مش هطمن وأنتِ راجعة لوحدك ”
هزت رانيا رأسها تهبط ارضًا، ثم نظرت خلفها للحقائب وكأنها نست لثواني أن صالح يقف هناك، لكنها شعرت كما لو كانت هناك سهام من النيران تُوجه لها، رفعت عيونها لصالح، ويا ليتها لم تفعل، كان يحدق بيد عبدالجواد الذي يضمها لصدره بحب ويصافح هاجر …
ابتلعت ريقها ونظرات صالح تخترقها كأنه يوجه لها تهمة ما، ماذا ظن هذا الرجل ؟؟
ولم تكد تتحدث بكلمة وهي تراه يضغط على قبضته بقوة ومحمود يسحبه بعيدًا حسب أوامر هاجر التي أكدت عليه ألا يراهم عبدالجواد حتى لا تحدث كارثة، لكن صالح لم ينزع عيونه عن رانيا وهو يراها تستكين بين أحضان ذلك الشاب، لتشتعل النيران في صدره بقوة يستطعم مرارة لأول مرة يختبرها .
ومحمود خلفه يتحدث بكلمات لم تخترق موجة الغضب التي احاط بها صالح نفسه :
” هاجر بتقول أن ده اخوها …”
لكن صالح يسمع ولا يفقه، يرى ولا يدرك، فقط يراقب دون شعور، وقد ساهمت الضوضاء في ذلك الميدان المكتظ بإثارة غضبه وتشتيت انتباهه أكثر.
ضحك عبدالجواد وهو يجذب هاجر له بحب :
” والله يا خالتو أنتِ اللي وحشتينا اوي، ما تيجي اسبوعين كده وخليكِ جدعة”
ربتت هاجر على مرفق عبدالجواد بحب :
” مرة تانية يا عبده أنت عارف الفترة دي المخبز الشغل فيه كتير، اول ما تيجي الإجازة هتلاقيني نطيت ليكم ”
ابتسم لها عبدالجواد بحب، ثم مال عليها يضمها بحنان شديد :
” ماشي يا حبيبتي خدي بالك من نفسك وكلميني كل شوية ”
” تمام يا عبده، أنتم اول ما توصلوا طمنوني عليكم، وسلمولي على كل اللي هناك ”
اماء لها عبدالجواد ثم جذب رانيا صوب السيارة، لكن رانيا كانت فقط تحدق في صالح ولا تنزع عيونها عنه، وصالح كذلك الأمر، وكأنه سيراها للمرة الأخيرة في حياته، أوليس الأمر كذلك ؟؟
تحرك عبدالجواد صوب الحقائب التي تركتها شقيقته حين رؤيته، وحملها دون أن يهتم للسيارة التي تقف على بعد صغير منهم، فهذا الميدان معروف بالازدحام الشديد طوال الوقت ..
عاد ووضع الحقائب في السيارة، ثم جذب رانيا له بحب يودعان هاجر وصعد لسيارته وهو يقول ببسمة :
” أخيرًا رجعتي ومروة هترجع تيجي عندنا البيت تاني ”
لكن رانيا كانت عيونها موجهة للنافذة جوارها على صالح الذي جذبه محمود ليصعد السيارة وهو فقط يراقبها تضم حقائب الهدايا التي أحضرها لأجلها، ومرارة الفراق تترك اثرًا كالعلقم في حلقها لتتألم وتستند على النافذة بحزن، لا تدري أهي حزينة لمفارقة هاجر، أم حزينة لوداع كل من تعرفت عليهم خلال تلك الرحلة الصغيرة، أم أن قلبها يخفي في نفسه شيئًا آخر ؟؟؟ مجرد اسابيع قضتها هنا فتركت في نفسها شعورًا بالوحشة حين المغادرة، وكلها أمل أن تنقشع تلك الاحاسيس بمجرد عودتها لحياتها العادية، حيث لا شجار ولا ركض ولا مغامرات، حيث لا صالح….
