روايات

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الثامن عشر 18 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الثامن عشر 18 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر البارت الثامن عشر

رواية مصطفى أبوحجر الجزء الثامن عشر

رواية مصطفى أبوحجر
رواية مصطفى أبوحجر

رواية مصطفى أبوحجر الحلقة الثامنة عشر

-١٨- عودة الندل

الآن .. والآن فقط أيقن ذلك المهزوم أنه قد طُرِد شر طردة من أراضيه بعد أن فشل جيشه في الدفاع عنها وخضعت لمُحتل جديد ..

فأصبح كل ما تمناه أو ظن أنه امتلكه ذات يوم مِلكًا لآخر، لقد أخطأ بالتمادي في التعلق بأُمنية حياته حتى تسربت كالوهم من بين يديه، وبالنهاية أُحتِلَت بِلاده من ضَعف جيشه ..

بالأخير ..
استيقظ أسامة من أوهامه واستغرقه الأمر عدة دقائق عندما قرر الانسحاب والمُغادرة بدلًا من أن يعبث برماد قلبه أكثر من ذلك ويُصبح هباءًا منثورًا، فمهما كانت قُدرة تحمله فهو لن يقو على حضور عقد قِرانها وشهادة إمضائها على وثيقه زواجها بغيره ..
لكن قبل أن يتحرك من موضعه تلاقت أعينهُما، التقت عدستاه المُنكسرتان اللتان حاربتا لإخفاء خذلانهما وضعفها؛ بعسليتيها الباسمتين الفرحتين اللامعتين اللتان انطفأتا في ثوان ..
لقد خبا ذلك البريق وانكمشت الابتسامة أعلى وجهها ما إن وقع بصرها عليه وعلى رفيقته ترى هل تلقت تساؤله الذى لم تنطقه شفتيه ؟
“ليه ؟ ليه عملتي كده ؟ إزاى قدرتي تعملي فيا كده تانى ؟ ”
رغم بُعد المسافة بينهما إلا إنه تمكن من التقاط تلك النظرة الغريبة التي رمقته بها، فقد كانت مزيجًا من الدهشة والأسف والاستنكار، بل وكأنها تتساءل هي الأُخرى عن شيء يُحيرها، إلا إنه لم يقو سوى على الابتسام بحُزن قبل أن يُحرك شفتيه بلا صوت قائلًا :
_ مبروك ..
نكست شمس رأسها أرضًا عقب تلك النظرة التي رمقها بها وكأنه لا تقو على مواجهته، بل وكأن ذلك الحريق الذى نشب بداخله ولم تعلم هي عنه شيئًا قد امتد إليها لتشعر بتلك الحرارة تنبعث من داخلها وينقلب حالها رأسًا على عقب، فتتحول ابتسامتها إلى عبوس وفرحتها إلى حُزن ويقينها إلى تردد ..
حقًا هي لم تعلم إذا ما كانت تلك الحرارة بداخلها مُنبعثة من إثر خجلها لمواجهته أم إشفاقًا على حاله أم ندم على ما بدر منها تجاهه أم .. أم اشتياق قلبها إليه ؟
“موافقة ياعروسة !”
أفاقت شمس على تلك الكلمات تخرج من فم المأذون إليها وهو يتساءل بمهنية :
_ موافقة ياعروسة يبقى مصطفى زوج ليكي ؟
رغمًا عنها ودون أن تُفكر رفعت رأسها الى حيثُ يقف أسامة وكأنها تطلب إذنه لفعل ذلك، إلا إنها لم تجده فبحثت عنه في الأرجاء من حولها كالغريق الذى يبحث عن طوق نجاته، فلم تجد له أثرًا هو ورفيقته واصطدمت نظراتها بباب المنزل المفتوح على مصراعيه .. فعلِمت بمغادرتهما ..
شعرت بانقباضة قلبها من مُجرد فكرة رحيله، وكأن ذلك هو اللقاء الأخير وأنها لن تنعم برؤياه بعد ذلك ابدًا ..
” يلا ياشمس يابنتي ”
جاءت تلك الكلمات من الأب الجالس إلى جوارها يستحثها على الإجابة، فنظرت نظرة طويلة إلى مصطفى والذى وجدته يبتسم لها مُشجعًا في انتظار إجابتها التي لم تتأخر لأكثر من ذلك، فخرجت كلمتها ضعيفة واهنة شبه هامسة وهى تقول :
_ موافقة ..
اتسعت ابتسامة ذلك الأخير بعد سماعه إجابتها التي اعتقد للوهلة الأولى أن الخجل هو من كَللها فامتدت يده في الحال لُمقابلة يد محمود أسفل الغطاء الحريري لعقد القران، ومالبث أن قال المأذون موجًا كلماته لأبيها :
_ قول ورايا ياأستاذ محمود .. زوجتك ابنتي ..
ردد محمود من ورائه بهدوء ووقار :
_ زوجتُك ..
لكن قبل أن يلفظ كلمته التالية قاطعهم صوت ساخر أتى من ورائهم قائلًا بسماجته المُعتادة :
_ مش كان واجب تبلغني بردو ياحمايا ..
توجهت أنظار الحضور جميعًا إلى المُتحدث والذى ظهرت ابتسامته اللزجة أعلى وجهه وهو يقترب من العروس مُتصنع العتاب قائلًا :
_ بقى ينفع بردو أعرف من الغريب إن أُم بنتي فرحها النهاردة !
وكأن جبال من الثلوج قد سقطت فوق رؤوس الجميع، فلم يستطع أحدًا النطق لبضع لحظات من فرط الذهول الذى أفاقت منه مجيدة سريعًا لتقول بكلمات غاضبة هجومية :
_ أنت إيه اللي جابك هنا ؟
أجابها ببساطة وهو يُلقى نظرة طويلة على العريس وكأنه يُقارنه بنفسه :
_ إيه ياحماتي جاي أبارك وأهنى ..
اندفعت إليه الأُم دون تفكير مُعقبة بغضب مُتزايد وكأنه قد أهانها للتو :
_ حماة دبب انتوا مش متطلقين جاي عاوز إيه ..
أعاد هو النظر إلى العريس قائلًا بخُبث مُتعمد :
_ عاوز بنتي ما أنا مش هسيبها تعيش مع راجل غريب في بيت واحد ..
في تلك اللحظة اندفعت الصغيرة والتي كانت تقف بجوار جدتها، لتلتصق بوالدتها هامسة في اُذنها بخوف وهى ترتعش بشكل ملحوظ :
_ ماما مش عاوزة أروح معاه ..
ربتت شمس على ابنتها بلُطف مُهدأة قبل أن تقول مُطمأنة بصوت حنون نجح في شد أزر الصغيرة :
_ متخافيش ياحبيبتى محدش يقدر ياخدك منى ..
وكأنها استمدت قوتها من ضعف صغيرتها، فهبت من مجلسها واقفة وهى تضم ابنتها إليها قائلة بثبات وبلهجة آمرة لذلك الضيف الثقيل :
_ أمشي أطلع برة ..
تجاهل ماجد كلماتها وكأنه لم يسمعها بل ودقق النظر في طلّتها وطلّة ابنته بنظرات مكشوفة قبل أن يقول بوقاحة :
_ بس إيه الشياكة اللي انتي فيها انتي وبنتك دي .. لا العريس شكله صارف ومكلف ..
في تلك اللحظة خرج محمود عن صمته وكأنما سيطرت عليه قوة خفية وأصبح شابًا فتّيًا فجذبه من مرفقه إلى الخارج بعُنف من وسط المدعوين ودفعه حتى كاد أن يُلقى به من أعلى الدرج قائلاً بغضب مكتوم :
_ أنت جاي عاوز إيه دلوقتي .. من أمتى وأنت همك على بنتك عشان تيجي وتسأل عليها وعاوز تاخدها ..
صاح ماجد عن عمد حتى يصل صوته إلى أسماع من بالداخل قائلًا :
_ بنتي وأنا حُر فيها وهتيجي معايا غصب عن أي حد ياإما هرفع قضيه وأخدها بردو ..
زمجر محمود بتحذير قائلًا :
_ وطي صوتك ياإما أنا اللي هطلبلك البوليس ..
لم تزده كلمات الأب إلا عِنادًا فتابع بصوت أعلى :
_ مش هوطي صوتي .. إيه خايف على شكل بنتك قُدام جوزها الجديد ..
ثُم أضاف بسخرية :
_ ميعرفش إن العروسة متطلقة ولا إيه ..
قال محمود بحدة مُحاولًا عدم رفع صوته :
_ ألزم حدودك وملكش دعوة ببنتي متجبش سيرتها على لسانك ..
طل الجشع من عيني ذلك الحقير وهو يقول ببرود اثناء تقدمه بضع خطوات مُتأملًا الدخول إلى الجمع من جديد :
_ والله بنتك لو خايفة على بنتها يبقى تلغى الجوازة دي خالص ..
دفعه محمود لكن بقوة أكبر تلك المرة وهو يقول بأعين تطق منها الشرر :
_ وأنت مالك تتجوز ولا متتجوزش أنت فاكر نفسك وصي عليها ..
ثُم أضاف بحزم :
_ أمشى ومشوفش وشك هِنا تانى .. ملكش بنات عندنا وأعلى ما في خيلك أركبه ..
اشرأب ماجد بعُنقه ونجح بصره ففي الوقوع على وجه شمس المذعور والتي كانت تقف برفقة ابنتها خلف جسد عريسها العريض والذى وقف أمامهم كسد مانع يحميهم من أي أذى يطالهُن بينما نظراته المُتقدة وجسده المُتحفز كانا مُتجهان إلى ذلك الأحمق بتحذير، وكأنه على أهُبة الاستعداد للفتك به في الحال وتلقينه درس لا يُنسى لولا يد شمس المُمسكة بذراعه بقوة خوفًا من تهوره واندفاعه فيزداد الطين بلة وينجح ماجد في تحقيق مُراده، لذا لم يملك ذلك المتحذلق في النهاية سوى أن يقول بصوت عالٍ قبل أن يفر كالفأر المُبتل صائحًا :
_ بقى كدة .. ماشي أنا هعرف إزاى ألففكوا في المحاكم وآخذ بنتي بالعافية ..
ثُم أضاف ساخرًا راغبًا في استفزازهم أكثر :
_ هههه قال رايحة تتجوزلي قال .. بدل ما تقعد تربى بنتها ..
فى تلك اللحظة لم تستطع مجيدة تمالك أعصابها لأكثر من ذلك، فاندفعت إلى الخارج راغبة في التعدي عليه بالضرب قائلة بنفاذ صبر :
_ لا ده أنت واحد مهزئ بقى ومش ناوى تجيبها لبر .
لكن أوقفها بعض الحضور في اللحظة المُناسبة بل وأمرها زوجها بالتوجه للداخل بعد أن قام ذلك الدخيل بالفرار على الفور فأغلق محمود الباب من ورائه بعُنف، بينما العروس فلقد انهار جسدها أعلى المقعد من ورائها وهى لازالت تحتضن ابنتها بجسد خائف مُرتعش ..
تصاعدت همهمات الحضور بشكل واضح بعد مُغادرة ماجد فحاولت الأُم تجاوز الأمر وتشتيت انتباه الجمع لمنع القيل والقال، وصرف انظارهم عن ابنتها التي انهارت بشكل واضح، فقالت بابتسامة مُرتعشة فضحت توترها :
_ أتفضلوا ياجماعة العشا جاهز ..
امتثل الجميع لدعوتها دون تفكير، بينما ظل مصطفى ومنار بجوار العروس يُحاولان تهدئتها وبث الطمأنينة داخل قلبها، عندما قال المأذون بخجل وهو يقوم بجمع مُتعلقاته :
_ طيب أنا مضطر استأذن عشان عندي كتب كتاب تاني .. ممكن أحددلكوا يوم تاني لو عاوزين ..
في تلك اللحظة تبادل كُلًا من محمود ومجيدة النظرات بقلق قبل أن تتوجه أبصارهم إلى مصطفى بتساؤل، فمالبث ذلك الأخير أن قال بتصميم :
_ كتب الكتاب هيكمل زي ما هو وأعتقد مفيش مشكلة لو اتأخرت نص ساعة أو ..
وقبل أن يُتم جملته قاطعته شمس قائله بحسم للمأذون وكأنها قد اتخذت قرارها الذى لا رجعة فيه :
_ تقدر تتفضل حضرتك ..مفيش جواز لا النهاردة ولا بعدين ..

******************************

غادر أسامة منزل خالُه قبل عقد القران مُباشرة وتبعته جيداء دون تفكير بوجه مشدوه مُتحير، يزداد ذهوله في كُل دقيقة تمر عليها وهى ترى العبوس والكآبة يشتدان برفيقها الذى تسارعت خطواته بملامح وجه مُكفهرة زادت من انقباضة قلبها وهى تُحاول مُجاراته في السير، فأحست وكأنهما يخطوان نحو كارثة على وشك الحدوث، لذا قامت بمُناداته عدة مرات عله يلتفت إليها لكن دون جدوى…
فقد كان كالمُغيب تفكيره كُله مُنصب على تلك التي تركها بالأعلى بعدما تأكد من عدم مُبالاتها به، فهي لم تهتم سوى بنفسها فقط، وللأسف لقد كلفه الأمر عشرات السنوات حتى يستطع فهم ذلك ..
توجه أسامة إلى سيارته التي أسرعت جيداء لاستقلالها من بعده قبل أن يقودها بطيش شبابي تسبب في صدور ذلك الصوت المُزعج من مكابح السيارة، فشهقت هي بفزع إلا إنه أكمل طريقه دون تفكير أو حتى تحديد وجهته ..
فبداخله كان يلعن قلبه آلاف المرات لتعلُقه بها بهذا الشكل الذى جعله يُكابد من أجلها هذا الكم من الألم طوال كُل السنوات المُنقضية، فلقد حَرّم على نفسه الكثير من مُتع الحياة وعاش كالراهب بلا زواج أو أطفال إلى الآن من أجلها، وهاهو على مشارف الأربعين من عُمره ولم يسمح لنفسه بخوض أي علاقة وفاءًا لحُبه الذى كان يظنه أسمى مشاعر الإنسانية، إلا إنه في النهاية أدرك أنه لم يكُن سوى قفص مُرصع من ذهب وهو أسير مُكبل داخله، وهى لم تكن سوى سجانته التي جرعته من الألم والعذاب كؤوسًا ..
(( أسامة هدي السرعة )) ..
خرجت تلك الجُملة من جيداء التي أحكمت إغلاق حزام أمانها وتشبثت جيدًا بمقعدها، بينما الآخر لازالت تطق من عينيه علامات الشرار وعقله يسخر منه ويُحدثه آمرًا إياه أن يتوقف عن هذه الترهات وهذا الضعف المُقزز، كفاه ما ضاع من عُمره وعليه الآن التفكير في نفسه فقط لتعويض ما فاته، عليه أن يُحب من جديد ويتزوج من يشاء ويُنجب أطفالًا يُزينون حياته ويملؤونها لهوًا ومرحًا، ويستمتع ببراءتهم وطيبة أفئدتهم التي لا تعرف خُبث الخيانة أو سواد الانتقام، ويُكرث ما تبقى مِن عُمره لبناء مستقبلهم وتكوين امبراطورية خاصة بهم، نعم هو سيعتني بهم وسيُخبرهم بألمه قبل كل شيء، سيُعلمهم أن الحُب لعنة يجب عليهم تفاديها، وأن مصدر قوتهم هو التحكم بقلوبهم، فهو لن يسمح لمخلوق بإيذاء افئدتهم الصغيرة وتحويلها إلى رماد مثل خاصته ..
هو الآن بلا قلب .. بل سيغدو بلا قلب بكُل ما تحمله الكلمة من معانِ ورغمًا عن بُغض ذلك الشعور الذى سيصعب عليه تحمله، إلا إنه لن يستطع الفرار منه، فمن بطن الأوجاع تولد القوة، وذلك هو قدره .. الوجع ..
في تلك اللحظة هدأت نفسه التي تشبعت جلدًا وتأنيبًا، وزفر هو بقوة كأنه يلفظ جميع همومه وأوجاعه، قبل أن ينتبه إلى ملامح تلك الهلعة بجواره، فأوقف سيارته على إحدى جوانب الطريق وشملها بنظرة طويلة جادة تخللها بعض التردد، فشعرت هي بغرابته التي تزداد بين الفينة والأُخرى، إلا إنه سُرعان ما قال بابتسامة مُطمأنة وكأنه قد حسم أمره ووجد مُبتغاه :
_ تتجوزيني ياجيداء !

*********

_ تقدر تتفضل حضرتك ..مفيش جواز لا النهاردة ولا بعدين ..
نطقت العروس جُملتها تلك بنبرة حاسمة قاطعة تُعاند بها ضعفها وتَشدُد من أزر نفسها الواهنة والتي بدأت تتجسد في بضع قطرات لمعت بعينيها، لذا اخفضت وجهها بحسرة وبداخلها غصة؛ هاربة من مواجهة عيني مُصطفى المذهولة الغير مُصدقة ..
لكنها لم تستطع الثبات لأكثر من ذلك وسط نظرات الجميع ففرت إلى غُرفتها هاربة من نفسها قبل كُل شيء، لقد كانت على أتم استعداد للتضحية بسعادتها وفَرحة قلبها من أجل أن تبقى ابنتها داخل أحضانها، فهي لن تتركها لبراثن أبيها الجشع كي يفعل بصغيرتها مثلما فعل بها من قبل ..
ارتمت شمس أعلى فراشها بحسرة بعد أن أغلقت باب غُرفتها المُظلمة من ورائها، ومن دون أن تُنير ضوءًا كانت على مقدرة لأن ترى على سنا ضوء القمر المُنبعث من نافذتها؛ تلك الحقائب المُعدة والتي كان من المُفترض أن تنتقل إلى منزل زوجها اليوم، تصاعدت شهقاتها بأسى على حلمها الذى فقدته في لمح البصر، لكنها حاولت التربيت براحتها على قلبها المُنقبض علها تُوقف ذلك الإحساس بالحسرة والضياع الذى يكاد أن يخنقها بل ويبتلعها بداخله، قاومت كثيرًا البُكاء إلى أن انهارت في النهاية وسمحت لشلالات من المياه بالتدفق من مقلتيها بحرارة بل ودفنت رأسها أسفل وسادتها لتكتم صوت نجيبها المُتصاعد حتى لا يصل إلى مسامع من بالخارج ..
بعد عدة دقائق ارتفعت الدقات على باب غرفتها، فلم تُجيب الطارق بل جلست بميل خفيف يُخفى وجهها وانشغلت بإخفاء أثر بُكائها قبل أن يُفتح الباب وتتسلل الاضواء الخارجية إلى داخل غرفتها، كانت تلك الغمامة لازالت تُظلل عينيها فلم تتمكن من استبيان هوية القادم، إلا أن حفيف الحذاء الرجولي مكنها من استبعاد كونها والدتها، لذا قالت دون أن تنظر إلي القادم مُتصنعة القوة و الثبات ففاتها تمييز ذلك العطر الذى امتزج بهواء الغرفة قائلة :
_ أرجوك يابابا ..أنا مش هتجوز وأسيب بنتي تضيع مني .. قول لمصطفى يمشى خلاص كُل حاجة انتهت مفيش نصيب ..
ما إن نطقت كلماتها الأخيرة حتى شعرت بالقهر يُسيطر عليها من جديد، فلم تستطع منع نحيبها من التصاعد وأجهشت رغمًا عنها ببكاء حار لم يتوقف سوى بتلك اللمسة الدافئة من يديه اللتان احتوتا كفها الصغير، فانتفضت من مكانها على الفور وتطلعت إليه وكأنها تُبصر لأول مرة، فهي لا يمكن أن تُخطئ تلك اللمسة السحرية التي تجعل جسدها ينتفض من أعلاها إلى أخمص قدميها وكأنها تعرضت لتيار كهربائي خفيف، وعلى الفور نجحت شمس في معرفة هويته ما إن أمعنت النظر إليه من خلف دمعاتها، لذا توقفت عن البُكاء والنشيج وتطلعت إليه بهدوء على ضوء القمر المُختلط ببصيص النور المُنبعث من الباب النصف مفتوح، فرأته ببذلته السوداء الأنيقة ووجهه ذات التجاعيد المُحببة إليها وعينيه الواسعتين ذات الأهداب الطويلة ..
وكأن الحياة دبت داخلها من جديد واستعاد قلبها خفقانه وزحف الخجل على وجنتيها قبل أن تعتدل جالسة وتمسح براحتيها دمعاتها المُنهمرة وهى تقول بأسى :
_ أنا آسفة يامصطفى ..

لكن بعكس ما أرادات .. لم تتوقف دمعاتها بل ازداد انهمارها وفشلت في السيطرة عليها وكبح جماح نفسها، إلى أن مد هو ذراعيه إليها ولامس وجهها بأصابعه ماسحًا دمعاته بإبهاميه وهو يقول بصوته الدافئ :
_ مُمكن متعيطيش ..
ضمت حاجبيها بوهن مُجيبة وهى تُجاهد نفسها :
_ حاضر ..
وبالفعل توقفت عن البكاء تدريجيًا، بل وبدأت النار تتقد في وجنتيها من جراء تأمله لها بعد ان جلس بجوارها وهو يقول بوَلّه :
_ يابختي ..
نظرت إليه بتساؤل دون أن تنطق فأكمل هو :
_ بصراحة أنا كُنت ناوي مخليش دمعة واحدة تنزل منك في يوم .. بس بصراحة أنا طلعت غبي أوى ..إزاى كُنت هحرم نفسى من الجمال ده كُله ..
ابتسمت هي رغمًا عنها قائلة بحسره وهى تومأ برأسها إلى الأسفل باستسلام بعد أن أزاحت جسدها للوراء للابتعاد عنه قدر الإمكان :
_ خلاص مبقاش ينفع ..
رفع وجهها إليه من جديد بأصبعه قائلاً بابتسامة مُشجعة :
_ مين قال كده ..
أجابته بقلة حيلة وكأنها تستنجد به :
_ بنتي يامصطفى ..
اتسعت ابتسامته وكأنه يُطمأنها قائلًا :
_ بنتك مش هتبات ليلة واحدة بعيد عن حضنك ..
نظرت إليه باستخفاف قائلة وكأنها تُذكره :
_ ومين اللي هيقدر يمنعه، مش شوفت وسمعت تهديده النهاردة .. هيحرمني منها لو أتجوزنا ..
ربت مصطفى على كفها قائلًا باستهانة :
_ ده كُله كلام .. اللي بيعمل مبيتكلمش واللي بيتكلم مبيعملش ..
نفضت شمس كفها من تحت راحته قائلة بغضب وكأن استهانته بالأمر استفزتها :
_ بس أنا مش مُمكن أغامر .. دي بنتي الوحيدة ..
تمالك مصطفى أعصابه واستعاد ابتسامته تقديرًا لحالها فقال بصوت هادئ :
_ شمس أنا قولتلك بنتك مش هتبات ليلة بعيد عنك، سيبيلي الموضوع ده وأنا هعرف أحله إزاى ..
صمتت هي لبضع لحظات تُفكر في كلماته قبل أن تُقرر مناقشته مُتسائلة :
_ هتعمل إيه ؟
اتسعت ابتسامته واجابها غامزًا بمرح :
_ ده شغلي أنا بقى .. المهم خليكي انتي في شغلك ..
لم تفهم هي ما يرمي إليه فتسائلت ببراءة :
_ شغل إيه ؟
جذبها مصطفى من يدها برفق حتى غادرت الفراش ووضعها أمام مرآتها بعد أن أضاء مصباح الغُرفة قائلًا وهو يقف من ورائها يتأمل انعكاسها :
_ شغلك إنك تصلحي المكياج اللي باظ ده حالًا عشان تطلعي ونكتب الكتاب ..
قالت بصوت مُتردد حاوات إخراجه قاطعًا وكأن لا رجعة في قرارها :
_ لا مش هينفع أي حاجة تحصل غير لما أضمن إن بنتي هتبقى معايا ..
أقترب منها مصطفى أكثر ووضع راحتيه على خصرها قائلًا بصوت هامس أسرى الرعشة بمفاصلها :
_ لا ما هو انتي لو مروحتيش معايا النهاردة أنا هفضل قاعدلكوا هِنا مش هتحرك .. خلاص أنا مظبط نفسى إني النهاردة هدخل البيت وانتي معايا .. مينفعش أروح خالص لوحدي .. ممكن يجرالي حاجة ..
ثُم أضاف بخفوت :
_ يرضيكي يجرالى حاجة …
قاومت شمس ذلك الخدر الذى سرى في أوصالها وابتعدت عنه قائلة :
_ مصطفى أرجوك أنا ..
إلا إنه لم يتركها لتتم جملتها وقال مُقاطعًا برجاء :
_ أرجوكى انتي ياشمس .. أنا بحبك ومش هقدر أسيبك يوم واحد بعيدة عنى .. أرجوكى وافقي إلا إذا …
صمتت قليلًا قبل أن يُضيف بحزن :
_ إلا إذا كنتي مش واثقة فيا وشايفة إني مقدرش احميكي انتي وبنتك ..
نجح مصطفى في قلب الموازين وتحويل الدفة لصالحه، فأسرعت شمس قائلة بتأنيب ضمير وكأنها تعتذر منه :
_ أوعى تقول كدة .. أنا واثقة فيك أكتر مما تتخيل ..
ثُم أضافت لترضيته رغًا عن عدم اقتناعها بذلك :
_ وعشان أثبتلك ده فأنا موافقة إننا نكمل إجراءات كتب الكتاب ..
كافئها مصطفى بابتسامة جذابة شقت وجهه قبل أن يقترب منها ويطبع قُبلة طويله حانية أعلى جبهتها قائلًا بدفئه المُعتاد :
_ هعد الثواني والدقايق لحد ماتخلصي وتطلعيلي وترجعي عروستي الحلوة من تاني

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى