روايات

رواية غير قابل للحب الفصل السادس عشر 16 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل السادس عشر 16 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الجزء السادس عشر

رواية غير قابل للحب البارت السادس عشر

رواية غير قابل للحب
رواية غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة السادسة عشر

على ما يبدو كان للحديث المستفيض مع “صوفيا” تأثيره الأكبر في تحفيز ما تم دفنه في أعماق نفوسنا، فاستعادت مداركي ما طوته السنوات في غيابات عقلي، لأعايش لحظاتٍ غابرة من طفولتي، خلال نوبة من الأحلام الغريبة المتداخلة، ما أذكره بوضوحٍ من تفاصيلٍ، هو أني كنتُ صغيرة السن، أرتدي نفس الثوب المنتفخ في يوم ميلادي؛ لكني بعقلي اليوم، اندهشتُ لقدرتي على تذكر لهوي في حديقة الفيلا الواسعة، كنتُ أعشق اللعب في بيت الدمي، كان مضاهيًا في حجمه حجم بيت كلب الحراسة، مع فارق أنه تم طلائه باللون الوردي.
كانت لدي ألعاب تناول الشاي واستقبال الضيوف، كنتُ بمفردي آنذاك، أرتب الأواني والفناجين، لا أكترث بالًا لما يحدث بالداخل، فقد كانت هذه فقرتي المفضلة، ادعاء استقبالي للزوار، رغم أني لم ألعب سوى بمفردي غالبية الوقت، فشقيقتي “آن” كانت لا تزال صغيرة، والمربية تعتني بها إلى جانب أمي. أذكرُ أني سمعتُ جلبةً آتية من عند الباب، أعقبها خروج هذا الفتى الصغير، والذي لم أتمكن من تبين ملامحه، بدا من العسير علي رؤية وجهه بوضوح، كان كالأطياف، يتعذر علي رؤية تفاصيله، لمحته وهو يسير مقتربًا من بيت الدمي، وعيناه مرتكزتان علي، ما ظل حاضرًا في ذهني هي نظراته النارية، لم أرَ في مثل غضبها سابقًا، خاصة في طفلٍ مثله.
حدجني بنظرة جعلتني أرتجف، دعوته في براءةٍ:
-هل تلعب معي؟

 

 

وقف قبالتي، ظل يُطالعني بنظرته المليئة بالشر، فسألته من جديد مبتسمة وأنا أرفع فنجان القهوة:
-هل تشرب الشاي؟
لم يجبني، كان متحفزًا بشكلٍ غاضب، لم أتفقه له، كدتُ أتكلم من جديد، لكنه تقدم مني خطوة، وأطاح راكلًا بقدمه في قوةٍ الطاولة القصيرة التي أرص عليها أشيائي اللطيفة أمام بيت الدمي لتتبعثر كافة الألعاب هنا وهناك. نظرت له مدهوشة، وأنا شبه عاجزة عن الصراخ، بدت فعلته المفاجأة صادمة لي، والغريب أني لم أصرخ، تقوست شفتاي كتعبير عن حزني الشديد، وبكيتُ في صوتٍ خافت، تركني وابتعد وهو يلعن، فانتفضتُ خوفًا منه؛ لكني لم أفعل شيئًا سوى النهوض من مقعدي الصغير، لجمع ما تفرق من ألعابٍ في محيطي.
كان ذلك آخر ما أذكره قبل أن استفيق فجــأة من سباتي، لأعتدل في رقدتي، وأنا أرمش بعيني لعدة مراتٍ حتى اعتاد على الظلام الدامس، شعرت بنهجانٍ يسري في صدري، بإرهاقٍ مريب يستبد ببدني، وبانقباضة مؤلمة تعصف بقلبي، رفعت يدي لأتحسس وجهي، للغرابة كان مبتلًا! تساءلتُ بلا صوت:
-هل كنتُ أبكي في الحقيقة أيضًا؟
كفكفت بقايا دموعي العجيبة بظهر يدي، وسحبت نفسًا عميقًا، لفظته على مهلٍ، ثم رفعت يدي أعلى شعري، نفضته في الهواء، شعرتُ بالرطوبة، وبارتفاع حرارة جسدي، فقد كنتُ أتصبب عرقًا، رغم أن المكيف كان يعمل في الغرفة، لجعل الأجواء لطيفة، التفت نحو يساري، لأخذ كوب الماء المغطي الموضوع على الكومود، ارتشف قدرًا منه، ووضعته في مكانه. استلقيتُ مرة ثانية، لأحدق في سقف الغرفة بعينين متسعتين، ما زالت تفاصيل هذا الحلم الغريب حاضرة في ذهني، لم أتمكن من النوم مجددًا، بقيتُ يقظة لوقتٍ ليس بقليل، حتى ضجرت من البقاء هكذا بلا شيءٍ أفعله.
تجاوز الوقت منتصف الليل بفترةٍ، وكنتُ في قمة تنبهي، ضجرت من مكوثي هكذا، فقررت النهوض من على سريري، وتحركتُ في اتجاه الشرفة، على أمل أن أتمكن من القضاء على هذا الملل السقيم الذي حط بي. التقطتُ الروب الخاص بقميص نومي الأسود من على المشجب، وضعته علي، وسرتُ في اتجاه الشرفة، ما إن فتحتُ بابها الزجاجي، حتى شعرت بنسماتٍ باردة منعشة تحاوط جسدي، ولجتُ للخارج حافية القدمين، ووقفت مستندة بمرفقي على حافتها، أتأمل السواد الممتد في الأفق بنظراتٍ فاترة، وعقلي يعمل بكل طاقته محاولًا تذكر ما دفنه الماضي، شعرت بقليلٍ من الوجع يتسرب في ساقي جراء وقوفي الطويل، فتراجعتُ لأجلس على واحدٍ من المقاعد المريحة الموضوعة بها.
أكثر ما كان يزعجني في هذا المكان، أنه عند تمام العاشرة مساءً يعم فيه السكون بشكلٍ عجيب، لا تجد قاطنيه حاضرين، خاصة بعد انصراف الخدم، مما يدفعني أنا ووالدتي وشقيقتي للعودة إلى غرفنا للمكوث بها لبعض الوقت، ثم النوم، دون وجود ما يقتل الإحساس بالروتين المتكرر في سخافة. بالطبع لم يكن من المسموح لنا الخروج، أو الذهاب إلى أي مكانٍ للترفيه، خاصة بعد محاولة اختطافي، ومقتل خالي “رومير”، كان الاختفاء عن الأنظار هو الحل الأمثل إلى حين إتمام الزواج من “فيجو”، لأظهر بشكلٍ رسمي منتسبة لعائلة “سانتوس”.

 

 

تثاءبتُ، ووضعتُ يدي على فمي، لتبدأ بعدها آثار النعاس في الظهور، مطيتُ بذراعي على طولهما، وقمتُ ناهضة، استدرت عائدة للداخل؛ لكن استوقفني أصوات مكابح السيارات، والتي كانت قريبة للغاية، لهذا رددتُ بتلقائية:
-من قادم في هذه الساعة؟
رجفة قوية اجتاحتني متوقعة احتمالية تكرار هذا الهجوم الغــادر على القصر، خاصة مع تأخر الوقت، تصلبتُ في مكاني لهنيهة، ثم حفزتني غرائزي الفضولي على رؤية ما يحدث، لم أقاوم رغباتي، واستدرت متسللة على أطراف أصابعي لأقترب من الشرفة، أختلستُ النظرات بحذرٍ تام، فلمحتُ من موضعي ما يقرب من ثلاثة سيارات سوداء ورباعية الدفع، اشرأبيتُ بعنقي لأرى من بها، لم أتمكن من زاويتي، تعذر علي فعل ذلك؛ لكن أصوات الضحكات المكتومة جعل فضولي يزداد، تراجعت للخلف وأنا اتساءل في تحيرٍ:
-من هؤلاء؟
أرهفتُ السمع لألتقط ما قد يشبع فضولي، فكانت غالبية الأصوات بعيدة، أو شبه خافتة، وبالتالي تزايدت حيرتي. قلتُ في سخرية ساذجة:
-لا أظن أنهم ضيوف، فوقت الزيارة قد مضى منذ ساعات!
استحثني فضولي على الخروج من غرفتي، وتفقد الأمر بنفسي، مع أخذ كامل الحيطة خلال تسللي هذا. لم أفكر مرتين، وشرعتُ في تنفيذ قراري، قبل أن أدير مقبض الغرفة، سمعتُ جلبةً خافتة تأتي من الخارج، على مسافة قريبة، فخفق قلبي في توترٍ، وتجمدت أصابعي في موضعها.
………………………………………………………………
كدتُ أتراجع عن قراري لولا أن استجمعت جأشي، لا يوجد ما يخيف، والمكان يقع تحت حراسة مشددة، كما أن أصوات الضحكات الغريبة خفف قليلًا من هجوم هذه الأفكار المخيفة، إذًا ما الذي يمكن أن يحدث؟ فتحتُ الباب ببطءٍ، ونظرتُ من الفرجة المواربة، كانت البقعة التي وقعت عليها نظراتي خالية، لهذا سحبت الباب ناحيتي لأطل برأسي في حذرٍ وأنظر حولي، بدا الوضع هادئًا، لا يوجد ما يريب، إذًا من أين تأتي الجلبة؟ وقفت عند أعتاب الغرفة، وتحركت في الرواق لعدة أمتارٍ في اتجاه الدرج، عندئذ رأيتُ “آن” تصعد عليه وهي تبرطم في سخطٍ كالعادة، تفاجأت بوجودها في هذه الساعة المتأخرة، وناديتها بصوتٍ لم يتجاوز الهمس:
-“آن”، ما الذي تفعلينه في هذه الساعة المتأخرة؟
صُدمت هي الأخرى لوجودي، وتسمرت عند درجات السلم لثوانٍ، تطالعني بنظراتٍ مدهوشة، رأيتها تلملم بيدها شعرها عند كتفها، وللغرابة كان مبتلًا بالكامل. افترت شفتاي عن سؤالٍ جديد:
-لماذا أنتِ هكذا؟
كنتُ بذلك أعني الحالة الفوضوية التي كانت عليها، فقد كانت تلف خصرها بشالٍ ما، وتحمل في يدٍ كومة من الثياب، واليد الأخرى منشفة. تجاهلت الرد قبل أن تكمل صعودها، تحليتُ بالصبر، وتفهمت تصرفاتها المعاندة مؤخرًا، انتظرتها عند نهاية الدرج عاقدة لساعدي أمام صدري، ورمقتها بهذه النظرة المتسائلة، لدهشتي تجاوزتني، ومشت تجاه غرفتها، وكأن وجودي من عدمه لا يشكل فارقًا لديها، تبعتها في استغرابٍ متعجب، وأنا ألاحقها بسؤالي:
-“آن”، تحدثي إلي، ماذا حدث لكِ؟
هتفت في عصبيةٍ، دون أن تنظر ناحيتي:
-لا شيء.
صحتُ معترضة باستنكارٍ، وصوتي لا يزال خفيضًا:
-كيف لا شيء…
ثم شملتها بنظراتي قبل أن أسألها بلهجة المحقق:
-ولماذا أنتِ مبتلة بالكامل؟

 

 

أتى ردها مزعوجًا إلى حدٍ ما:
-كنتُ أسبح، هل هذا ممنوع؟
علقتُ نافية:
-لا؛ ولكن الوقت متأخر، وآ…
قاطعتني قبل أن أكمل تبرير ما اعتبرته مجازًا حظر التجوال علينا بداخل القصر الفسيح:
-لقد ضجرت من فعل لا شيء في هذا المكان الكئيب.
بدت محقة، فالأوقات هنا ثقيلة، بطيئة المرور، لا تمضي إلا بشق الأنفس، أصغيتُ إليها وهي تتابع:
-وحتى متعتي الوحيدة هنا يوجد من يفسدها علي، كأنما الجميع قد اتفق على تعاستي.
عباراتها الأخيرة استرعت كامل انتباهي، وأحسست أن ورائها خطبٌ ما، لهذا سألتها مباشرة:
-عمن تتحدثين؟
دق قلبي، وشعرت بخفقاتٍ مخيفة تقصف فيه عندما جاوبتني بلا مراوغة:
-اللعين “لوكاس”.
اشتعل وجهي على الأخير، وأحسست بدمائي تفور من غليانه، إنه مستمرٌ في تضييق الخناق عليها، ركزت كامل حواسي معها وهي تواصل الكلام:
-إنه مزعج بشكلٍ لا يطاق.
سألتها وأنا شبه حابسة لأنفاسي:
-هل ضايقك مجددًا؟
دمدمت في غيظٍ مكتوم في نبرتها؛ لكنه ظاهر بصورة جلية على ملامحها:
-ضايقني فقط؟ إنه آ…
بترت باقي جملتها عن عمدٍ، وهي تضم كومة ثيابها إلى صدرها، رأيتها تكز أسنانها، وتهمهم في صوتٍ مبهم، سألتها في توجسٍ متعاظم:
-إنه ماذا؟ أكملي، لا ترعبيني.
زفرت في صوتٍ مرتفع، وأوضحت:
-تطفل علي، وحاول إفساد ليلتي بوقاحته اللزجة.
تعقدت كامل تعابيري، ونظرت إليها بعينين غلفهما الحنق، أشاحت بوجهها بعيدًا عن نظراتي المتفرسة فيها، وواصلت التوضيح:
-لكني لم أمرر الأمر له، تشاجرت معه، وكدت أغرقه في المسبح.
تحركت لأغدو في مواجهتها وأنا أهتف مصدومة:
-ماذا؟

 

 

قالت بعد زفيرٍ بطيء يعبر عن عدم رضائها:
-لكنه أفلت مني.
تلقائيًا وضعت يدي على جانبي ذراعيها، ضغطت قليلًا عليهما، وقلتُ محذرة في صرامةٍ:
-“آن”، أنتِ تهذين؟ قولي ذلك.
لم تنبس بشيء، فهززتها مرة ثانية وأنا أكرر عليها في توترٍ:
-هل ما سمعته صحيح؟ أنتِ تشاجرتي مع هذا القاتل، وكدتي تقتليه أيضًا؟!
أومأت برأسها مؤكدة في تصميمٍ:
-نعم، وسأكرر الأمر إن سنحت لي الفرصة، فأن أبقى في السجن أرحم بكثير من أكون زوجة له.
من نبرتها شعرت أنها لن تتراجع عن رد الصاع صاعين له، إن لم أجعلها ترحل سريعًا، لهذا أخبرتها من فوري، وقد زادت ضغطاتي على ذراعيها:
-لن يحدث، ستذهبين من هنا قريبًا.
نفضت قبضتي عنها، وقالت في يأسٍ:
-أشك.
همت بالذهاب؛ لكني اعترضت طريقها، تنهدت مليًا، ثم خاطبتها في نبرة هادئة:
-ثقي بي.
طالعتني بهذه النظرة المتشككة، ونفخت في سأمٍ، لم أحاول إطالة النقاش معها، خاصة وعلامات التذمر قد انتشرت في كامل قسماتها، لذا بكلِ ودٍ وحنو ربتُ على عضدها، وطلبت منها بابتسامةٍ رقيقةٍ:
-هيا، بدلي ثيابك قبل أن تبردين.
ثم مِلتُ برأسي نحو وجنتها لأقبلها وأنا أقول:
-تصبحي على خير.
حملقت في بنظراتٍ مظلمة شبه مستهجنة؛ كأنما تستنكر استخدامي للطافة في هذا الوضع الحرج، ثم علقت بتشاؤمٍ ساخط وهي تشرع في السير نحو غرفتها:
-لا يبدو لي أن هناك أي خير في وجودنا هنا.
كانت محقة في اعتقادها، وأنا مثلها، لا أؤمن في وجود ذلك؛ لكنها بضعة كلمات مستهلكة نستخدمها مضطرين لمنح أنفسنا قدرًا من الصبر حتى نجبرها على تحمل ما لا نطيق!
…………………………………………………………….
للحيظات معدودات وقفتُ في مكاني بعد أن أغلقت شقيقتي باب الغرفة خلفها انتظر، لا أعرف ما الذي استحثني على البقاء، بدلًا من العودة إلى حجرتي مثلها، ومحاولة استدعاء النوم، ربما لأن فضولي نحو معرفة أسباب الضحكات الرقيعة بات متزايدًا بشكلٍ مُلح، خاصة أنها صدحت مجددًا بالأسفل، انسقتُ وراء ما يستعر بداخلي، واستدرتُ متجهة نحو الدرج، دون رهبةٍ أو تردد، وأنا أحفز نفسي:
-لن يحدث شيء، سأتفقد المكان فقط في لمحة من الزمن.

 

 

هبطت عليه في خطى خفيفة، ونظراتي تدور في الأرجاء شبه المعتمة، عند نهايته تسمرت في مكاني أجول بعينين فاحصتين، كل ركنٍ تقع عليه نظراتي المدققة. لم أرَ شيئًا مثيرًا للريبة؛ لكني سمعت أصواتًا تأتي من جهة الخارج، فاتجهتُ نحو البهو المتسع، بنفس الخطوات الرشيقة غير المسموعة، اقتربت من الجدار الزجاجي الذي يُظهر من خلف ستائره البيضاء ما يحدث عند مدخل القصر.
أزحتُ جانب الستارة قليلًا، ولففتُ طرفها حول إصبعي، ثم تطلعت إلى سيارات الدفع الرباعي المرصوصة خلف بعضها البعض بنظراتٍ فضولية مهتمة، بدا من المؤكد أن الصخب يأتي منهم، كانت هناك أصوات موسيقى مكتومة، ترتفع تارة وتنخفض مرة أخرى حين يُفتح باب السيارة أو ينغلق. أملتُ رأسي للجانب لأتمكن من رؤية ما يحدث بالأمام، فوجدتُ “لوكاس” يقف عند أول عربة ويده تحاوط خصر إحدى الفتيات بشكلٍ سافر، وكأنه يحاول التهامها بقبلاتٍ شرهة، تجهم وجهي لرؤيته هكذا، خاصة أن الفتاة كانت تبادله نفس هذه القبلات الشبقة، وترتدي ثيابًا خليعة، توحي بشدة بأنها تعمل في إحدى الملاهي الليلة، تساءل صوتٌ في عقلي:
-ما الذي يفعله معها هنا؟ ألا يخجل؟
ظهرت شابة أخرى ترتدي ثيابًا مماثلة للفتاة الأولى، سرعان ما حاوطت كتفيه، وتعلقت في عنقه، لتدير رأسه في اتجاهها، ثم راحت تنهال عليه بقبلات جائعة، كأنما تريد استثارته بالأساليب التي اعتادت ممارستها بخبرةٍ واحترافية لجذب الزبائن وتحفيزهم. نفرت من المشهد برمته، لم أعتد على مثل هذا الفُحش الفج، وشعرت بتقلص معدتي. أبعدتُ نظراتي الساخطة عنهم، ودمدمت في هسيسٍ مستهجن:
-ما هذه الوضـــاعة؟!!
هاجت مشاعري فجـأة بشكلٍ صادم استنكرته للغاية، عندما طنت رأسي بأفكارٍ تدور كلها حول قيــام “فيجو” بنفس الشيء، مع مثيلات هذه الفتاة اللعوب، مما يدفعن بالرجل للسقوط في بئر الملذات المحرمة. زاد تقلص أمعائي، وعاتبتُ نفسي على تفكيري الأحمق؛ لكني لن أنكر أني أحسست بشيءٍ من الغيرة ينهش داخلي، فأنا أحبُ الانفراد والتفرد، لا المشاركة والتجزؤ. قاومته قدر استطاعتي، ورُحتُ أردد لنفسي:
-لا يهمني أمره، ليفعل ما يشاء، أنا لست زوجته بعد!
كررت مثل هذه العبارات السخيفة على نفسي لأقنعها بأنه أمر طبيعي لأمثاله، طالما أنه خارج نطاق الزواج المقدس، ومع ذلك تبدد ذلك في طرفة عين عندما لمحتُ من موضعي فتاتين تنتظران عند السيارة الموجودة في المنتصف، وإحداهما تتساءل في ميوعة:
-أين الزعيم؟
أجابها “لوكاس” ضاحكًا:
-سيأتي لالتهامك قريبًا، لا تتعجلي.
عبستُ، وتكدرتُ، واحترقت، وانكويتُ بنيرانٍ لم أعهدها سابقًا، لما طافت هذه الخيالات الجامحة برأسي، وتضاعف احتراقي بكلام “لوكاس” المؤكد على حدوثها. كدتُ أنصرف قبل أن أبصره في أحضان خبيرات العشق؛ لكن زكم أنفي رائحة عطر مميزة تنتشر في محيط المكان، تصلبت في مكاني في تلبكٍ يشوبه الضيق، إنه هنا .. موجود بالقرب مني.