صعد صالح للسيارة جوار محمود دون كلمة واحدة أو تعليق على أي شيء حوله، كان فقط صامتًا دون أي إشارة أنه معهم في السيارة، وهاجر كانت تتحدث لمحمود سعيدة أنها اطمئنت على هاجر بوجود عبدالجواد معها …
كان محمود ينظر لهاجر بحنان :
” شكل عبدالجواد ده بيحبكم اوي ”
ابتسمت له هاجر وهي تقول بجدية :
” اوي، هو عموما حنين على الكل، وخاصة رانيا، الدنيا كلها في كفة ورانيا عنده في كفة تانية ”
منحها محمد بسمة وهو ينظر بطرف عينه لصالح الذي كان صامت بشكل غريب ومن ثم أضاف :
” هتروحي الفرنة صح ؟؟”
لم تعلق هاجر على كلمته تلك فقد اعتادتها منه :
” أيوة باذن الله هفتحه عشان اتأخرت على المعاد اليومي”
” تحبي اساعدك ؟؟”
نظرت له هاجر بتعجب وهي تميل بجسدها قليلًا لتكون قريبة منه :
” تساعدني ازاي ؟؟”
” أنتِ حابة اساعدك ازاي ”
ضحكت هاجر ضحكة لطيفة بريئة :
” يعني صدقني أي شكل مساعدة أنا بفكر فيه عمره ما هيناسبك ”
” ده ليه ؟؟”
تحدثت هاجر وهي تحرك كفيها في الهواء ومحمود فقط يمنحها كامل انتباهه، ولا يعي بشيء في الكون سوى أنها هنا معه وقريبة معه :
” يعني أنت دكتور ماشاء الله، ممكن تعمل ايه في المخبز ؟؟ مينفعش طبعا تساعدني ”
اعتدل محمود في جلسته خلف المقود معترضًا على رغبتها في إبعاده عنها، سحقًا هل ستتسبب وظيفته الآن في اقصاءه عن بسكوتته الرقيقة ؟!
” وايه يعني دكتور ؟؟ أنا ممكن اساعدك عادي ”
ضحكت هاجر برفض تام :
” لا طبعًا اكيد مش هتقف تعمل مخبوزات أو تقدم الطلبات للزباين، أنت دكتور يا محمود، ليك مركزك برضو ”
تبًا لمركزه، هذا آخر همه في تلك اللحظة .
” وايه يعني دكتور، أنا ممكن اساعدك عادي ”
نظرت له هاجر باستنكار وقبل أن تقول كلمة قاطعها بجدية :
” اول ما نروح وريني اعمل القرص ازاي وسيبي الباقي عليا، اتفقنا ؟! ”
نظرت له هاجر ثواني قبل أن تبتسم تتشدق بعدم تصديق :
” اتفقنا يا محمود ”
وما اجمل اسمه إن كان من فمها مصحوبًا بنبرتها الرقيقة تلك، أيا ليته سجله حين نطقه منها، لجعله نغمة الرنين، والمنبه وكل شيء ولنام على نغمات صوتها قرير الأعين .
_____________________
يرتشف قهوته الحارة وهو يراقب بأعين متربصة كل حركة تصدر منها، وأعلى فمه ترتسم بسمة عابثة، وضع الكوب أعلى الطاولة، ثم مال بنصف جسده قليلًا يقول بصوت هادئ :
” لا لسه مفاقش، بس صالح بيقول الاحتمال الأكبر يفوق انهاردة ”
” تمام اول ما يفوق نقدر نضغط بيه على سعيد شوية، يمكن يتلم بدل اللي هيعمله”
” وهو هيعمل ايه ؟؟”
تنهدت ميمو وهي تفرك جبهتها بتعب :
” الفترة دي داخل صفقة كبيرة اوي وشكله ناوي على حركة اكبر من كل مرة ”
رفع صلاح حاجبه، ثم قال بجدية :
” هو سعيد ده مش بيتهد ؟؟ دايس في أي حاجة حرام؟؟ ”
ارتشف من كوبه، ثم صمت قليلًا قبل أن يضيف :
” دلوقتي محتاجين نفكر كويس عشان الخطوة الجاية لو كانت عشوائية، هترجع علينا بشكل عكسي وهنخليه يعمل حسابه ويتوقع بعد كده ايه ضربة ”
ابتسمت له ميمو وهي تنظر خلف ظهره :
” وعشان كده محتاجين مساعدة اكبر شوية من كل مرة ”
وقبل أن يستفسر صلاح عن أي شيء مما تقصد وجد أحدهم يسحب مقعد مجاور لميمو وكأنها كانت تنتظر إشارتها..
ورغم تعجب صلاح إلا أنه ابتسم بهدوء لتلك السيدة الجميلة الرقيقة التي تألقت بفستان سماوي اللون تناسب مع بشرتها البيضاء الصافية .
أشارت ميمو صوب الفتاة وهي تقول بجدية وبسمة خبيثة :
” قبل كده سألتوني على نقطة ضعف سعيد .”
صمتت تتجاهل تغضن ملامح الفتاة بحنق وكأنها ترفض تلك الصفة والتسمية بكل كيانها، لكن ميمو لم تهتم بكل ذلك وهي تعرّف عنها :
” الدكتور زهرة حمدان، دكتورة سعيد النفسية”
وما كاد أحدهم يجيب بكلمة واحدة حتى ابصروا من يجذب المقعد الاخير على الطاولة وهو يجلس بهيبة يضيف ببسمة عابثة يضع قدمًا أعلى الاخرى :
” والمدام….”
___________________________
إذن ؟؟
لا شيء، نحن فقط نستعد للجولة التالية، حيث ستكون اللعبة ” على المكشوف ” …..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى