رواية لولا التتيم الفصل الثاني 2 بقلم ناهد خالد
رواية لولا التتيم الجزء الثاني
رواية لولا التتيم البارت الثاني
رواية لولا التتيم الحلقة الثانية
نظراتها الثاقبة له إن انتبه لها حتمًا سيتصبب جسده عرقًا من التوتر حتى وإن لم يفعل شيء.. فالشك والترقب الذي يشع من نظراتها بوضوح يشعر من يراها أنها على وشك الفتك بمن أمامها فقط إن تأكدت من صِدق شكوكها.. وهذا ما يُرى لكن الحقيقة هي أنها قاب قوسين أو أدنى من الانهيار إن صدق شكها وتأكدت من أنه ما زال يختزن مشاعر تجاه تلك الفتاة التي غرزت رِماح الذعر في قلبها حين واجهتها لتعيد لها ما ظنته قد دُفن مع الأيام بل والأدق السنوات..
وعنهُ فقد صُدم حقًا من عودة الغائبة منذُ ثلاث سنوات حين سافرت مع زوجها لتركيا بعد زواجها بعامان ونصف.. وكان هو أيضًا متزوج ولديهُ “يونس” الذي كان يبلغ عام واحد حينها.. سفرها كان نجدةً له ولمشاعره الذي أرهقته رغم أنه لم يكن يراها كثيرًا بحكم مكوثها في الإسكندرية وهو في القاهرة لكنه كان يشعر أن مجرد اشتراكهما في بلد واحدة يثير مشاعره تجاه ذكرياته معها.. لِمَ عادت الآن؟ وهل كنت تظنها أنها اختفت من حياتك للأبد؟ هذان أول سؤالان تقاذفا لذهنه بعد أن فاق من صدمته..
وهي تتابع شروده حتى أنه لم يضع الملعقة من يده بعد.. وكأنه تمثال نُحت على وضعيته هذه.. أخفضت عيناها وابتسمت ابتسامة ساخرة تحاول بها كبح دموعها وتجاهل تلك الضربات المؤلمة التي أصابت صدرها لتضيق عليها تنفسها بشكلٍ طبيعيٍ، زفرت أنفاسها ببطء قبل أن تقول دون النظر له:
_ مالك يا جو بطلت أكل ليه؟
انتبه لصوتها فرفرف بأهدابه يزيل عنه شروده وصدمته فأنزل المعلقه الفارغة وهو يهتف بحشرجة:
_ لا أبدًا.. اتفاجأت بس أصلها بقالها سنين مسافرة ورجعت فجأة.
ودون ان تشعر كانت تتجاهل حديثه وهي تهتف ل”يونس” بحدة أجفلت الصغير:
– بطل لعب في الأكل يا تقوم.
انتفض الصغير على صوتها العالي لينظر لوالده كأنه يسأله عن ذنبه لتحتد عليهِ هكذا.. ولم يكن يوسف أقل منهُ تعجبًا حين هتف لها بتساؤل:
_ مالك يا صفية مهو بياكل اهو!
ظنها ستهدأ ولكن العكس هو ما حدث حين ضربت بمعلقتها فوق الطبق تضعها بعنف وهي تردد بعصبية نادرًا ما تتملك منها:
_ لا مبياكلش.. بيلعب في الأكل وبس رغم انه مكالش من الصبح.
حدقها بنظرة حادة من عصبيتها الغير مبررة على الصغير وقال:
_ براحة طيب في ايه!
التفت ل”يونس” الذي لا يفقه شيء سوى أن والدته غاضبة، مسد على رأسه بلطف وهو يقول:
_ كُل كويس يا يونس عشان متزعلش ماما.. مش أنتَ عارف إنك لو مكلتش كويس هتتعب؟
اومئ الصغير إيجابًا وهو يلقي نظرة سريعة لوالدته التي تتابع الحديث في صمتٍ:
_ وماما بتزعل لما أنتَ بتتعب وبتخاف عليك عشان كده عوزاك تاكل كويس.
_ حاضر.
هكذا كان رد “يونس” قبل أن يشرع في تناول طعامه الذي استوقفه..
التفت لها “يوسف” يسألها باهتمامٍ:
_ ايه الي مضايقك؟
ابعدت عيناها عنه وهي تقول:
_ مش مضايقة.
أمسك كفها الموضوع فوق الطاولة وهو يقول بعدم تصديق:
_ مادام مش عاوزه تبصيلي يبقى مضايقة وعارفة إنك لو بصتيلي هكشفك.
أغمضت عيناها للحظة تتحكم بأعصابها قبل أن تلتفت له وهي تقول بابتسامة حاولت جعلها طبيعية:
_ مش مضايقة يا جو قولتلك هتضايقني بالعافية؟
ترك كفها وهو يعود لاستكمال طعامه لكنه قال:
_ هعمل نفسي مصدق عشان عارف إنك مبتحبيش حد يضغط عليكِ، بس أنا موجود في أي وقت حابه تفضفضي معايا هتلاقيني.
نظرت له دون حديث وعقلها يدور حول شيء واحد وأخذ عقلها يتخبط بهِ وهو مقابلته مع تلك المدعوة “شيرين”.
__________________
فتحت باب الغرفة دالفة للداخل ناوية التحدث مع ابنتها علّها تعيد تفكيرها فيما تفعله فإن ظلت هكذا ستدمر حياتها للمرة الثانية.. أبصرتها نائمة فوق الفراش وظهرها للباب رافعة الغطاء حتى رأسها، اقتربت منها ببطء لتتأكد إن كانت نائمة حقًا أم تدعي هذا.. وما إن شعرت بعدم انتظام أنفاسها حتى تنهدت بضجر وهي تجلس فوق الفراش وتمد كفها تزيل الغطاء عنها وهي تهتف:
_قومي أنا عارفة إنك مش نايمة.
مدت “ريهام” كفها بالخفاء تمسح دموعها التي غمرت وجنتيها قبل أن تعتدل تطالع والدتها بهدوء.
تنهدت “بشرى” بحزن على ابنتها قبل أن تقول:
_ يعني بجد محتاجة افهم.. أنتِ زعلانة ليه دلوقتِ مش ده الي حسستيني إنك مش طيقاة الشهر الي فات لما عزمتك في رمضان وقولتلك لو عاوزه تجبيه معاكِ هاتيه قولتيلي لأ مش عاوزه.. وكلامك وقتها حسسني إنك مش قبلاه ولا قابله عيشته عشان كده وقتها قولتلك لو عاوزه تطلقي منه هطلقك.. رغم إن صعب عليَّ اشوف بيتك مخروب بس قولت نفسيتك أهم.. ولما كلمتيني وقولتيلي عاصم قالي ان الم هدومي وانه موافق على الانفصال رغم إني زعلت بس متكلمتش.. قولت اهو بتعمل الي هيريحها.. لكن فين الراحة دي يا بنتي انا مش شايفاها؟ من وقت ما مشي وأنتِ قافلة على نفسك وشكلك معيطة كل ده ليه؟
أخفضت بصرها تطالع كفيها اللذان يضغطان على بعضهما ورددت بصوتٍ خافتٍ:
_ تعرفي إني طلبت منه الطلاق من اول يوم رمضان بعد ما مشيت من هنا.. حسيت إن كلامك يومها شجعني وواجهته.. يمكن عشان كمان صعب عليَّ يعني متجوز وكأنه مش متجوز.. لا أنا مهتمة بلبسه ولا بأكله ولا بأي حاجة تخصه ولا بيه هو شخصيًا كأنه عايش لوحده، بالعكس هو الي كان بيهتم بيا وبكل حاجة تخصني… وقتها طلبت الطلاق وهو قال جملة مبهمة وسكت، وفضل ساكت شهر كامل لحد ما فهمت إنه رفض الانفصال كالعادة.. بس اتفاجأت لما لقيته النهاردة بيقولي قومي لمي حاجتك وهوديكِ عند أمك هنفذلك الي أنتِ عوزاه.. رغم إني كنت عاوزه ده بس اتصدمت لما قالي، وكأنه ما صدق العيد يعدي عشان ينفذلي طلبي.
قطبت “بشرى” حاجبيها باستغراب وقالت:
_ يابنتي مهو طلبك؟ بعدين هو أكيد الشهر الي سكت فيه ده كان بيحول يرجعك عن الي في دماغك ويصلح الأمور بينكوا بس لما لقى مفيش فايدة عملك الي عوزاه.
رفعت عيناها لها تسألها بحيرة تجتاحها:
_ هو كان المفروض يتمسك بيا أكتر صح؟
ابتسمت والدتها ساخرةً وهي تردف:
_اكتر من سنة و٣ شهور يا ريهام؟ ليه يا حبيبتي هو بيفتح عكا! بعدين هو مشفش منك رجا خالص هيتمسك ليه بقى!
أدمعت عيناها بشدة وهي تهتف ببكاءٍ حل بها:
_ بس أنا بحبه.
أنهت جملتها مجهشة في بكاءٍ مريرٍ جعل “بشرى” تجذبها لأحضانها تحاول تهدأتها وهي تقول بتعجب لحالتها:
_ يابنتي ده أنتِ نفسك أول يوم رمضان قولتيلي انا مش عارفة بحبه لسه ولا لأ بس انا مش متقبلة حياتي معاه.. بعد ما سابك جايه تقولي بحبه!
أردفت من بين شهقاتها:
_ كنت بكذب على نفسي، كنت بحاول اقنع نفسي إني بطلت احبه عشان اعرف ابعد.
سألتها بدهشةً:
_ وتبعدي ليه بس؟ هو حد جابرك على البعد يا بنتي؟
خرجت من أحضانها تنظر لها بدموعٍ متساقطةٍ وهي تردف بقهر:
_ أنا… نفسي هي الي جبراني على البعد يا ماما، مش قادرة اقنعني إني انسى الي فات واكمل معاه، مش عارفه امسح من عقلي تخليه عني ولا غلطي معاه وإني ضيعت نفسي عشانه.
سألتها مرة أخرى بحرصٍ:
_ وأنتِ شايفة إنه مكفرش عن ذنبه؟ بصي هو أنا مبطيقوش بس الحق يتقال الواد بيحبك بجد واتمرمط وراكِ.. يعني ٣ سنين
بُعد وبعدها كام شهر بيلف وراكِ وخطب اختك عشان بس يوصلك، وسنه جواز.. الواد ضيع عمره عشان يوصلك.. ولولا إني شوفت الحب في عينه عمري ما كنت هقولك الكلام ده.. بس الي يحب بنتي ابلعله الزلط.. وانا بصراحة بقى شايفه ان مرمطتة دي كفيلة تنسيكِ الي عمله معاكِ زمان خصوصًا انه مبعكيش ورجع بعد كام سنة عشان يصلح غلطه ويتجوزك رسمي.
كفت عن البكاء وهي تردد بشرودٍ:
_ احنا مش بننسى يا ماما، عقلنا عمره ما بينسى.. احنا بنتهلي بنتناسى، بنستهبل ونعمل نفسنا ناسيين.. لكن مبننساش.
_ واحنا يا حبيبتي لو معملناش كل ده، الحياة عمرها ما هتستمر… انا برضو مستهبلة وعاملة نفسي ناسية إنك روحتِ اتجوزتي من ورايا وكسرتي ثقتي فيكِ.. تخيلي بقى لو مستهبلتش مكنش زماني قاعدة معاكِ دلوقتِ ولا لساني بيخاطب لسانك.
نظرت لوالدتها بندمٍ وحرجٍ لتكمل “بشرى” حديثها موضحةً:
_ مبقولكيش كده عشان افكرك بالي عدى بقولك كده عشان تفوقي قبل ما حياتك تضيع من ايدك.
رفرفت باهدابها بتوتر وهي تتساءل:
_ تفتكري هيوصل بينا الحال للطلاق؟
_ أنتِ مش بتقولي طلبتي الطلاق وجابك هنا.. يعني وافق يطلقك.
دق قلبها فزعًا لمجرد ذِكر والدتها لاحتمالية الطلاق لتهتف سريعًا:
_ لا، هو قالي انه مش موافق على الطلاق هو بس سابلي مساحة زي هدنة كدة.
تنفست “بشرى” براحة وهي تدرك أن نظرتها لم تخب بهِ وقالت بمغزى:
_ والله الي جاي بايدك أنتِ وبس وأي نتيجة هتوصلوا ليها هتبقى بسببك.. يلا هروح احضر العشا.
تركتها وخرجت لتسبح “ريهام” بأفكارها في حديث والدتها، هل ستكون سببًا في انفصالها النهائي عنهُ؟
انتفضت لتجلب هاتفها وبحثت عن رقم ما على موقع التواصل الاجتماعي “واتساب” وما إن وجدته حتى بعثت برسالة محتواها جملة واحدة مختصرة :
” حاسة إني توهت من تاني”.
_________________
كمن يجلس على جمر مشتعلٍ تجلس هي الآن، اخبرها يوسف أن تنزل لأسفل حيث “شقة والدته” وتنتظره حتى يلحق بها.. لا تعلم ما السبب وراء هذا لكنها فعلت، وها هي الآن تلك الفتاة التي تثير كل مشاعر الغضب بها تجلس أمامها ببرود وسماجة لاقت لها.. أشاحت بنظرها عنها وهي تتابع لعب طفلها بأحد ألعابه التي جلبتها له جدته، انتبهت لرنين هاتفها فالتقطته لتجد المتصل شقيقها فأجابت بابتسامة:
_ السلام عليكم ازيك يا علي؟
وانخرطت بحديثها مع شقيقها حتى صمتت تمامًا حين وجدت زوجها أمامها وقد دلف للشقة للتو، لم تنتبه لحديث شقيقها عبر الهاتف فقط تتابع لقاءهما المنتظر من قِبلها..
دلف للشقة بابتسامة هادئة تذبذت ما إن وقعت عيناه عليها، ألم يدرب نفسه لدقائق طويلة على لقاءها كي يبدو هادئًا، طبيعيًا، غير مباليًا؟ ماذا حدث إذًا؟ لِمَ شعر بالتخبط ما إن رآها وكأن جميع ذكرياته معها عادت له في هذه اللحظة.. حمحم بهدوءٍ يحاول ضبط انفعالاته وهو يصل أمامها يهتف بأنفاس ذاهبة:
_ ازيك يا شيرين؟
وبكل وقاحة كانت تمد يدها لتصافحه فوجد ذاته يصافحها حرجًا من رد يدها:
_ ازيك يا يوسف، بقالنا كتير مشوفناش بعض.
سحب كفه المنقبض من ملامستها له وهو يهتف:
_ آه، بس ادينا اتقابلنا.. عاملة ايه؟
ردت باسترخاء:
_ كويسة جدًا.
اتجه للجلوس جوار زوجته وهو يكمل حديثه معها بأعين مهتمة:
_ نزلتِ امتى؟
أجابته بابتسامة متكاسلة:
_ من اسبوع.. قولت اجي اشوف خالتو بقى واقعد معاها ٣ ايام وبعدين ارجع اسكندرية.
وانخرطا في الحديث لمدة ليست هينة.. والوضع كالآتي.. “صفية” تتابع الحديث بصمتٍ مطبق ولكنه صمت خارجي لا يلائم الضجيج الذي يحدث بداخل قلبها الذي تشعر بهِ يُنحر بسكين بارد، الدموع توخز عيناها لكنها تأبى ظهورها، تتمنى لو تهرب من هذا المجلس وتترك لهما حرية الحديث وتستجدي قليلاً من الراحة لقلبها الملكوم..
_ قومي عوزاكِ.
رفعت رأسها لتجد والدة زوجها “دعاء” تقف أمامها تحدقها بنظرة حادة لم تفهمها، فنهضت بهدوء تتبعها للداخل.
ما إن دلفا لأحد الغرف حتى شهقت “صفية” بخضة حين قبضت “دعاء” على ذراعها تنهرها بصوتٍ منخفضٍ:
_ أنتِ ايه الي مقعدك وسطهم بره؟ ما تقومي تطلعي شقتك وتسبيهم يتكلموا براحتهم.
ارتجف فكها تنذر ببكاءٍ آتِ لكنها تمالكت ذاتها وهي تجيبها:
– كنت هطلع اهو.
تأوهت بوجع حين ضربتها “دعاء” على ذراعها بقوة قليلة وهي تقول:
_ طالعه اهو! ياخيبتي فيكِ يا مرات ابني.. أنتِ يابت هبلة؟ يعني مش كفاية قاعدة مكتومة وهم عمالين يتكلموا حتى مبتدخليش في الموضوع وكمان عاوزه تتطلعي وتسبيهم؟
ذمت شفتاها بحنق وهي تقول :
_ مش أنتِ الي بتقولي اطلعي؟
_بتريق يا عديمة الدم.. قاعدة ياختي تاكلي في نفسك في سكات ليه.. ما تدخلي في الحوار وتقطعي عليها كلامها مع جوزك.
رفرفت بأهدابها بتوتر وهي تردف كطفلة صغيرة تتذمر:
_ مهو انا زعلانه.. وحاسه إن قلبي بيوجعني من نظراته لها.
تركت ذراعها تهز رأسها بقلة حيلة وهي تردف:
_ أنا شايفه نظراته عادية، وحتى لو مش عادية أنتِ بشطارتك تخليها عادية.. يابنتي البت دي حرباية مش طالعة لأمها دي مش سهلة وأنا عارفها، انا ما صدقت ابني بعد عنها وأنتِ الي كنتِ من نصيبه.. يالهوي ده انا كنت اتجلط لو هي مكانك السهونة الدحلابة دي.
ضحكت “صفية” بخفة على حديث “دعاء” وطريقتها في جملتها الأخيرة.
ضحكت “دعاء” هي الأخرى وهي تقول:
_ بتضحكِ؟ يابت أنا لما بشوفها بحس إن الهيموجلوبين هيتجلط.
شاكستها “صفية” وهي تسألها:
_ هيموجلوبين يا دودو؟ عرفتيها منين دي؟
_ الواد يوسف قالها قدامي من يومين.. يوه أنتِ هتنسيني المهم! بلاش دور المسالمة الي عيشاة ده.. دافعي عن حقك في جوزك.
تنهدت بتعبٍ وهي تقول:
_ حاضر يا ماما.
أشاحت “دعاء” بيدها وهي تقول بلامبالاة مصطنعة:
_ ومتزعليش يعني لو خبطتِ وجعتك بس كنت مفروسة منك.
ابتسمت لها بصدقٍ تقول:
_ عمري ما ازعل منك، لأني عارفه إنك بتعتبريني زي يوسف.
ربطت “دعاء” على كتفها تقول :
_ ربنا يعلم غلاوتك عندي، يلا بقى لأحسن الحرباية لوحدها بره يمكن تتحرش بالواد.
كتمت “صفية” ضحكتها بصعوبة وهي تتبعها للخارج، وما إن وصلا لهما حتى هتفت “دعاء” بحدة:
_ العشاء فاتتك يا يوسف قوم صلي يمكن ربنا يبعد عنك الشر وولاد الحرام.
توتر “يوسف” من نظرات والدته وايحاءاتها لينهض سريعًا قبل أن تتحدث أكثر وهو يقول:
_ حاضر، حاضر طالع اهو.
ابتسمت ببرود وهي تقول:
_ خد مراتك وابنك معاك، لأحسن مصدعة وهنام.
هتفت” شيرين” بتبجح:
– خلاص لو كده اطلع اقعد معاهم شوية، اصل مش جايلي نوم بدل ما اقعد لوحدي يا خالتي.
اتسعت أعين “صفية” غير مصدقة جرأتها، ولكن “دعاء” تعرفها حق المعرفة فلم تتفاجئ من حديثها وردت بهدوء:
_ تطلعي فين يا حبيبتي يوسف عنده مستشفى الصبح وبينام بدري.
_ بينام ٨؟
هكذا تسائلت بغيظ فهي تدرك محاولات خالتها جيدًا لابعادها عن يوسف قدر الإمكان، اومأت “دعاء” لها وهي تنظر ليوسف بأعين متقدة وسألته:
_ بتنام امتى يا يوسف؟
رد “يوسف” سريعًا وهو يدرك نظرات والدته معناها أنها ستهد الدنيا فوق رؤوسهم الآن وهو لا يريد ل “صفية” أن تنتبه لِمَ يحدث:
_ آه، خصوصًا النهاردة كنت هنام من ٧.. تصبحوا على خير.
انهى جملته وحمل طفله متجهًا للخارج، وتبعته “صفية” بعد أن رمت نظرة أخيرة ل “شيرين” الذي يتآكلها الغيظ.
______________
دلف بسيارته تلك المنطقة البسيطة والتي تتسم بالشعبية لحد ما، أوقف السيارة أمام أحد المباني وترجل منها حاملاً الحقائب التي معه، استمع لأحدهم يحييه فبادله التحية قبل أن يصعد الدرج قاصدًا الطابق الثالث.. وهناك أخرج مفتاحه يضعه بباب الشقة قبل أن يفتحه ويدلف للداخل هاتفًا بصوتٍ عالٍ:
_ علياء.. ماما.
أتت من الداخل فتاة في مقتبل العشرينات من عمرها تحمل القليل من ملامحه ترحب بهِ بابتهاج:
_ بدر وحشتني.
احتضنها برفقٍ وهو يردد:
_ وأنتِ كمان وحشتيني عاملة ايه يا قلبي؟
ابتعدت عنه تجيبه بابتسامة:
_ الحمد لله.
_ماما فين؟
سألها وعيناه تدور بالشقة، لتتوتر الواقفة أمامه وهي تجيبه بتلعثم:
_ ماما… آه.. ماما.. هي.. أصل…
نظر لها قاطبًا حاجبيهِ باستغراب:
_ في ايه؟ متوترة كده ليه؟ ماما فين؟
أجابته دفعةً واحدة:
– ماما نزلت المحل.
اتسعت عيناه بعدم تصديق وهو يردد بتجهم:
_تاني؟ محل تاني؟
وما كاد يلتفت ليذهب للمحل حتى وجدها أمامه بعد أن أتت للتو تهتف بابتسامة :
_ ازيك يا حبيبي كويس إنك جيت كنت واحشني اوي.
لم تتغير ملامحه وهو يردف:
_ مفيش فايدة يا ماما! برضو نزلتِ المحل وبهدلتي نفسك؟
اتجهت لأحد الكراسي تجلس فوقها وهي تقول بهدوء:
_ وماله المحل يا بني.. ده الي مربيك ومربي أختك وساترنا من وقت ابوك ما مات.
هتف بغضب تمكن منهُ وهو يقف أمامها مشيرًا لذاته بعصبية:
_ وأنا ايه لزمتي؟ ليه محسساني إن الفلوس الي بديهالك فلوس حرام.. ليه مش راضية تقبليهم مني وتريحي نفسك من شقا المحل وتنزليني في نظر نفسي اكتر من كده.. أنتِ مش متخيلة بحس بأيه لما بعرف إنك برضو نزلتِ واتمرمطي في وقفت المحل وتنضيفه عشان كام مليم يطلعولك اخر اليوم.. بتحسسيني إني مليش لازمة وإني مش راجل عشان اريح أمي وأختي واصرف عليهم.
زفرت “شادية” والدته بضيق وهي تقول:
_يووه، احنا هنعيده تاني! يابني انا من الاول قولتلك تحرم عليَّ فلوسك دي أو إني أمد ايدي لجنية واحد منها.
صرخ بها بغضب حارق وعيناه قد أدمعت من فرط انفعالاته ومن قسوة حديثها:
_ ليه؟ كل ده عشان ايه نفسي افهم بتعاقبني على جوازي؟
نهضت تواجهه وهي تقول:
_ لا موضوع جوازك ده مبقاش يهمني خلاص.. اتجوزت واحدة خدتك من أهلك وبيتك وحياتك وحطتك في المكانة الي تليق بيها وأنتَ قبلت أنتَ حر.. لكن فلوسك دي أنا بشوفها تمن بعد ابني عني.. تمن إن ابني الوحيد اشوفه مرة كل شهر.. تمن انه يسيب امه واخته لوحدهم ويروح يعيش في دنيا تانية بعيدة عنا.. عرفت ليه مش متقبلة فلوسك؟
رد بقلة حيلة وقد طفرت دمعة من أحد عيناه:
_ أنتِ عارفه المسافة بين هنا وبيتي مش اقل من ساعة ونص، وربنا عالم إني بفضى بالعافية يادوب هم الكام ساعة بتوع بليل الي بفضى فيهم.. انا بخرج من البيت الصبح مبرجعش غير الساعة ٧ او ٨ يدوب بتعشى واقعد شوية وانام.
لوت “شادية” فمها ساخرةً :
_ بيتك؟ بيتك ولا بيت لليان هانم؟
_ ماما!
اعتراض خرج من فاه “علياء” غير راضية عن قسوة والدتها في الحديث، لتنهرها بحدة:
_اسكت أنتِ ملكيش دعوة وخشي جوه.
هزت “علياء” رأسها بعدم رضى قبل أن تدخل لغرفتها.
ابتلع الإهانة التي قصدتها والدته وهو يقول:
_ لا بيتي يا ماما، بفلوسي.
_ فلوس شغلك.. الي جابتهولك الهانم.. بتلف في نفس الديرة يابن بطني والسكينة سرقاك.. مرضتيش بيك وأنتَ بدر ابن العطار.. رضيت بيك وأنتَ بدر بيه مدير الشركة.. بكرة ييجي اليوم الي تعايرك فيه، ووقتها مش هتلاقي الي يستقبلك غير بيتك ده ودكانة ابوك الي مبقتش عجباك.
نظراته لها كانت معاتبة، حزينة، متألمة من قسوتها، لكنها صمدت في مواجهته علّه يستفيق من سباته، ويدرك حقيقة ما حوله..
انسحب بهدوء دون كلمة أخرى ليخرج من المنزل بقلبٍ أصابته سِهام القسوة من أقرب الأقربين.
وما إن خرج حتى انخرطت والدته في البكاء تزيل عنها رداء القسوة وترتدي رداء الأم الذي يتلوى قلبها ألمًا على ولدها الوحيد…
_ كل مرة تقسي عليه وتمشيه زعلان وترجعي تعيطي.. نفسي افهم ليه بتعملي كده فيكِ وفيه؟
كانت هذه كلمات “علياء” التي لم تحصل على إجابة هذا لأن والدتها دلفت لغرفتها تختبئ بها وتخرج مكنونات صدرها.
________( ناهد خالد) _______
منذ أن صعدا للأعلى ولم يتفوه أحدهم بشيء سوى ” تصبحي على خير” التي قالها “يوسف” قبل أن يخلد للنوم باكرًا عن المعتاد! زفرت بضيق وهي تقلب في هاتفها بملل كي لا تترك لنفسها التفكير فيما حدث فيجن عقلها أو تجلب لقلبها ألمًا إضافيًا.. توقفت أصابعها حين ظهر أمامها حساب شخص ما على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” لتجد ذاتها تدلف للرسائل الخاصة وبعد تفكير لثواني كتبت:
” عارفة إني كنت سخيفة أخر مرة.. بس أنا محتاجة اتكلم.. حاسة إني لو سبت نفسي للي أنا فيه يا هتجنن.. يا هطلق”
_________________
عاد لمنزله وقلبه يغلي كالمراجل من حديث والدته ومواجهته معها.. لا يغلي من الغضب قدر ما يغلي من الحزن والألم اللذان ألموا بهِ جراء حديثها.. لا يعلم متى سترضى عن حياته الحالية وتقضي على افكارها التي تخلق الخلافات بينهما؟
دلف للمنزل ليجد السكون يعمه فتنهد بتعب أشد فيبدو أن “لليان” هي الأخرى غاضبة الآن وتريد منه مصالحتها لرفضه خروجها مع صديقتها واحتداده عليها في الحديث.. وصل لغرفتهما ليقابله السكون أيضًا فرفع صوته يناديها لكنه لم يحصل على إجابة.. قطب حاجبيهِ متعجبًا قبل أن ينزل للطابق السفلي ومازال يهتف باسمها.. توقف للحظة قبل أن يردف بهمس جحيمي حين توصل عقله لشيئًا ما:
” يومك مش فايت لو عملتيها يا لليان وخرجتي من ورايا”
وبعد دقائق من البحث كان يخرج للمرأب الخاص بالفيلا ليتفقد سيارتها وحين لم يجدها تأكد من خروجها دون علمه ليخرج هاتفه يهاتفها وشياطين الجن تتلاعب أمام عينيهِ وما إن أجابت حتى هدر بها بعنفٍ:
_ أنتِ فين يا هانم؟؟!!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لولا التتيم)
الاحداث جميلة