 

 

سحبتُ أنفاسًا عميقة لأثبط بها ما يعتريني من هياج وكدر؛ لكن ما استنشقته كان مختلطًا برائحته المميزة، مما شوش تفكيري، وأصابني بالمزيد من الارتباك. انتصبت شعيرات جلدي عندما سألني من مسافةٍ بدت قريبة .. للغاية:
-ماذا تفعلين هنا؟
استخدمتُ نفس رد شقيقتي قبل وقت سابق في إجابته:
-هل محظور التجول هنا؟
ثم استدرت في تمهلٍ لأنظر إليه، وأنا أبذل كل طاقتي لأبدو هادئة، مسترخية الأعصاب بالرغم من اندلاع الحنق بداخل صدري، أضفت ساخرة في استهزاءٍ:
-لم أرَ لافتة معلقة بذلك هنا.
وادعيت أني أتلفت حولي باحثة عنها، قبل أن استقر بنظراتي على وجهه، وكلتا ذراعي تنعقدان أمام صدري. رأيتهُ –رغم خفوت الإضاءة- هادئًا بشكلٍ عجيب، لا يبدو متفاجئًا بوجودي، سار بتريثٍ تجاهي، ويداه موضوعتان في جيبي بنطاله، ثم نطق ممازحًا:
-لا، لم نضع واحدة بعد.
كدتُ ابتسم؛ لكني قتلت البسمة في مهدها، لا أريده أن يعتقد في تأثيره القوي علي، دارت في رأسي فكرة سخيفة سرعان ما استبعدتها، هل أنا من سأنجح في إيقاعه في شباكي؟ أم أن العكس هو ما سيحدث؟
تركت هواجسي جانبًا، خاصة مع نظراته الجريئة التي راحت تطوف وتدور على ما أملكه كأنثى فاتنة. تنحنحت متسائلة في جديةٍ:
-من هؤلاء؟
توقف على مسافة نصف متر، ثم غاص بنظراته الثابتة في عمق عيني، تلبكت من قوة النظرات التي تخترقني في يسرٍ، وتنفذ إلى رأسي، كأنما تقرأ ما يحيرها من خواطر، ومع هذا لم أحد بحدقتي بعيدًا عنه، كنتُ أتحداه بطريقة أخرى، قد تكون ساذجة؛ لكنها على أي حال تجدي نفعها. انفرجت شفتاي في ذهولٍ عندما أجاب بصراحةٍ صدمتني:
-بعض العشيقات جئن للقيام بحفل توديع العزوبية.
سألته في نزقٍ وعيناي على اتساعهما:
-لك أنت؟
رد هازئًا مني:
-ومن سواي سيودعها؟
مثل هذه الكلمات كفيلة بإفســاد الزيجة قبل إتمامها بيومين؛ لكن نحن نتحدث عمن يستطيع فعل ما يشاء دون اعتراضٍ أو لوم. فارت دمائي في التو، وأحسست بحرقة عظيمة تضرب في أحشائي، هتفتُ في غيظٍ وأنا أصر على أسناني:
-حقًا؟!!
سألني، وشبح ابتسامة يلوح عند زاوية فمه:
-أتغارين؟
من فوري رددت في توترٍ يشوبه القليل من العصبية:
-أنا، لا، إنهن حثالة، لا أقارن بهن.
تفرس في ملامحي بتدقيقٍ، كأنما يكشف كذبي المفضوح، وسألني في تسليةٍ:
-إذًا لماذا يبدو عليكِ الضيق؟
حصار أسئلته كان كفيلًا بمضاعفة توتري، لهذا نفيتُ في الحال بشدة، وذرعاي ينحلان عن عقدتهما:
-من قال هذا؟ أنت الزعيم، حرٌ في أفعالك، ولا يجب استجوابك.

 

 

لم يكن مقتنعًا بردي كليًا، فأنا أكاد استشعر نظراته النافذة تجوس من حولي، ولم أحاول تبرير موقفي أكثر من ذلك، بالرغم من اندفاعي لسؤاله كأنما أعاتبه بشكلٍ مستتر:
-لكن ألا تعتقد أنه من غير اللائق أن تحضر أمثالهن إلى هنا؟
نفخ صدره، وقال في علياءٍ:
-لن تفرضي علي قيودك في منزلي.
تجهمت لوقاحته، وعقبت في عبوسٍ:
-معك حق، هذا منزلك، ونحن لا نزال ضيوفك بعد…
ثم بدأت في الاستعداد للمغادرة وأنا أكمل جملتي:
-لذا، أنت حر، فأنا لم أتلو عهود الزواج بعد لأقيدك.
حين مررت بجواره، استوقفني “فيجو” بقوله الصــادم:
-حتى وإن أصبحتي كذلك، فهذا نمط حياتي.
كلماته كالخنجر المسموم، انغرست في قلبي ونحرته بلا هوادة، التفت ناظرة إليه، كدت ألامس بجانب ذراعي ذراعه، رفعت رأسي للأعلى وقلتُ بكبرياءٍ وعزة نفس:
-فهمت، لا داعي لتذكيري بأني الطعم المناسب لخداع الأغبياء، حتى يصدقوا في هذا الاتحاد الزائف.
قال بلا ابتسام:
-جيد.
استدار كلانا نحو الجدار الزجاجي حين نادى “لوكاس” عاليًا من الخارج:
-“فيجو” ما الذي يؤخرك بالداخل؟
أجاب عليه من موضعه ونظراته تعاود التحديق في:
-أنا قادم.
كنت مثله أنظر إليه من مكاني؛ لكن سرعان ما أدرتُ وجهي، وهمهمت في خفوتٍ بغيظٍ شديد، كنت متأكدة من انعكاسه على ملامحي:
-لتصابوا بالتسمم جميعًا.
فجـــأة سمعتُ صوت فرقعة عنيفة، ارتطمت بالزجاج بقوةٍ، مما جعلته يهتز، ولا إراديًا أصابتني بالهلع، متذكرة الهجوم الغادر الذي عايشت قساوته قبل فترة، ارتددت مندفعة نحو “فيجو”، وارتميت في أحضانه بلا ترددٍ، وصوت صراخي المفزوع يهتف:
-يا إلهي، إنهم يهجمون علينا.

 

 

أطبقتُ على جفني بقوةٍ، ودفنت رأسي في صدره القوي، فكل ما شعرت به في هذه اللحظة بأنني على وشك الاختطاف مرة ثانية، وملاقاة طقوس الألم المتفاوتة في درجات شدتها على يد أناسٍ يبدعون في شرورهم، فإذ ربما لا أنجو هذه المرة، وهذا جلَّ ما أرعبني! تضاعفت رجفاتي المبررة، وشعرت بذراعين قويتين، تطوقان ظهري، تحتوياني في ضمة نجحت في لملمة شتاتي المتبعثر، خاصة مع صوته الهامس القائل في أذني:
-لا تخافي، أنتِ معي هنا في أمانٍ.
استكنت في قربه الشديد، وشعرت بموجاتٍ غامرة من الحرارة والدفء تجتاحني بالكامل، لأصبح لا حول لي ولا قوة، كفيضانٍ مباغت جاء على سدٍ هش فأطاح به دون عناءٍ. هدأ روعي بعد برهة، وانتبهت لما فعلته عفويًا، أنا لا أزال قابعة في حضنه، تلفني ذراعاه، تخشبت، وانتفضت متباعدة عنه، وأنا خجلى للغاية من نفسي، لم أقوَ على النظر إليه، فقط أحسست بانبعاث سخونة حرجة من وجنتي. لئلا تلعب الظنون برأسه أبديتُ ندمي على ما اعتبرتها رعونتي الهوجاء:
-معذرة، لم أقصد…
تنبهت لكون سبب هذه الفرقعة جراء فتح إحدى زجاجات الخمـــر، فاصطدمت الفلينة الخشبية بالزجاج، مما تسبب في إحداث هذا الدوي القوي، خاصة مع الهدوء السائد في هذه الساعة المتأخرة. رفرفت بأهدابي، ثم لعقتُ شفتاي لأرطبهما، وأضفت مبررة:
-كنتُ أظن أحدهم أطلق نارًا بالخارج.
صمت “فيجو” للحظةٍ، قبل أن يقول في هدوء غريب، وعيناه مرتكزتان علي:
-لا تقلقي!
نظرت إليه نظرة سريعة، فكانت عيناه لا تزالا معلقتان
جاء صوت “لوكاس” مناديًا بصبرٍ نافد:
-هيا يا “فيجو”، أنت تضيع وقت المرح.
تذكرتُ ما يحدث بالخارج، فانسحبتُ دون أن أقول شيئًا، وشحنات من مشاعر الذنب تتدفق علي كأمطارٍ كاسحة، تزيح في طريقها كل ما هو ضعيف ومحطم. نفخت في حرجٍ، وأنا أصعد على الدرج، معنفة نفسي بقساوةٍ:
-ما هذا الغباء؟!
اشتدت قبضتي على الدرابزين، وعقلي يستحضر مشهدي العبثي في أحضانه، مرة ثانية لومت تصرفي الأهوج:
-كيف أفعل ذلك؟ أنا حمقاء!
……………………………………………………..
حين عدت إلى غرفتي، كانت أنفاسي سريعة، غير منتظمة، كنت ألهث إلى حدٍ ما، استشعرُ انتفاض دقات قلبي المفطور، لماذا أحزنتني صراحته هكذا وأثقلت صدري بالهموم؟ أليس هذا ما يفعله غالبية الزعمــاء؟ الزواج من واحدة مناسبة، وممارسة طقوس الحب الماجنة مع عشرات العشيقات! ارتكنتُ بظهري إلى الباب بعد أن أغلقته ورائي، وأبقيتُ الحجرة على ظلامها، فغرقت في السواد الذي بدا وكأنه يخيم على كلي، اتجهت بناظري نحو الشرفة المفتوحة، فتسلل منها ضوء القمر من خلف الستائر المتأرجحة في نعومةٍ جراء النسمات الليلية اللطيفة، ليتني مثلهم أغدو وأروح دون أذى! ارتفع صدى أصوات الضحكات المائعة، فانقبض قلبي واعتصره الحنق، تساءلت في تشكيكٍ كبير:
-هل حقًا سأنجح في إيقاع “فيجو” في شباك حبي؟ أم أنها أوهام أخدع بها نفسي؟
بعد الذي سمعته لم أكن واثقة من شيء، أصبحت خططي متزعزعة، غير موثوق في نجاحها. تنبهت من جديد لأصوات محركات السيارات إيذانًا بمغادرتها باحة القصر، فسالت دموعي غزيرة في قهرٍ، عادت الأسئلة الحيرى تتصارع في رأسي، والضيقُ الشديد يستبد بي:
-لماذا أبكي؟ لما أنا حزينة هكذا؟

 

 

إحساس الخيانة موجع للحد الذي يميت، مؤلم لدرجة تهشيم الروح، لا يمكن مُطلقًا المسامحة أو طلب الغفران فيه، خاصة إن كنت على علمٍ تام بوقوعه!
تألمتُ كما لم أتألم من قبل، أحسست بوخزاتٍ تعتصر الروح بلا انسحابها، بطعناتِ غدر تقطع الفؤاد دون أن تمسه فعليًا، ضممت جفوني على بعضهما البعض ليزداد انسياب الدموع الحارقة من عيني، تزحفت بخطواتٍ ثقيلة، تعبر عن عجزي نحو الفراش، وارتميت عليه، ساحبة الوســادة على رأسي، لأبكي في صمتٍ، متوقعة أن تمتد لحظات بكائي لسنواتٍ مديدة!
……………………………………………………….
خامرت في هذه الليلة الطويلة الكوابيس المزعجة، المتخمة بكل ما هو مهدد لسلامي النفسي، كانت رفيقتي حتى سطوع الشمس، ليترسخ في ذهني أنه لا أمل لي مع “فيجو”، فهو كما وصفته شقيقتي (غير قابل للحب)! قمتُ من الفراش وإحساسي بالوهن مسيطرٌ علي، سرت نحو المرآة، ونظرت إلى انعكاس وجهي على سطحها، همست في سخطٍ متهكم:
-أشبه الأشباح بهذه الهيئة المفزعة!
كانت جفوني منتفخة، وأسفل عيني تجتمع حوله الظلال، وبشرتي شاحبة، ذابلة، مطبوع عليها علامات الخزلان، بالطبع لن يعجب “صوفيا” أن تراني هكذا، بوجهٍ منطفئ، ونظراتٍ حزينة، وابتساماتٍ غائبة؛ لكن من أخدع؟ نفسي أم غيرها؟ أنا لستُ عروسًا حقيقية، تُعايش بهجة تسر النفس، ما يحدث هو زواج مصلحة، ناجم عن اتفاقاتٍ سابقة خالية من العواطف، لا عن حب ولا من ورائه ستنبثق المشاعر، علي أن أرتضي بالأمر الواقع، وأتقبل مصيري المحتوم منذ البداية، أما عن شقيقتي فسأفكر في طريقة أخرى لإخراجها من هنا، غير اتباع خطة الوقوع في الحب المزعوم!
ابتعدتُ عن المرآة، ونظرت إلى الشرفة، كانت لا تزال كما تركتها بالأمس مفتوحة النوافذ، لم أحاول الاقتراب منها، فهي تذكرني بآثار خيانة الأمس، هذه الذكرى التي تحز في قلبي كلما مرت في عقلي، كان من الأفضل أن أطردها عن رأسي، إن أردتُ المضي قدمًا في حياتي التعيسة.
………………………………………………………
سطعت شمس يوم العرس، وتزينت في منتصف السماء الزرقاء، ليبدأ بعدها الحضور في ملء مكان إقامة الحفل، والذي اقتصر على المقربين للعائلتين من القادة والمخلصين. كنتُ مع “صوفيا” بالغرفة المخصصة لتجهيزي، لم أجادل في أي شيء يتم اقتراحه علي، كنت مُسيرة كالبهائم، تاركة زمام أمري لها ولغيرها، ليفعلوا بي ما يشاؤون، فقد بات الأمر سيانًا بالنسبة لي، ورغم فتوري الواضح، وعزوفي الكبير عن المشاركة حتى بالتعليق اللفظي، إلا أني ظهرت في ثوبي بارعة الجمال، وخاطفة للأنفاس. قبلتني أمي من رأسي، بعد أن فرغت مصففة الشعر من تسويته وجمعه في كعكة منتفخة، تمهيدًا لوضع الوشاح الرقيق على رأسي، وأخذت تقول في حماسٍ متقد:
-يا إلهي! لا أصدق عيناي، صغيرتي صارت كأميرات الأحلام.
حانت مني نظرة سريعة نحو شقيقتي، كانت هي الأخرى تنظر ناحيتي من موضع جلوسها على الطاولة، عدتُ لأنظر لـ “صوفيا”، وتنهدتُ قبل أن أخبرها في غير مبالاة:
-أنتِ تبالغين أمي.

 

 

تأملت انبهار نظراتها ناحيتي، خاصة وهي تتجول على ثوبي الرقيق المصمم خصيصًا لأجلي، بفتحة صدر صغيرة كالمثلث، تقابلها أخرى واسعة في الظهر تصل إلى منتصفه، أما عن الأكتاف فكانت مغطاة بقماش الدانتيل الشفاف، وتمتد بطول ذراعي حتى رسغي، كما تناثرت فصوص الألماظ على الجانب الأمامي في تجمعات وردية رقيقة. ظل عنقي خاليًا من العقود، لم أرتدِ واحدًا بعد، فقط وضعتُ الأقراط الألماسية الصغيرة في أذني.
نظرت مرة ثانية لوجه “صوفيا” المسرور وهي تخاطبني:
-لا تقولي هذا، أنتِ جميلة للغاية، حتمًا سيطير عقل “فيجو” حين يراكي.
علقتُ ساخرة بوجومٍ:
-طبعًا.
أضافت “آن” من ورائنا في تبرمٍ وهي تؤرجح ساقها البارزة من أسفل ثوبها ذي اللون الأزرق السماوي:
-توقفي أمي عن المبالغة الفارغة، إنه لن ينبهر.
استدارت ناحيتها والدتي، ونهرتها في ضيقٍ مزعوج:
-“آن”، من فضلك، لا تعكري مزاج شقيقتك بهرائك السخيف.
احتجت عليها بعنادٍ طفولي:
-يا أمي، إنها…
قاطعتها في صرامةٍ، وهي ترفع سبابتها أمام وجهها لتخرسها:
-لا تتكلمي!
ردت عليها “آن” في تجهمٍ أكبر:
-سأبتلع لساني، وأصمت.
تحولت نظراتي مرة أخرى نحو “صوفيا” وهي تتودد إلي بلطافةٍ:
-قطعة السكر، إنها تمزح معكِ، سيعجب “فيجو” بكِ كثيرًا.

 

 

أخبرتها بكذبٍ، وطيف ذكريات الخيانة المقنعة تحت شعار توديع العزوبية يحوم في مخيلتي ليحرق كبدي:
-لا أهتم “صوفيا”، حقًا لا أهتم.
نهضتُ من على مقعد التسريحة فور أن انتهت المصففة من عملها، والتفت نافضة مقدمة ثوبي أمامي لأفرده، رفعت ناظري نحو “صوفيا” عندما مدت يدها قائلة:
-أمسكي بباقة الورد.
حذرتني “آن” في صوتٍ جاد مهدد وهي تقوم من على الطاولة:
-إياكي أن تُلقيها في وجهي، سأمزقها، وأحرقها في الحال.
ابتسمتُ، وقلتُ بإيماءة خفيفة مؤكدة:
-حسنًا، لن أفعل.
أتى من الخارج صوت “مكسيم” المتسائل بعد طرقة مسموعة على الباب:
-هل انتهيتُن يا فاتنات؟
من تلقائها أجابت “صوفيا” في مرحٍ:
-نعم سيد “مكسيم”.
أخبرها بنفس الصوت المسموع للجميع:
-حسنًا، أنا انتظر كنتي الجميلة لأصطحبها.
ردت عليه في نبرةٍ متحمسة:
-لحظة واحدة…
اقتربت “صوفيا” مني، وطرحت على وجهي باقي الوشاح الخفيف، لأحتجب به عن أعين الناس هاتفة في تشديدٍ:
-لا ترفعيه، هذا يضفي المزيد من الغموض والإثارة.
همهمت “آن” ساخرة في نقمٍ:
-وكأنه لا يعرف شكل وجهها.
ردت عليها أمي بصوتٍ خفيض موبخة إياها:
-يوم عرسك لن نبذل أي جهدٍ في تزيينك، سنقدمك لعريسك هكذا بلسانك السليط، وهو سيتولى الباقي.
دنت منها، وقالت في تحدٍ:
-ولما التضحية بي؟ يكفي أن أبقى هكذا بلا زواج، فهذا ابتلاءٌ لا أطيقه!
رأيتُ “صوفيا” تقرص شقيقتي من وجنتها، قائلة بمرحٍ:
-لنعطيكي بعض الحمرة الخجلة.
دفعت بيدها بعيدًا عنها، وقالت بتجهمٍ:
-أمي، توقفي.
مرة ثانية جلجل صوت “مكسيم” مناديًا في غير صبرٍ:
-هيا، لن نمضي اليوم بأسره هنا.

 

 

انتفضت والدتي في توترٍ، وهتفت وهي تهرول نحو الباب لتفتحه:
-العروس قادمة سيد “مكسيم”.
قبل أن تدير المقبض، نظرت إلي بهذه النظرة الحنون المليئة بالطيبة، ثم استطردت تخاطبني في تحفيزٍ، كنتُ متأكدة أنه لن يجدي نفعًا في حالتي البائسة:
-ابتهجي صغيرتي، إنه يومك المنشود …………………………………….. !!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غير قابل للحب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى