رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم رحمة نبيل
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء السابع والثلاثون
رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت السابع والثلاثون
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة السابعة والثلاثون
وتذكر دائمًا كلما اصابك اليأس :
[سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ.]
صلوا على نبي الرحمة …
ولأن الخاتمة كبيرة بعض الشيء فتم تقسيمها على فصلين، ده الجزء الاول منه، ووعد مني لو لاقيت تعليقات لطيفة وعدد فوت كبير على الفصل هنزل الجزء الثاني بكرة باذن الله ❤️
_طب ولو معملتوش كده ؟؟
هنزله بكرة برضو عادي، أن تعلق أو لا شيء يعود لك عزيزي القارئ اللطيف، وأن تصوت للفصل أو لا فهي حريتك الشخصية، لكنه تقدير صغير لي، والتقدير الأكبر هو أن تساهم كلماتي في رسم بسمة على وجهك .
وبس كده عزيزي القارئ…قراءة ممتعة .
______________________
بعد إعلان سعيد الصريح والذي أخذ يعد له منذ أيام بناءً على نصائح صلاح له، بأن النساء لا يحتجن للمتخاذل الجبان الذي يخشى التقدم خطوة فيعيده التيار اثنتين، بل يعشقن ذلك الذي يقف في وجه التيار ويتحداه أن يعيده سنتيمترًا واحدًا .
والصمت الذي ساد بعد طلب سعيد لم يقطعه سوى صوت صفير خرج من فم محمود الذي أخذ يصفق ويصفر وهو ينظر للجميع بتعجب، لا أحد أخذ خطوة التشجيع غيره .
وفجأة حينما رأى جميع الأنظار تبتعد عن المعنيين من الأمر وتحلق حوله أنزل يده يقول بحرج :
” ايه محدش هيشجع ؟؟”
نظر له صلاح بحنق ليصمت محمود بنزق يتمتم بكلمات مغتاظة، ثم ضم يديه لصدره يعود بنظراته صوب زهرة وسعيد .
وزهرة كانت تنظر حولها لا تدري أترفض أم تقبل؟! هل تستمر في الرفض أم يكفيها كل ذلك ؟؟
وقعت عيونها على ميمو التي كانت تقف خلف سعيد تشير لها بالرفض، بل وتمادت أن هددتها عن طريق تمرير يديها على رقبتها في علامة السكين ..
وسعيد انتبه لنظرات زهرة خلفه فاستدار سريعًا ليمسك ميمو بالجرم المشهود تحاول أن تجبر زهرته على التمرد، رمقها سعيد بشر وهذه المرة هو من رفع يده يشير لرقبته بعلامة الذبح، مما جعل ميمو تنظر له ببسمة غير مصدقة، هل يهددها ذلك الحقير فقط لأنها تريد تربيته وتعليمه كيف يحترم المرأة معه ؟؟
كادت تتقدم منه لتفسد الأمر برمته، لولا يد صلاح الذي ضمها من الخلف بحب :
” بس يا حبيبتي سيبي الاولاد يحلوا مشاكلهم لوحدهم ”
” أنت مش شايف بيعمل ايه ؟؟ ده بيهددني، بعد كل اللي عملته، بعدين دي هتقبل، والله عيونها بتقول هتقبل، لسه مش دلوقتي احنا اتفقنا اسبوع مرمطة على الأقل و…”
ولم تكمل جملتها بسبب صلاح الذي جذب رأسها لاحضانه يكتم فمها وهو يربت على ظهرها يهمس لها بكلمات خافتة.
وسعيد في تلك اللحظة ابتسم يبعد عينه عنهما يعود لزهرة التي كانت ما تزال في عالم بعيد عن الجميع، لا تعلم أي شيء من المفترض أن تفعل الآن ؟؟
سعيد تغير وهي تعلم هذا جيدًا، عاقبته..نعم لكن ليس على كل ما فعل، هي لم تريه القليل فقط مما أراها، أتسمتع لصوت قلبها الذي يخبرها أنه يكفي ماتفعل، هي في النهاية تعذب نفسها معه، أم تسير خلف حديث العقل الذي يخبرها أن تتريث حتى لا يكرر ما فعل ؟؟
نظرت صوب والدها الذي كان ينظر لها بمؤازرة، والدها الذي يعلم كل ما مرت به مع سعيد منذ كانت بالجامعة، في البداية غضب وصرخ بها ورفض أي علاقة لها معه، إلى أن شرحت له كل شيء وكل ما يخص حالة سعيد، وكل التطورات التي حدثت له داخل وخارج جدران السجن .
تنفست زهرة تحاول أن تجتذب نفسها خارج ذلك المأزق وقالت بهدوء تبتسم واخيرًا بعدما قررت أنها، ملت الفراق والبعاد، ملت الصراعات، لا تتذكر يومًا اجتمعت به مع سعيد دون أن يبكي أحدهما أو يرحل مفطور القلب، إن لم يكن كلاهما كذلك …
ربما تريه الويل لاحقًا، لكن ليس الآن، فالآن لديها رغبة عارمة في معرفة كي يكون شعور السعادة والفرحة :
” موافقة …”
تنفست بصوت مرتفع :
” موافقة يا سعيد ”
في هذه اللحظة شعر سعيد بأن العالم من حوله يدور وجميع الأوجه أصبحت مبتسمة، والهواء فجأة تحول لرائحة الياسمين احتفالًا بربيع قلبه المزهر.
أفق يا سعيد واستقبل افراحك ببسمة واسعة، ابتسم وامحو تلك الصدمة عن وجهك كي لا تبدو كالابله.
” أنتِ موافقة ؟؟ ”
ابتسمت زهرة تهز رأسها، ليستدير سعيد فجأة لميمو يقول بعدم تصديق :
” دي …دي …دي وافقت يا ميمو ”
نظر صوب نيرمينا التي كانت تبكي بتأثر وهناك بسمة واسعة ترتسم أعلى وجهها :
” وافقت يا نيمو ”
هزت نيرمينا رأسها :
” أيوة يا حبيبي مليون مبارك يا سعيد ”
فجأة أطلق سعيد صيحة مرتفعة يكرر كلماته بصوتٍ عالٍ علّ عقله يفهم ما حدث :
” وافقت…زهرة وافقت ..زهرة وافقت ”
كان يردد الكلمات عله يقتنع بها، وزهرة تنظر له بسعادة وهي لا تصدق نفسها.
هبط سعيد عن المكان الذي كان يلقي خطابه من عليه، يقترب منها بأقدام مهرولة، لدرجة أن زهرة تفاجئت وعادت خطوات قليلة للخلف كردة فعل طبيعية منها دون أن تشعر….
وسعيد لم يهتم ولم ينتبه حتى، بل توقف أمامها يقول بلا مقدمات :
” بعد اسبوع …نتجوز بعد اسبوع، إيه رأيك ؟!”
اتسعت عين زهرة بصدمة، ولم تستطع الرد، إذ تجاوزها سعيد ونظر لوالدها يترجاه :
” عمي أنا هجيب اهلي واجي اتقدم، ايه رأيك بعد اسبوع نعمل الفرح ؟! متشلش هم حاجة، أنا هرتب كل حاجة ”
تقدمت ميمو منهم تقول بجدية بعدما تخلت عن دور الحماة، وقررت لعب دور والدته للترفيه فقط :
” أيوة يا عمي متقلقش احنا مرتبين كل حاجة أنت بس وافق وسيب الباقي علينا ”
نظر لها سعيد بامتنان لتبتسم مربتة على كتفه، ثم نظرت لزهرة ووالدها والجميع ينظر لهما في فضول، قبل أن ينطق حامد بصوت هادئ :
” تعالى أنت بس البيت يابني نتكلم، واللي فيه الخير يقدمه ربنا …”
وسريعًا تعالت الصيحات والتهليلات، حتى من لم يكن يعنيه الأمر من رواد المكان، باركوا وهنئوا الجميع بسعادة كبيرة، وسعيد اتسعت بسمته يشعر أن أيامه السعيدة على وشك البدء …..
_____________________
” وايه اللي حصل بعد كده ؟!”
رفع سعيد عيونه صوب شاهين يميل بنصف جسده على الطاولة بينهما يطيل النظر له متسائلًا محتارًا، هو نفسه لا يعلم ما بعد ذلك، هل هو سعيد فعلًا، هل يستحق تلك السعادة من الأساس ؟!
” هيكون ايه اللي حصل يا شيخ شاهين؟! فرحت وكل اللي حواليا كانوا فرحانين وروحت مع عيلتي طلبت أيدها وبعد اسبوع الفرح، وبس كده ”
رفع شاهين حاجبه وهناك بسمة هادئة ترتسم على ثغره، يربت على كف سعيد المضموم أمامه :
” ما هو لو كان بس كده زي ما بتقول يا سعيد، مكنتش هتبقى قاعد قدامي دلوقتي في وقت المفروض تكون بتحهز لاسعد أيام حياتك زي ما كنت بتقول ”
رفع سعيد عيونه له وقد كانت ذابلة بشكل غريب، يشعر بشعور خانق داخله، ابتلع ريقه يبرر فشله في السعادة :
” ليه بتقول كده يا شيخ؟؟ أنا جاي عشان اشوفك، ولا مش عايز تشوفني ؟؟”
” لا يا سعيد أنا عايز طبعا اشوفك، لكن اكيد مش حابب اشوفك بالشكل ده، مالك يا سعيد ؟! ليه مش عارف تاخد نصيبك من اسمك، رغم أن ربنا بيفتح ليك طرق سعادة كتير قدامك ؟؟”
ابتلع سعيد ريقه يمسح وجهه، ثم همس وهو ما يزال يخفي وجهه بين كفيه :
” مش عارف افرح، كنت فاكر إني هبقى اسعد انسان في الدنيا لما فرحي على زهرة يتحدد، وأنا… أنا فعلا فرحان اوي بس، جوايا شعور أو هو صوت بيقولي إن…مش من حقي، أنا مكنش ينفع اوصل لهنا، أنا المفروض كنت …كنت كملت باقي حياتي في السجن بحاول اتوب، المفروض كنت دلوقتي قاعد في ركن ببكي في الضلمة، جوايا صوت بيقولي اني مستحقش كل الفرحة دي، أنا كنت ظالم ومتجبر ولسه متعاقبتش كفاية، لسه متعاقبتش ”
صمت يبتلع غصته يكمل بصوت ابح بسبب كتمه لصوت شهقاته :
” هو …هو ممكن يبقى الفرج مش دليل على الغفران يا شيخنا، يعني حياتي اللي ماشية كويس دي والسعادة اللي المفروض أحسها دي مش من حقي ؟! أو… ”
صمت وقد شعر بقلبه يتفتت بوجع كبير وما يقوله يقتله، لكنه يريد الاطمئنان :
” هو أنا ممكن اكون من اللي ربنا نزل فيهم الآية {ولا يحسبنَّ الذين كفروا أنما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نُملي لهم ليزدادوا إثمًا} يعني ممكن يكون اللي أنت فيه ده مجرد فترة ربنا بيمهلها ليا قبل ما اتعاقب تاني على اللي عملته يا شيخ شاهين ؟؟ أنا من ساعة ما قرأت الآية وانا مرعوب من السعادة دي”
ابتسم شاهين وقد أدرك ما يفكر فيه سعيد ليتنهد ويقول بهدوء محركًا حبات مسبحته بين أصابعه :
” بص يا سعيد، ربنا سبحانه وتعالى محتاج منك ايه عشان يتوب عليك؟ ”
نظر له سعيد بأعين دامعة ليكمل شاهين كلماته :
” محتاج بس منك قلب تقي ولسان نقي، محتاج توبة من القلب، توبة نصوحة، ولسان مستغفر يا صاحبي، ربنا محتاج منك بس تكون جنبه متنسهوش، تخيل ربنا ورغم كل الذنوب اللي بتعملها في حقك بيكون مستني منك بس كلمة (استغفر الله و اتوب اليه) عشان يغفرلك ؟! ربك رحيم يا سعيد وحشاه أنه يلقي توبتك في وجهك طالما من قلبك ونابعة من ندم ”
نظر في عيونه يدفع بالمعلومات داخل عقله :
” الآية دي اتقالت في الكافرين يا سعيد، عارف يعني ايه كافر ؟؟ كافر يعني اللي كفر بالله ولم يؤمن برسالته أو يصدق رسله، الكافر هو والعياذ بالله نقيض المؤمن، ليه متقولش إن أنت اللي ربنا قال عنهم {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا فأولئك يُبدِّل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا * ومن تاب وعمل صالحًا فإنه يتوب إلى الله متاباً} هو أنت مش توبت وندمت يا سعيد ؟؟”
وضع سعيد يده أعلى وجهه يبكي بوجع :
” والله ندمت يا شاهين، وكل لحظة بتعدي عليا في حياتي بندم اكتر، لما بشوف حياتي اللي ضاعت وعيلتي اللي كبرت وانا جوا السجن، وخوفي على كل اللي حواليا أن يحصل ليهم حاجة بسببي، كل ده بيزود ندمي، أنا بس … أنا بس خايف أن يبقى لسه …لسه المفروض مفرحش دلوقتي، حاسس بصوت جوايا بيقولي، لسه ..لسه وقت فرحتك مش دلوقتي ”
ربت شاهين أعلى كتف سعيد بحنان شديد يشعر بما يمر به ذلك الشاب، فقد استلم الشيطان عمله كي يريه أن توبته لم تكن كافية، يوسوس له أن الله لم يتقبل توبته، يدفع باليأس داخل صدره حتى يستسلم مجددًا للمعصية يأسًا من المغفرة .
” تعرف يا سعيد، ربك لما وضع آدم على الأرض مكانش مطالب منه ومن ذريته أنهم يكونوا معصومين عن الخطأ، وإلا كان خلقنا ملائكة لا تخطأ، يا صاحبي ده ربك من رحمته بينا بيقولك أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له”
نظر له سعيد من بين دموعه وكأنه يترجاه أن يصدق حديثه، وهو فعل إذ قال :
” كام مرة يا سعيد اتذكرت كلمة التوبة في القرآن الكريم ؟؟ ”
نظر له سعيد بجهل يقول بصوت ابح بعض الشيء :
” أنا… أنا معرفش، أنا لسه في الجزء الثالث ”
” باذن الله تختم القرآن، عامة يا سعيد ورد لفظ (التوبة) في القرآن الكريم في سبعة وثمانين موضعًا، متخيل عدد المرات ؟؟ وقد جاء في ثلاثة وستين منها بصيغة الفعل، من ذلك قوله عز وجل: {وتوبوا إلى الله جميعا} يعني ربنا كرر علينا وقالنا في القرآن في ٦٣ مرة أننا نتوب، وجاء في أربعة وعشرين موضعاً بصيغة الاسم، من ذلك قوله سبحانه: {إنما التوبة على الله }، ولسه بتفكر يا صاحبي إذا توبتك مش مهمة أو مش مقبولة ؟؟ يعني فكرك لو توبتك دي مش هتفرق ولا مهمة، كان ليه ربك سبحانه وتعالى قالك أكثر من مرة تتوب ”
تنهد شاهين يقول ببسمة ورضى تام :
” يا سعيد ده ربك سبحانه وتعالى هو اللي بيفتحلك طرق التوبة، بيقولك توب وارجع، تيجي تقولي لا أصل توبتي مش مقبولة ؟؟ يعني ينفع افتحلك بيتي واقولك ادخل يا سعيد وأصر عليك تدخل٦٣ مرة، بعدين واول ما تقعد وتبدأ تستقر في البيت وترتاح تفكر انك تقيل عليا ومش عايزك في بيتي ؟؟ ولو كده كنت فتحت ليك البيت اساسا يا سعيد؟!”
شعر سعيد بجسده يرتجف من حديث شاهين، كان واثقًا أنه هو الوحيد الذي سيعيده مجددًا للطريق، لطالما كان كذلك، طوال فترة سجنه وفي بداية الأمر كان ناقمًا كارهًا غاضبًا، ولم يتحمله سوى شاهين، حتى حينما تمت إحالته للمصح الخاص بالسجن للعلاج هناك، كان الزائر الدائم له هو شاهين، الذي أبى إلا أن يكون هو رفيق سعيد في رحلته صوب طريق الحق، أخذ يتردد عليه ويتلو عليه آيات من القرآن الكريم، حتى لان قلب سعيد وبدأ ينتظر مجيئه بفارغ الصبر ..
ابتسم سعيد يستشعر راحة كبيرة داخله من حديث شاهين له :
” ربنا يقدرني يا شيخ شاهين في يوم واكون زيك كده، راضي وقانع رغم كل اللي أنت فيه ”
ضحك شاهين براحة شديدة :
” وايه اللي أنا فيه يا سعيد ؟؟ الحمدلله صحة ونعمة كبيرة، بفتح عيوني الصبح بدون كلمة ( آه) النوم نفسه بدون قلق ده نعمة، عايش براحة الحمدلله، واهلي بخير حال، هطلب ايه أكثر من كده ”
” حريتك، مش عايز تخرج ؟؟”
” لا طبعًا عايز أخرج، لكن مش مكدر حياتي ولا متغاضي عن النعم اللي حواليا عشان بس ربنا حرمني من نعمة بسيطة زي الحرية، في الآخر الحرية حرية الروح يا سعيد مش الجسد ”
هز سعيد رأسه يقول متسائلًا :
” أنت مش بتزعل ؟؟ مش بتزعل عشان مظلوم ؟؟”
” لا طبعا بزعل، وساعات بحس القهر، لكن برجع وبقول الحمدلله، يا سعيد أنا في موضع قوة، أنا المظلوم والمظلوم أشد قوة من الظالم يا صاحبي، وتذكر أن يوم المظلوم على الظالم أشد وطأة من يوم الظالم على المظلوم يا سعيد، ربك حشاه يظلمني إلا لو عالم إني قدها، وأنا قدها ولله الحمد، خليك أنت كمان قد أي اختبار يا سعيد ”
ابتسم سعيد يشعر أن روحه أصبحت تهيم داخله براحة كبيرة، يا الله كان كمن يحمل ثقل جبل أعلى صدره وهناك من ازاحه بقوة عنه ..
” متقلقش يا شيخ شاهين أنا كلمت المحامي وهنقدم وهنرجع نفتح القضية والمرة دي الشركة نفسها هتبرأك”
نظر له شاهين بتعجب ليقول سعيد ببسمة واسعة :
” صدق او لا تصدق أصل جوز مرات ابويا طلع يعرف بلاوي عن الشركة دي، وجه معايا في المقابلة معاهم، و علمهم الادب ”
صمت يكتم ضحكته على ما فعل صلاح ذلك اليوم، ذلك الرجل الذي صدقت ميمو حين أخبرته أنه يملك ملفًا اسودًا للجميع، لا يوجد فاسد في هذه الحياة لا يملك له صلاح ما يدينه، دخل عليهم صلاح ذلك اليوم يقول بكل برود وبسمة واسعة :
” والله انا مليش مشاكل معاكم، أنا مشاكلي مع الفساد اللي عندكم، عشان كده من حق الناس تعرف أن صفقة الأدوية الفاسدة اللي نزلت السوق من كام شهر وعملت بلاوي في الشعب نفر نفر كان مصدرها مخازنكم أنتم مش مخازن الشركة إياها اللي عملتوها عشان تغطوا على غلطتكم، واهي القضية لسه شغالة، فرصة يلحقوا يلموكم قبل ما تتقفل ”
صمت يبصر الخوف الذي على أوجه أعضاء مجلس الإدارة، ليشعر أنه حقق هدف المنشود، فها هي سياسته في التعامل مع الجميع تنجح معهم :
” إلا لو رفعتوا الظلم عن الشيخ شاهين اللي اتهمتوه في اختلاسات من الشركة بالباطل وضيعتوا حياته لأنه رفض يمشي مع تيار الفساد بتاعكم ..”
ضحك سعيد على ملامح شاهين المتعجبة والذي قال بعدم فهم :
” وهو صاحبك ده ظابط ؟؟ ”
” لا هو صحفي بس متعرفش بيجيب الاخبار دي منين، والله بدأت اشك أنه ليه عين في كل حتة، أي حد في مصر له ملف اسود معاه، منهم اللي بيخرج ملفه وبيفضحه لو شاف أنه مستمر في الظلم والفساد حتى بعد تحذيراته، ومنهم اللي بيتعدل فبيسيبه في حاله ويولع في ملفه ”
هز شاهين رأسه قبل أن يبتسم ويقول :
” معنى كده إن الشركة وافقت بجد !!”
وافقت يا شيخ وفتح القضية اتقبل كمان وقريب هتنور بيتك، وهتديني دروس وتحفظني تاني …”
هز له شاهين رأسه موافقًا :
” باذن الله أنت بس اجهز للي جاي يا سعيد وعيش حياتك”
” هيحصل يا شيخ هيحصل ….”
______________________
وقد كان، بدأ سعيد يقفز في كل مكان متحمسًا سعيدًا، يلاعب الاطفال ويمازح الجميع، حتى أنه خرج مع الرجال لشراء ثياب عرسه، لا يصدق أنه حقًا يعيش كل تلك التفاصيل ..
ضحك ضحكة خافتة والسعادة تظهر للأعمى أعلى تقاسيم وجهه، ليجذب بذلك أنظار جميع الرجال، ويترك صالح الثياب من يده قائلًا بتحفز :
” بتضحك على ايه أنت ؟؟ مش عاجبك ذوقي وريني ذوقك يا عسل ”
امسكه محمود يربت أعلى كتفه :
” ميقصدش يا صاحبي هو يجي فين من ذوقك و شياكتك، بسم الله ما شاء الله عليك مثال للشياكة والأناقة”
ابتسم له صالح يربت أعلى كتفه :
” تسلم يا صاحبي مليش غيرك ”
جذب صلاح الثياب من يد صالح بشر وحدة يحركها في الهواء بحنق :
” ايه ده ؟؟ ايه ده ؟؟ ما تلبس بدلة سوبر مان احسن، يابني ارحمني ده فرح مش حجز كورة، شوف بدلة ولا أي لبس فورمال شيك ”
نظر صالح للثوب الشبابي بين كفي صلاح يستنكر ما يقول :
” أنت زعلان ليه دلوقتي ؟؟ هو فرحي أنا ؟؟ بعدين أنا لبست قبل كده بدلة في فرحي كفاية بقى ”
زفر صلاح يلقي الثياب أعلى الأريكة التي يجلس عليها رائد :
” مفيش فايدة فيك ”
نظر صوب نادر الذي كان يجرب العديد من الثياب الرسمية، ومن ثم يغيرها ويجرب غيرها :
” نادر لقيت اللي عايزه ؟؟”
رفع نادر عيونه صوب صلاح يهز رأسه نافيًا، ثم عاد لما كان يفعل ببساطة، وصلاح نظر صوب رائد الذي كان يتابع الجميع ببرود :
” وأنت يا حضرة المقدم ياللي محدش عارف يكلمك، حضرتك ممكن تتواضع وتلبس بدل زي عامة الشعب ولا نفصلك واحدة بالنسور والنجوم ”
ابتسم رائد يقول ببرود ومزاح :
” لا متتعبش نفسك، أنا عندي البدلة بتاعة الشغل هبقى ألبسها ”
زفر صلاح بغضب شديد بدأ يزداد شيئًا فشيء كلما تعامل مع أحدهم، تحرك بنظراته صوب محمود، وقد أصبحت ملامحه حادة :
” وأنت ؟؟”
جذب محمود أحد الثياب الرسمية المعلقة حولهم يقول مبتلعًا ريقه :
” أنا أنا هلبس بدلة طبعًا يا صلاح، أنا اساسا من محبي الرقي والشياكة زيك كده بالضبط ”
ابتسم صلاح برضى قبل أن ينظر صوب سعيد الذي كان يتحدث في هاتفه مبتسم الثغر :
” وأنت يا حبيبي اقفل التليفون وتعالى خليني اشوف دنيتك ايه ”
نظر له سعيد مستنكرًا، ينهي حديثه مع زهرة :
” طب يا زهرة هشوف صلاح عايز ايه وهبقى اكلمك لاحسن ده طالق عفاريته على الكل هنا ”
ضحكت زهرة من الجانب الآخر تتنفس بصوت مرتفع وهي ترى نظرات ميمو لها أن تنتهي :
” تمام يا سعيد سلام عشان ميمو شوية وهتطلق عفاريتها علينا هي كمان ..”
أغلقت الهاتف تركض سريعًا صوب ميمو قبل أن يزداد غضبها حدة على الجميع بمن فيهم هي ..
وميمو تنفث نيرانها في الكل تصرخ بهم أن ينفذوا ما تريد هي كي لا يفسدوا اليوم المنتظر ..
وفي الجانب الآخر عند الرجال .
كان الجميع ينتظر خارج غرفة تبديل الثياب في انتظار رؤية سعيد بالثياب التي اختارها صلاح له، ورغم رفض سعيد أن يتدخل أحد في اختياره بحجة أنه ليس ابلهًا في تلك الأمور مثل صالح أو محمود مثلًا، إلا أنه في النهاية رضخ للأمر ونزع البدلة من يد صلاح ودخل ليرتديها ..
تحرك صلاح صوب غرفة تبديل الثياب يطرق الباب بخفة :
” افتح خد الجزمة يا سعيد ”
صاح سعيد من الداخل بحنق :
” أنا اللي هختار الجزمة، أنا مش صغير على فكرة، أنا اكبر منك وبفهم اكتر منك ”
تنفس صلاح بصوت مرتفع مما جعل صالح يعود للخلف هو ومحمود، وصلاح مال على الباب يردد من أسفل أسنانه بغضب مكتوم :
” افتح أم الباب وخد الجزمة اللي أنا اخترتها، أنا مختارها تليق مع البدلة، اخلص ”
ثواني وفتح سعيد الباب يمد يده ليضع بها صلاح الحذاء مبتسمًا برضى تام، هو وعد ميمو أنه سيجعل سعيد يظهر في أفضل حالاته على الاطلاق، وهو يفي بجميع وعوده، خاصة إن كانت لمقدسه الحبيب …
دقائق حتى سمع الجميع صوت نقر حذاء على الأرضية الرخامية الخاصة بالمحل، رفع الجميع أعينهم بفضول قبل أن تتسع بانبهار وترتسم بسمة واثقة على فم صلاح يضم يديه لصدره يهنأ نفسه خفية على حسن اختياره .
والجميع نظر صوب سعيد بانبهار ليتحدث الاخير بقلق :
” ايه تمام كده ؟؟”
نظر الجميع لبعضهم البعض قبل أن تتعالى الصيحات والتهليلات السعيدة يلتفون حول سعيد، وسعيد ابتسم بسمة واسعة يتقبل بسماتهم وكلماتهم بسعادة كبيرة، لم يتوقع أن يصل لهذا اليوم، وحتى إن توقع فهو يومًا لم يحلم أن يكون محاطًا برفقة تساعده في ذلك الوقت ..
رفع صلاح ابهامة مبتسمًا راضيًا، قبل أن يخرج هاتفه يلتقط له صورة يرسلها لميمو يكتب تحتها كلمات قليلة ( سعيد بطلة عريس )
استقبلت ميمو الرسالة وهي تنظر لصورة سعيد ببسمة واسعة سعيدة، تتنفس براحة شديدة ترى بسمته الصافية، هي لم تكن غافلة عن حالته المزاجية السيئة منذ يومين، لكن بعد زيارة شيخه عاد بروح أخف نقية ..
رفعت نظرها صوب الفتيات حينما سمعت صوت تمتمات منبهرة وأصوات معجبة، أبصرت ميمو مظهر زهرة التي خرجت من غرفة تبديل الثياب تحمل فستانها الأبيض بين أناملها تشعر بجسدها كله يرتجف بلا تصديق .
ابتسمت ميمو بسمة واسعة وهي ترى نظرات زهرة لنفسها في المرآة، تبدو كنظرات مصدومة، غير مصدقة، نظرات شخص غارق فقد الأمل في الحياة، وفجأة وجد من ينتشله من بحار ظلامه صوب يابسة أحلامه ..
تتحسس زهرة الفستان بأصابع مرتجفة تشعر بقلبها يضرب صدرها بقوة شديد، تتنفس بصوت مرتفع لا تعي ما يحدث حولها، الآن وبعد كل تلك السنوات تحقق حلمها، ستصبح عروس مثل جميع الفتيات حولها، وممن تمنى قلبها.
ودون أن تشعر وضعت زهرة يدها على فمها تنفجر في بكاء عنيف وهناك بسمة غير مصدقة ترتسم على فمها، لتقترب الفتيات جميعهن منها يتحدثون لها بحنان وجمل متراشقة منبهرة
” يا قلبي زي القمر ”
” عاملة زي اميرات ديزني يا زهرة والله ”
” مبارك يا زهرة شبه الملايكة يا حياتي ”
” يا خسارتك في سعيد يا زهرة والله، القمر ده كله ليه؟! ”
” متعيطيش يا حياتي أنتِ زي القمر والله ”
كانت زهرة تبكي وهي مبتسمة تتقبل كلماتهم دون تصديق، وميمو تضمها لاحضانها تارة وتارة تسبيح ورانيا تربت على رأسها، بينما نيرمينا تراقبها ببسمة واعين ملتمعة بدموع سعادة، لا تصدق أن شقيقها قد آن أوان سعادته …
في تلك اللحظة أطلقت تسبيح زغاريد مرتفعة رنّ صداها في المكان باكلمه، سرعان ما شاركتها رانيا في الأمر وهي تزيد وتزيد من صوت زغاريدها، وزهرة تنظر لهم مبتسمة سعيدة …
هي أيام… أيام فقط، ايام قليلة وتصبح له ..
هل هناك شعور أكثر سعادة مما تشعر به الآن ؟؟؟
______________________
والإجابة جائتها بعد أيام قليلة، وكانت نعم ..
هناك شعور أكثر سعادة من ارتدائها لثوب عرسها، وذلك الشعور هو أن ترتدي ثوب عرسها له هو، وترى انعكاس صورتها في عينه المصدومة، ورغم أنها كانت على بعد درجات منه إلا أنها بصرت تحرك حلقه بتوتر ونظراته الزائغة التي ثبتها على وجهها.
اشتدت قبضة زهرة على يد والدها تهبط درجات ذلك الفندق صوب سعيد الذي كان ينتظرها في الاسفل بكل الشوق، وحوله جميع أفراد عائلته، النساء تطلق الزغاريد والرجال يربتون على كتفه مهنئين ..
وحينما أصبحت هي أمامه تلاشى كل ذلك، لا الرجال ولا النساء ولا أحد أصبح حولهم، فقط هو وهي، تراه أمامها يستقبلها بنظرات ما رأتها منه يومًا، نظرات جديدة تعهدها من سعيد .
وحينما توقفت أمامه ابتسمت له وامسكت طرف فستانها تنظر لعيونه بحب، ليتراجع سعيد للخلف قليلًا يميل لها كما كما لو كانت أميرة وهو أميرها الذي يستقبلها يوم التنصيب على عرش قلبه .
وزهرة فقط ابتسمت بسمة واسعة تمسك أطراف فستانها تحني ركبتها بعض الشيء تشاركه تلك اللعبة، اعتدل سعيد في وقفته، يمد كفه لها ينتظر أن تمن عليه بكرمها، وتمنحه للمرة الأولى منذ عقد قرانهما لمسة بريئة من كفها، وبمجرد أن استقر كفها بين يده حتى اشتدت كف سعيد على يدها تلقائيًا يجذبها له مبتسمًا ولم يقل سوى كلمتين فقط :
” مرحبا في حياتي ”
ابتسمت له زهرة تسير خلفه وهو شعر أنه يطير على السحاب يستمع لصوت قرع على الدف جواره وقد ترأس محمود مهمة الغناء لهما والجميع يردد خلفه كلمات يزفون بها زوجين طالت فترة اختبارهما…
محمود والذي كان شهيرًا وقت جامعته بقيادة مسيرات وهتافات وقيادة الحفلات، أحسن اختيار اغنية مناسبة يغنيها بصوت جهوري يرن في المكان وهو يتقدم الزوجين، وعلى جانبي الممر يحيط بهم جميع أفراد العائلة من الطرفين يصفقون ويرددون خلف محمود .
وأنس الذي كان يرتدي ثياب تشبه خاصة سعيد يصفق بسعادة كبيرة مع الجميع وكذلك جميع الأطفال يحلقون حول سعيد وهم يحملون شموع ..
كان صلاح يحمل أنس فوق كتفه وهو ينظر بعيون حريصة صوب باقي الصغار خوفًا أن يصيب أحدهم نفسه بأذى بسبب الشموع، وميمو تصفق بكل سعادة لسعيد كما لو كان طفلها قد نضج ويُزف الآن.
وبمجرد أن وصل الزوجين للمنصة التي تتوسط المكان زاد غناء محمود وتفاعل الجموع معه، وماجد يصفق لابنه يشجعه، وكذلك هاجر التي كانت تراقبه بفخر، وجهاد تدور حول والدها بالشمع بدلًا أن تفعل مع العروسين وكأنها تزفه هو، مال محمود لها وهو يزيد من ضرب الدف وينظر لها بحب شديد، لتقترب منه جهاد تضع قبله على وجنته، فتوقف محمود عن الغناء وهو يضحك بسعادة يحملها على يديه يكمل غناء معطيًا صالح الدف ليكمل هو قرع عليه .
وصالح الذي يحمل فوق أكتافه بلال، تولى منه مهمة ضرب الدف، والجميع قد اندمج في هذا، وسعيد ينظر حوله للجميع بمشاعر مختلطة يغلب عليها التأثر والسعادة، الله رزقه بكل تلك السعادة وهو حديث العهد بالتوبة، ماذا لو كان نقيًا من يوم مولده حتى الآن ؟!
شعر بدموعه تتجمع في عيونه، وفجأة وجد زهرة تميل عليه وهي تقول بصوت خافت :
” أنت زي القمر يا سعيد انهاردة ”
سقطت دمعة سعيد دون أن يتحكم بها يميل يقتنص قبلة من جبهتها هامسًا :
” وأنتِ الشمس اللي بتمد القمر بالضوء والحياة يا زهرة ”
نظرت له زهرة بأعين ملتمعة تتنفس بصوت مرتفع، وصوت محمود ما يزال يرنّ صداه في الخلفية وهو يغني :
” وتوتة توتة …وخلصت الحدوتة ”
ضحكت زهرة ضحكة خافتة تقول بصوت حنون :
” تفتكر فعلا خلصت ؟!”
” هي ايه ؟!”
” الحدوتة يا سعيد ”
نفى سعيد برأسه يميل لها حاملًا إياها بين يديه يهمس امان وجهها بحب :
” لسه بنبدأ اول فصل فيها يا زهرة، اللي فات ده كان مقدمة بس ”
وبمجرد انتهاء جملته بدأ يدور بها وميمو تطلق زغاريد عالية وهي تكاد تتراقص من السعادة، نظرت لسعيد وهي تشعر برغبة عارمة في ضمه والتربيت عليه واخباره أنه نجح، نجح في اختباره ..
وصلاح جوارها يضمها له بحب كبير يهمس لها :
” عقبال ما تشوفي أنس وهو عريس يا أم أنس”
نظرت له ميمو بأعين دامعة:
” يااه يا صلاح أنا مش مصدقة إني ممكن ربنا يطول في عمري وأشوف اليوم ده بجد ”
” هتشوفيه يا قلب صلاح باذن الله، أنتِ بس ابتسمي كده عشان مروحش انكد على سعيد ليلته ”
” على ايه سيبه يفرح شوية قبل ما يتنكد عليه ”
أجاب صلاح بجدية مبتسمًا :
” مظنش إن شخص زي سعيد ممكن يعارض النكد اللي من النوع ده ابدا بعد سنوات جفاف، النكد هيبقى على قلبه زي العسل ”
ضحكت ميمو بصوت مرتفع وهو ابتسم يضمها بحب شديد، وقد بدأ يشعر أن ما يحدث نهاية ممتازة لقصته، نهاية جزء وبداية جزء آخر، فهو وإن أنهى جزءه الاول، سيبدأ في آخر..
كان صالح يقف مع رانيا وهو يحمل بلال أعلى كتفه بعدما فرغ من قرع الدف، يرى ملامح رانيا المتأثرة :
” ايه يا رانيا هو أنتِ أم العروسة ولا ايه ؟؟”
نظرت له رانيا بحنق شديد ثم قالت تحاول تمالك فورة المشاعر داخله والتي يزيد حملها من حدتها :
” متأثرة يا صالح، يعني مش شايف قصة الكفاح، بقالهم يا حبة عيني سنوات طويلة متعذبين عشان اليوم ده، تخيل يا صالح ميمو قالتلي انهم بقالهم متعلقين كده ١٦ سنة ؟”
تشنج وجه صالح بحنق يدفع الدف صوبها لتتلقفه بصدمة من ردة فعله وهو قال ببساطة :
” اهو العذاب اللي سعيد عاشه في ١٦ سنة، اخواتك خلوني أعيشه في كام شهر خطوبة”
” ايه يا صالح يا اخي، ما جاء بسهولة يذهب بسهولة يا جدع، اخواتي بس كانوا عايزين أنك مش هتفرط بيا ”
أطلق صالح صوتًا ساخرًا من حنجرته :
” والله ؟؟ يعني هو اللي عملوه ده عشان مفرطش فيكِ؟؟”
هزت رانيا رأسها بايجاب ليميل صالح قائلًا بجدية :
” بالك يا رانيا أنا لو كنت إنسان طبيعي كنت فرطت فيكِ من اول ما لمحت وش اخواتك اساسا ”
تخصرت رانيا بحنق وقد اشتعلت عيونها :
” ومفرطتش ليه يا صالح طالما الموضوع جاي عليك بخسارة كده ؟!”
” ما أنا قولتلك لو …لو كنت إنسان طبيعي، إنما أنا ياقلبي مش كده، اخواتك لو مش متربيين، فأنا اهلي لما جم يربونا لقوا صعب يربوا اتنين سوا، فاختاروا صلاح بس وربوه وسابوني اربي نفسي تربية ذاتية، وبقيت زي ما أنتِ شايفة كده ”
ابتسمت رانيا تقترب منه تعدل من وضعية سترة بدلته التي أجبره صلاح على ارتدائها :
” عسل والله ”
أطلق صالح ضحكات صاخبة يقول :
” الشخص الوحيد اللي كل ما أفقد الثقة في نفسها يرجعهالي ”
غمزت له رانيا بحب وهو ابتسم يضم بيد وبالاخرى امسك يد أميرة التي كانت تصول وتجول بين ممرات القاعة، وفوق كتفه يجلس بلال سعيدًا من الإطلالة في الاعلى .
وفي أحد الأركان كان محمود يضم كتف ماجد بيد واليد الأخرى تحمل جهاد وهو يرقص بحماس وسعادة كبيرة وهاجر تقف أمامهم تصورهم ببسمة وهي تقول بسعادة :
” ارقصي مع بابا يا فراولة ”
بدأت جهاد ترفع يديها في الهواء وهي تصفق بسعادة ومحمود يبتسم لها ويرقص مع والده بسعادة كبيرة، حتى أخذ منه ماجد الصغيرة كي يراقصها هو، ومحمود تحرك صوب هاجر يغمز للكاميرا قائلًا :
” ما تيجي ترقصي معايا يا بسكوتة ؟؟”
أغلقت هاجر الهاتف تضعه في حقيبة يدها تقول بخجل :
” دلوقتي ؟؟”
” هو ايه اللي دلوقتي يا نواعم ؟! احنا في فرح ياقلبي، بعدين محدش اساسا مركز معانا ”
وقبل أن تعترض أو تبدي رأيًا جذب محمود يدها يجعلها تدور حول نفسها ويراقصها يرى بسمتها الواسعة وهي تنظر لعيونه وهو يسبح بين خاصتها…
وعلى عكس محمود، كانت نيرمينا هي من تجذب يد نادر تجبره على الرقص معها، وهو يضحك ضحكات مكتومة يشاركها الرقص مرغمًا فقط كي لا يحزنها وهي تضم نفسها له مطمئنة أن زينب بين أحضان خالها ..
اقتربت نيرمينا من نادر تشير له بكلمات الأغنية بسعادة كبيرة وهو يبتسم لها بسمات واسعة سعيدة، حتى أنه اندمج في الرقص وأصبح هو من يتولى دفة القيادة، يحركها حركات بسيطة تنبض بالحب المكنون داخله …
كان رائد يجاور تسبيح يضمها له بحب، يميل عليها كل ثانية والأخرى يداعب مسامعها بكلمات رقيقة محبة وهي تطلق ضحكات عالية، تلاشت بين اصوات سماعات الصوت الصاخبة تنظر له بحب من خلف نقابها ..
امسك رائد كف يدها يلاطفه بأصابعه وهو يهمس لها :
” عاملك مفاجأة انهاردة ”
نظرت له تسبيح بفضول شديد مبتسمة :
” مفاجأة ؟! مفاجأة ايه ؟؟”
” لما نروح هتعرفيها”
نظرت له بحنق ظهر واضحًا في عيونها، ليبتسم هو يضم يدها له يميل عليها هامسًا :
” الحاج هياخد القردين بتوعك اللي عمالين يتنططوا معاه واحنا هنحلصهم بعدين، عايز انهاردة نكون لوحدنا ”
نظرت له بتفاجئ فليس من عادة رائد أن يرسل الاطفال أحدهم في منتصف الأسبوع، لكن وقبل أن تقول كلمة اقترب محمود من رائد يجذبه لهم وقد اجبر جميع الشباب سعيد ليهبط ويشاركهم الرقص ..
كان الجميع يحيط بسعيد داخل دائرة يمسكون أكتاف بعضهم البعض وهم يهللون ويقفزون واصواتهم قد بدأت تغطي على صوت الاغاني ..
كان صلاح يغمز لسعيد مشيرًا له يغني كلمات الأغنية الصادحة، يمسك يد سعيد يجبره على الرقص معه على انغامها …
” سمع هوس ما تهدى واستنى …ويا حزن ابعد بعيد عنا…رايقين ومروقين حالنا ومجاش اللي يضايقنا ”
أطلق سعيد ضحكات مرتفعة وهو يشاركهم الرقص مجبرًا أو هذا ما يظهره فقط، لكن من داخله كان يرحب بكل ذلك فرحًا .
بدأ صالح يغني هو الآخر يدخل لدائرة الرقص يجذب له سعيد يتراقص معه وكذلك نادر ومحمود ورائد، جميعهم انضموا يتنافسون على اسعاده وإظهار سعادتهم وفرحتهم لأجله
في تلك اللحظة لا يدري سعيد السبب، لكنه تذكر يوم ذهب مجبرًا مع ميمو لحضور خطبة صالح في الإسكندرية، يوم كان يقف في ركن بعيد عن الجميع، يراقبهم من عالمه الكئيب المظلم، يتساءل عن شعورهم وهم متكاتفين يتراقصون سويًا ويتضاحكون، وقتها كان يشعر يقينًا أنه يومًا لن يعش تلك اللحظات أو يتفهم ما يشعرونه، لن يشاركهم شيء كهذا، بل هم من سيرفضون أن يشاركوا مجرم مثله رقصات سعيدة ودودة كتلك، تلك اللحظات التي كان ما يزال يغوص داخل ذنوبه ..
والآن لم يشاركهم فقط الاحتفال كما تخيل، بل كان هو بؤرة ذلك الاحتفال، والآن يختلف عن ذلك اليوم، إذ كان وقتها غارقًا في الخطيئة، والآن هو على أعتاب التوبة .
وبعد جولات من الرقص والغناء التي شارك بها جميع رجال الحفل، والنساء فقط يشاهدن من بعيد يصفقن، عاد سعيد صوب مقعد يتنفس بتعب شديد، لكنه كان وللحق تعب لذيذ رائع يتذوقه للمرة الأولى .
فجأة توقف حينما أبصر ميمو تقف تشاهد رقصات نادر وضحكاته مع الجميع وسعادته، ابتسم يغير طريقه صوب ميمو التي نظرت له بتعجب، لكنه فقط ودون كلمة واحدة مال عليها يضمها بحب اخوي كبير يهمس لها بامتنان شديد :
” شكرا يا ميمو، شكرا على مساعدتي وأنك عمرك ما فقدتي الأمل فيا، في الوقت اللي أنا فقدت الأمل في نفسي ”
ابتسمت ميمو بتأثر تربت على ظهره بحنان شديد :
” ماما زينب قالتلي أن تحت كل اللي بتظهره ده فيه شخص بيحارب عشان ياخد فرصته ويعيش، وانا معملتش غير اني ساعدته ياخد فرصته يا سعيد ”
ابتعد سعيد عنها ينظر لها بحب شديد :
” مش هنسى عمري كله اللي عملتيه ليا يا ميمو، وهعيش حياتي كلها ادعيلك ربنا يجازيكِ خير على مساعدتي، أنا مدين ليكِ بعد ربنا بحياتي الجديدة ..”
نظر صوب نيرمينا التي كانت تضم زينب بحب وترقص معها ومع نادر ليكمل ببسمة :
” وحياة نيرمينا كمان، شكرا ”
ربتت ميمو على كتفه تقول :
” افرح يا سعيد وكفاية اللي عيشته، خد نصيبك من حياتك يا غالي، ومتنساش أي حركة كده ولا كده هتلاقيني زي الشوكة في زورك، أنا براقبك ”
اطلق سعيد ضحكات مرتفعة وهو يضع يده على رأسه كأنه يؤدي تحية عسكرية :
” زي الألف يا فندم، هتلاقيني بعد كده زي الألف ”
كام يرحل لكنه توقف مجددًا يتساءل بجدية :
” ميمو صحيح، زهرة قالتلي انها فعلا مقفلتش العيادة وكان فيه تصليحات مش اكتر، كنتِ تعرفي كده ؟؟”
هزت ميمو رأسها تراقب الجميع ببسمة جانبية:
” أعرف ايه ؟؟ أنا اللي قولتلها كده ”
نظر لها سعيد بصدمة :
” قولتي ليها ايه ؟! هو مش أنتِ كنتِ واقفة معايا المفروض ؟؟”
نظرت له ميمو بطرف عيونها تهز كتفها ببساطة شديدة :
” أيوة أنا كنت واقفة معاك، ومعاها هي كمان، أنا كنت عميل مزدوج ”
أطلق سعيد ضحكات صاخبة :
” عمرك ما هتتغيري ”
أنهى حديثه يعود صوب مقعده بأقدام متلهفة وبمجرد أن وصل وجد زهرة تستقبله بالبسمات ليمسك هو كفها يجذبها صوب المنصة حينما صدحت بعض النغمات الرومانسية الشبابية ليست تلك التي يرقص عليها البعض في العادة، وسعيد للحق كان رافضًا أن يتراقص بزوجته أمام الجميع، لذلك اكتفى بمسك يديها وتحريكها في الهواء بسعادة كبيرة، وزهرة تنظر له تردد كلمات تلك الأغنية على لسانها وكأنها توجهها له :
” أيوة كده ..يكمل كده معنى الحياة، ويبان بقى شوقي اللي كنت مخبياه ”
ابتسم لها سعيد وهو يجذب يدها أكثر له يضمها بحب شديد يستشعر لذة الانتصار؛ الانتصار بما عشت عمرك كله تسعى له، الانتصار بما حلمت به في كل نومة له، وحتى في يقظتك ..
كان الجميع من حولهم ينظرون لهم بانبهار وتأثر من تلك السعادة التي تظهر واضحة على وجوههم.
كان سعيد يمسك يد زهرة وهو يدور بها على المنصة وكأنه طفل نال لتوه جائزة سعى لها بكامل طاقته، أن تنال ما تحب بعد تعب كبير وانتظار شاق، يجعل لما تريد طعم الذ، وزهرة في تلك اللحظة التي كانت تردد الكلمات بسعادة تشارك سعيد سعادته، تترك لنفسها فرصة العيش واخيرًا كما تريد، كل ذلك في عين سعيد مثّل حلمًا كان على استعداد للموت لأجل أن يعيشه ثواني فقط …
________________________
قد تبدو تلك نهاية سعيدة مرضية للبعض، لكن مهلًا تبقى فصل أخير وجب ذكره في تلك الحكايات ..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)