روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء التاسع والعشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت التاسع والعشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة التاسعة والعشرون

”لو رُزِق العبد الدُّنيا وما فيها ثمَّ قال الحمدُ للّٰه، لكان إلهام اللّٰه له بالحمدِ أعظم نِعمة من إعطائه الدُّنيا؛ ﻷن نعيم الدُّنيا يَزول وثَواب الحمدِ يَبقى.“
– ابن القيّم.
صلوا على نبي الرحمة..
_________________
كانت نظراته تحوم حولها، وهي فقط تنظر له منتظرة أن يفعل ما تريد دون حتى أن تنطق، تثق في قدرة صلاح على معرفة ما تفكر به، وهو كان على قدر كبير من الثقة إذ فهم ما تريد …
حلم طفولي قديم عاشت تتمناه، رغبة مجنونة طمرتها داخل قلبها في انتظار أن تفصح عنها، لكن التجربة السابقة لم تكتفي بأن محت تلك الرغبة، بل دفنتها ودهستها أسفل اقدام الظلم .
ابتسم صلاح يتذكر جملتها التي أفصحت عنها في لحظة صراحة معتادة بينهما، كانا يجلسان على إحدى العتبات في الشوارع جوار سيارة صلاح يتناولان بعض الطعام قبل استكمال رحلتهما وفجأة قطع صلاح كل ذلك :
” ميمو هي ايه كانت احلامك عن الجواز قبل كده ؟! حابب أخد فكرة عن تفكيرك ”
صمت يقضم من شطيرته قائلًا بنبرة هادئة بعض الشيء :
” قصدي يعني قبل ما تتشرسي بالشكل ده ”
أطلقت ميمو ضحكات مرتفعة وهي تضع يديها على معدتها من نظراته لها، ذلك الرجل لن ينسى ما قصته على مسامعه، توقفت وهي تنظر بترقب لسؤاله غير المتوقع، لكنها رغم ذلك ابتسمت بسمة واسعة ومنحت لنفسها الإشارة الخضراء للحلم مرة أخرى بعدما سُلبت ذلك الحق :
” هو أنا تقريبا قولتلك قبل كده، موضوع البلاليين اللي فشل ده، وانك تيجي تتقدم ليا وأنا اعمل نفسي مكسوفة وده نلغيه عشان أنا مش مكسوفة منك، بس انا اكتر حاجة نفسي فيها بقى وعشت عمري احلم بيها هي أن…”
صمتت تنظر له تستكشف ردات فعله، وصلاح فقط يتابع بفضول شديد يسجل داخل عقله كل رغباتها، يود فقط أن تعيش التجربة معه كأنها مرتها الاولى، يتمنى أن يمحو كل ما سبق لها من فشل في أمر العلاقات والزواج، وربما يستطيع ذلك بمساعدة منها .
تركت ميمو شطيرتها على الحقيبة الخاصة بها ونهضت بحماس تقول :
” نفسي اللي يجي يطلب ايدي يقف في ميدان مثلا او مش شرط ميدان، يعني قدام الناس وخلاص، ميتكسفش أنه يركع قدامي ويمد أيده ليا وهو ماسك خاتم ويقول بكل حب ….”
كانت تنفذ كل ما تنطق به، إذ جلست على ركبتها أمامه تنظر له ببسمة وتمد يديه قائلة ما تود سماعه في مثل تلك اللحظات :
” ميمو تقبلي تكوني حياتي ومراتي وحبيبتي وكل ما ليا ؟؟؟”
ابتسم صلاح لها، ثم وضع شطيرتها في يدها الممدودة يقول بعبث :
” أنا فاكر اني عملت كده ليكِ قبل كده ركعت وطلبت منك الجواز، وجبتلك خاتم وطيرتيه، اعمل ايه تاني ؟؟”
قبضت ميمو على شطيرتها تعتدل في وقفتها، ثم عادت لتجلس جواره تقول بجدية :
” أيوة بس عملت كل حاجة على حدى، أنا بقى عايزة ميكس بينهم، نفسي أحس الشعور ده، اللي بشوفه في الافلام وبقرأه في الروايات، نفسي اعرف البطلات دول بيحسوا ايه في اللحظة دي، ولا اكمني يعني الشريرة مليش حق اعيش ده، وكمان أنا عايزة يتعمل ليا كده قدام الكل ”
أنهت جملتها تستدير برأسها لصلاح الذي كان يحدق في وجهها بهدوء، ثم ابتسم لها قائلًا :
” متقوليش كده يا ميمو أنتِ يمكن شريرة في كل القصص اللي حواليكِ، بس أنتِ بطلة قصتي الوحيدة ”
صمت ثواني، ثم أكمل :
” هفكر في إمكانية تنفيذ كلامك ده ”
” بجد أنت ممكن تعمل كده يا صلاح ؟؟”
كانت نبرتها مصدومة، هي لن تتوقع أن يفعل ذلك لأجلها مجددًا، فهو فعلها بالفعل ودون أن تطلب منه، صلاح الذي يمثل لها صورة لرجل مصنوع من الهيبة والهدوء والرزانة والتعقل، قد يفعل ذلك لأجلها على مرمى ومسمع من الجميع ؟
” مش أنتِ عايزة كده ؟؟”
هزت ميمو رأسها ببطء ليجيبها ببساطة شديدة :
” يبقى هعمل عشانك .”
أفاق صلاح من شروده في تلك الذكرى القريبة، وهو يرى ميمو تقف أمام الجميع تطالبه بوعده، ابتسم لها يقبل تحديها الذي التمع في عيونها، مدّ يده داخل سترته يخرج خاتمه الذي اشتراه لها منذ ذلك اليوم وقد تجهز لتلك اللحظة ..
ودون أي كلمة جلس صلاح على ركبته أمام الجميع ورفع العلبة أمام عيونها، ينظر لعيونها التي كانت متسعة بصدمة وكأنها لم تصدق أنه فعلها .
وقد كانت كذلك، هي فقط كانت تمازحه مطالبه إياه بوعد سابق، ولم تصدق أنه قد يفعلها لأجلها، ارتجف جسد ميمو تستمتع لكلمات صلاح الذي منحها بسمة هادئة عاشقة يردد عليها نفس كلماتها :
“مَقدس تقبلي تكوني حياتي ومراتي وحبيبتي وكل ما ليا ؟؟؟”
شعرت ميمو بأعين الجميع تُوجه عليها ووجها يحمر بقوة وقد استحكم الخجل منها، ابتلعت ريقها تنظر له تراه منتظرًا ردها.
بالله عليك أي رد ذلك وقد أضحت كل خلية بجسدي تشتاق قربك صلاح ؟؟
ابتسمت ميمو تأخذ منه الخاتم تضعه في اصبعها تقول بصعوبة بسبب نظرات الجميع حولها، كانت تود معرفة شعور البطلات، وهي لم تستشعر سوى الخجل والخجل فقط، بالإضافة لتسارع ضربات قلبها ..
” موافقة يا صلاح ”
ابتسم صلاح ينهض عن ركبتيه يعدل من وضعية بدلته وهو يغمز لها واضعًا العلبة داخل جيبه، حيث كانت مستقرة لأيام طويلة …
بينما الجميع حولهم يراقب ما يحدث بتأثر شديد، عدا صالح ومحمود اللذين علت نظرات الاستنكار ملامحهما، وقد تشنجت تعابيير وجهيهما بشكل مضحك :
همس صالح بعدم فهم لذلك المشهد أمامه :
” كويس أن رانيا مش معانا، دي كانت خلتني زحفت على ركبتي بلاد وعبرت بحور، أو بدلتني بصلاح ودفعت الفرق أسهل”
ومحمود وافقه الرأي يشكر ربه أن هاجر لم تحضر هكذا لحظة :
” حاسس أن احنا بعاد اوي، اخوك ده …ده.. طب ما تقول لاخوك يعلمنا ويكسب ثواب، لاحسن هاجر على تكة اساسا ”
رمقه صالح باستنكار شديد :
” يعلمك ؟! مش لما يعلمني أنا الاول، قعدته قدامي ساعتين عشان جملة واحدة وفي الآخر نسيتها، اللي زينا يا محمود مفقود الامل فيهم، فارضخ للأمر الواقع واتعامل مع هاجر بدماغك زي ما أنت، ربنا يتولانا برحمته ”
تحرك الجميع داخل غرفة نيرمينا، حيث سعيد الذي كان يطعمها بحنان شديد، وحينما أبصر الجميع قد دخلوا قال وهو يحدق في ميمو :
” خلاص هتتجوزي ؟؟”
هزت ميمو رأسها تقول ببسمة :
” عقبالك يا سعيد”
سخر منها سعيد في نفسه يراقب الجميع يتحركون صوب الأريكة الجانبية ليجلس عليها الشيخ ويبدأ في خطبة عن الزواج والمعاملة الحسنة وغيرها من الأمور التي تقال في مثل تلك المناسبات، ثم بدأ يعقد القرآن وصلاح يردد كل كلمة وقبله يتراقص بقوة، لا يصدق أنها أضحت قريبة لهذه الدرجة ..
وصالح الذي استوعب للتو ذلك الاسم قال بعدم فهم :
” يعني ايه مقدس دي ؟! مين ده ؟!”
هز محمود كتفيه بعدم فهم، ليسمع الجميع صوت سعيد يقول بسخرية :
” ده اسم العزيزة ميمو الحقيقي”
تشنج وجه صالح :
” أم سعيد ؟؟ مقدس ؟؟ من أي إتجاه ؟؟”
ابتسم له ميمو بكل برود وهي تتجاهل الرد عليه، بينما صالح لم يستوعب بعد كيف تحولت من ” أم سعيد ” لـ مقدس ؟؟
نظر لمحمود الذي لم يكن منتبهًا بكل ذلك، وصالح ما يزال يهذي بكلمات غير مفهومة :
” مقدس ازاي مش فاهم ”
وبمجرد نطق الشيخ بجملته المعروفة معلنًا بذلك زواجًا رسميًا بينهما، حتى انتفض صلاح مبتسمًا يطلق نفسًا كان يكبته أيامًا، ومن ثم تحرك صوب ميمو جاذبًا إياها بعيدًا عن الجميع مرددًا :
” خمس دقايق وراجع …”
ودون تفسير سحب ميمو _والتي حتى لم تكد تستوعب ما حدث منذ ثواني_ من بين الجميع تاركًا الكل ينظر لاثره بصدمة، فهذا صلاح الهادئ والرزين يخرج عن طور هدوئه دون حسبان، فما بالهم بصالح، والذي لا طور له من الأساس ليخرج عنه.
وعلى ذكر صالح، تحرك الاخير صوب والده يقف خلف المقعد الخاص به يقول متنحنحًا يميل بنصف جسده عليه هامسًا :
” بقولك ايه يا حاج، ما تكسب ثواب فيا وتجوزني أنا كمان؟!”
” اجوزك ايه مش احنا اتفقنا هناك أن كتب الكتاب كمان أسبوعين بعد ما فضحتنا وكنت هتولع فينا كلنا ؟!”
ابتسم صالح بسمة واسعة وقدر رقص قلبه فرحًا لتذكر الأمر :
” لا ما أنا عايز اولعها اكتر ونكتب الكتاب بدري شوية، إيه رأيك ؟؟ مش حابب تطمن على عيالك ؟!”
نظر له والده بحاجب مرفوع والحيرة تعلو ملامحه :
” امتى يعني ؟؟”
منحه صالح بسمة مستفزة وقحة :
” دلوقتي، إحنا نطب عليهم ونقولهم نسينا حاجة عندكم، فهما يقولوا ايه هي، وأنت يا حاج مرتضى يا كبارة يا محترم أنت تقولهم …نسينا مرات ابني ”
صمت ثم أضاف ببسمة :
” بزمتك مش حركة صايعة ؟!”
رمقه مرتضى بتهكم واضح :
” ربنا يصبرني عليك يا بني، ويصبر المسكينة اللي هتلبس فيك عمر كامل ”
اعتدل صالح معترضًا على تلك الكلمات من والده :
” مسكينة ؟! دي محظوظة يا حاج، بكرة دي كل البنات تبصلها وتقول عملت ايه حلو في حياتها عشان تتجوز واحد زيي من اللي هوريه ليها ”
سخر منه مرتضى بخفوت :
” من ناحية هتوريها فأنت هتوريها فعلا ….”
____________________________
كانت الغرفة ممتلئة بسحابة كثيفة من الدخان الابيض وكأن هناك مصانع تعمل بها، وهو يجلس بين كل ذلك لا يعطي اهتمام لشيء ولا حتى لوالده الذي يجلس أمامه يحاول أن يتحدث معه بجدية، هو لا يهتم لشيء سوى لتخفيف تلك النيران داخل صدره .
” ها قولت ايه يا غانم ؟؟ موافق على حوار الصفقة ولا اشوف غيرك ؟!”
نظر غانم لوالده من بين الأدخنة يحاول أن يلتقط ملامحه التي تلاشت بفعل العمر، منذ متى لم ير والده، عام ؟؟ اثنين ؟!
” ايه دلوقتي افتكرت غانم !! مش عندك سعيد باشا بتتعامل معاه وراميني زي الكلب ؟؟”
زفر متولي يتحرك ليجلس أمامه تاركًا ذلك المقعد النائي :
” ما أنت وأنا والكل عارف أن التعامل معاك صعب خاصة أنك بتتعامل بأسعار اغلى من الكل وأنا كده باخد بضاعتك بخسارة ”
ابتسم غانم بسمة جانبية ليست بالسعيدة أو البريئة اطلاقًا :
” وايه اللي جد ؟؟ أنا لسه زي ما أنا وبضاعتي بنفس السعر، ده يمكن كمان سعرها زاد عن الاول ”
” اللي جد إن سعيد مبقاش يقدر يفيدني في حاجة وأنا محتاج بضاعة عشان في ناس واعدهم ببضاعة جديدة ولو منفذتش وعدي هروح في داهية ”
صمت ثم قال محاولًا بكل يأس أن يستعطف تلك الصخرة أمامه :
” يرضيك يعني ابوك يتضر أو يحصله حاجة؟؟”
رمقه غانم ثواني قبل أن يهز رأسه بنعم مطلقًا ضحكات صاخبة، تسببت في اشتعال نظرات متولي الذي هتف صارخًا :
” بقولك ايه انا مش فاضي لللعب ده ولا الضحك بتاعك، اخلص وقولي معايا ولا اشوف غيرك ؟؟”
حدق به غانم لدقيقة كاملة دون رد قد يرضيه أو يخمد نيرانه، ومن ثم هز رأسه ببساطة شديد وهو يقول متنهدًا بتعب :
” ماشي ….”
” ماشي ايه ؟؟ ما تكلمني زي ما بكلمك ”
اعتدل غانم في جلسته يقول بجدية كي لا يستفز والده أكثر وهو يعلم تمام العلم كيف يكون حينما يُستفز :
” تمام موافق، بس بشروطي ”
جلس متولي مجددًا يظهر اهتمامًا مبالغ به قائلًا :
” ايه هي الشروط دي ؟؟؟؟؟؟؟”
_____________________
كان يقف معها في أحد الممرات الصغيرة التي يبدو كما لو أنها تحتوي مخزنًا أو ماشابه، ابتلع ريقه وهو يطيل النظر بها، وكأنه يراها لمرته الاولى ..
يتأملها بحب وهي تراقبه بتوتر، لمرتها الاولى تشعر بكل ذلك الخجل، وكيف لا وهي أمام الرجل الوحيد الذي انحنت له مشاعرها بعد سنوات من الجمود .
شعرت بجسدها يرتجف بقوة حينما استشعرت بكف صلاح يضم جانب وجهها لدرجة أن عيونها تحركت بشكل غريب صوب تلك الجهة التي يضمها لتظهر له مضحكة، انفجر صلاح في الضحك على مظهرها وهو يضع كلتا يديه على وجنتيها مرددًا على بعد صغير عن وجهها :
” اهو عشان متحولّيش في جهة واحدة ”
نظرت له بتوتر ليبتسم ودون أن يعطيها فرصة التفكير اختطف قبلة صغيرة من وجنتها لتبتلع هي ريقها وتعود برأسها للخلف ترمقه بصدمة ..
وصلاح لم يتمكن من كبت ضحكاته على مظهرها :
” ايه بتبصي كده ليه ؟؟”
وميمو المسكينة والتي كانت تختبر مشاعر جديدة البتة عليها، تشعر أن قلبها يحلق ولم تستطع أن تتحكم في ردات فعلها، لذلك فجأة وعلى غير المتوقع هجمت عليه تضمه كي تتلاشى أي تلاعب من جهته مرة أخرى .
وصلاح صرخ يعود للخلف بسرعة وقد فاجئه الأمر، لكن ميمو ضمته بقوة كأنها بذلك تكتفه و تعيق كل ما يحاول فعله بها.
” ده ايه ده ؟؟”
نظرت له ميمو تقول بجدية مطلقة :
” كفاية كده انهاردة وبكرة نكمل ”
ثواني فقط وانفجر صلاح في الضحك وهو يمد يديه يضم خصرها له بقوة شديد حتى كاد يطبعها عليه :
” هو ايه اللي نكمل بكرة؟؟ هو أنا يابنتي بعذبك ؟؟ بعدين فين الشراسة؟ لا فوقي كده ده أنا لسه بهزر معاكِ ”
وفجأة وقبل أن تستفسر عن شيء من حديثه أبعدها صلاح عنه ينظر لعيونها بقوة ممسكًا بكتفيها يقول بنبرة جادة اشعرتها بأهمية الحديث :
” ميمو حبيبتي أنا شخص مش متطلب أبدًا وكمان صبور أكثر مما تتوقعي، لكن أكثر من كام ساعة بعد كده مش هسمح ماشي ؟!”
وميمو لم تفهم ما يريد لأول مرة :
” أيوة يعني عايز ايه مني ؟؟ قول كلام بوضوح متلفش ”
” وأنا من امتى بكلمك بوضوح يا ميمو، هو الجواز كبس على عقلك ولا ايه، لا ده الايام الجاية دي هي أكثر أيام محتاج تفهميني بالتلميح ”
رفعت حاجبها مبتسمة بسمة جانبية :
” عشان تقل ادبك ؟!”
ربت على كتفها مشجعًا :
” الله ينور عليكِ عشان أقل ادبي، وهو أنا متجوزك عشان نلعب سوا شطرنج ؟؟ ”
أبعدت يديه عن كتفيها تحاول أن تخفي ارتجافها :
” أيوة بس أنا الفترة دي مشغولة في …”
قاطع صلاح حديثها مقتربًا منها يقول بجدية كبيرة وتحذير :
” لا يا قلبي مش أنا اللي باجي بالكلمتين دول، والله لو عندك اجتماع في الأمم المتحدة لتحديد مصير دول في حالة حرب برضو هتقفي قدامي وتستقبلي أحضاني وحبي كما أريد وأحب، اتفقنا ؟؟”
ختم جملته واقفًا أمامها، وقبل أن تجيبه بكلمة قاطعها صلاح واضعًا يديه أعلى فمها قائلًا بنبرة هادئة متعقلة :
” خلاص اتفقنا، دلوقتي ممكن اعمل اللي كان نفسي اعمله من زمان ؟!”
تراجعت للخلف خوفًا من نظراته ليبتسم لها مطمئنًا يقترب نفس الخطوات التي تراجعتها، ودون كلمة واحدة جذبها له بكل لطف يمتلكه وبهدوء شديد متناسيًا المزاح والعبث الذي كان يمارسه عليها منذ لحظات فقط .
وميمو رغم صدمتها الاولى ابتسمت تستشعر أحضانه ودفئها، الاحضان التي تاقت يومًا للارتماء بها متمرغة بها كقط صغير بين الرمان الدافئة.
تنهدت بصوت مرتفع تستمتع بكل لحظة داخل احضانه، وصلاح زاد من ضمها أكثر يقبل خصلات شعرها هامسًا لها :
” ميمو ”
” امممم”
” أنا كنت بهزر معاكِ، أنا مستعد اصبر سنوات وعقود لو هلاقيكِ جايزة لصبري في الاخير ”
ابتسمت ميمو بين أحضانه تقول دون خجل منه وقد شعرت باستقرار نبضات قلبها وأخيرًا:
” وأنا مش عايزة اخرج من أحضانك يا صلاح، أنا … أنا في عز ضعفي كان الشيء الوحيد اللي بفكر فيه هو أحضانك، ومهما قعدت اتخيل مكنتش هتخيل كل الدفى ده، صلاح أنا….”
تنفست بصوت مرتفع ترفع عيونها له مبتسمة :
” بحبك ”
تأوه صلاح مقبلًا جبينها بحب شديد :
” وصلاح مجنون بميمو، وعاشق لمقدس المنطقة المقدسة في قلبه، محدش له الحق يطأها ولا يسكنها غيري ”
ابتسمت له مقدس بسمة واسعة عبرت فيها عن القليل فقط مما تمتلك له من مشاعر داخل صدرها، تداعب لحيته المرتبة بأناملها هامسة :
” وأنت يا صلاح، كنت صلاح لأي خراب في حياتي، صلاح لنفسي وحياتي وكل مشاكلي ”
غمز لها صلاح قائلًا بخبث :
” الدور على قلبك، محتاج تصليح سريع ”
بادلته البسمة بأخرى مستمتعة بذلك :
” خلاص أنا مستعدة اسلمه ليك واستلمه بعد ما يتصلح ”
” مظنش اني هقدر اسلمه ليكِ تاني ”
رفعت ميمو يده تتحسس خصلات صلاح محققة بذلك رغبة غبية كانت تؤرقها الكثير من الايام :
” إذن سيد صلاح …هو لك بالكامل ”
ضمها له صلاح مرة أخرى يقبل خصلاتها بحب شديد :
” مش هتلاقي حد يحافظ عليه قدي يا ميمو، ولا حد هيعتني بيه زيي …”
” وأنا واثقة في كده يا صلاح …”
___________________
ومن بعد كل استراحة تحين لحظة العودة للمعركة، لحظة تخرج بها كامل الطاقة التي جمعتها خلال استراحتك النفسية، وها هم جميعًا يعودون لساحة المعركة .
في اليوم التالي ..
خرج صالح من غرفته يعدل من وضعية ثيابه، ثم ألقى بملف أمام رائد يقول :
” شوف كده وابقى سيبه في اوضتي تاني ”
كانت جملة غامضة على الجميع لكنها ليست كذلك على رائد الذي ابتسم محدقًا بالاوراق أمامه، ثم رفع عيونه لصالح :
” تمام متقلقش أنا هعامله بما يرضي الله ”
في تلك اللحظة خرج صلاح من غرفته يتحدث في الهاتف مع أحدهم أثناء تعديله لسترته وتمرير يده عليها خوفًا أن تكون بها مجرد كسرة صغيرة تبعثر من هيئته المرتبة :
” لا أنا جاي اهو ومعايا المقال……متقلقش هو أنا عمري في حياتي عملتلك مقال أي كلام ؟! المقال على الفرازة عشان خاطرك….تمام نص ساعة وأكون عندك ”
أغلق الهاتف ينظر لرائد الذي كان مرتديًا زي العمل بعد أيام قضاها في إجازته :
” رايح الشغل أخيرًا ؟!”
وضع رائد اشياءه داخل جيبه، ومن ثم أخفى سلاحه باحترافية معتادة منه يقول ساخرًا من حالته :
” اهو قولت بلاش اختبر صبر سيادة اللواء أكتر من كده، لاحسن شوية وهيحولني للفرقة الموسيقية في احتفالات عيد الشرطة ”
تحرك الثلاثة صوب الباب الخاص بالمنزل ليجدوا تسبيح تستقبلهم وهي تقول بنبرة هادئة :
” صباح الخير، حضرت ليكم الفطار ”
كانت تتحدث وهي تمد يديها بثلاث حقائب تحتوي بعض الشطائر مما جعل رائد يبتسم لها بحب متحركًا لأخذ الثلاث حقائب له :
” تعبتي نفسك يا توتا والله ما يستحقوا ”
سحب منه صالح الحقيبة الخاصة بعنف شديد وكأنه يستنزع حقه، ودون تفاهم بدأ يفتح الحقيقة ويخرج ما بها من شطائر متناولًا إياها بنهم شديد :
” سندوتشات ايه دي ؟؟”
أطلق رائد صوتًا ساخرًا :
” هيفرق معاك ايه ؟؟ ما أنت طفحتها ”
لم يهتم صالح وهو يتلذذ بفطوره متحركًا صوب درج المنزل كي يلحق بعمله :
” جبنة رومي، مع اني بحبها مثلثات بس مقبولة منك يا تسبيح، يلا امشي أنا بقى عشان زمان محمود اتحمص تحت البيت ”
وبمجرد رحيله نظر صلاح صوب تسبيح يقول بهدوء وبسمة واسعة :
” شكرًا يا آنسة تسبيح تعبناكِ معانا والله ”
ضرب رائد كتفه حانقًا :
” ايه يا عم الاعمى، آنسة مين؟؟ مش شايف البأف اللي واقف قدامك ؟!”
ابتسم له صلاح يجذب منه الحقيبة الخاصة به على حين غفلة منه غامزًا :
” شايفك يا حبيبي، ربنا يباركلنا فيك يا رائد، يلا امشي أنا عشان متأخرش على الجريدة ”
وبمجرد رحيله نظر رائد لتسبيح التي أطلقت ضحكات خافته مقتربة منه وهي تربت على ذراعه بحب :
” ربنا يوقفلك ولاد الحلال يا رائد، متنساش تقرأ الاذكار وأنت ماشي عشان تحفظك ”
ابتسم لها رائد بحب شديد، ثم امسك رأسها يجذبها له مقبلًا إياها بحنان كبير :
” حاضر ياقلبي، خدي بالك من نفسك، هكلمك كل شوية اطمن عليكي، اتفقنا ؟؟”
هزت رأسها له مودعة إياه، ثم عادت صوب الشقة الخاصة بها كي تكرر يومها السابق ويومها الذي يليه، ستجلس لقراءه القرآن، ومن ثم تنهض لتحضير الطعام للجميع، حياة مملة للبعض، لكنها كانت أكبر أمنياتها قديمًا، أن تحظى بحياة عادية هادئة .
_________________
يقود السيارة وهو يتحدث بحنق شديد حول ما يعانيه، متهمًا صالح بعدم الاهتمام به أو بمشاكله، وفي الحقيقة صالح كان فقط يحاول أن يتحدث مع رانيا منذ الصباح وهي لا تستجيب .
” أنا مش عارف هقولها ايه ؟؟ ابرر ليها ايه ؟! اقولها معلش اصل أنا كنت متخلف وطايش وغبي ؟! ولا اقولها ايه؟؟”
كانت تلك كلمات محمود المتذمرة قبل أن يقاطعه صوت صالح الشارد :
” معقولة يكون اخواتها اخدوا منها التليفون عشان متكلمنيش ؟؟ وصلت بيهم للدرجة دي ؟!”
نظر لمحمود متسائلًا :
” تفتكر أرن على عبدالله ولا هيكون عشم اوفر ؟؟ اقولك أنا هكلم عم رؤوف ”
تشنج وجه محمود وقد شعر بالغيظ الشديد يملء صدره من ذلك الأخرق الذي لا يستمتع لما قال ولا يشعر بمصابه :
” أنت يا بني آدم مش بتحس ؟! بقولك النواعم بتضيع مني، أنا بضيع دلوقتي وأنت تقولي رانيا ؟؟ يا اخي ما رانيا معاك مش هتطير، خليك فيا أنا ”
رمقه صالح باستهجان شديد :
” محمود أنت حاطط عينك في حياتي ؟؟ مش كفاية صلاح امبارح ؟؟ احنا اتفقنا محدش يبص للتاني في حياته يا صاحبي ولا ايه ؟؟”
” احط عيني في ايه ؟؟ يوم ما أحط عيني في حياة حد هيبقى أنت ؟؟؟ أنت مش معايا اساسا ولا مركز في ….”
وقبل أن يكمل محمود جملته شعر بضربة كبيرة تصيب سيارته من الخلف، ولم يكد يتحكم بها حتى انزلقت الاطارات وانحرفت السيارة بقوة شديدة عن الطريق تدور بشكل مرعب وصوت صرخات صالح يعلو يحاول أن يتمسك بالسيارة، ومحمود قد ملء الرعب وجهه حتى شعر بقرب توقف قلبه يحاول التحكم بالسيارة، ولم يوقف السيارة عن الدوران سوى عمود إنارة اصطدمت به في قوة مرعبة تسببت في تدمير الجزء الامامي بالكامل.
كان لا يعي شيئًا، سائل سميك يهبط أعلى وجهه وصوت صراخ يحوم حول السيارة المدمرة، حاول تحريك يده ليجذب صديقه او يحرك جسده، لكن الأخير كان كمن فارق الحياة، ابتلع ريقه بصعوبة يهمس بصوت مرتعب وقد بدأت دموعه تهبط بقوة ورعب :
” محمود…محمود ”
ولم يلقى ردًا منه، ليتململ صالح في جلسته بعنف شديد تسبب له في الام مبرحة، قاومها وهو يجذب ذراع محمود :
” محمود أنت كويس؟؟ محمود رد عليا ”
ولم يشعر صالح بشيء، سوى بمن يحاول سحبه من السيارة وأصوات الاكفة تُضرب في الخارج وصوت الابتهالات والدعوات تكاد تصم أذنه …
قاوم صالح السحب يرفض ترك محمود وهو يبكي بوجع :
” محمود، محمود فتح عيونك يا محمود، بالله عليك ما تعمل كده، يا محمود ”
جذبه رجل للخارج وهو يحاول أن يساعده على الخروج من أسفل حطام الجزء الامامي للسيارة :
” لا حول ولا قوة إلا بالله، متخافش يابني إحنا طلبنا الاسعاف، حاول تخرج رجلك، ساعدنا نطلعك ”
بكى صالح برعب وقد اخافه مظهر محمود الذي كان فاقدًا لكل معالم الحياة، لا يجيبه ولا يحرك اصبعًا حتى :
” لا مش هطلع واسيبه، حد يطلعه، بالله عليك حد يطلعه الاول أنا كويس، طلعوه بس الاول، هو…هو مش بيرد”
بكى أكثر يجذب كم ثوب محمود :
” يا محمود رد عليا بالله عليك، بالله عليك ما تخوفني كده، بالله عليك رد عليا يا محمود ”
وبسبب ضعفه في تلك الحالة، استطاع الرجال إخراجه من السيارة تاركين إياه جانبًا يبكي ويرثي صديقه، يتوسل الجميع حوله أن يساعدوه :
” حد يطلعه بالله عليكم، مش قادر اتحرك ”
كان يبكي وهو يترجاهم، وقد كان الجميع في تلك اللحظة يحاولون اخراج محمود والذي يبدو كما لو أن جسده قد علق ..
مرت دقائق وصالح كان يحاول أن يتحرك ليساعدهم في اخراج محمود، وبعد محاولات تغلب على إصابة قدمه وتحرك بصعوبة شديدة صوب جهة محمود يناديه بلهفة :
” محمود، محمود رد عليا، أنت سامعني صح ؟!”
أبعده أحد الرجال جانبًا :
” يابني مينفعش كده استنى لغاية ما الإسعاف يوصل والشباب هيخرجوا اخوك، استهدى بالله ”
بكى صالح برعب :
” خليني بس …اشوفه …اشوفه عايش او …”
صمت يبتلع غصته يود فقط أن يطمأن عليه، يقسم أنه سيطمئن عليه ويعود للجلوس ولن يتحدث بكلمة، فقط يتحسس نبضه ويستشعر أنفاسه ولن ينطق بكلمة واحدة ..
وقبل أن يقترب من السيارة مرة أخرى نجح بعض الشباب في استخراج جسد محمود من بين الحطام، ليتلقفه صالح منهم سريعًا يسنده رغم وجعه، ويحمله رغم آلامه وهو ما يزال يناجيه بصوت منخفض ..
دقائق مرت يحتضن محمود رافضًا أن يبعده شخص عنه، يتحسس نبضه كل ثانية ويقترب منه ليسمع صوت أنفاسه مخافة أن يتوقف كل ذلك في غفلة منه .
وفجأة ارتاح واغمض عينه حين سماعه لصوت الإسعاف، سمع اصوات بعض المسعفين يقتربون منه ليقول بتعب شديد :
” أنا كويس، بس …هو تعبان عنده إصابة في الرأس ورجله وضربات قلبه ضعيفة ..”
ساعده أحد الرجال لينهض وسار نحو سيارة الإسعاف بخطوات مرهقة وعرج بسيط بسبب إصابة قدمه، ولم يشعر بالراحة، إلا حينما صعد للسيارة واستكان برأسه على الفراش الذي يحمل جسد رفيقه ممسكًا بيده مطمئنًا بوجوده مستأنسًا بنبضه الذي يلقى صداه داخل كفه هو …
_________________________
” يعني ايه المقال مرفوض ؟؟”
اعتدل رئيس التحرير في مقعده يجيب بنبرة باردة بعض الشيء وهو يحدق لاعين صلاح المشتعلة :
” يعني زي ما سمعت يا استاذ صلاح، خلاص الجريدة مبقتش تشتغل في نوع الاخبار دي ”
ابتسم صلاح بسمة جانبية :
” والجريدة بقت تشتغل في ايه ؟؟ وصفات اليوم ؟؟ ولا جمالك سيدتي ؟؟”
حذره الرجل بنظرات صارمة :
” صلاح احترم مكانتك في الجريدة، إحنا خلاص منعنا أي أخبار من النوع ده، مش عايزين مشاكل مع حد ”
اقترب صلاح من المكتب بخطوات هادئة، ثم مال عليه هامسًا :
” ويا ترى ده بمقابل من غانم باشا، ولا بالحب ؟؟”
نظر له مدير التحرير باستنكار ليكمل صلاح حديثه دون اهتمام لشيء :
” فلوس صح ؟؟”
ضرب الرجل مكتبه منتفضًا عنه صارخًا بجنون :
” أنت اتجنيت ؟؟ اسمع نفسك بتقول ايه قبل ما تيجي تكلمني وتحاسبني، احنا هنا خلاص مبقيناش حمل المشاكل اللي حضرتك بتعملها كل يوم مع واحد شكل، خلاص الجريدة قربت تقع بسببك”
” يا فندم متقولش كده، ده أنا حتى ساند الجريدة على كتافي واكيد مش هيسعدك إني انفضها وامشي ”
نظر له مدير التحرير بصدمة وقد بُهتت ملامح :
” قصدك ايه ؟؟”
ابتسم له صلاح يلقي في وجهه حديثه صراحةً :
” قصدي إن الخبر ده لو منزلش فأنا هنزله يا فندم، هنا او برة، ومتنساش أن الأعداد اللي بتتباع وكل الهلومة اللي انتم فيها دي من تحت اسمي أنا، والعدد اللي مبيكونش فيه اسم صلاح السقاري بيتعمل عليه طعمية ويتمسح بيه الازاز يا ثروت باشا ”
ابتلع ثروت ريقه يدرك جيدًا صحة قوله، فصلاح ليس فقط صحفيًا، بل كاتبًا استطاع استقطاب قُراءه نحو مقالاته وأخباره، و تركهم كما المدمنين لكل مقال له .
” عايز ايه يا صلاح من الآخر ؟؟”
ابتسم صلاح بسمة صغيرة يفرك ذقنه بهدوء وقد علم كيف يلعب على أوتار ضعف من أمامه بكل حرفية :
” مش عايز يا فندم غير حقي كصحفي حر أنشر اللي شايف أنه صح”
” وأنت شايف أن صنع عداوة مع واحد بحجم غانم ده صح ؟!”
ابتسم صلاح يقول بمزاح خشن :
” ده نفخ يا فندم متصدقش الصور، ده آخره شكة دبوس وهيكون حجمه زي عيل عنده سوء تغذية من سن عشر سنين ”
رفع مدير التحرير حاجبه :
” والشكة دي هي بقى المقال بتاعك ؟!”
” يعني مؤقتًا لغاية ما اجيب دبوس تاني ونفشه ”
تراجع المدير في مقعده ينظر له بنظرات غامضة وصلاح يبادله النظرات بأخرى واثقة، حتى تنفس ثروت باستسلام وقد نال صلاح ما يريده …
خرج من مكتب مديره سعيدًا ليقابل أحد عاملي الجريدة الذي ركض صوبه يحاول أن يستشف ما حدث :
” ها عملت ايه ؟؟”
” اطبع المقال، عايزين نصبح على غانم، ويكون أول حاجة يشوفها اول ما يصحى من النوم هي المقال الجميل بتاعنا”
ابتسم له الشاب والذي كان يعمل تحت التدريب :
” حضرتك بجد محدش يفوز عليك في الكلام ”
غمزه صلاح يقول بهدوء شديد :
” وأنا وظيفتي ايه غير الكلام يا منعم، يلا شوف شغلك بسرعة عشان العدد يلحق ينطبع ”
وبمجرد انتهاء حديثه سمع رنين هاتفه ليستأذن من الشاب ويتحرك صوب مكتبه بخطوات هادئة يضع الهاتف على أذنه متحدثًا بهدوء شديد لأحد الارقام الغريبة التي لا يعلم لها صاحبًا :
” الو، صلاح السقاري معاك ”
وتوقف سيره فجأة، وتوقف جسده في منتصف الممر بشكل جعل الجميع يرمقه بصدمة، بينما صلاح شعر بقلبه يكاد يتوقف، حينما سمع صوت صالح الخافت يتحدث بتعب واضح :
” صلاح … أنا… أنا عملت حادثة مع محمود ودلوقتي في المستشفى .”
_______________________
تضع حقيبتها أعلى كتفها، وأعلى رأسها ترتدي قبعة رياضية تسير داخل النادي بعدما انتهت لتوها من جولة أعلى ظهر الخيل، أخرجت علكة تنظر لها بهدوء تفكر هل تتناولها الآن أم تنتظر حتى تصعد للسيارة متذكرة تحذير صلاح لها.
” والله أنا بدأت اتقبل كل شيء في شخصيتك وبقى محبب لقلبي ما عدا شيء واحد اللي بيعمل ليا error، بلاش تاكلي لبان برة البيت، اقولك بلاش تاكلي لبان ابدا، عشان مش ماشي مع شخصيتك، سواء ميمو أو مقدس”
أخفت العلكة داخل جيب بنطالها القماشي الرياضي ترتضي اعلاه سترة بيضاء، تتحرك صوب السيارة، أخرج مفتاحها تضغط على الزر الخاص، لكن فجأة توقفت لتبصر أحد إطارات السيارة مُفرغ من الهواء .
اعتدلت في وقفتها تزفر بحنق شديد، تنظر حولها تبحث عمن يساعدها، استدارت تفتح الباب لتلقي بحقيبتها، لكن مجددًا أبصرت إطار ثاني بلا هواء، ابتسمت بسمة خبيثة تجلس القرفصاء جوار الإطار تتحسسه :
” والله ؟؟ ده لو عايزين يقولوا أنها مقصودة مش هيكونوا بالغباء ده ”
نهضت تعتدل في وقفتها تزفر بضيق، حملت حقيبتها مجددًا تشير لأحد الحراس :
” أنا هبعت أي حد ياخد العربية خد بالك منها، ولا تاخد بالك ايه، ده وأنت واخد بالك فيه كوتشين فسوا، سيبها منها للطل كده ”
تحركت خارج بوابة النادي تبحث بعيونها عن سيارة تستقلها للمنزل، في وقت ارتفاع رنين هاتفها، أخرجته تجيب :
” صباح الخير يا سعودي، ايه كنت بتحلم بيا ولا ايه ؟؟”
تململ سعيد يفرك وجهه متحدثًا بصوت ناعس :
” خلي بالك عشان غانم تقريبا حاطك في دماغه وباعت ليكِ رجالته دلوقتي ”
أبصرت ميمو سيارة تقف بشكل مريب ذو نوافذ سوداء، رفعت حاجبها تقترب بخطوات هادئة صوبها :
” رجالة غانم راكبين عربية سودة كبيرة ؟؟”
تحدث سعيد يتحرك من فراشه صوب نافذة الغرفة التي تقبع داخل منزلهم الجديد المؤقت :
” والله نسيت اسأله على مواصفات العربية اللي هتتخطفي فيها ”
توقفت ميمو أمام السيارة تنظر لها بسخرية لاذعة :
” الظاهر مش رجالته بس اللي متخلفين، أو أنت اللي عطيت رجالة غانم عين ”
ختمت حديثها تطرق نافذة السيارة لتجد الزجاج يتحرك للاسفل ويظهر خلفها رجل بملامح مصدومة من وقوفها أمام السيارة بهذه الهيئة وهذه البساطة، كانت الخطة أن يقوموا بتفريغ الاطارات لتخرج هي بنفسها ويتحركون صوبها ويخطفونها ملقيين بها داخل السيارة ..
انحنت ميمو قليلًا تتساءل كما لو أنها تقف أمام سيارة أجرة :
” غانم اللي باعتكم ؟؟”
ولم يفهم الرجل شيء مما تتحدث به، هل أخطأ قائدهم في وصف طريقة إحضارها ؟؟ أيعقل أنها رفيقة له وهو عندما أخبرهم باختطافها قد كان تعبيرًا مجازيًا فقط ؟؟
تحدثت ميمو في الهاتف تتحرك للباب الخلفي للسيارة :
” خلاص يا سعيد لقيت العربية بتاعة غانم، سلام بقى أما اشوف الدنيا”
وبمجرد أن أغلقت الهاتف صعدت للسيارة تجلس في المقعد الخلفي جوار أحد الرجال الذي كان يمسك بين يديه بعض الأشرطة السوداء لتكميم فمها وعيونها .
ابتسمت تقول بجدية :
” يلا اطلع يا حبيبي ”
نظر لها الرجال بعدم فهم لتعود ميمو بظهرها للخلف، هي في موقف كهذا لا تمتلك شيء بقدر امتلاكها لثقة كبيرة، تعلم ما ستفعله في القادم ..
وبالفعل تحرك الرجل وقد شعر فجأة بالبلاهة لما جرت به الأمور، هل ما حدث للتو طبيعي ؟؟ صعدت معهم بإرادتها ودون أي مقاومة ؟؟
وميمو كانت تبتسم بخبث تجد أن أول خطوة في خطتهم تسير كما توقعوا …
تحركت هاتفها ترسل رسالة موجزة لصلاح تخبره بما حدث، وفي أثناء ذلك ابصرها الرجل الذي يجلس في الامام فهمس لزميله بتسائل :
” هو عادي كده نسيبها تتكلم في التليفون بتاعها ؟!”
أجابه الآخر حانقًا :
” وهو يعني اللي عملته من شوية ده هو العادي ؟! يا عم تلاقيها واحدة من البنات بنوته وعصلجت معاه فحب يخطفها ”
رفعت ميمو عيونها له مبتسمة بسخرية على مستوى الذكاء الذي يتمتعون به، لكنها لم تتحدث وانتظرت في السيارة نصف ساعة تقريبًا، حتى شعرت بتوقفها، هبطت منها تحمل حقيبتها ونظرت لأحد الرجال الذين ارشدوها للمنزل ومن بعده لمكتب غانم .
وبمجرد أن خطت المكتب حتى نزعت قبعتها تقول ببسمة واسعة :
” ايه الصباح الجميل ده يا غانم ؟؟ شكلي وحشتك من آخر مرة ”
رمقها غانم بسخرية لاذعة يراقب ملامحها المشرقة الهادئة، وماذا يتوقع منها ؟؟ فتلك المرأة أمامه لا تمت بصلة للفتاة الصغيرة الضعيفة الخائفة التي أحبها يومًا، تلك شرسة وهو لا يحب هذا النوع من النساء .
” شايف أنك سعيدة بالزيارة ”
جلست ميمو أعلى المقعد ترتاح بظهرها للخلف :
” يعني هو أنا أكيد مش هكون سعيدة بأني اشوفك من الصبح كده، لكن سعيدة بالفسحة في العربية بتاعتك مع رجالتك ”
سخر منها غانم يتحرك عن مكتبه صوبها، وحينما أصبح على مقربة منها انحنى بعض الشيء ليصبح أمامها، لكن ميمو في تلك اللحظة كانت في أكثر لحظاتها شجاعة إذ قاومت وبصعوبة كبيرة رغبتها في التقهقهر للخلف بعيدًا عنه، فمهما ادعت بطشًا وبأسًا، تظل تلك الغصة داخلها والمشاعر المبعثرة لمثل ذلك النوع من الرجال اقوى منها …
وهي ابتسمت ولم تدعه يفكر للحظة واحدة أنه يتفوق عليها تنظر لعيونه بجدية كبيرة :
” أنتِ فكراني زي جاد الاهبل اللي من نظرة منك يريل ويعملك اللي تحلمي بيه ؟؟”
” والله أنا حلمي في اللحظة دي ابسط مما تتخيل يا غانم”
رفع غانم حاجبه مبتسمًا بسخرية والفضول يزين نظراته، لتجيبه ميمو ببسمة أكثر برودًا :
” أنك تغسل سنانك، اغسل سنانك مش هتفقد هيئتك كشرير، مش لازم تكون سنانك صفرا وعندك انياب وريحة بؤقك تقرف عشان نصدق أنك شخص زبالة، والله واضح على وشك ولو لبست ملاك ”
أطلق غانم ضحكات مرتفعة جعلت ميمو تسخر منه، لكن فجأة انكب عليها يمسك شعرها من الخلف بقوة شديدة تسببت في انتشار ألم امتد حتى رأسها لتشعر بالخدر هناك …
” مشكلتك أنك وخداها بخفة الدم يا ميمو، ودي مش ميزة عشانك خاصة دلوقتي ”
” صدقني والله أنا مش بهزر، ده بجد، ريحة بؤقك مرعبة اكتر من فكرة خطفك ليا ”
تركها غانم بقوة وقد شعر بالغضب يملء صدره، تلك المرأة أمامه مزعجة ومستفزة للحد الذي جعله يقفز عن كل المقدمات التي حضرها في رأسها، وتحرك لمكتبه يخرج منه بعض الأوراق، ثم ألقاها على الطاولة الزجاجية أمامها قائلًا دون اهتمام بشيء :
” وقعي هنا ”
نظرت ميمو للاوراق أمامها بجهل :
” ودي ايه ؟! ”
تحرك غانم واستند على المكتب الخاص به يقول بجدية :
” دي اوراق بتقول إن أنا ليا حق في شركة جاد زيي زيكم، يعني النص بالنص، لأن المرحوم كان داخل معايا صفقة ومدفعش غير ربع المبلغ، وطبعا يا حلوة كلنا عارفين إن الشركة باسمك، فامضي وامشي ”
سخرت ميمو ترفع عيونها له :
” وطالما الموضوع كده يا جميل، مخلتش ليه جاد يمضيلك بباقي المبلغ، بالله عليك ما تقول إنك عملت معاه الصفقة بضمان شرفه وكلمته”
ابتسم غانم ساخرًا :
” لا، بس الصفقة دي بالذات كان جوزك المصون داخل بالمجهود وربع الفلوس مقابل تلات ارباع مني حسب اتفاقنا، وبسببه وبسبب غباء رجالته خسرنا الصفقة ”
كانت ميمو تحدق في الأوراق أمامها :
” اسم الله على رجالتك، طبعًا الصفقة دي مكانتش صفقة بامبرز ؟!”
” مخدرات وأسلحة ”
ابتسمت مستهجنة سهولة حديثه عن الأمر :
” وايه الفخر اللي بتتكلم بيه ده ؟؟ مش خايف أبلغ عنك ؟؟”
مال برأسه يقول بجدية :
” هتبلغي تقولي ايه ؟؟ الحقوني غانم بيتاجر في المخدرات والأسلحة والاعضاء؟؟ كان غيرك اشطر، مشكلتكم يا بتوع الجانب الابيض أنكم مش عارفين اللعبة دي اكبر منكم ميت مرة، فكرك يا ميمو أنا داخل الموضوع ده بطولي ؟؟”
نظرت له بفضول وعدم فهم، ليكمل بصوت خبيث ماكر :
” أنا متأمن من فوق …من فوق اوي اوي يا حبيبتي، فكل الهبل اللي بتقوليه ده مش هيعمل حاجة، يلا امضي من غير كلام ”
ختم جملته مقتربًا منها يشهر سلاحه في وجهها بشكل مرعب.
نظرت له ميمو وقد شعرت بالخطر فجأة من ملامحه، ودون كلمة واحدة قامت بالتوقيع على الورقة، أنتزعها غانم من أمامها يتأكد من توقيعها، ثم ابتسم يشير صوب الباب :
” تقدري تتفضلي يا مدام دورك خلص ”
نهضت ميمو دون كلمة، حملت حقيبتها وخرجت بسرعة من المكان تحت أنظار غانم الذي سعد كثيرًا لبثه الرعب داخل قلبها، ورؤيته ملامح الهلع على وجهها لأول مرة منذ سنوات .
وميمو التي خرجت من باب الفيلا رأت ثلاث رجال يقفون بشكل متحفز تعرفت عليهم بسهولة وقد كانوا يعملون لصالح سعيد، نظروا لها نظرات غامضة فهزت رأسها بسرعة تتحرك خارج أسواء المنزل بأكمله .
وبمجرد أن خرجت، ابتسمت فجأة بخبث تخرج علكتها تتناولها باستمتاع شديد، وملامح الخبث تعلو وجهها وهي تتحس اقراطها التي كانت تحتوي جهاز تسجيل صغير …
_____________________
” بقولك مجاش المخبز خالص يا رانيا، مشوفتش حد منهم من الصبح، ودي حاجة غريبة ”
زفرت رانيا بحنق شديد تلقي بنفسها أعلى الفراش، تشعر بوجود خطبٍ ما بعدما رأت العديد من المكالمات الصادرة لها من صالح، وهي فقط كانت حمقاء لتنسى هاتفها وقت الفطور داخل غرفتها .
” اعمل ايه يعني يا هاجر أنا قولت أنتِ اللي هتطمنيني، أنا مش عارفة مش بيرد ليه، تليفونه مغلق ”
صمتت ثم قالت بتخمين :
” تفتكري يكون زعل مني عشان مردتش ؟؟”
جلست هاجر أعلى طاولة في مخبزها الفارغ تقريبًا تحاول مدها بطمأنينه هي نفسها لا تمتلكها :
” مظنش يعني صالح من النوع القموص ده، اللي اعرفه أنه لو كويس هيفتح عليكِ مخصوص عشان يهزقك مش يقفل التليفون أو يتجاهلك ”
” يا هاجر أنتِ كده بتوتريني اكتر، أنا مش عارفة اعمل ايه، اجي القاهرة عشان أكلمه طيب ولا اعمل ايه ؟!”
صمتت ثم قالت بعد دقائق :
” تفتكري ممكن حد منهم يرضى إني اجي القاهرة ؟؟”
منعتها هاجر من ذلك الحديث تود لو تحتوي خوفها وهي من تشعر بالقلق، فغياب محمود عن مخبزها لهو أمرٌ مقلق خاصة إن اتفقا سويًا على الجلوس معًا والتحدث، ولهذا تحديدًا عادت للقاهرة مبكرًا ⁦.
” مش حل يا رانيا واساسا مستحيل حد منهم يقبل أنك ترجعي، اقولك أنا هكلم تسبيح يمكن تكون عارفة حاجة”
قالت رانيا بلهفة شديد :
” أيوة ماشي كلميها، بس بالله عليكِ ما تنسي تطمنيني يا خالتو ”
ابتسمت هاجر بحنان، تلك الكلمة التي تخرج من فمها بهذه العفوية تشعرها بكم هائل من المسؤولية، وهي لن تصمت حتى نعلم لها ما حدث وأين صالح، وايضًا سبب اختفاء ذلك المحمود الاحمق الذي تركها تتلظى بنيران الفضول ونيران أخرى ترفض الاعتراف أنها تشتعل داخل صدرها …
حملت هاتفها تبحث عن رقم تسبيح الذي أخذته منها في آخر لقاء لهما، ومن ثم أجرت اتصالًا بها ببسمة ولطف شديد :
” صباح الخير يا تسبيح ….”
________________________
هبط من السيارة يتحرك صوب المقعد المجاور له، فتح الباب بهدوء، ثم أشار لها لتهبط وهي نظرت له بتردد شديد جعله يتساءل بعيونه عما تريد ..
ابتسمت له نيرمينا ترفع يديها في الهواء بدعوة صامتة أن يحملها، ونادر نظر لها دون فهم لثواني، تنحنحت نيرمينا وقالت بهدوء تستغل كل فرصة ممكنة لتكون اقرب له :
” هو مش المفروض تشيلني ؟؟ أنا الدكتور قالي ارتاح كويس اوي، انا ماشية بكلية واحدة ”
رفع نادر حاجبه وهي عندما رأت ملامح الاستنكار تعلو وجهه ابتسمت قائلة :
” معلش مش قادرة امشي”
فرك نادر ذقنه، ثم جلس ارضًا أمامها يعطيها ظهره في دعوة منه أن تصعد فوق ظهره، وهي فقط كانت ترمقه باستنكار شديد :
” أنت بتعمل ايه ؟؟ لا أنا مش عايزة اتشال كده، أنا عايزة اتشال الشيلة الرومانسي على دراعك زي الناس كلها ”
نظر لها مختار من خلف ظهره حانقًا، لترفع هي ذقنها برفض أن تضيع فرصتها التي طالما حلمت بها، وتصعد فوق ظهره كطفلة صغيرة يصطحبها للتنزه .
ونادر زفر بصوت مرتفع، ينهض من مكانه يشير لها بالنزول عن السيارة، وكذلك فعلت نيرمينا بحذر تمسك السيارة بكف والثاني تستند به أعلى صدر نادر تقول بهدوء وهي تنظر لقدمها أثناء الهبوط كي تحذر أن يحدث لها أي شيء :
” أهم حاجة وأنت بتشيلني تشيلني برقـ ”
وقبل أن تكمل كلمتها أو حتى تطأ الأرض التقطها نادر بسرعة جعلته تطلق صرخة مرتفعة تتمسك برقبته في فزع شديد تنظر لملامحه القلقة، يسألها بعيونه إن كانت تأذت، لكن نيرمينا لم يكن هذا ما يشغلها في تلك اللحظة، بل لوت فمها تقول بحنق :
” أنت بتشيل بسرعة كده ليه ملحقتش استمتع باللحظة ”
أطلق نادر ضحكات مرتفعة يقترب بوجهه من خاصتها مقبلًا جبينها بحب شديد وهي أغمضت عيونها كي تستمتع بكل لحظة جواره، وبمجرد أن أبتعد جذبت نيرمينا رأسه لها مجددًا تهمس بصوت منخفض :
” ينفع لما احتاج أي حاجة بعد كده اناديك تشيلني ؟!”
ابتسم نادر، يهز رأسه لها وقد كان كل ما تطلبه كالأمر على قلبه، تحرك بها بهدوء صوب باب المنزل الذي استأجره سعيد، وهي فقط تستند أعلى صدره تستمتع بضربات قلبه، تغمض عيونها وتشعر كما لو أنها أعلى غيمة قطنية لطيفة …
وفجأة انتفضت على صوت سعيد الذي قال بحنق :
” أنت برضو خرجتها ؟؟”
هز نادر رأسه وهو يراقب سعيد الذي كان يجلس أعلى الأريكة يرتشف بعض العصير ببرود شديد، أشار له بتحذير :
” الفترة الجاية هي أمانة في رقبتك لأني هكون مشغول بشغل ماشي ؟!”
ومجددًا هز نادر رأسه ببرود يتحرك صوب الأريكة الواسعة والضخمة يضع عليها نيرمينا بلطف لتتذمر الأخيرة .
نظر حوله يبحث بعيونه عن ميمو، قبل أن يشير بيده في حركات واضحة أنه يسأل عن مكان أحدهم .
ارتشف سعيد عصيره ببرود :
” بتسأل عن ميمو ؟؟”
اومأ برأسه ليقول سعيد ببرود شديد :
” مخطوفة شوية وراجعة ”
ونادر لم يفهم إن كان يمزح معه أم يتحدث جديًا، فهذه ليست طريقة شخص عاقل يخبر أحدهم أن شقيقته مخطوفة .
لكن سعيد لم يكن مهتمًا بكل ذلك وهو يتواصل مع أحدهم عبر هاتفه، ليجن جنون نادر مقتربًا منه بملامح سوداء مشيرًا بأصابعه في عصبية واضحة :
” اختي فين ؟؟”
نظر له سعيد ورغم فهمه ضمنيًا لما يقصد قال :
” مش فاهم عايز ايه ؟؟ عصير ؟؟”
زفر نادر وقد نفذ صبره ينزع كوب العصير من يد سعيد واضعًا إياه أعلى الطاولة قبل أن يجذب ثيابه صوبه يضغط على أسنانه وقد تولت عيونه إيصال ما يريد من كلمات.
لكن سعيد كان متمرسًا في تلك اللعبة التي اتقنها لكثرة خوضها مع ميمو مرات عديدة :
” لا لا أنا في مقام حماك دلوقتي، يعني تحترمني وإلا أنت من طريق ونيمو من طريق ”
اتسعت عين نيرمينا والتي كانت لا تفهم ما يحدث أمامها ولا سبب غضب نادر ولا ما يقبع خلف كلمات سعيد، لكنها فقط أدركت التهديد الذي نطق به سعيد لتقول :
” معلش يا نادر احترمه عشان ميعملش مشاكل ”
نظر لها نادر بتحذير أن تصمت، ففعلت دون كلمة وهي لا تعلم ما يجب فعله وقد شعرت بالغيظ الشديد منهم، لتقول فجأة بصوت مرتفع وسعادة كبيرة وعيونها أعلى الباب :
” ميمو كويس أنك جيتي، تعالي شوفي سعيد بيتخانق مع نادر ”
اقتربت منهم ميمو تخلع قبعتها وتلقي الحقيبة ارضًا، ثم جذبت نادر بعيدًا عن سعيد :
” ايه يا نادر حد يعمل عقله بعقل سعيد ؟؟ فيه ايه ؟!”
ابتسم لهما سعيد بخبث شديد، ليرى نادر ينظر لها يحاول إن كان اصابها شيئًا وهي ابتسمت له بحنان تربت أعلى وجنته :
” أنا بخير ياقلبي، بس هي زيارة صغيرة لغانم وجيت ”
نظرت لسعيد بغموض ليغمز الاخير لها يعود لجلسته على الأريكة، وهي نظرت لنيرمينا وتحركت لها بهدوء تميل علينا مقبلة رأسها بحب شديد :
” عاملة ايه ياقلبي دلوقتي ؟!”
” أنا بخير يا ميمو، شكرا ”
ابتسمت لها ميمو تقبلها أعلى وجنتها بلطف وحنان، ثم اعتدلت تقول بجدية :
” نادر الفترة الجاية عايزاك تفضل جنب نيمو ومتسبهاش لوحدها ابدًا”
نظر لها معترضًا يحرك أصابعه:
” بس أنتِ ؟!”
” متقلقش أنا زي الفل ومش لوحدي، معلش عايزة اكون مطمنة على نيرمينا”
وقبل أن يعترض نادر على كلماتها قاطهم صوت ارتفاع رنين الهاتف لتنظر به ترى رقم صلاح، أجابته مبتعدة عن الجميع قليلًا :
” الو صلاح ….”
__________________
قبل ذلك بساعة تقريبًا، كان يركض بين ممرات المشفى التي أعطاه صالح عنوانها، يشعر بالجدران تضيق عليه، قلبه يكاد يعلن حدادًا ويتوقف حزنًا على ما حدث لهما .
وبمجرد أن اقترب من الممر حتى أبصر صالح الذي يجلس في أحد الأركان ارضًا يضم قدميه لصدره بقوة دافنًا وجهه بينهما، نفس الوضع رآه سابقًا حينما كان يعاني صالح قديمًا وينأى بنفسه على الجميع في غرفته .
تنهد صلاح بتعب وهو يقترب منه يحاول تهدئه نفسه كالعادة كي يحتوي شقيقه ويؤازره في مصابه، لكن بمجرد أن نطق اسم صالح ورفع الاخير وجهه له، هاله الشحوب والحزن اللذان توسطا وجه صالح .
ابتلع ريقه يقترب منه قائلًا :
” صالح أنت… أنت كويس ؟؟”
نظر له صالح دون اجابه وقد منحه وجهه وتعابيره إجابة وافية عما يريد معرفته، اقترب صلاح منه يجلس ارضًا جوار صالح يجذبه لاحضانه بحب وقلبه يرتجف خوفًة عليه :
” هيكون كويس يا حبيبي، متقلقش، اللي زي محمود بسبع ارواح، دلوقتي تلاقيه قام زي القرد متخافش ”
ضم صالح نفسه لصلاح بتعب شديد وهو يستكين له كالعادة، لكن تلك المرة دون بكاء أو غيره، كان فقط صامتًا بشكل كئيب، وعم صمت طويل لم يقطعه سوى صوت صالح الذي أصبح أبحًا لكثرة البكاء والصراخ :
” أنا…أنا خايف يموت، يموت قدام عيني زي ماما وأنا مقدرتش اعمل ليه حاجة يا صلاح ”
أغمض صلاح عيونه بقوة، شقيقه ما يزال متأثرًا بكل ما حدث، كل شيء يدفعه صوب تلك النقطة، يبدو أنه ما يزال يحتاج الطبيب لكي يساعده على تخطي كل ذلك .
” متقلقش هيكون بخير، أنا سألت عليه قبل ما اجيلك وطمنوني ”
هز صالح رأسه ولم يتحدث بكلمة في الوقت الذي سمع صوت جوراهم يتحدث بأنفاس مقطوعة وفزع ما يزال ظاهرًا في نبرته :
” خير يا صلاح، صالح كويس ؟؟ حصله حاجة ؟؟”
رفع صلاح عيونه لرائد الذي جلس القرفصاء جانبهم يرمق حالة صالح بشفقة :
” هو بخير متقلقش، هو بس تعبان شوية وكمان خايف عشان محمود ”
ربت رائد أعلى ذراع صالح بمؤازرة، ثم قال بجدية :
” طب المفروض تخليه يكشف يا صلاح، نادي دكتور يشوف لو فيه حاجة يعالجها ”
ضم صالح نفسه أكثر لأحضان صلاح كطفل صغير يرفض الخروج عن احضان والدته :
” لا أنا …أنا عايز افضل هنا لما اشوف محمود، أنا كويس يا رائد ”
ربت عليه صلاح يقبل رأسه بحنان شديد، ثم نظر لرائد يقول بهدوء :
” سيبه زي ما هو يا رائد طالما مرتاح ”
تنهد رائد بصوت مرتفع يجلس ارضًا جوارهم مستندًا على الجدار خلفه، وهو يحدق أمامه، واستمر الصمت بين الجميع دقائق أو ساعات لم يشعروا بالأمر…
فجأة انتفض رائد على رنين هاتفه وأبصر رقم تسبيح لينهض مبتعدًا عن الجميع يتحدث معها، وصلاح ما يزال يضم له صالح، حتى انتفض فجأة على انتفاضة جسد صالح الذي كان في يعيش في ذكرى بعيدة له…
كان صالح يضم نفسه لأحضان صلاح أعلى الفراش الخاص به يستمع لكلمات الشرطي الذي جاء يحقق في الجريمة ويسمع حديث والده حول هوية ذلك الشاب .
قال مرتضى بقهر وحزن شديد :
” فيه فيلا على اول البلد قريب من البيت كده، متأجرة لجماعة من كبارات البلد عشان يعالجوا فيها عيالهم بعيد عن العيون في القاهرة، بيتعالجوا من الزفت اللي بيشربوه، والولد ده مش اول مرة يهرب ويجي هنا ”
صمت ينظر لصالح الذي كان في عالم بعيد عنهم :
” قبل كده جه لاميرة وكان شكله مريب، لكن هي مكانتش تعرف هو ماله وفكرته مريض وساعدته، وقتها كان الشاب ده مش حاسس بنفسه وبيبص حواليه بنظرات غريبة لغاية ما قالها أنه جعان، فهي راحت وعملت ليه اكل ولما رجعت عشان تديه الاكل لقت ناس كتير بيشدوه برة البيت وهو بيصرخ وبيحاول يفلت منهم ”
كانت ملامح صلاح سوداء وقد شعر بدمائه تكاد تغلي وينفجر، جسده يرتجف، لكنه لا يظهر ذلك لأجل صالح، الذي كانت دموعه تهبط دون شعور ويردد كلمات غير مفهومة ..
أكمل مرتضى وقد بدا أنه زاد عمرًا على عمره وسقطت دمعة من عيونه :
” أميرة وقتها حاولت تديه الاكل وهما رفضوا وسحبوه ومشيوا، وبس من الوقت ده الولد مظهرش تاني ولا نعرف عنه حاجة، ولا كان فيه علاقة لأميرة بيه، غير اليوم اللي ….اليوم اللي هرب فيه في المرة التانية و…”
صمت ولم يكمل جملته التي كانت واضحة، ذلك الشاب هزمته أعراض الانسحاب وشعر بروحه هي الأخرى تُسحب ليجن جنونه ويهدد بقتل نفسه، ومن ثم حينما سنحت له الفرصة هرب من المكان يحاول التخلص ممن يلاحقه، ولم يجد سوى منزل واحد تعرف عليه عقله الباطن أثناء حالته الهيسترية ليقتحم المنزل مهددًا الجميع بأميرة، لكن الرجال الذين كانوا يلاحقونه لم يأخذوا التهديد على محمل الجد، ليقرر الشاب تنفيذ تهديده بأعين غائرة وايدي مرتجفة، وحركات مريبة وقد بدا كمسخ لا عقل ولا روح به.
ذبحها دون ذنب وهي التي اشفقت عليه يومًا وظنته مسكينًا، ذبحها، ثم انتفض يصرخ جوارها بجنون ..
سقطت دموع صالح يدفن نفسه بجسد صلاح أكثر وأكثر، وصلاح يستمع لحديث والده يحاول أن يتمالك نفسه، وداخل عيونه تلتمع رغبة بالايذاء، يشعر الآن برغبة عارمة في القتل، شيطانه تحكم به بالكامل .
ذلك اليوم صلاح لم ينم كالجميع، بل حمل عصا غليظة وركض صوب ذلك المنزل وهجم على الجميع يكسر ما به ويحطمه دون تفكير، اختفى عقله وحل محله سواد يحركه، يصرخ بالجميع بجنون مهددًا، وقد اجتمع أهل القرية برعب عليه وهو يستمر في الصراخ بجنون وقهر :
” أنتم السبب كلكم، أنتم السبب كلكم، امي ماتت بسببكم، كلكم السبب، والله العظيم ما هسيب واحد فيكم، والله ما هرحم واحد منكم ولو هموت بعدها ”
كان يصرخ ورائد يجذبه للخارج بصعوبة بمساعدة سليمان الذي هرع فور إبلاغه بما يحدث، صلاح يصرخ حتى كاد يفقد صوته، ورائد يجذبه للخارج وقلبه يرتجف حزنًا عليه باكيًا :
” خلاص يا صلاح، تعالى معايا، والله حقك هيرجع، والله هعمل اللي تحتاجه وارجعلك حقك ”
انتفض صلاح يصرخ في الجميع وعيونه قد أصبحت حمراء مخيفة يحرك عصاه عليهم وهم يتراجعون للخلف :
” كلكم، كلكم هتتحاسبوا، كلكم، مش هسيبك نفر منكم ”
وقد كان، نفذ صلاح ما قال ورفع دعوى أغلق ذلك المكان الذي كان بلا تأمين أو أوراق رسمية، ومن ثم بدأ لعبته في الانتقام منهم واحدًا تلو الآخر، رفع قضية على هؤلاء الذين تجاهلوا تهديد الشاب وتسببوا بشكل غير مباشر في مقتل والدته، ومن ثم رفع قضايا عديد على آباء هؤلاء الفاسدين، لكنه لم يصل لشيء لذلك وضعهم على قائمة الانتظار، وكشف فسادهم وحطمهم واحدًا تلو الآخر بانتقام أعمى لا يفرق بين مذنب وبرئ.
ووضع الشاب أمام عيونه والذي صُدم بعد أسابيع من تهريبه لشدة نفوذ والده، هرب مخلفًا وراءه جحيمًا لم يخمد داخل صلاح، حتى دمر سمعة والده وفضحه بكل شائنة فعلها وجعله يشحذ في الطرقات…
وفي النهاية ؟؟
اضطر المدلل للعودة وهنا أخذ القانون مجراه وأخذ صلاح انتقام وقصاص لم يُرحه، لكنه على الأقل شفى صدر أخيه بعض الشيء، ولم يكتفي بذلك، بل تأكد أن يتعفن جوار والده بسبب كل الأعمال المشينة التي قاما بها .
ومنذ ذلك الوقت وصلاح يزيح كل فاسد من طريقه، يدمر كل من له يد في إدخال ذلك السم بلاده والتسبب في تلك الكوارث، يطاردهم كالكابوس ..
أفاق صالح من ذكرياته على صوت الطبيب الذي خرج يتحدث مع إحدى الممرضات، انتفض بسرعة كبيرة يركض صوبه متسائلًا :
” هو كويس؟! صاحبي ..هو جه معايا من شوية في حادثة، هو كويس صح ؟!”
ابتسم الطبيب ينظر له بهدوء شديد مربتًا أعلى كتفه :
” أنت صالح ؟؟”
اومأ له صالح بلهفة ليقول الطبيب بجدية :
” صاحبك بيسأل عليك من وقت ما فاق ”
وعند تلك الكلمة انتعشت روح صالح وركض صوب الغرفة بسرعة كبيرة مبتسمًا، لترتسم بسمة تلقائية على فم صلاح الذي استفسر من الطبيب على صحة محمود واطمأن ..
واخيرًا تنفس الصعداء وارتاحت نفسه، عاد رائد اهم يحمل هاتفه يقول بهدوء :
” خطيبة صالح عايزة تكلمه ”
هز صلاح رأسه يقول بتعب شديد :
” اصبر شوية يطمن على محمود وبعدين هخليه يكلمها ”
في تلك اللحظة سمع صوتًا يناديه بلهفة :
” صلاح ..”
انتبه صلاح لركض ميمو صوبه التي قالت بقلق شديد :
” صالح كويس ؟؟”
ابتسم لها صلاح يهز رأسه بهدوء شديد :
” متقلقش يا ميمو هو بقى كويس وكمان صاحبه بقى كويس، أنتِ كويسة ؟؟ أنا شوفت الرسالة بتاعتك قلبي كان هيقف ”
ضربت ميمو كتفه بمزاح خشن تقول :
” لا اطمن أنت وراك ميمو ”
نظر لها رائد بعدم فهم لتبتسم لهم بخبث تقص عليهم ما حدث ..
وفي الداخل حيث صالح ..
كان يضم رفيقه لصدره بحب شديد يقبل رأسه، يمارس عليه دور صلاح في حياته :
” أنت كويس ؟! فيه حاجة وجعاك يا محمود ؟؟”
ابتسم محمود بسمة صغيرة وقد أبصر رعب صالح أعلى ملامحه؛ لذا قاوم اوجاعه وقال ممازحًا :
” قلبي يا صاحبي، قلبي اللي واجعني، اتصل بالبسكوتة بتاعتي تيجي تطببه”
أبعده صالح عنه بعنف ضاربًا صدره في قوة جعلت صرخات محمود تعلو تزامنًا مع ارتفاع سبات صالح الحانقة والغاضبة :
” أنت ياض حيوان ؟؟ بقى أنا كنت هموت وتقولي هاجر ؟؟ ده انا قعدت اعيط عليك في الشارع زي العيال التايهة يا زبالة ”
تحسس محمود صدره يضحك بوجع شديد :
” مرة من نفسك يا أخي، كل ده عشان مش مهتم بيا، ربنا حطك في اختبار عشان تحس أنك هتفقدني وتقدر النعمة اللي معاك ”
تشنج صالح يضرب رأس محمود متجاهلًا إصابته :
” النعمة دي اللي هي أنت ؟!”
” يابني خف ايدك، هو أنت مش بتشوف غير مكان اللزقة الطبية وتضرب ؟؟ ما تبطل تخلف بقى، هعلم فيك لغاية امتى ؟؟”
تنفس صالح بتعب شديد يسحب مقعد ليرتاح عليه :
” أنا مش مصدق أنك لسه عايش يا محمود بجد ”
” هو أنا خيبت املك ولا ايه ؟؟ اموت طيب عشان خاطرك ؟؟”
نظر لها صالح يقول بتأثر :
” اصل أنت مشوفتش منظرك وأنت زي الجثة ومتخرشم من كل حتة ومش بتنطق، وأنا بنادي عليك لما روحي كانت هتطلع ”
امتص محمود شفتيه بتأثر يميل بنص جسده العلوي صوبه يضم بحب :
” يا حبيبي يا صالح، للدرجة دي خايف عليا ؟؟”
” لا، بس أنت عارف محدش بيرضى يصاحبني غيرك، فكده هبقى في الشغل لوحدي، وتسيبني مع الاموات لوحدي ”
ابتعد عنه محمود بغيظ شديد :
” أنت ياض مصلحجي، امشي غور من وشي، قال وأنا اللي عمال أسأل عليك اول ما فوقت، كنت سألت على هاجر احسن طالما هيجيبولي كل حاجة كده ”
أطلق صالح ضحكات عالية، وهو ينهض معانقًا محمود مرة أخرى يحاول أن يهدأ ويتنفس براحة كبيرة في الوقت الذي دخل به صلاح ورائد تتبعهم ميمو التي رمقتهم بخبث وبسمة متهكمة….
قال رائد بسخرية وتهكم :
” أنا جيت في وقت مش مناسب ولا ايه؟!”
انتفض صالح بعيدًا عن محمود حانقًا، ثم نظر صوب رائد يقول بغيظ :
” عايز ايه أنت؟؟”
رفع رائد الهاتف في وجهه قائلًا :
” مش أنا اللي عايز يا حبيبي، خطيبتك اللي عايزة ”
وبمجرد أن لمح صالح شاشة الهاتف تحمل أرقامها حتى ابتسم بسمة واسعة يختطفه منه متحركًا صوب النافذة تاركًا الجميع يطمأن على محمود .
وضع صالح الهاتف أعلى أذنه يقول :
” الو رانيا ؟؟”
وفجأة انفجر صوت بكاء عنيف لرانيا التي كانت تتحدث بكلمات عديدة، وشهقاتها تغطي على كلماتها ليغمض صالح عيونه يحاول أن يفهم منها شيئًا، لكن لم يصل له سوى صوتها تقول :
” أنا في الطريق جيالك القاهرة …. ”
________________________
” يعني امتى بتقول ؟؟”
اعتدل متولي في جلسته يقول بجدية كبيرة :
” بعد يومين بالضبط، الصبح انتشرت اخبار في الجرايد عن غانم فيها فضايح كتير عليه، وهو عشان كده قرر يخلص من العملية دي ويطفش بسرعة ”
ابتسم له سعيد بسمة واسعة وهو يراقبه، وقد بدأ يشعر بالراحة لقرب خلاصه من كل ذلك، هو مل وتعب واراد راحة له ولقلبه ..
هز رأسه يقول بجدية كبير :
” تمام يا متولي الفلوس هتوصل ليك انهاردة، هتروح البيت تلاقيها سبقتك، وبكده يكون نصيبي معاك ”
مال متولي بجسده مقتربًا منه :
” أيوة بس أنت كده مش هتحضر معايا العملية ؟؟”
منحه سعيد أكثر البسمات خبثًا :
” لا ازاي، هحضر وهكون حواليكم، عشان استلم نصيبي يا متولي، بس محدش فيكم هيشوفني عشان أنت عارف معزتي عند غانم ”
كان متولي يتفهم كل ما يتشدق به سعيد، يتمنى أن تسير أموره كلها كما تمنى، لأنه إن لم يفعل سيفقد مقابلها حياته، وهو لا يتمنى أن يحدث ذلك، بالإضافة أن ذلك المقال الذي نُشر كان في صالحه إذ سرع من عملية خلاصه .
سعيد كان يجلس ويتأمل تتابع الملامح أعلى وجه متولي يمني نفسه بليلة تنتهي بها كل أحزانه، ليلة ينهي بها كل ما يحدث حوله ..
تنفس بصوت مرتفع ولم يكد يتحدث بكلمة حتى سمع الاثنان صوتًا يعلو خارج المكتب وغانم ينادي بنبرة لم تكن تحمل خيرًا أبدًا ..
وفجأة اقتحم غانم المكتب بملامح مخيفة يحرك عيونه على والده و …سعيد .
_______________________
و….نحن لم ننتهي بعد .

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!