روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الرابع 4 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الرابع 4 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الرابع

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الرابع

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الرابعة

وَتذَكر يَاولدِي ..
أنه ‏لم يَنل المرءُ يومًا بجُهده,
وَإنّما بلُطفِ كريـمٍ مُنعمٍ مُتَفضّلِ!
صلوا على نبي الرحمة
_____________________
خطوات متعجلة أعلى تلك الدرجات الرخامية، تنظر خلفها برعب شديد.
فستان زفاف بدلًا أن يتشبع بالحب والمشاعر الدافئة في يوم كهذا، تشبع بالدموع والدماء .
سال كحلها وفسدت زينتها، وكل تلك الأموال التي دفعها زوجها المصون لأجل اخراج زوجته بشكل جيد ضاعت في لحظة واحدة؛ لحظة اكتشفت أن ذلك الزواج ليس كما اخبروها، ليست حياة سعيدة هانئة بعيدًا عن الفقر وضيق الحال والحياة الموجعة .
كانت تركض في ممرات مظلمة، صوت أنفاسها يعلو شيئًا فشيء، اصوات بكائها هي الشيء الوحيد الذي يؤنس وحدتها في ذلك الظلام، وبينما تركض من اللاشيء تعرقلت أقدامها في الفستان لتسقط على وجهها بقوة …
ازدادت شهقات بكائها وبدأت تصرخ بشكل جنوني، تصرخ صرخات من تخرجُ روحه، صرخات من فقد عزيزًا؛ صرخات قوية تحاول إجبار تلك الجدران الصلبة على إيصال وجعها للجميع ..
لكن لا أحد شعر بها، صرخت بجنون أكثر واكثر قبل أن تشعر بقدم تضغط على رأسها، ضغطة كادت تكسر عظام عنقها، رفعت وجهها بصعوبة وقد أصبحت اشبه بجثة بعدما كانت منذ ساعات فراشة بيضاء مزهرة .
رفعت رأسها أكثر تحاول اختراق الظلام المحيط بها لتبصر وجه من دفن وجهها ارضًا، وقد كان، رأت ابتسامته المقيتة وكأنه يستمتع بعذابها، أبت أن تغمض عينها لثواني فقط كي تحتفظ بتلك الصورة في رأسها، ستريهم الويل، جميعًا، لن ينجو أحدهم مما ستفعله بهم، ستريهم الجحيم الوانًا ..
وقبل أن تقرر أن تنهض شعرت بيد قذرة تتسلل لقدمها من الخلف ودون مقدمات مزّق فستانها تحت صرخاتها العالية وهي تترجاه أن تتركه .
” لا ابوس ايدك سيبني، ابعــد عني …ابعــد عني، يا مــامــا….”
لكن يده استمرت في العبث بجسدها أكثر واكثر، وفجأة بدلًا من الممر الفارغ أضحى المكان متكدسًا بالعديد من الوجوه الذين يشاهدون مذبحتها باستمتاع، وصرخاتها تترجى رحمةً منهم، أطلقت صرخة ذبيحة تتوسل شفقةً، لكن ما نالت سوى المزيد والمزيد من الوجع ….
انتفضت ميمو من تلك الرؤية القصيرة وهي تصرخ صرخات عالية وذلك الكابوس يتردد أمام عينها كأنه حقيقة، تصرخ بشكل اثار فضول الجميع حولها، فقد كانت تجلس في سيارتها أمام أحد المباني بعدما لم تخلف صلاح عن لقائهما .
فجأة شعرت بيد تربت عليها ببطء، انتفضت وهي تبعد اليد صافعة صاحبها بقوة وصوت صرخاتها يعلو بجنون :
_” ابعـــد عنـــي ”
صُدم مُختار والذي كان هو نفسه الحارس الشخصي وأكثر من تثق به ميمو في منزل الاشموني، الشخص الذي اختارته بعناية ليصبح عينها في كل مكان .
تنفست بعنف تدور بأعين زائغة حولها، تستوعب ما حدث وأين هي ومع من، نظرت لوجه مختار الذي لم يفعل شيئًا ولم يبدي ردة فعل وفجأة صدر منها ردة فعل ليست بغريبة عليها كلما رأت ذلك الكابوس …
اخذت تصرخ بقوة شابهت صراخها في أحلامها تصرخ وهي تضرب مقود السيارة بوجع وجنون تصرخ حتى شعرت أن حنجرتها جُرحت .
ومختار يراقب ما يحدث بوجه جامد واعين حمراء مخيفة، يراقب حالاتها التي تعانيها كلما واجهت اشباح الماضي ..
دقائق فقط حتى انتهت وهي تعود برأسها للخلف، ثم رمقته قليلًا وقالت :
” كان الحلم عنيف المرة دي ها ؟! معلش ازعجتك ”
تحاول أن تبدو مرحة ككل مرة تفعل بيها هذا، ابتسمت بسمة صغيرة وهي تقول :
“معلش يا ميخو تعيش وتاخد غيرها، إن شاء الله مش هتعلم على خدك”
ابتسم مختار وهز رأسه بدون كلمة واحدة، تنفست ميمو قليلًا قبل أن تتحرك بالسيارة تقول ببسمة واسعة :
” تعالي هوكلك ايس كريم فسدق تعويض ولا نخليه لوتس ؟!”
وكالعادة لم يتحدث مختار، بل فقط نظر لها بجمود، لكنها تفهم صمته جيدًا، وقالت :
” يبقى شوكولاتة….”
تحركت بالسيارة وعينها مثبته أمامها، ويدها تضغط على المقود وصوتها الذي صرخت به في حلمها يتردد في عقلها ليترجمه لسانها بشر وحقد دفين مرعب :
” هوريكم الويل كلكم، هتشوفوا الجحيم ….”
_______________
توسط صالح الطريق بين سيارته وتلك السيارة السوداء التي يحدها بعض الرجال في بدلات سوداء تشبه تلك التي رآها في الاجتماع، نظر خلفه باحثًا عن محمود ليراه مازال جالسًا بالسيارة، لكنه تحرك وجلس خلف المقود يرفع إصبعه في الهواء علامة ( تمام )
” شوف أنت الدنيا وانا هنا في ضهرك عشان لما تحب تهرب تلاقيني ”
واطمأن صالح لكلماته مرتكبًا اكبر خطأ في حياته، وهو الثقة في محمود .
سمع صوت أحد الرجال يصدح بشكل جهوري ذكره بمشهد شاهده سابقًا في أحد الأفلام القديمة حينما كانت عصابة تهدد البطل :
” اهلا يا استاذ صلاح، يا ترى عارفنا ؟!”
نظر صالح لهم من الاعلى لاسفل، يحاول أن يتعرف على أحدهم علّه اصطدم به يومًا مع أخيه، مخمنًا أنهم ربما رفاقه فهم يرتدون البدلات الفاخرة مثله :
” والله مش فاكر اني قابلتكم قبل كده، قولي على أمارة يمكن افتكرك ”
” لا متتعبش نفسك مش هتفتكر لأنك منعرفناش اساسا”
ضرب صالح كف بكف متعجبًا حديثه المتناقض :
” ولما انا معرفكوش بتقولي فاكرنا ليه؟! ولا هو جر شكل وخلاص، بعدين متلفش وتدور عشان العربية بتاعتي دي هتدفعوا تمنها ”
نظر أحد الرجال ليده التي يحمل بها مدية ملوحًا بها ثم قال ببسمة جانبية :
” مش عيب كاتب كبير ومحترم زيك يمسك مطوة ؟! سيب اللي في ايدك يا دكتور عشان متعورش نفسك بحاجة أنت متعرفش تستخدمها ”
ابتسم صالح بسمة ساخرة وهو يحرك المدية بشكل مدروس بين أصابعه :
” صدقني أنت متعرفش أنا ممكن اعمل ايه ولا ايه باللي في أيدي دي، أنا لو بعرف استخدم حاجة في حياتي فهي الحاجة دي، فلخص وقول عايز ايه ؟!”
تحدث الرجل بجدية كبيرة وملامح كانت لتكون مرعبة لأي شخص غير صالح الذي انكمشت ملامحه في مظهر مخيف أكثر وأكثر منهم .
” الباشا بيقولك بلاش تلعب في عداد عمرك، وبطل تنبش وراه، لأن آخر واحد عمل كده ملمحش نور شمس من بعدها ”
” ليه بقى اعمى ولا ايه ؟!”
تعجب الرجل منه وقال :
” نعم ؟! ”
زفر صالح بغيظ وقد أخذ هذا الحوار منه أكثر مما يستحق :
” اسمع يا …اسم الكريم ايه ؟!”
صمت الرجل وملامحه توحي بمقدار دهشته من طريقته فمن أمامه ليس خبيثًا كما علم من قبل ورأى في لقاءات لع، بل هو شخص لا مبالي غريب يتحدث بشكل مستفز وقح وبكلمات عشوائية دون لحظة تفكير فيما يقول، عكس استفزاز صلاح المدروس و المعهود من الجميع .
عندما طال صمت الرحال قال صالح بجدية كبيرة :
” ماشي، اسمع يا غالي، أنا في حياتي دي كلها معرفش حد اسمه باشا، غير مفتش الصحة وده بس وهو واقف قدامي، ولما يمشي بسحب منه اللقب”
حرّك المدية ( مطوة ) في الهواء بشكل مدروس وكأنه يحمل مشرطه الحبيب :
” وشغل التهديد والبدل والعربيات السودة ده عدى وولى من ايام فيلم حرب ايطاليا ”
صمت قليلًا يراقب تعابير الغضب التي تماوجت على أسطح الوجوه أمامه بشكل واضح، لكنه لم يهتم وهو يقول بشر وصورة هؤلاء الحمقى يحاولون أذية اخية الحبيب تتحرك أمام عينه فاستفزت رجل الكهف داخله :
” روح قول للي باعتك، لو قربت من صلاح السقاري، هشرّحك، وكلامي هنا مش تعبير مجازي ولا استعارة مكنية، لا كلامي هنا حرفي، هشرحه ومش هخلي الطب الشرعي يعرف يجمع منه حاجة ولا يعرف سبب الوفاة ”
وبمجرد انتهاء كلماته ارتفعت في وجهه العديد والعديد من الأسلحة المتطورة التي لم يرى لها مثيل يومًا سوى من خلف شاشات التلفاز، حسنًا هنا يجب القلق حقًا والتوقف عن التهديد، فهم يمكلون أسلحة مقابل مديته الصغير المسكينة، وبلا أي مقدمات أطلق صفيرًا حادًا وهو يصرخ بصوت عالي :
” محمــــــود”
وبمجرد نطقه لتلك الكلمة وقبل أن يستوعب أحدهم ما يقصده كانت اطارات سيارة صالح تحتك بالاسفلت أسفلها ومحمود يتحرك بشكل مخيف صوبهم لتنفيذ عملية الهروب، تحفز جسد صالح ليقفز في السيارة بمجرد أن تتوقف.
لكن ما حدث هو أن السيارة تجاوزته وتوقفت أمام أحد أفراد العصابة ومحمود يصرخ به :
” اركب بسرعة يا غبي قبل ما يلحقونا ”
صرخ صالح بجنون مما يفعل صديقه :
” أنا برضو اللي غبي، أنا هنا يا حشاش ”
نظر محمود صوب الصوت في نفس الوقت الذي كاد أحد الرجال يهجم على السيارة لكنه تحرك بسرعة جعلته يسقط ارضًا يعود إلى صالح الذي ألقى جسده في السيارة ونصفه الآخر متدلى من النافذة يصرخ :
” اجري يلا اجري ”
تحرك محمود ليعبر من سيارة الرجال في نفس الوقت الذي بدأوا يطلقوا فيه رصاصات للترهيب فقط حتى لا يتسببوا في جريمة _ حسب أوامر رئيسهم _ بينما صالح يصرخ بعنف :
” اخبط في عربيتهم، كسرها ليهم عايزاها تبقى خردة”
وكذلك فعل محمود الذي صدم سيارتهم ليرد لهم تلك الأضرار التي سببوها في سيارة صالح، لكن ما حدث أن سيارة صالح هي من تضررت مجددًا بسبب حجمها الصغير وضعف بنيتها مقارنة بالاخرى ليطلق صالح صوتًا حانقًا يقول بتهديد غبي :
” ده بس قرصة ودن صغيرة ”
ازدادت سرعة محمود وهو يبتعد عنهم، وقد اعتدل صالح وهو يصرخ من النافذة يلوح بالمدية في الهواء يحاول إيصال فكرته لهم حول الاقتراب من أخيه:
” افتكروا اللي هيقرب من صلاح هخليه فار تجارب واشرحه ”
أنهى حديثه وهو يلقي بجسده في السيارة مجددًا يتنهد بتعب قبل أن يتذكر ما فعل محمود لينقض عليه بجنون :
” رايح تركّب واحد منهم يا متخلف ؟؟ ده أنت كان ناقص تدوسني وأنت معدي ”
” ياعم وانا اعرف منين أنه مش أنت؟ ما كلكم لابسين بدل زي بعض ”
ضربه صالح على رأسه بغيظ شديد، ثم انتبه لهاتفه الذي علىٰ رنينه أسفل مقعده، هبط بنصف جسده العلوي ملتقطًا إياه ثم اعتدل مجيبًا :
” الو يا صلاح ”
ولم يصل له سوى صرخه شقيقه الفزعة والمرتجفة برعب جلي يكاد صدى دقات قلبه يصل لصالح عبر الهاتف :
” صالح حصلك حاجة، أنت كويس ؟؟؟؟؟”
_________________
اغلق صلاح الهاتف بعدما اطمأن على شقيقه، يا الله تلك اللحظات التي تلت سماعه لصوت الاصطدام، كاد ينهار لشعوره بأنه قد يمس صالح ضررًا صغيرًا، مسح وجهه بيد مرتعشة يحمد الله في سره أنه بخير .
زفر بتعب شديد قبل يلقي بجسده على الأريكة ليمنح نفسه فرصة التنفس براحة، لكن ما كاد يفعل حتى اصطدمت عينه بجسد رائد الذي بقي يحدق فيه بشك :
” اطمنت على صلاح خلاص ؟! نرجع بقى لقضيتنا !!”
ضرب صلاح كف بكف لا يصدق إصرار ذلك الاحمق على نزع هويته منه :
” يابني أنا صلاح والله العظيم، احلفلك على مصحف اني صلاح ؟! طب رن على اسم صلاح عندك كده هتلاقي تليفوني بيرن مش تليفون صالح ”
” يا سلام ؟! ما يمكن حضرتك مبدل التليفونات ”
رمقه صلاح ثواني قبل أن يقول بسخرية دافعًا إياه بعيدًا :
” تصدق بالله كويس أنك مترقتش، والله لو بايدي لانزلك أمين شرطة، وابعد عني مش طايق نفسي اساسا باللبس المقرف ده ”
ابتعد عنه رائد ينظر له بتفكير، ثم قال بهدوء :
” على العموم كله هيظهر لما صلاح يجي، وقتها هنعرف مين الصادق ومين الكداب ولغاية ما يجي خليني أخد منك كام اعتراف كده ”
أنهى رائد يجلس على مقعده يتحدث بجدية وهو يفتح أحد التسجيلات جواره :
” قولي بقى يا صالح، ايه رأيك في الأقوال المنسوبة إليك واللي بتقول أنك شمام وحشاش وعيل فاسد ”
ابتسم له صلاح بسخرية مجيبًا إياه دون اهتمام :
” والاقوال دي مين اللي نسبها ليا ؟!”
” رد على قد السؤال لو سمحت، أنت هنا متهم”
رفع صلاح حاجبه يدعي أنه في لقاء صحفي مجيبًا بكل دبلوماسية :
” رأيي في الأقوال دي هو هو نفسه رأيي فيك يا رائد يا حبيبي، وصدقني مش حابب أوضح اكتر عشان منخسرش بعض ”
لم يفهم رائد ما قاله، فقد شعره رد خبيث يحمل في طياته الكثير من المعاني مما جعله يشك للحظات أن من أمامه ليس هو نفسه صالح، وأنه صلاح، فصلاح مشهور أنه يجلد من أمامه مستخدمًا كلماته التي تجعل خصمه يتمنى لو لم تلده أمه، بينما صالح في هكذا مواقف لا يجيب سوى بكلمات وقحة غير موزونة وقد يمتد الأمر لاستخدام ذراعه ليريك كيف تتحدث معه فيما بعد .
” حاسس أنك قصدك حاجة مش تمام ”
ابتسم له صلاح بسخرية :
” لا متحسش أنا فعلا قصدي حاجة مش تمام ”
انحنى رائد يستند على ركبتيه مستخدمًا ذراعيه، يضيق عينيه بنظرة مريبة يردد بتهديد أجوف فهو لا ينتوي في الحقيقة سجن رفيق طفولته واخيه، بل يعمد لاخافة صالح حتى يكبح جماح تهوره، وبمجرد عودة صلاح سيحاول معه تقويم ذلك المتهور، فهو وبعد أن رآه مُسكر العقل شعر بالصدمة، ورأى أن إحضاره هنا لاخافته أسلم حل، وحتى يعود الآخر سواء كان صالح أو صلاح سيتولى هو أمر ترهيب هذا الشخص أمامه _والذي أضحى يشك أنه صالح_ فهذه النظرات وهذا الحديث لا يخطأه رائد ويدرك جيدًا من صاحبهم، لكن سينتظر قدوم الآخر لتتوضح جميع الأمور :
” وانا همشيها اني حاسس؛ لأن كفاية عليك تعاطي واتجار، أنت مش حمل قضية إهانة ظابط أثناء أداء عمله ”
أخرج صلاح صوتًا ساخرًا من فمه وما كاد يفحمه بردٍ يسكته عمره القادم كله، إلا وسمع الاثنان طرق عالي على الباب، ثم دخول أحد العساكر يردد :
” تمام يا فندم، تم القبض على شوية العيال اللي اتبلغ عنهم أنهم بيشربوا مخدرات في عمارة مصر الجديد ”
هز رائد رأسه قليلًا وهو يقول بجدية معتدلًا في جلسته :
” دخلهم ”
أنصت صلاح باهتمام شديد لما سمع يراقب ذلك الصف الذي دخل للمكتب بهم الشباب والفتيات، ورغم ذلك الوضع المخزي إلا أن نظرات الكبرياء في اعينهم تخبرك أنهم لن يكملوا بضع ساعات في الحبس، حتى يخرجوا من الأمر .
اعتدل صلاح في جلسته يراقب رائد الذي بدا لو أنه تحول بالفعل لشرطي محترف، كان يتعامل بعملية شديدة مع هؤلاء الفاسدين لدرجة اعجبت صلاح نفسه .
ابتسم رائد يتحدث بسخرية :
” يعني كل ده سوء تفاهم ؟! الدخان اللي خارج من الشقة وصوت الضحك والمسخرة كل يوم في عمارة سكنية، والبودرة اللي اتمسكت معاكم سوء تفاهم ؟!”
اجابته فتاة بارتعاش تحاول الظهور بشكل لا مبالي حسب تعليمات رفاقها :
” أيوة يا حضرة الظابط، احنا كنا في party عادي ومتجمعين عادي زي ما بنتجمع في أي نادي سوا، ومرة واحدة لقينا الباب بيخبط جامد والعساكر دخلوا شدونا بشكل غير حضاري ”
ابتسم رائد بسمة جانبية يمرر عينه من أعلى لاسفل على جسد تلك الفتاة، والتقطت عينه يدها المرتعشة كما فعلت عين صلاح الخبيرة :
” امممم واضح يا آنسة، طب والمخدرات ؟!”
ارتعشت الفتاة وظهر توترها جليًا للعيان، وبدأت تشعر بالمكان يتحرك من حولها، شعرت بتيبس في يديها وقدميها، وكل ذلك لم يخفى عن أعين صلاح الذي ابتسم بسمة جانبية يدرك جيدًا أن تلك البلهاء جُرّت لذلك الطريق للتو، وأنها ما تزال جديدة في كل ذلك، عكس ذلك المتبجح الذي امسك يدها حتى يبثها قوة واهية :
” المخدرات مش بتاعتنا، الشقة دي بتتأجر لحفلات كتير، يمكن بتاعة حد كان موجودة قبلنا، واثبتوا العكس ”
ضرب رائد المكتب بشكل مخيف جعل الجميع ينتفض وقد بدأت ملامحه تتحول كليًا :
” احنا هنلعب مع بعض يا روح امك ؟! شقة ايه دي اللي بتتأجر عشان الحفلات ؟؟ مش دي شقة مجدي وحيد صاحب معرض السيارات اللي في التجمع ؟! وحسب معلوماتي مجدي ده يبقى ابوك يا غندور ”
توتر الشاب ولم يحسب أن يكون ذلك الشرطي قد أجرى تحقيقاته، ظن أنه سيفلت كما يفعل كل مرة، لكن رائد ورغم كل صفاته ليس بالشخص السهل توقعه، ومنذ بلاغ السكان عن تلك الشقة وهو لم يغفل عن تفصيلة صغيرة، ولولا اتصال صالح به وأخباره أنه مريض ووحده لكان ذهب مع القوات لاعتقالهم بنفسه، لكنه اكتفى بإرسال رفيقه لذلك .
بدأ التوتر يظهر على الجميع خاصة تلك الفتاة التي بدأت ارتعاشها يظهر بشكل ملحوظ وكأنها في وسط مكعب ثلج، نادمة ؟! نعم، بل تتقطع من الندم ما كان عليها الركض خلف تلك المتعة الصغيرة الزائلة، لم يكن عليها أن تتناسى كل ما تربت عليه لأجل لحظات صغيرة من الانتشاء، لكن ماذا تفعل وقد تسلّم شيطان في هيئة صديق أذنها.
أشار صلاح لرائد بعينه في حركة صوب الفتاة لينتبه لها رائد وتثير في قلبه شفقة صغيرة :
” أنتِ ”
رفعت الفتاة عينها له بتردد لتسمع صوت رائد يردد بجدية :
” فين اوراقك عشان نستدعي اهلك ؟!”
ارتعش جسدها وسقطت دموعها بقوة وفكرة أن يعلم أحد أفراد عائلتها ما فعلته يرعبها أكثر من فكرة قضاء باقي حياتها خلف القضبان .
لكن ما كادت تفتح فمها حتى سبقها صوت فتح الباب ودخول شخص بشكل همجي جعل رائد ينتقض صارخًا :
” فيه ايه ؟! هو حمام عام منك ليه ؟!”
لكن توقف عن الصراخ حينما أبصر تلك المرأة التي كانت مشتعلة وهي تنظر للفتاة الخائفة بشر قائلة بنبرة مخيفة متحفظة :
” بعتذر يا حضرة الظابط، بس طلبت اقابلك وهما رفضوا ”
وكان الرد من رائد قاطعًا وبملامح لا تقبل النقاش :
” طالما رفضوا يبقى غير مسموح يا استاذة، ده مكتب شرطة مش تكية هي، مين حضرتك وازاي تدخلي بالشكل ده ؟؟”
صمتت تنزع بطاقة من حقيبتها واضعة إياها أعلى مكتب رائد وهي تقول بهدوء شديد :
” أنا ولية أمر نيرمينا الاشموني وجيت هنا عشان اضمنها”
اعتدل صلاح في جلسته يراقب مهرته تقف أمامه بهيئة نارية غير تلك العابثة، أدرك جيدًا أنها مسألة وقت ليحضر أحد أفراد عائلة الاشموني، فهو علم هوية نيرمينا منذ لمحها، كيف لا وهو يحتفظ بمعلومات كاملة عنها بالإضافة لصورتها، لكن الغريب هنا أن من جاء لضمانها هي نفسها زوجة والدها …ميمو الجامحة .
كان رائد على مقعد مكتبه يردد بتهكم خرج دون إرادته :
” معتقدش أن موقف زي ده يا آنسة ينفع فيه ضمان أبدًا، دي قضية تعاطي مش حادثة عربية ولا تحري، الموضوع اكبر من كده ”
رمقت ميمو نيرمينا بنظرة مرعبة جعلت الأخيرة ترتعش حتى كادت تسقط ارضًا تنتحب برعب، لكن ميمو صمتت ثواني، ثم اردفت غير واعية لاعين صلاح الذي كان يدرس ما يحدث حوله بدقة شديدة :
” وأنا يؤسفني اقولك يا حضرة الظابط إن أنا مش همشي من هنا من غير نيرمينا، على العموم المحامي في الطريق وإن شاء الله نلاقي حل وسط ”
كانت تتحدث وهي تنظر لرائد في عينه كأنها تحاول السيطرة على عقله أو تتحداه، وكل ما وصل لها من رائد بسمة متهكمة ليست أقل قوة من خاصتها .
دقائق قليلة حتى استأذن المحامي والذي جاء رفقة مختار _ حارس ميمو الشخصي _ للدخول، دخل الأثنان ليلتزم مختار الصمت والجمود كعادته والمحامي تولى الحديث، في نفس اللحظة التي أبصرت بها ميمو وجود صلاح الغريب، ليس لملابسه الغير مرتبة بشكل ينافي مظهره المنمق المعروف، بل لجلوسه بهذه الاريحية في مكتب ضابط شرطة، هل يعمل مع الشرطة أيضًا ؟!
وبنظرة صامتة لمختار، أدرك مختار مهمته القادمة والتي تتمحور كلها حول ذلك الجسد الرجولي القوي الذي يتوسط الأريكة الجلدية في أحد أركان المكتب ….( صلاح السقاري )
_____________________________
صعدت السيارة المتجهة للقاهرة بعدما أبلغت عائلتها الحبيبة أنها ستقضي اليوم لدى مروة، تاركة مروة تلعق جروحها _التي تسبب بها ذلك المدعي الوقح_ وحدها، بحق الله اين ذلك الرقي واللباقة التي أخذت تتحدث عنهما ؟! ذلك الحقير لا يوجد به شيء راقي عدا بدلته فقط .
كانت رانيا تشعر بالنيران تشتعل في رأسها، ذلك الغبي سرق هاتفها بعد التقاط الصورة، تقسم أنها سوف تعمل على فضحه في جميع الصحف والجرائد التي يعمل بها مصنفًا نفسه صحفي شريف .
جلست على مقعد في السيارة تنتظر أن تكتمل بالركاب وهي تهدأ نفسها، هي ستصل القاهرة وتحضر ذلك اللص وتأخذ هاتفها الذي يحتوي جميع حسابتها البنكية وجميع أرقامها السرية والتي إن علم والدها باختفائها قد يحيل حياتها لجحيم، بالإضافة أنها تنتظر موافقة على المنحة التي تقدمت لها منذ اسابيع.
بمجرد امتلاء السيارة تحركت شاقة طريقها صوب القاهرة، وهي تحاول أن تبرد نيرانها، ثم استدارت لأحد الركاب تتحدث بلطف خرج بصعوبة من بين ذبذبات غضبها :
” أنا آسفة لو بزعج حضرتك، بس محتاجة اعمل مكالمة ضرورية ”
نظر لها الرجل ثواني قبل أن يعطيها الهاتف، أخذته رانيا بلهفة تكتب ارقام هاتفها بسرعة كبيرة ثم وضعته على أذنها تنتظر الرد .
وعلى الجانب الآخر، كان كلٌ من صالح ومحمود على أطراف القاهرة ليعلو رنين هاتف من جيب بنطال محمود الذي كان قد سافر لعالمه الخاص .
” يابني ما ترد صدعتني ”
اعتدل محمود في جلسته يخرج الهاتف من جيبه، ينظر له بتعجب يقلبه بين يديه وكأنه يفكر في شيء ما قبل أن يقول بغرابة :
” ايه ده ؟؟”
” ايه ؟؟”
” مين غيّر نغمة التليفون بتاعتي ؟!”
لم يجبه صالح بل استمر في القيادة بتركيز كبير يستمع لصوت صديقه يتحدث :
” أيوة مين معايا ؟!”
” مين معاك يا حرامي يا نصاب، والله العظيم أنا قولت اخركم شوية شمامين ما تعرفوا للأدب طريق ”
ابعد محمود الهاتف عن أذنه بتعجب، ثم همس لصالح بصوت خافت :
” دي بنت و بتقول علينا شمامين”
هز صالح رأسه وهو يقول بجدية :
” قولها أنك أنت بس اللي شمام ”
هز محمود رأسه، ثم وضع الهاتف أعلى أذنه مجددًا ليعلو صوت رانيا صارخًا بغضب، ومجددًا تعجب محمود الأمر وكأنه نسي أنه تحدث منذ ثواني لها وهو يقول :
” الو مين معايا ؟!”
وصل صوت رانيا جنونيًا :
“أنت هتستهبل يا جدع أنت؟! اقسم بالله لاويدكم في ستين داهية ”
” أنتِ مين اساسا وجبتي رقم تليفوني منين ؟! ”
سمع صوت شهقة مستنكرة من الطرف الآخر، ثم صرخات مريبة تعلو مجددًا:
” تليفون مين ؟؟ ده بتاعي أنا يا حرامية ”
ابعد محمود الهاتف عن أذنه يحدق به في تعجب شديد، ثم مدّ يده يتحسس بنطاله ليجد هاتفه يستقر بهدوء داخله، ضيق ما بين حاجبيه وهو ينظر لصالح :
” تليفونك ده يا صالح ؟!”
حدق صالح به متعجبًا :
” تليفون ايه يابني ؟! هو ده مش بتاعك ؟! ”
” لا فيه بنت بتقول أنه بتاعها ”
توقف صالح فجأة بالسيارة وهو يردد بتحفز :
” بنت !؟ بنت مين؟؟ ”
رفع محمود كتفيه دلالة عدم فهمه، ثم مد يده بالمحمول لصالح الذي بمجرد وضعه على أذنه حتى وصل له صوت رانيا التي حاولت الهدوء بعدما رأت أن ذلك الحقير لا يجدي الصراخ معه نفعًا :
” يا استاذ لو سمحت التليفون ده عليه حاجات مهمة اوي وانا مقدرش استغنى عنه ليوم، ارجوك أنا جاية القاهرة مخصوص عشان اخده ممكن نتقابل واخده ؟!”
قال صالح بعدم فهم فهو لا يدري من تلك ولا يفهم ما يحدث أو كيف وصل هاتفها لهم :
“الو مين معايا ؟!”
_________________
بعد ساعة تقريبًا :
توقفت سيارة صالح أمام مركز الشرطة التي يعمل به رائد كان يسير بخطوات واثقة يتقمص دور صلاح بامتياز، بينما محمود يتمسك بسترته كما لو كان طفلًا متعلقًا بوالده .
توقف صالح بغيظ يبعد يد محمود عنه :
” ايه يا حبيبي سيب ام الجاكت مش هطير”
نظر له محمود دون وعي تقريبًا، ينظر لمحيطه يحاول أن يفهم أين هم وماذا يفعلون، فهو وبعد طريق طويل من السفر وبعد غفوة طويلة كالميت استيقظ على ضربات صالح الذي أمره بالمجئ معه .
” أنا شايف ناس كتير لابسة ابيض، هو احنا في مستشفى ؟! ”
ابعد صالح يده مرددًا بحنق :
” لا يا غالي احنا في المكان اللي المفروض تقضي فيه باقي حياتك ”
” قاع الهامور ؟؟”
افتر ثغر صالح عن ابتسامة متهكمة تزامنًا مع خروج صوت ساخر من حنجرته كان أبلغ رد على رفيقه في تلك اللحظة وقبل أن يفتح فمه للرد عليه بكلمة شعر بباب المكتب المجاور له يُفتح بقوة واحدهم يجذبه بشكل مرعب، ثم جذب محمود الذي كان على أعتاب العالم الموازي قبل سحبه بذلك الشكل .
دخل صالح للمكتب والذي كان خاصة رائد ينظر حوله ليجد صلاح يقف في منتصف المكتب وهو مرتدي ثيابه تاركًا شعره مبعثر، ليبدو في تلك اللحظة صورة طبق الأصل منه .
وقبل أن تصدر منه ردة فعل شعر بيد صلاح تتأكد من سلامته، ثم ضمه بقوة يطمئن نفسه أن شقيقه بخير :
” أنت كويس ؟! حد عملك حاجة أو اذاك ؟! ”
هز صالح رأسه بهدوء :
” لا محدش عمل حاجة متقلقش، أنا روحت ورجعت ومفيش حاجة ”
ابتلع ريقه يراقب ملامح الشر التي استوطنت وجه صلاح في تلك اللحظة، وفكر في الاعتذار وأخباره أنه لم يقصد وأن الأمر كله خطأ محمود لا هو، لكن رائد سارع بالقول بخبث وقد تأكدت شكوكه حول من صالح ومن صلاح، لكنه أراد معرفة سبب وصول صلاح لما كان عليه منذ ساعات :
” اهلا يا صلاح كويس أنك جيت بنفسك عشان تشوف اخوك بيعمل ايه ”
نظر صالح لصلاح بصدمة وكاد يفتح فمه للحديث :
” أنا معملتش حاجة يا صلاح متصدقوش ده هو اللي …”
وقبل أن يكمل جملته أدرك أن رائد يتحدث له هو، يظنه صلاح ويشتكي له من صالح الذي هو في الأساس صلاح الحقيقي.
فتح صالح عينه وارتسمت بسمة واسعة على فمه يبعد يد صلاح عن سترته قائلًا بغيظ :
” أنا جيت أول ما كلمتني يارائد عشان اشوف الفساد اللي بيعمله الشاب ده بعيني”
نظر بعدها لصلاح وهو يقول بخيبة أمل مصطنعة :
” حشيش يا صلاح…قصدي يا صالح ؟؟ حشيش ؟؟ اكيد طبعًا قاعدلي ٢٤ ساعة مع محمود هتبقى ايه ؟! عالِم ذرة ؟؟ اخص عليك وعلى اخلاقك ”
كان صلاح يستمع لكلام صالح وهو يشعر بدمه يغلي داخل أوردته حتى كادت تنفجر من ذلك الحديث الاحمق الذي ينطق به اخيه، وبمجرد انتهاء كلمات صالح اندفع له يمسك ثيابه بقوة يجز على أسنانه :
” أنا برضو اللي بشرب حشيش يا فاسد يا بايظ ؟؟ بقى أنا صلاح السقاري اللي عشت عمري كله احارب المخدرات ومسكرات العقل تعمل فيا كده وتخليني اشرب حاجات مشكوك فيها ؟!”
رفع صالح حاجبه يحاول التمسك بالطريقة الوحيدة التي قد ينجو بها من يد أخيه، وهي الاستمرار في الكذب :
” ايه يا صالح ؟؟ الظاهر لسه الحشيش شغال، أنا هو صلاح السقاري مش انت يا حبيبي ولا نسيت؟! بص على نفسك وبص عليا، الفرق واضح للاهبل، حتى أسأل محمود ”
هز محمود رأسه والذي كان يجلس على الأريكة الجلدية براحة، يحرك رأسه للامام والخلف وكأنه يرقص فقد كان في تلك اللحظة يشهد بعينيه مراسم زفاف ملك بريطانيا على حبة كمثرى بحضور عدد غفير من المعكرونة الاسباجتي.
اشتد غضب صلاح وهو يرى إنكار صالح لهويته الحقيقية وتمكسه بكذبه، لذلك قال بغيظ :
” أنت هتستهبل يا خويا ؟؟ ولا متخلنيش اطلعهم عليك”
تأتأ صالح بهدوء يحاول أن يتحدث بشكل مهيب عاقل كصلاح وقد أتت فرصته في استفزاز أخيه أخيرًا :
” تؤتؤ، طول عمري اقول عليك واحد عشوائي حتى في الكلام، ياريت تتكلم كويس يا صالح وبلاش طريقتك دي معايا ”
ابتسم رائد يقول بجدية مضحكة :
” اظن يا صالح يا حبيبي لعبتك اتكشفت وعرفنا مين اللي صلاح ومين صالح، ودلوقتي مش هتقول جبت منين الحشيش ؟!”
نظر صلاح لمحمود الذي بدأ يصفق بسعادة وقال :
” أنت غبي ؟؟ بقولك أنا صلاح واكيد الحشيش من الزبالة اللي قاعد يسقف زي الشمبانزي ده ”
انتبه صلاح لنظرات عدم التصديق التي تظهر واضحة على الأعين حوله، ليبتسم بصدمة وهو يقول :
” بجد ؟! يعني خلاص بقيت أنا صالح الفاسد ؟؟”
صمت قليلًا قبل أن يقول بجدية :
” طب فاسد بفاسد وقضية بقضية، ضيف عندك يا رائد يا حبيبي شروع في القتل ”
تعجب رائد من حديثه ولم يكد ينطق بكلمة يتساءل بها عن معنى حديث صلاح حتى ابصره ينقض على صالح ضاربًا إياه في رأسه بقوة، متبعًا ضربته بلكمة اكبر جعلت صالح يعود للخلف متأوهًا، وارتفع صوته يصرخ بجنون دون لجم لسانه :
” اه يا فلاح يا ابن الفلاح، أنت ياض غبي ؟! ”
انقض صالح بعد تلك الكلمات على صلاح يرميه بسبات عديدة تحت أعين رائد الذي تأكد من ظنه، فما كان صلاح ليخرج مثل تلك الكلمات ولو في أشد حالاته غضبًا، لكن لم يكد ينغمس في حالة التفكير تلك بسبب رؤيته لحالة الشجار التي تطورت حتى كاد الاثنان يقتلان بعضهما البعض .
بينما محمود وكأنه استفاق للتو ليبصر بعينه اشتعال ذلك القتال، نهض من جلسته يندفع بسرعة مخيفة صوب صالح يبعده عن صلاح ثم ألقاه ارضًا واندفع يكيل له اللكمات متناسيًا أنه يضرب صالح ..
” أنا سكتلك كتير وأنت كل شوية تقول حشاش وبايظ، شربت علبة العصير اللي مظبطها عشاني وقولت ماشي، لكن تيجي على صاحبي دي اللي مش هسكت عنها، سامع ؟!”
صرخ صالح أسفل محمود يحاول دفعه عنه بعدما باغته:
” يا غبي يا متخلف أنا صالح، التاني هو صلاح ”
نظر محمود لصالح بشر وهو يقول :
” أنت كداب صالح عمره ما لبس بدلة غير في حفلة التخرج ”
“فوق يا نايم أنا كنت عامل نفسي صلاح عشان المؤتمر ”
فتح محمود عينه فجأة وقد استوعب ما حدث وقبل أن ينطق بكلمة شعر بجسده يُجذب من فوق جسد صالح ودون أن يبادر بكلمة شعر يلكمة عنيفة أصابت فكه وصوت صلاح خرج راعدًا :
” يعني اللي حصل فيا ده بسبب العصير بتاعك ؟؟ ”
فتح محمود عينه ينظر في وجه صلاح بحزن قبل أن يقول :
” كده يا صالح بتمد ايدك على صاحبك عشان اخوك ؟؟ مش كفاية كنت بضربه عشانك ؟!”
قال صلاح بغضب وهو يهز محمود :
” أنا صلاح يا متخلف واللي كنت بتضربه هو صالح”
نهض صالح يخلع سترته ملقيًا إياها ارضًا ثم جذب منه محمود يقول بشر :
” لا ده تسيبه ليا أنا بقى الحشاش ده ”
وفجأة انقلب القتال لمحمود وأصبح الأخوان يلقون محمود لبعضهم البعض والآخر يحاول أن يستوعب ما يحدث :
” طب أنا مش فاهم مين صالح فيكم عشان اتقمص طيب ؟!”
كان رائد في تلك اللحظة يراقب ما يحدث وهو لا يفهم شيئًا، يشعر أن اسلاك عقله قد تشابكت في بعضها البعض، كل ذلك يحدث أمامه وهو في عالم آخر، قبل أن يتوقف الاثنان عن ضرب محمود وكان ذلك تزامنًا مع فتح الباب ودخول رجل كبير في العمر وهو يصرخ :
” حضرة النقيب ”
اعتدل رائد في وقفته وهو يلقي التحية على اللواء مرددًا باحترام :
” افندم ”
نظر الجميع صوب الباب ومازالت يد صلاح تمسك بتلابيب ثياب محمود الذي صاح بتعجب :
” عمي ؟!”
نظر اللواء صوب محمود وألقى له نظرة صغيرة مستحقرة، ثم تجاهله متحدثًا لرائد :
” خلص اللي بتعمله وتعالالي على المكتب ”
أنهى حديثه وخرج دون كلمة إضافية ودون قول ما جاء لاجله، تاركًا ثلاثة أزواج من العيون تحدق في محمود بصدمة، لكن محمود لم يكن يهتم لنظراتهم وهو يقول :
” ايًا كان مين فيكم صالح يجي يوصلني البيت عشان عضمي مكسر…..”
____________________
وحسب الاتفاق كانت هناك .
تنتظر منذ ساعات أن تقابل ذلك المدعو ظُلمًا كاتبًا لتأخذ منه هاتفها الثمين، تنتظر وتنتظر داخل إحدى مياديين القاهرة الرئيسية، لكن لا شيء ….
شعرت رانيا بالغضب حينما تخيلت أن ذلك المدعي قد سرق هاتفها، أو يحاول التلاعب بها.
شهقت وقد بدأ عقلها يصور لها أنه فعل هذا لتأتي له خصيصًا للقاهرة وبعدها يخطفها ويقطعها لبيعها أعضاء .
ومن بين كل أفكارها شعرت ببروده في الأطراف، ليس من الجو، بل من فكرة أن الليل قد جن عليها وهي لم تنهي ما أتت لأجله .
احتارت ما بين العودة والبقاء هنا، لكن استمعت لرأي عقلها بأن تعود لمنزلها وتفكر في القادم، وما كادت تخطو عودة لموقف السيارات حتى تذكرت فجأة موافقة المنحة التي قدمت عليها والتي من المفترض أن تصل لها خلال أيام قليلة من الآن.
” يارب تقع تحت ايدي يا صلاح يا سقاري، بس الاقي تليفوني والله لافضحك”
تحركت توقف سيارة، ثم صعدت لها وتوجهت للمنزل الوحيد الذي تعرفه في القاهرة، منزل خالتها العزيزة .
مسحت وجهها تفكر في حجج عديدة تخبرها لعائلتها بمجرد الاتصال بهم من عند خالتها، وفكرت أن العقبة الأكبر تكمن في اكبر أشقائها…..جلال .
وعندما وصلت هبطت من السيارة، ثم صعدت لخالتها وبعد ترحيب و حوار قصير اقنعتها به أنها جاءت لتقضي معها بعض الأيام، انتزعت رانيا الهاتف واتصلت بوالدها وانتظرت الرد بهدوء وبمجرد أن سمعت صوته يقول :
” اهلا بالناس اللي مش بتسأل، عاش من سمع صوتك ”
” دي أنا رانيا يا بابا، مش خالتو ”
وصل لها صوت والدها متعجب :
” رانيا ؟؟ بتعملي ايه يا رانيا عند خالتك ؟؟ ولا هي اللي جات اسكندرية ولا ايه بالضبط !!”
أغمضت رانيا عينها ثم تلت عليه أولى كذباتها :
” أنا …أنا بس يا بابا عندي كورس مهم هنا هيستمر لكام يوم وسيبت رسالة ليكم قبل ما أخرج لأن البيت كان فاضي وتليفوني باظ وكنت مستعجلة، فقولت لعم حسين البواب يبلغكم لأنه جه فجأة أنت عارف الكورسات بتاعتي ”
صمت رؤوف والد رانيا والذي يعمل مهندسًا في إحدى الشركات، مثله مثل أبناءه الاربعة، فقد رُزق في بداية زواجه بأربعة رجال وصبية واحدة، أضحت مدللة الجميع، ولم يكن يومًا يرفض لها طلبًا، سواء كان اقتناء شيء جديد، أو السفر لرحلة ممتعة مع رفاقها، لهذا كان أمر ذهابها لخالتها أمر معهود وغير مريب له ليتعجب أو يغضب ..
” لا يا رانيا، عم حسين مقالش حاجة، بعدين ازاي تسافري لوحدك من غير ما حد من اخواتك يوصلك ؟! كنتِ قولتي وكان عبدالجواد وصلك ”
” يابابا أنا والله كنت مستعجلة اوي ومقدرتش استنى، بعدين عبدالجواد الله يكون في عونه عنده شغله وكل شوية يوصلني لحتة فقولت اريحه، المهم بس طمن الكل عليا وقولهم اني هقعد يومين ومش هتأخر ”
وافقها والدها بهدوء دون اعتراضات كثيرة طالما اطمئن أنها عند خالتها، وايضًا لأنه لا يهون عليه أن يصرخ بها، ولطالما كانت طريقته تلك هي محط امتعاض شقيقها الأكبر، لكن من يأبه طالما انها تنال دلال والدها وباقي إخوتها ..
أغلقت رانيا الهاتف، ثم سارعت للاتصال برقم هاتفها تنتظر الرد وبمجرد أن فُتحت المكالمة فتحت فمها استعدادًا لرمي قذائفها ..
__________________
خرج صلاح من مركز الشرطة وهو يرغي ويزبد، كان يُعدل من سترته التي افسدها اخوه، بعدما أجبره على تبديل الثياب بينهما قبل رحيله مع محمود لمنزله، ولم ينس بالطبع أن يتوعد لهما بالويل، فهو لم ينتهِ منهم، أو بالأحرى لم يبدأ بعد .
وبمجرد أن خطى للخارج أبصر سيارة تتوقف أمامه بشكل متقن، ورأس ميمو تخرج منها مرددة بجدية وبسمة عابثة اعتاد عليها :
” محتاج توصيلة ؟!”
ابتسم صلاح بسمة جانبية يتحرك صوب المقعد المجاور لها دون جدال أو اسئلة، فقط صعد للسيارة بهدوء لتتحرك هي بالسيارة في سرعة كبيرة وهو يجلس ينتظر أن تفتح فمها متوقعًا أن تسأله عما كان يفعل في مركز الشرطة منذ دقائق، وقد صدق حدسه …
” ألا أنت كنت بتعمل ايه في القسم ؟؟ أنت مخبر ولا ايه ؟!”
ابتسم صلاح يرتاح على المقعد خلفه يجيبها بهدوء كبير :
” هو مختار مجابش اخبار ولا ايه ؟! ده انا قولت لغاية ما اخلص كلامي جوا هيكون ملفي كله قدامك ”
رفعت ميمو حاجبها وهي تنظر له بشكل غامض غريب وكأنها تسأله بصمت عن معرفته لمختار، أو معرفته أنها ستطلب من مختار البحث حوله .
أطلق صلاح ضحكة خافتة، ثم غمزها بخبث يقول :
” مش أنتِ بس اللي ليكِ عيون يا لذوذة، اعرفي أنك لو قدامي بخطوة فأنا هسبقك بعشرة، يمكن تكوني ذكية بس أنا أقدم منك في اللعبة دي يا …. ميمو ”
صمت ثواني ثم نظر بعينها التي كانت لا تُظهر ايًا ما تفكر به ميمو، لكن صلاح لم يصمت وهو يقول :
” أيوة في الاول مكنتش اعرف أنك موجودة اساسا ولا أعرف عنك أي حاجة، لكن مقابلتك ليا كانت خيط شديت بيه كل حكايتك لاصابعي”
ادعى التفكير وهو يستند برأسه على المقعد خلفه وقال بهدوء :
” وحسب اللي عرفته أن سعودك عاملك ازمة، ومش مريحك وجوده في البيت مش كده ؟؟”
ومجددًا التزمت ميمو الصمت، فمن عادتها الصمت حتى يفضي من أمامها بما يفكر به قبل أن تعطيه هي ما يريحه .
” وانا برضو وجود سعودك في الدنيا دي عاملي أزمة، فـ ايه رأيك ؟؟”
أوقفت ميمو السيارة فجأة تنظر له بجمود قبل أن ترتسم بسمة خبيثة بشكل جذاب على فمها، بسمة إن كانت تود اخافته بها فقد فشلت فشلًا ذريعًا، فهي بتلك البسمة أسرته بكل بساطة، تلك المرأة تلعب على أعصابه بكل مهارة .
مالت ميمو صوبه تاركة مسافة مناسبة بينهما وصلاح مازال يريح رأسه على مقعده ينتظر ما ستفعل وكل ما صدر منها هو كلمات غامضة :
” تفتكر اني ممكن أثق فيك واسلمك اموري بكل سهولة ؟!”
هز صلاح رأسه بنعم مبتسمًا واثقًا أنها ستفعل، لتطلق هي ضحكة صاخبة تعود لمقعدها تحرك رأسها بعشوائية قبل أن تهدأ وتقول :
” دايما بشوف أن ثقة الرجالة في نفسهم شيء مضحك، بشوف غرورهم حاجة هبلة اوي، لأن بغمزة واحدة بتلاقيهم وقعوا، لكن أنت…..”
صمتت ثواني تراقب علامات الإنتباه التي علت وجه صلاح، ثم أكملت :
” عجبتني”
ابتسم صلاح بسمة جانبية يدرك أن انطباعه الاول عنها كان صحيحًا، تلك المرأة خبيثة بشكل مخيف، غامضة، وعابثة و…..غريبة .
” اسمع يا حبوب اللي قدامك دي هي سبب صداع ابن الاشموني الاول، يعني لو أنت علمت عليه مرة، فأنا علمت عليه ميت مرة، فعمرك ما تفكر أنه مش حاططني تحت عينه ومتوقع الغدر مني، وعارف اوي أن في أي لحظة ممكن اضربه في ضهره، ومتستبعدش أن المقابلة دي تكون بث مباشر ليه دلوقتي في مكتبه، فالموضوع اللي بتفكر فيه ده، مش بالسهولة ”
اعتدل صلاح في جلسته وهو يقول ببسمة :
” وامتى كانت الحاجات الحلوة سهلة ؟؟ ”
نظرت له ميمو قليلًا، قبل أن تخرج علكة من حقيبتها تلقيها في فمها وكأنها تستعين بها للتفكير، لتدفع بصلاح في الدوامة التي سحبته منذ رآها، كيف تصدر تلك الأفعال من هذه المرأة ؟؟
” طب اسمع يا لذوذ ..”
” صلاح، معلش ناديني باسمي لأن بحس نفسي مش مجمع حاجة لما تكلميني بالشكل ده وأنتِ لابسة كده، فيا تكلميني عادي، يا تلبسي عباية سمرا وتضربي شعرك اكسجين، عشان بس عقلي يظبط الصورة مع الصوت ”
رمقته ميمو بأعين متسعة جعلته يفكر أنها حتى لو اردت تلك العباءة السمراء فيقسم أنها لن تزيدها إلا فتنة، منذ متى كان ينظر لأي امرأة بهذه النظرات المفتونة، تلك المرأة رغم أنها ليست الاجمل، لكن ملامحها فاتنة، وكل تلك الفتنة يتلاشى ببساطة حينما تقرر أن تتحدث ……
” اكلمك عادي ازاي لا مؤاخذة ؟؟ هو أنا بكلمك من أصابع رجلي ؟؟”
مسح صلاح وجهه وهو ينظر من النافذة محدثًا نفسه :
” ياريتك متتكلميش خالص ”
استدار صوبها يحاول التحدث مجددًا لكن قاطعهما صوت رنين هاتف ميمو والتي أجابت سريعًا بكلمات مقتضبة :
” وصلتها ؟؟ ….طب خليك جنبها يا مختار لغاية ما ارجع ”
أنهت الحديث معه ثم نظرت لصلاح الذي قال دون مقدمات :
” نيرمينا ؟؟ مش غريبة يعني ؟؟”
” قصدك عشان أنا مرات ابوها ”
وكم ازعجته تلك الكلمة التي وحتى الآن لا يستطيع ابتلاعها، لكنه هز رأسه بالموافقة لتبتسم له ميمو وهي تقول أثناء تحركها بالسيارة مرة أخرى :
” فيه حاجات كتير غير مختار محتاج تكتشفها عني يا حبوب ”
ابتسم لها صلاح يقول بخبث كلمات قليلة كانت أشبه بعقد صفقة بينهما :
” اعتبر دي موافقة اني أخد فرصة لاكتشاف الحاجات دي ؟!”
ضحكت ميمو ضحكات عالية وهي تزيد من سرعة سيارتها :
” ممكن…”
________________________
تحرك الاثنان داخل ذلك المنزل الذي ينطق كل ركن منه بثراء قاطنيه، منزل مرتب منظم مريح للعين، اغلق صالح الباب خلفه بتعب بدأ يتلاشى بعدما ارتدى ثيابه التي كان صلاح يرتديها قبله .
نظر لمحمود الذي تحرك بأقدام مرهقة صوب درجات منزله يتسلقها صوب الاعلى حيث غرفته، وقبل أن يبادر بالتحدث سبقه صوت صارم وهو يناديه :
” محمود استنى ”
استدار الاثنان صوب الصوت والذي كان لماجد هلوان والد محمود وعالم النباتات المشهور، يقف هناك في أحد أركان المنزل بنظارة طبية تلائم ملامحه المشابهة لخاصة محمود لكن مع اختلاف لون الشعرؤ فقد كان شعر ماجد اسود فحمي، لكن مع نفس العيون والملاحم والتي كانت متوارثة في عائلة محمود ذات الجذور الأوربية من ناحية جده الأكبر.
تحرك صوب ابنه يتحدث من بين أسنانه بغيظ :
” أنت دخلت المعمل بتاعي؟!”
نظر محمود لوالده بصدمة مشيرًا لنفسه :
” أنا؟؟؟ محصلش، أنت عارف يابابا اني عمري ما اتجرأ ادخل المعمل بتاعك، دي منطقة محرمة ليا ”
نظر له ماجد بتدقيق، ثم اقترب منه واشتمه بحرص يحاول البحث عن رائحة نبتته الغالية بين أنفاسه، لكن لا شيء.
ابتعد خطوات للخلف :
” تمام يا محمود أنا هعرف النباتات راحت فين، وياويلك لو عرفت انك بتشربها زي ما قفشتك قبل كده ”
وضع محمود يده أعلى صدره :
” عيب عليك، أنا برضو اشرب نباتات ؟! ”
ابتسم ماجد بسخرية ثم تحرك بعيدًا عنه يلقي بتحية عابرة، لكن ودية على صالح :
” اهلا يا صالح ”
” اهلا يا دكتور ماجد ”
تركهم ماجد ودخل لمكتبه مغلقًا الباب خلفه، قبل أن ينظر محمود لصالح الذي كان يرمقه بغيظ :
” ايه بتبصلي كده ليه ؟؟”
تجاهله صالح وهو يدفعه في كتفه صاعدًا لغرفته بعدما قرر أن يبيت ليلته هنا خوفًا من العودة للمنزل ومواجهة صلاح، فهو من خلال تلك السنوات التي عاشها رفقة اخيه، يدرك جيدًا أن تلك الصفعات واللكمات التي تبادلوها في مكتب رائد، ليست هي العقاب الذي تحدث عنه صلاح، بل هناك اسوء .
دخل محمود الغرفة خلفه وهو يقول :
” أنت هتنام هنا ؟؟”
لكن صالح لم يجيبه وهو يصعد على فراشه يأخذ وسادة ومفرش ملقيًا بهم ارضًا، ثم تسطح براحة شديدة وهو مازال بالحذاء :
” نام أنت في الأرض وانا هنام هنا ”
نظر محمود للأرض ثم لصالح يتحدث متشنجًا :
” دي اوضتي أنا، وسريري أنا”
” ومصيبتك أنت برضو، مين اللي ورطنا في كل ده ؟! مش العصير بتاعك اللي حاطط فيه مخدرات يا بايظ يا …”
وقبل أن يكمل كلماته انقض عليه محمود بخوف يمنعه من الصراخ بتلك الكلمات التي قد تصل بالخطأ لمسامع والده وتتسبب في موته هذه الليلة :
” اششش وطي صوتك يا متخلف، ابويا لو سمعك هياخدنا يخللنا في برطمانات الاعشاب بتاعته تحت، بعدين مخدرات ايه دي نباتات عادي ”
ابعد صالح يده ساخرًا من مبرراته :
” نباتات ايه يا ابو نباتات ؟! احنا هنعملهم على بعض؟! ما كلهم واحد يا ضنايا ”
جلس محمود على الفراش يقول بجدية محركًا يده في الهواء أثناء الحديث لصديقه :
” لا فيه فرق، الحشيش أو النباتات دي خضار زي اي خضار زي الملوخية والفاصوليا الخضرا، يعني مفيدة للصحة، بينما المخدرات دي بتكون بودرة ومواد كيميائية مُصنعة والعياذ بالله مضرة بالصحة ”
أصدرت حنجرة صالح صوتًا ساخرًا وهو يدفع محمود للخلف، يريح جسده أكثر على الفراش قبل أن يعيقه وجود محمود عليه ليدفعه بقدمه مسقطًا إياه ارضًا :
” يا اخي مش تقول كده، شوف وانا اللي ظلمتك وفكرتك حشاش ؟! طلعت بتضرب ملوخية، ويا ترى بقى بتاخد الرز بشعرية في حقن ولا بتحبها على مكرونة ؟!”
نهض محمود من مكانه متجهًا صوب خزانته يخرج ثياب له ولصالح :
” اتريق اتريق، بكرة تيجي تبوس أيدي عشان اديك شوية خضروات تشمهم ”
أنهى حديثه ملقيًا بثياب لصالح، ثم تحرك صوب مرحاضه قبل ان يخرج محفظته وكل شيء بجيب بنطاله يضعه على الطاولة :
” هاخد شاور وجايلك عشان نكلم اخوك نصالحك عليه، لأني مش هستحمل انام في الأرض كتير ”
تجاهله محمود وهو يغلق عينه براحة شديد قبل أن يخلع حذائه ملقيًا به ارضًا جوار الفراش، ثم ابتسم يتنفس الصعداء فهذا اليوم كان طويلًا ومرهقًا بشكل لا يُحتمل .
واخيرًا أُسدل الستار عن ذلك اليوم المتعب …أو ربما لا .
علىٰ رنين هاتف محمود بشكل مزعج، أجبر صالح على النهوض والرد عليه بنزق بعدما يأس من توقف الرنين المتكرر :
” الو ”
وجاءه الرد عاصفًا من الجهة الأخرى وصراخ الفتاة يكاد يصيبه بالصمم :
” الو يا نصاب يا حرامي، بقى أنا تسيبني واقفة في الميدان طول اليوم وتاخد التليفون وتهرب ”
تعجب صالح صراخها وقال :
” جرا ايه ياما براحة على نفسك كده، تليفون مين وميدان ايه ؟؟ بعدين أنا مــ …”
صمت فجأة بصدمة بعدما استوعب ما تقصده، ضرب جبينه بقوة عاضًا شفاهه السفلية بغيظ متذكرًا موعده مع تلك الفتاة صاحبة الهاتف والتي كان من المفترض أن ينتظرها في مكانٍ ما لتسليم الهاتف، لكن وبسبب مكالمة رائد له والتي جعلته يهرع لمركز الشرطة نسي كل شيء عنها .
افاق صالح على صوت رانيا وهي تقول بحقد وتشفي :
” على العموم مش انا اللي حرامي زيك يضحك عليها، وحقي هاخده منك واعتبر اللي عملته ده قرصة ودن ”
تحفز جسد صالح وهو يشعر أن القادم لن يعجبه ينبث بكلمات خافتة تخفي ورائها بدائية وعداوة مرعبة وتوعد خفي بالويل :
” عملتِ ايه بالضبط ؟؟؟”
هل تنقل أسلاك الهاتف الخبث، فقد شعر صالح بموجة خبث وتشفّي ضربته فجأة وصوت الفتاة يصل له بوضوح، وقد شعرت رانيا أن ذلك قد يطفئ النيران داخلها بعدما رأت كيف يخدعها ذلك الرجل :
” نزلت بوست على جروب القراء بتوعك وحكيت ليهم قد ايه حضرتك شخص لبق ومحترم ونصاب يا استاذ صلاح السقاري ….”
مرحة يا صالح، ها هو سبب آخر يُضاف لقائمة الأسباب التي قد تدفع باخيك نحو قتلك والتخلص منك .
همس بأعين متسعة وصدمة :
” نعم يا ختي ؟؟؟”
__________________
مشكلة وراء أخرى، والحل أمامك، لكنه يحتاج فقط لنظرة ثاقبة وعقل متفتح، فكن متيقظًا لما سيحدث، فالقادم سيبهرك ……

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى