رواية غوثهم الفصل المائة وسبعة 107 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة وسبعة
رواية غوثهم البارت المائة وسبعة
رواية غوثهم الحلقة المائة وسبعة
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني وعشرون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
ضاع مني الصبر وتُهتُ في المسالك
وتلاشت عني الرحمة وقلبي ظلامه حالك..
سُبلي من غير هُداك مُظلمة ودربي كذلك
والنور منك أنتَ يُضيء ظُلمة المعارك
معارك بيني وبين نفسي ودربها شائك
فأدعوك يا كريم أن تُغيثني مني فأني
أتمنى أن أضحى ساكنًا في رحابك.
_”غَـــوثْ”
__________________________________
أتعلمين أيتها الفراشة الرقيقة؟
طوال عمري أعمل في وظيفةٍ لم أخسر بها قضية واحدة، بل ربحتُ فيها كل ما مر في يدي حتى غدوت مشهورًا بين الناس بحلال العُقد، فلم أخضع يومًا لدفاع أحدهم، ولم أقبل بالطعن في حُكمي، إلا قضية واحدة فقط أعلنت فيها الخضوع أمام الطرف الآخر وهي قضية عشقك أنتِ أيتها الزهرة البيضاء اليافعة، فلم أملك حتى حق الدفاع عن قلبي البريء في حضرة حُبكِ…
حسنًا دعيني أُخبركِ عني، لعل الحديث يَشفع لي عندكِ لكن كمحامٍ لم أطلب منكِ البراءة قط، بل أطلب منكِ سجنًا أبديًا لا أبدٍ له ولا أمدٍ، بل هو سرمديٌ حيث اللانهاية واللابداية، سجنٌ في حضرة عشقكِ أنتِ أيتها الحمامة البيضاء التي أتت تُعلن سلامها على قلبٍ أنهكته قسوة الحروب، رُبما يطل مني الحديث لكنها فرصة سأكون غبيًا إن لم أقم باستغلالها، فأنا ربحت من اسمي نصيبًا كبيرًا رغم أنني لم أكترث به، فمنذ نعومـة أظافري وأنا “تَـيام” المُتيم بكل ماهو بريءٌ، حيث السماء الواسعة مُنافاةً لقلبي الصغير، والطيور الحُرة رغم إنني ولدتُ سجينًا في حصارٍ لم أفقه عنه شيئًا، ثم أزهار التوليب البيضاء التي تُشبهك كثيرًا، ثم أنتِ يا جامعة كل ذلكِ فيكِ أنتِ، فأنا قد أكون جاهلًا في العشق وماله من ثمات، أصبحت متيمًا بكِ يا “آيـات”، سأخبركِ أنني ذات يومٍ استيقظتُ على فاجعةٍ كُبرى أنقلبت على اثرها حياتي رأسًا على عقبٍ، حيث أنا لم أكن أنا، وطريقي ليس بطريقي، بل أنا طفلٌ منذ أن وُلِد كتب عليه أن يُصبح فقيدًا ثم قتيلًا ولم أنجو إلا بالمكان الذي وُجدتي فيه أنتِ، ومنذ ذاك اليوم الذي قبضتي فيه على يدي تُمسكين بها، لم يهمني التيه أو حتى الطريق، أنتِ فقط ظلي مُمسكةً بيدي، وحينها سأجد خير الطُرق.
<“إن أتوك من ظهرك، أخدعهم من الأمام”>
وصل”سـامي” إلى البناية والطابق والشقة أيضًا وحينها طرق الباب بقوةٍ وهو يصرخ باسم ابنه لعله يخرج له وحينها فُتِح الباب وتفاجأ هو بالفاعل حينما وجد “إيـهاب” وخلفه “إسماعيل” وقد أبتسم بزاوية فمه وهتف يتشدق بنزقٍ:
_دا أنتوا عاملين حزب؟ وسع ياض خليني أجيب ابني.
تحرك “إيهاب” وأفسح له المجال وقد ولج الآخر مثل الإعصار يبحث عن ابنه بعقلٍ طـار منه وفل بعيدًا وقد أغلق “إيـهاب” الباب بالمفتاح وما إن عاد له الآخر وحاول أن يخرج دفعه للخلف وهتف بتشفٍ صريحٍ فيه:
_بتوجع أوي وأنتَ تايه على اللي يخصك صح؟ أعتبرنا بنلعب مع بعض، وعلى عهدنا كل لعبة ليها قوانين، بس برضه ليها كبار وزي ما اللعبة ليها كبير، ليها عمهم.
واثق الخُطى يمشي ملكًا، وقوي البنية يسير فخرًا، وهذا رجلٌ تربى وسط الخيول وتعلم الشِعر، فلا يوقفه جبانٌ ولا يؤرقه ضبعٌ، هذا الفارس في المعركة يحمل سيفه، وما ذنب الفارس إن كان العدو جبانًا؟ بالطبع إن قام بضربه فهو المُصيب وإن قام بقتله فهو المقدام، لطالما كان جبانًا ومُتبجحًا فليتحمل كل ما سيجنيه، وقد تفاقمت النيران بينهما في حربٍ أقامتها المُقل وأرسلتها الأهداب، وقد كان “إيـهاب” الأسرع حينما دفعه ليرتمي فوق المقعد وقد هتف بصوتٍ أجاد بث الرُعب في نفس الآخر هاتفًا بتوعدٍ:
_عمال تجعجع وتجعر وكلت دماغ أبونا، ما تريح شوية وأركن في حتة ناشفة، خلاص راحت عليك وريحت وكسحت، هتاخد زمنك وزمن غيرك؟ ابنك خلاص بقى معانا وبتاعنا، أعتبره تخليص الحقوق منك.
تأججت النيران في عيني الآخر يرمقه بنظراتٍ نارية تحرق وتقتل من الخراب الساكن في قلبه، وقد نطق “سـامي” وهو يشير بعينيهِ نحو “إسـماعيل” وهتف ساخرًا بتهكمٍ:
_مش خايف على أخوك ولا إيـه؟ خلاص قلبك مات؟ طب دي لسه العلقة معلمة عليه، فوق يا “إيـهاب” وأعرف أنا ورايا مين، أنا في إيدي كتير وهعمله، وأظن يعني أنتَ مش هتسمح إن أخوك يتأذي أو مراتك الحامل تسقط، أو حتى “چـودي” يجرالها حاجة بسببك، دا أنتَ… عمهم حتى.
سخر بكلمته الأخيرة وهو يرمقه شزرًا وقد وقف “إسماعيل” بجوار شقيقه وكأنه يُكاتفه ثم هتف بثباتٍ يتولى به مُرافعة الدفاع:
_وماله، بس أنتَ مش هتقدر تعمل أي حاجة، ولو عملت فدا أخرك خلاص، علشان إحنا محميين في رجالة مش لامؤاخذة، أديك دورت وريني أبنك فين بقى؟.
صرخ “سـامي” بإنفعالٍ فيه وقد وصل لذروة الغضب وهدر بصوتٍ عالٍ فيهما يُعرب عن جَمْ غضبه:
_الرجالة قالولي إن ابني هنا، شافوكم وأنتم داخلين ومنزلينه من العربية، ولولا خوفهم عليه كانوا خدوه، ولسه في ضهري ناس كتير، يعني ابني هيرجع بدل ما آخرتها تبقى سواد على دماغ اللي جابوكم، أنا غلاوي ونابي أزرق.
ارتسمت السخرية فوق ملامح “إيـهاب” وأعتدل واقفًا يُهندم ثيابه الرسمية وهتف بتهكمٍ هو الآخر على غرار طريقة شقيقه:
_براحتك وبراحة راحتك كمان، بس أنا بقى مبتهددش، علشان زمان قالوا والعتب على اللي قال، الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح، دا في قاموس الجُبنا اللي راحت عليهم خلاص، في قاموسي أنا الباب اللي يجيلي منه الريح بقف في وشه وأعانده وأخليه يعرف أنا مين، وكله بدماغي، وعلشان أنا محدش بيمشيني، فتلاقيني موجود علطول.
أنهى حديثه وأنتظر ثانيةً تلاها ضربةٌ من رأسه في وجه “سـامي” الذي ترنح للخلف ساقطًا فوق المقعد الوثير ثم سحبه الآخر وهتف بنبرةٍ جامدة بعدما قبض فوق تلابيبه يهدر فـيه:
_أسمع!! أنا مبتهددش ولا عمري هيبت حد، واللي بينكشني بعدي عليه وأشيله من طريقي بس قبلها بدوسه، بلاش تخلي الدوسة تيجي في ابنك أنا مراعي إنه بقى عاجز، وأديك أهو جيت ووصلت ودورت، لقيت ابنك؟ أنا بقى ممكن أعملك محضر تعدي علشان دي شقة أخويا بيشتريها نجوزه فيها، ها تحب أوريك حاجة من اللي ممكن أعملها؟.
أنهى حديثه وهو يسأله بعينيه وما كان أمام الآخر إلا أن يرضخ له وفقًا للتعليمات التي تلقاها من “ماكسيم” حيث أمره أن يَكُف عن فعل أي شيءٍ لكن ليس كل ما يجول في ذهن المرء يتحقق، حيث فُتِح الباب فجأةً وظهر من خلفه رجال “سـامي” مُمسكين بالسلاح وقد أندفع “إسماعيل” أولًا وضرب أحدهم ليسقط منه السلاح، وقام شقيقه بمحاكاة الفعل ذاته حينما ضرب الآخر بقدمه حتى سقط أرضًا ونُشِبتَ المعركة بينهم فيما تحرك “سـامي” صوب السلاح يلتقطه ووضعه في رأس “إسـماعيل” وهتف بأنفاسٍ متقطعة:
_ابني فين يا “إيـهاب”؟! وأحسنلك تجاوب بدل ما أخوك يضيع فيها وأنتَ نقطة ضعفك هو، وأنا ابني غالي عليا، يعني اللي وجعني هو نفسه اللي هيوجعك، ها؟!!.
ألتفت له “إيـهاب” وما إن رأى فوهة السلاح فوق رأس شقيقه الذي حرك رأسه نفيًا يحذره ألا يفعلها وقد سقط قلب “إيـهاب” أرضًا وهو يلمح عقلة اصبع الآخر تتحرك بِهُدىٰ فوق الزناد وقبل أن يفعلها كان أتى “بـيشوي” وقام بخنق “سـامي” من الخلف ثم سيطر عليه بكامل جسده وقام بخطف السلاح منه ووضعه فوق رأسه يهتف بصوتٍ عالٍ:
_قوم ياض منك ليه، قوموا بدل ما أفرغ السلاح فيكم وساعتها هتبقى دفاع عن النفس، مش هاخد في كلب فيكم ساعة، قــوموا.
صرخ فيهما حتى وقف الاثنان وأشار لهما نحو باب الشقة كعلامةٍ على خروجهما وبالفعل خرجا من الشقة بينما “سـامي” فتعرف على الآخر دون أن يلتفت برأسهِ وهتف ساخرًا:
_شكلك الواد ابن “جـرجس” حمش زي أبوك، كان غشيم زيك كدا وصعيدي مخه قفل وكنت بكرهه أوي، خليك بعيد عن الحوارات دي أحسنلك.
أزدادت قبضة “بـيشوي” فوق عنقه وهو يتحدث من بين أسنانه المُطبقة فوق بعضها:
_ماهو علشان أنتَ ابن رقاصة، هتحبه إزاي يعني؟ وعمومًا المحبوب من كل الخلق مبيكرهوش غير عرة الخلق، وأنتَ عرة أوي وتعر أي حد يعرفك، خُلاصة القول بقى، ابنك مش عندنا، ومنعرفش راح فين واللي عندك أعمله، ويلا وريني عرض قفاك.
أنهى حديثه ثم تركه بدفعةٍ قوية نحو باب الشقة يلحق بالآخريْن، وظل هكذا مثل كرة قدمٍ تتقاذفها الأرجل لبعضها، وقد أختار الرحيل حتى يظل مُتمسكًا بطرف الخيط كما هو، فالثأر لم يهدأ والنيران لم تتوقف، بل تخمد قليلًا ومن ثم تتأجج من جديد لتُلهب الأجواء حولها، وقد هدأت الأوضاع كثيرًا بعد رحيله حتى وقف “إيـهاب” وضم شقيقه وهو يتنفس أخيرًا بعدما حُصِرت الأنفاس داخل رئتيهِ وقد أبتسم لهما “بـيشوي” بعدما نجح مخططهم ذاك، والذي قام “أيـهم” بالترتيب له.
وفي الأعلى تحديدًا بالشقة الفارغة بآخر طوابق البناية كان “نـادر” فيها نائمًا فوق المقعد المُتحرك وبجواره جلست “حنين” ترمقه بشفقةٍ وهي تقسم أنه طفلٌ بريءٌ وسط الجميع وهم فقط يعاملونه كما لو كان صغيرًا، حتى فكرت ببلاهةٍ في تهريبه، وكم راقها سكونه بتلك الطريقة مثل الطفل الصغير يتلقى الرعاية وفقط وقد كان “أيـهم” حاضرًا مع والدها أيضًا بنفس المكان وأنتظر رحيل المُحتل حتى يعود للشقة من جديد به.
__________________________________
<“أيحزن القمر لأجل البشر؟”>
قال الكاتب “محمود درويش” في رائعةً من روائعه الكتابية ذات الوصف البليغ والذي مرت أمام عينيه أكثر من مرةٍ رغم عدم إهتمام بذلك النوع من الكتابات:
“بعضي لديّ وبعضي لديك وبعضي مُشتاق لبعضي
فهلّا أتيت؟”.
اليوم حقًا بعد مرور أربعة أيام لم يراها ولم يتحدث معها سوى مرتين تقريبًا تجاوب عليه بمللٍ وكأنها ملت صحبته، وتركته لأفكاره تعصف به وهو يفكر بحيرةٍ ماذا فعل لكي تعامله بمثل تلك الطريقة؟ هل لأنه لم يصطحبها لمكان ما أرادت؟ في الحقيقة تعجب كثيرًا وقد أنىٰ صوت كرامته بداخلهِ يحذره من الاستهانة بمشاعره، ومن ثم لحقه صوت العاطفة الممزوجة بالعقل يخبره برزانةٍ وهوادة:
_هي مراتك برضه وست ومشاعرها بتتلغبط، يمكن زعلانة علشان أخوها سافر زي المرة اللي فاتت، وأنتَ أنشغلت عنها، يبقى واجب عليك إنك تروح تشوفها وتعرف مالها، هي لو زعلانة راضيها أنتَ، ولو تايهة وصلها، هفكرك فضلت تدعي قد إيه علشان تكون ليك؟.
تنهد بثقلٍ ثم أنتبه للساعة ورأى أن صلاة العشاء شارفت على القدوم، فتوجه صوب المسجد يفتحه لكي يستقبل الناس، وقد ولج وتوضأ وأعلن الآذان بصوتهِ عند حلول الساعة وأنتظر حتى أقام الصلاة بالناس صلاةً جهرية يقرأ فيها القُرآن بصوته العذب والمسجد خلفه أمتلأ من كل حدبٍ وصوبٍ بمختلف الأعمار حتى نهاية الصلاة.
وقد أنهى الصلاة ثم خرج من المسجد تمامًا بعدما أغلقه خلف المُصليين وتوجـه نحو بيتها مباشرةً، حيث قد مل الإنتظار ومل البقاء على خصامٍ لمدة أربعة أيام كاملين، والآن يطرق بابها ولحسن حظه وسوء موقفها فتحت الباب له وما إن ظهر هو رفعت حاجبيها بعدما ظنته أمها لكنه أمسك مرفقها يسألها بنبرةٍ مُحتدة:
_أنا عاوز أعرف عملتلك إيه علشان تقلبي عليا كدا بقالك كام يوم حتى لما بكلمك بتتحججي وتقفلي علطول، لو “يـوسف” كل مرة هيسافر هتعامل أنا كدا منك ولا إيـه يا “قـمر”؟؟.
لاحظت هي حدته معها وكأنها أخرجته من طور التعقل وقد سحبت مرفقها من يده وهتفت بثباتٍ وكأنها تتحداه:
_لو سمحت أتكلم معايا كويس، بعدين أنا مش بتحجج ولا حاجة أنا فعلًا بكون مش فاضية مش بكدب وأداري زي ناس علشان أعمل اللي أنا عاوزاه، ولو سمحت ماما مش هنا مش هينفع تدخل، مش سايبة هي.
أحتدت نبرتها وهي تحدثه حتى وجدت عينيه تُطلق الشرر محلها وحينها ندمت على ما تفوهت به، وقد تذكرت كلمة “ضُـحى” حينما أخبرتها في بداية معرفتها السطحية به أنه قد يكون إرهابيًا خاضعًا لإحدى الجماعات الإرهابية، ونظرته لها الآن تؤكد ذلك، وقد أقترب منها يفرض هيمنته عليها حتى صرخت هي لثانيةٍ ثم هتفت تحذره وهي ترفع عينيها نحوه تتحداه بالحديث قبل النظرات:
_عندك!! أنتَ إرهابي بجد ولا إيـه، أقسم بالله أنا معايا حزام أسود هبهدلك بـيه، أبعد عني أحسنلك.
أقترب أكثر ثم أمسك فكها بنعومةٍ حتى لا يؤلمها وهتف بشراسةٍ وكأنه على شفا حُفرةٍ من فقد تعقله أمامها:
_أهدي يا قطة، لو أنتِ معاكِ حزام أسود، أنا معايا حزام ناسف واخده من الجماعة، يعني أهمدي شوية، بعدين من الناس الكدابة دي؟ أنا كداب يا “قـمر”؟.
جملته الأخيرة خرجت بعتابٍ قاتمٍ جعلها ترفع عينيها نحوه وهـي ترمقه بعتابٍ يُماثل نظراته لتطيل النظرات بينهما وقد ولجت “غَـالية” من عند شقيقها وما إن رآتهما سألت بنبرةٍ جامدة مندفعة خلف حِميتها القوية:
_إيه اللي بيحصل هنا دا؟.
ألتفت لها “أيـوب” بإحراجٍ بالغٍ من نظراته وقبل أن ينطق قررت تلك القطة الشرسة أن تثأر لنفسها فأبتعدت عنه تعانده وتضعه في خانة اليك بقولها:
_البيه سايب شغله وجاي يقولي وحشتيني هاتي بوسة، وأنا قولتله كدا عيب ميصحش، مرضاش يسمع الكلام؟ مش فاهمة إيـه دا بجد.
فرغ فاههِ بذهولٍ وكذلك جحظت عيناه للخارج حتى أوشكتا على الخروج من محجريهما تزامنًا مع إنفلات شهقةٍ من فم “غـالية” ترمقه بنظراتٍ نارية وقد تشفت “قَـمر” فيه ذلك الكاذب فيما أشار على نفسه مستنكرًا بقولهِ:
_أنا!! أنا جيت قولتلك كدا؟ أنتِ عارفة إني عمري ما أخون الأمانة وأنا أمين عليكِ لحد ما تكوني في بيتي، أنطقي حصل إيه.
سكتت عن الحديث حتى كاد أن يقترب منها من جديد فأطلقت صرخة عالية “يــا ماما” خوفًا منه وركضت من باب الشقة بعدما خطفت غطاء رأسها المعلق وتوجهت نحو الأعلىٰ فخرج خلفها يقف على أعتاب الشقة يهتف بصوتٍ عالٍ:
_هجيبك يعني هتروحي مني فين، يا أنا يا أنتِ.
ضحكت أمها ما إن أدركت فعلة ابنتها وقد هدأ هو قليلًا وحسم أمره بالرحيل بعدما أعتذر من حماته، بينما في الأعلى وفوق السطح صعدت هي نحو هناك تتنفس بحدةٍ وأنفاسٍ لاهثة حتى شعرت به من جديد يخطفها من ذراعها لتلتصق به وقبل أن تصرخ كمم فاهها وهتف بنفاذ صبرٍ منها:
_بتهربي يا جبانة؟ أنا صبري مهما كان طويل بس متراهنيش عليه، كلميني زي الناس وعرفيني مالك، مش دي أنتِ، “قـمر” اللي عارفها كانت عينها بتفرح كل ما تشوفني، دي عيون مش طايقة تشوف حد أصلًا، زعلانة مني؟.
أغمضت جفونها تهرب منه فيما أنتظر هو جوابها على جمرٍ مشتعلٍ حتى حركت رأسها مومئةً فأبعد كفه عن فمها ووجدها تسترسل في العتاب بقولها المرتفع الذي صدمه:
_علشان كدبت عليا، كان ممكن تقولي إنك رايح المشوار دا معاهم وكنت عادي هسكت، يمكن كنت هزعل بس زعلي إنك كدبت عليا كان أكبر، بعدين أنتَ من إمتى ليك علاقة بحد، ما طول عمرك زاهد وفي حالك.
ضيق جفونه بإرتيابية يرمقها بتعجبٍ فوجدها تفسر مقصدها بصوتٍ غلبه الضجر منه وكذلك كانت عينيها:
_يوم ما قولتلي إنك مش فاضي، شوفتك بعيني ماشي مع “آيـات” أختك ومعاكم “جــنة” كمان، بتضحك عليا ليه؟ علشان خاطر “جـنة”؟ بلكونتنا فضحتك يا أستاذ.
هتفت حديثها بضجرٍ وهي تدفعه بعيدًا عنها وحينها قرر أن يزيد تمسكه بها فقبض على خصرها بكفهِ حتى ألتصقت به أكثر وهتف بحدةٍ أقل وهو يُخاطبها بنعومةٍ كي لا تزداد الأمور سوءًا:
_أركزي شوية، أولًا عمري ما كدبت على حد، وعمري ما خبيت ولا هقدر أعمل كدا، علشان مفيش إنسان في كل الدنيا يخليني أغضب ربنا مني بسبب كدبة، أنا بحبك وأنتِ عارفة كدا، ولو على الموقف اللي شوفتيه دا فهو ناقص كتير وأنتِ أساءتي الظن فيا، علشان ساعتها أنا كان غرضي أوصل “آيـات” في سكتي وهي هتقابل “جـنة” ويروحوا مشوارهم مع بعض، يعني لا غرضي أتفسح ولا أتدلع، بس دا يعلمك متصدريش حكمك تاني على حد وتسيئي الظنون في الناس، تفتكري أنا ممكن أشوف حد غيرك؟ دا أنا مطروف العين بيكِ أنتِ.
رفرفت بأهدابها كثيرًا ثم استقرت بعينيها في عينيه وهتفت بنبرةٍ أقرب للبكاء وكأنها تخبره عما يُحزنها ويُشعل قلبها بنيرانٍ حية لم تَخمد:
_علشان أنا بغير أوي، بطني بتوجعني وبصدع لما بغير على حد، وساعتها شوفتك ماشي جنبهم عادي والمصيبة إنها كانت لايقة عليك أوي، كأنكم واحد وحبيبته ماشيين.
كاد أن يكتم ضحكته لكنه فشل حتى أنبسطت ملامحه رويدًا رويدًا لكنه قرر أن يسألها بتهكنٍ ما يُرضي غرور قلبه الغارق بعشقها:
_وأنتِ بقى شايفة إني لايق عليها وهتسيبيني ليها؟.
توقف بعد السؤال يرمقها بثباتٍ فوجدها تُكمل بشراسةٍ عادت لها من جديد تتلبس طبعها:
_دا أنا أموتك وأدفنك أهون من إن واحدة ست تشاركني فيك، أنتَ ليا أنا وبس، مفيش واحدة في الدنيا دي كلها ينفع تكون معاك غيري أنا، وعلى الله تحصل تاني، الست الوحيدة اللي هسمح بيها في حياتك هي أختك وأنا وبس، فهمت يا “أيـوب”؟.
وصل لما يُريده منها وهُنا أبتسم بأريحية شديدة وضمها في عناقهِ بكلا ذراعيه حتى أستقرت هي تضع رأسها فوق صدره ثم بكت ما إن عانقها وقد أبتعد عنها على الفور يسألها بلهفةٍ عن سبب البُكاء فوجدها تهتف بنبرةٍ متقطعة:
_كان نفسي أروح وأشوف اسم بابا وهو بيتردد هناك وصورته اللي منورة المكان، “عـاصم” عاش عمره كله يحاول يمحي أثر بابا ومكانته، ودلوقتي “يـوسف” رجع تاني يحارب علشان الناس كلها تعرف مين هو
“مصطفى الراوي” وأنا كان نفسي أكون معاه، وألمح أي حاجة منه، هو سابني صغيرة أوي وبزعل من نفسي علشان مش فكراه، نفسي في أي حاجة تخليني أعرفه.
نزلت دموعها تنساب فوق وجنتيها وحينها ضمها هو من جديد يمسح فوق ظهرها وهتف بثباتٍ وهدوءٍ كما هو دومًا:
_أدعيله، متنسيش إن عمله أنقطع من الدنيا وخلف ذرية تحيي ذكره واسمه بالخير، ومتنسيش إن الولد الصالح موجود يدعي لوالديه، أدعيله يا “قـمر” وأوعدك في أقرب وقت هعمل حاجة تفرحك إن شاء الله، بس بلاش تزعلي كدا وأنا موجود.
رفعت كلا ذراعيها تتلمس ظهره وهي تبكي أيضًا بصمتٍ ولم تعلم لما يؤلما أمر ذكرى أبيها بتلك الطريقة، حيث الألم الموجود في قلبها، بينما هو فصدقًا هنا ينسى العالم وما فيه، هُنا معها حيثما القلب أحب وهوىٰ وحيث ما أختار أن يُصادق الهوىٰ، هُنا حيث الفتنة القوية ضاربة الفؤاد وما عليه أنتوىٰ.
__________________________________
<“قد نلجأ للكتابة لأننا لم نستطع محادثتكم”>
أتعجب دومًا من قول المرء أنه وحيدٌ،
فكيف في حضرة الأوراق وتواجد الأقلام نستهين بقيمتهم؟ أأنتهت الأوراق أم جفت الحبور؟ أم فقد المرء القدرة على التدوين؟ على كُلٍ من لم يُصادق الأوراق ويُحب الأقلام، بالطبع وحدته مؤلمة..
جلست “عـهد” في غرفتها بعد عودتها من العمل وقد توجهت لمكتب غرفتها وأشعلت الضوء الخافت بجوار بتلات الزهور والزرع الأخضر ثم سحبت الدفتر الخاص بها الذي وضعه لها برفقة الأكواب التي أعطاها لها، وقد فتحته لمرتها الأولى من بعد رحيله لتجد بداخله ورقة بُنية اللون وكأنها عتيقة ثم فتحتها بتروٍ لتجده كتب فيها:
_شكلك غاوية جوابات ودي ملعبي بصراحة،
المرة اللي فاتت كان الوداع بايخ وسخيف أوي، بس المرة دي مختلف، المرة دي رايح فرحان ومبسوط كمان، أنا عاوز أشكرك وعاوز أقولك حاجة مهمة بس مش هكمل كدا، أقلبي الورقة على ضهرها.
كانت تبتسم بعينيها وقد نفذت ما كتبه وقام بتدوير الورقة للخلف لتجده أضاف خِطابًا باللغةِ العربية داعب أوتار فؤادها بكتابته الأسطورية:
_تلك المرة أكتب وداعًا لمدينتي الحبيبة،
تلك المدينة التي عُرِفَت بالكرمِ حينما وطأتها أقدام الغريب، يومها كانت كُل المُدن باهتة، وكان العالم قاسيًا، حينها كنتُ مولعًا بأساطير العصر اليوناني، ومن وسط تلك الأساطير كنت قارئًا لأسطورة “بجماليون المثال” أسطورة الفن الذي وقع في عشق تماثيله، هذا المخبول وبكل آسفٍ كان يُشبهني كثيرًا، حيث يعيش عيشةً في مدينة “أماذيس” بقرب مهاوي الجبال عند الشاطيء، كان زاهدًا عن كل مشاغل الحياة، عزف العالم بأكملهِ، وإنزواء عن كل المدينة، وهروب من البشر، كان وحيدًا وحزينًا، سادر النفس، مهموم القلب، ثقيل الوجود، لم يرغب البشر، بل كان مختلفًا عن الجميع حيث لا يرى الناس هناك جديرين بالتودد ولا خليقين بمؤاخاةٍ، بل هم مجرد بشرٍ وفقط، وكان يُضفي عبقريته في صنع تماثيله، تلك التماثيل الصامتة، وقد قام هذا الشريد بصنع تمثالًا لـ “فـينوس”، إلهة الحُب في ذاك العصر، وقد أنكب ذاك المسكين بأدواته يصنع تلك الدُمية التي صورها بقلبه وعشقها حتى بات يخضع عند قدميها يخبرها بحبه لها وهي لازالت صامتةً عن الرد، حتى استيقظ ذات يومٍ بعدما قام بصنع التمثال ووجد أبناء المدينة يأخذونه لحيث المكان المخصص للعبادة، حينها ظل يبكي حتى خَارت قواه…
_رُبما تتعجبين من إسقاطي لتلك القصة لكني سأخبرك قصة أخرى وأنتِ حينها ستعلمين لما أخترت تلك الأسطورة تحديدًا حيث ذاك الغريب المدعو”يـوسف” كان يعيش في غُربةٍ وزُهدٍ عن العالم بأكملهِ، كان يخرج وحدته في موهبته الغريبة النادرة ويصنع ما لم يتصوره العقل بأغرب المنتجات، وقد عزف البشر، وعدل عن عيش الحياة بموتٍ غير رحيمٍ يفتكه بالبطيء، ذاك الشاب وقع في حب واحدةٍ تشبه التماثيل، وكأن قلبها من حجرٍ، حسب نفسه سيحيا تلك الحياة التي يتغنى بها أبناء جيله معها، لطالما كانت أول من وثق بها من جنس البشر، حيث حسبها أنثى خُلقت لتؤنسه، ولم يعي أنه من أختلق تلك الأُلفة وهي فقط مجرد حجرٍ لا قلب لها ولا تشعر، وفي الأسطورة السابقة أحب “بجماليون” تمثاله الذي وقع في عشقهِ وما إن أدرك أنه مُتاحٌ للجميع تلقى الصدمة حيث أنتقل التمثال وسط مقر العبادة عند المباخر وإتلاء الأناشيد ينعم بالتعظيم، أهو يصنع الدُمي ويعلمها كيف تُحب ثم تذهب للآخرين وتناولهم الحب؟ نبدو حقًا متشابهين أنا وهو، وخاصةً أنا وهو في صناعة ما نحب، الخلاف بيننا أنني رجلٌ أؤمن بالله الواحد الأحد، رجلٌ وزيعتي الدينية دومًا نصب عيني، بينما هو كان كافرًا.
_حينما ركع أسفل التمثال وبكى ثم استيقظ صباحًا على صوتٍ غناءٍ يُطرب أذانه، حيث الصوت المرمري كما أسماه هو، صوت لم يعهده “بجماليون” من قبل، حينها قفز للطابق الثاني ليجد تمثاله يتجسد في فتاةٍ جميلة، وردية الوجنتين، ساحرة العينين، عطوفة الكفين، كانت تُدعى “جالاتيا” وقتها أنبهر بكون ما رسمها بفؤاده المُعذب يراها نُصب عينيه، وحينها أخبرته أن الإله وهبها له بقدر حبه، وأنتهت قصته بعد الاستنكار بين أحضانها، فسأعود لي أنا من جديد، فحينما تلقيت صدمتي الأولىٰ رسمتُ في خيالي من جديد فتاةً مُذهلة، لم أظنها متواجدة بغير أحلامي، صوتها رنان عذب، قلبها أخضر خصب، ثُغرها جميلٌ، والقلب لها يميل، صنعت معها أسطورتي الخاصة في ثنايا عقلي، وما إن ولج الغريب المدينة البعيدة عنه، خطفه صوتكِ، وأذهلته قوتكِ، وأسعدته عاطفتكِ، وجدتُكِ كما رسمتكِ في خيالي وكأنك حقيقةٌ تُضارب أحلامي، حيث أنتِ المدينة الآمنة بعيدًا عن الحروب وصوت القصف، وبالعودة إلى “بجماليون” و “جالاتيا” اللاذي أنتهت قصتهما بالعناق معًا، دعيني أخبرك أن في وقتي هذا أثناء الفراق، غدوت مُشتاقًا للقاء، وإلى اللقاء في أسطورةٍ أخرىٰ، فلازلت قارئًا للمزيد، مع تحيات رجلك الغريب المُبهر “يوسف”.
أبتسمت “عـهد” وتعالت نبضات قلبها، لقد تلاقت بحبيبٍ أفلاطوني العشق، طاهر القلب، نقي الروح، بريء السجية، رجلٌ لم تعهده هي في عهود عمرها وقد ألهمها بخطابه لتقوم بإخراج دفترها لتكتب له هي الأخرى خطابًا حفظته في قلبها له، وقد رفعت صوتها تغرد بصوتها الرنان لـ “فـيروز” وكأنها تذكرت لتوها أنه يحب الصوت الفيروزي مثلها.
في مدينة “شرم الشيخ”..
هُنا ستجد العالم الغُرباء يمجدون أصلك، يعيرونك كل الإهتمام، ينظرون لما معكَ وكأنها هبةٌ من الخالق، حيث العديد من التفاصيل المميزة المصنوعة يدويًا بأيادي مصرية شابة، ستجد هنا ما يُمثل الحضارة الفرعونية، ثم الإسلامية، ثم البدوية، ثم العربية، ثم ما يجمع بين الجميع ليعلم العالم بأكملهِ من هي “مـصر”، تلك التي طال عمرها بقدر طول نيلها، وزاد الفن فيها بزيادة عمرها، حيث مهد الحضارات، ومقر الآثار، ومحتضنة الجماعات، العديد من النماذج الشابة قامت بصنع العديد من الصناعات اليدوية المتنوعة وكلها تنطق باسم الهوية المصرية، حيث كبارٍ تركوا وصغارٍ أكملوا، ثم ثمارًا أنتجوا.
كان “عـاصم” حينها يرسم بسمة بشوشة فوق وجهه وهو يقف وسط حشدٍ من طبقةٍ أرستقراطية خالصة، تنوعت بين رجال الأعمال السارقين، وبين المستثمرين الطامعين، وبين المحافظ ونائبه، ومجموعة أخرى من رجال حماية الوطن أو ناهبيه، وقد وقف “يـوسف” يباشر بنفسه عمل “عُـدي” الذي تولى مهمة الترجمة للسائحين ذوات الجنسيات الأجنبية بمختلف أنواعها وما على شاكلتها وقد لاحظ إشارة مجموعة رجال نحوه وقد أرتسم الضيق فوق ملامح عمه وحينها أقترب بشموخٍ كخيلٍ جامحٍ يدرك ساحة العراك بكل إنشٍ فيها ووقف بجوراهما ينطق بتهذبٍ:
_مساء الخير، مع حضراتكم “يـوسف مصطفى الراوي” ابن المرحوم “مصطفى الراوي” مؤسس الشركة ومالكها الأصلي، حضراتكم نورتوا المكان وأتمنى التنظيم يكون عجبكم، وشوفتوا المواهب الشابة المصرية وهي بتبدع في توضيح هويتها.
كان لبقًا ومقدامًا وشُجاعًا لم يعرف الجُبن قط، وقد راقبته الأعين بين متباهية ومُتعجبة ومذهولة، وأخرى كارهة، وقد نطق أحد الرجال الواقفين يسأل بتعجبٍ:
_بس أنا أول مرة أعرف إن المرحوم عنده ابن وماسك شغله، طول عمري عارف “عاصم” بيه و شريكه الأستاذ “سامي” غريب إنك ظهرت فجأة كدا، مع إني عارف والدك من زمان أوي.
تلاقت في تلك اللحظة نظرات “يـوسف” بنظرات عمه الذي زين ثُغره ببسمةٍ شامتة كأنه يتمسك بحقه في هوية العمل وأصليته عليه، فيما تعجب “يـوسف” لبُرهةٍ عابرة من الجواب الهارب، هل يخبرهم أنه كان مصحةٍ نفسية لعلاج أمراضه العقلية؟ أم يخبرهم أن عمه قام بالاستيلاء على كل ما يَملك؟ بماذا يتحدث دون أن تتشقق جروحه، لكن مهلًا هل يُعرف عن “يـوسف” الصمت؟ هذا المتكلم اللبق؟ وقد أدرك الجواب سريعًا فهتف بنفس الشموخ وعزة النفس:
_حضرتك معاك حق، أنا فعلًا كنت بقالي فترة كبيرة بعيد عن الشغل دا، لأني مهندس بترول وشغال في شركة “الفاروق” المساهمة، وبقالي فترة كبيرة هناك ويعتبر مهندس كُفء زي ما والدي كان بيتمنى، وحاليًا أنا بتابع شغله علشان أكون حققت حلمه وحلمي، أظن يعني محدش من حضراتكم عارف إني مهندس بترول، “عـاصم” بيه مقالش لحضراتكم؟.
سأل بتهكنٍ طفيفٍ وراه خلف ضحكةٍ خَفية جعلت “عاصم” يستدرك الموقف سريعًا وهتف بثباتٍ يلحق به ما يُمكن إلحاقه حيث هتف:
_الحقيقة إن “يـوسف” شاب مجتهد ومُثابر وبيحب يعمل كذا حاجة في نفس الوقت، يعني مش النوع المتكاسل اللي بيهرب من مسئولياته بحجج ملهاش لزوم، إنما هو بيحارب وقته علشان يثبت نفسه للكل ودايمًا بينجح في كل حاجة بيعملها، والحقيقة إنه نموذج للشباب يُقتدى بيه.
زيل حديثه بكلماتٍ يعلم رغم كذبه أنها حقيقة، فابن شقيقه رغم كل ما حدث له لازال واقفًا على قدميه وثابتًا كما الجبال، وقد أوزعه “يـوسف” بسمة مُنافقة ثم أنسحب من أمامهم، فتواجده بعيدًا أفضل من القرب بجوار حزبٍ مُنافقٍ مثل هؤلاء، لطالما كان من كارهي السياسة والسياسيين وفوقهم وسائل الإعلام وأي طائفة تُضلل الحقائق، وقد عاد يجلس بجوار “رهـف” التي كانت ترمق “عُـدي” بضيقٍ أثناء وقوفه وسط مجموعة من الأجانب أصحاب البشرة البيضاء والخصلات الشقراء ولم تستغ أن تظلمه فهو يتعامل بكل أدبٍ وإحترامٍ ومهنيةٍ فائقة..
__________________________________
<“هل يُعقل أننا من نتوهم فيهم ذلك؟”>
القلوب دومًا سريعة في إصدار المشاعر
فتجدها أمام البسمة تُقسم بحبها لهذه الملامح، وأمام الفعل الحَسِن تُعلن أن هذه هي أطيب القلوب، وأمام الغُرباء تختلق الأُلفة، وأمام المعاونة تظن الشفقة، ثم ينعكس علينا الشعور الآخر حيث نطنب السمع لذاك الشعور الغريب، هل من الأساس هذه هي حقيقتهم نحونا، أم أن إختلاق المحبة كان من جهتنا؟..
كانت تلك غريبة الأطوار تجلس في ساحة الليل الفارغ في الشُرفة الواسعة تحتسي مشروبها الدافيء وهي شاردة الذهن في ذاك “الغوغائي” كما تلقبه هي، حيث موقفه الغريب وصراحته المُفرطة، وقد زاحمت البسمة ملامحها حتى ولجت لها زوجة شقيقها “حبيبة” صاحبة القلب النقي وجلست بقربها، كانت عسلية العينين، مستديرة الوجه، خصلاتها بنية لامعة، عاقلة الفِكر، حكيمة القول، طيبة القول، وقد جاورتها تهتف بتعجبٍ من شرودها:
_يا ستي بكلمك، أنتِ فين.
أنتبهت لها الأخرىٰ وهي تبتسم بهدوء تحت أثر شرودها ثم حركت كتفيها ورأسها لترفع “حبيبة” حاجبيها ذاهلةً ثم تنهدت وبادرت في التحدث معها بقولها:
_طيب مامتك قالتلي نتكلم مع بعض بخصوص موضوع “حسام” أخويا، بصي أنا عارفة إنك ممكن تكوني مش حابة الموضوع بالطريقة دي، وعارفة إنك ضد مبدأ الجواز بالشكل الغريب اللي بيتم كأنه سلام تعارف، بس والدتك مش عاجبها الوضع دا وهتستمر في الضغط عليكِ، وبصراحة ماما هي كمان مش عاجبها وضع “حُسام” ممكن تلاقوا حل وسط يرضي كل الأطراف؟.
حسنًا يبدو أنها أتت لتُعكر صفوها وقد أنزعج ذهنها لمجرد ذكر تلك السيرة الغير مُرحب بسمعها فهتفت بجمودٍ:
_يادي النيلة عليا وعلى السيرة الزفت دي، ياستي حرام عليكم أعيش شوية في هدوء، بعدين أخوكِ دا أنا بتعصب منه، عامل زي الإنسان الآلي حياته كلها شغل في شغل وبس، ماشي الإنسان يكون طموح وساعي للنجاح مقولناش حاجة، بس أخوكِ يا “حبيبة” صعب أوي، بعدين أنا مش هتجوز غير واحد يكون بيقدر مشاعر البشر، علشان خاطري شوفي حل.
تنهدت “حـبيبة” وهتفت بقلة حيلة وكأنها استهدت لتلك الفكرة في الأخير بعد معاناةٍ مع التيه:
_ماشي، بصي أنا واثقة إنك أنتِ و “حسام” مستحيل تكونوا لبعض، ودا لإنكم شبه بعض جدًا وفي قوانين الفيزيا الأطراف المتشابهة مش بتنجذب لبعضها، إلا في توافر عناصر نادرة الوجود، العناصر دي مش عندك أنتِ و “حسام” وبالتالي كل واحد فيكم مش هينجذب للتاني، علشان كدا نظموا مقابلة بهدوء ورُقي أتكلموا فيها مع بعض، وأرفضوا فيها بعض، وأنا أوعدك كل حاجة هتتحل وساعتها تكونوا خلصتوا من الصداع نهائي، رأيك إيـه؟.
يبدو أن هذا هو الحل الوحيد المتاح أمامها لكي تتخلص من تلك السيرة، حيث هي تقف عند مفترق الطُرق بين قلبٍ يبدو أنه ينساق خلف ضوء الفراشات، وعقل يُنبئها أن هذا الضوء ماهو إلا لهيبٌ سوف يحرقها، وقد أومأت موافقةً برضوخٍ جعل االأخرى تُلثم وجنتيها وتعاملها كأنها طفلتها الصغيرة ثم تحركت نحو شقتها السكنية، فيما غرقت “فُـلة” من جديد في عالمٍ مغاير للواقع أوله وأوسطه وآخره “مُـنذر” وما فعله لأجلها.
__________________________________
<“من لي في العالم سواك أرىٰ به عالمي؟”>
حل الليل بعتمته وتلاشى النهار وأضحت الليلة ظلماءً، حينها ساد الصمت في بيت “نَـعيم” بعدما شارفت الساعة على العاشرة مساءً، وقد كان “إيـهاب” في سيارته بعدما قام بضبط كافة الأمور هُناك في منطقة التجمع الخامس، وقد عاد مع شقيقه ورفع صوته يوبخه بقولهِ:
_أنا مش فاهم سمعت كلامك ليه، خدتك معايا وكنت هخسرك في ثانية لولا ستر ربنا علينا عدت بخير، ياريتني ما عرفتك، هو أنتَ عيل وشبطان يا “إسماعيل”؟ ربنا يسامحك قلبي وقف وهو حاطط السلاح في راسك.
أنتبه له شقيقه وهتف بضجرٍ كونه ينفعل عليه:
_يا “إيـهاب” هو أنا هيجيلي قلب أسيبك؟ بعدين اللي بيسري عليك يسري عليا، عاوزني أسيبك في وش الدنيا؟ خلاص ياعم سيبني وشيل إيدك أنتَ كمان من حياتي، بس أنا مش هعمل كدا، علشان مش هقدر أسيبك لوحدك.
رمقه “إيـهاب” بطرف عينه ثم هتف مُرغمًا بقلة حيلة وهو يقول بسأمٍ مصطنعٍ:
_ماشي يا “سُـمعة” كُل عقل بكلمتين زي كل مرة وأبلفني زي السيجارة، بس برضه أخرك كدا معايا، أنا لا عويل ولا عيل صغير علشان أمشي بيك، أنا قد أي حد وأي حاجة.
_قد القول يا “عـمهم” وأكتر.
هكذا كان رد شقيقه عليه وهو يقوم بإشعال سيجارته فيما استغرق الآخر في القيادة بصمتٍ فقد حقًا وصل لمرحلة الأعصاب التالفة، فيكفيه ما عانوه اليوم من لحظاتٍ عصيبة وفي البيت كان “نَـعيم” يجلس برفقة ابنيه معًا في منطقة الجلسة العربية وقد هتف “تَـيام” بنبرة حماسية يتحدث مع أبيه عن طفولته الشقية:
_كنت بصفر مرة واحدة بس فوق أي سطح ألاقي كل الحمام فوق راسي، أتشاقيت كتير والحارة كلها كانت علطول تشتكي مني، وخصوصًا بيت عم “عبدالقادر” كنت بقعد فوق السور أراقب “آيـات” وهي بتحفظ القرآن، ووهي بتذاكر، والناس كلها لما عرفت، سموني “علاء الدين” علشان ببص على الأميرة جوة القصر وأنا على السور، ماكنتش أعرف إني في يوم هكون الأمير ليها.
لاحت ابتسامة فوق شفتيه ما إن مر طيفُها أمام عينيه وقد تحدث “مُـحي” يؤيده بكلماته حيث هتف:
_هو بصراحة حقك، لايقين على بعض أوي أنتوا الاتنين، وبكرة تيجي تقعدوا هنا وتفتحوا نفس الواحد على الحياة، أحسن خلاص “إيـهاب” ساددها عليا أوي، تخيل سايبلي ٢٠٠ رقم بس!!!.
ضيق “تَـيام” جفونه وهو يتمنى أن لا يكون شقيقه يقصد أرقام الفتيات، فيما أكد الآخر ذلك حقًا بقولهِ الحانق:
_فقدت شغفي خلاص، مش لاعب.
ضرب “نَـعيم” الأرض بعصاه حتى سكت “مُـحي” تمامًا، فيما حرك شقيقه نحو والده وهتف بنبرةٍ ناعمة مُتيمة بقصص العشق:
_بابا، هو أنتَ حبيت ماما ولا كان جواز صالونات، ولا معرفة؟ يعني محدش جاب سيرتها، وأنا بصراحة عاوز أعرف، بما إني معاصر قصص حب كتيرة أهمها قصة حب “نجلاء” و “صبري” وكنت شاهد عليهم.
تبدلت تعابير “مُـحي” كُليًا وتأثر بحديث شقيقه وكاد أن يتحرك تاركًا المجال لهما لكن والده أوقفه بقولهِ المتفهم:
_أقعد يا “مُـحي” هتروح فين؟.
طالعه الآخر بنظرةٍ مُتعبة كونه يخشى سيرتها التي ترتبط بالوجع في ذهنه، حيث تركته بمفردهِ منذ أن وضعته وخرج من رحمها، حتى عناق الأم لم يعلمه هو، حقًا شقيقه كان محظوظًا وأكتر لكونه لم يُعاني مثله، وقد تحامل على نفسهِ لكي يبقى جالسًا فيما بادر “نَـعيم” في الحديث بقولهٍ متأملًا في سرد تلك القصة:
_كان جواز غريب أوي، أبويا من يومه تاجر خيول، وأنا كنت الكبير مع “شـوقي” أخويا وكنت متعلم وخريج الجامعة الأمريكية، كنت من علية القوم زي ما بيقولوا والعياذ بالله، كنت مثقف ومتعلم وبالنسبة للناس أنا كدا كأني طلعت القمر، واحد في جامعة أمريكية يعني باشا، بعدما أتخرجت بفترة بسيطة، مات أبويا وساب كل حاجة في إيدي بما فيهم “شـوقي” متجوزش عليه غير الرحمة، ساعتها بدأت الناس تسمع عن الواد اللي خد تجارة أبوه كلها، وقتها كنت نسخة من “إيـهاب” كدا في الهيبة والكلمة المسموعة، ساعتها كانت “نـدى” موجودة في بيتها، كانت مامتها مش مصرية، كانت قريبة أم “سـراج”، يعني كانوا مستقرين هنا في مصر.
أندهش كلاهما من الحديث فضحك هو رغمًا عنه وهتف بسخريةٍ عليهما كون أنهما لم يعرفا بهذا السر:
_أومال أنتم فاكرين إيـه؟ أم “سـراج” كانت قريبة أم “نـدى” يعني “سـراج” بالأصول يعتبر خالكم بس هو أصلًا ضايع ومش في دماغه المهم ساعتها سمعت عن البنت اللي كله بيتكلم عنها وعن جمالها، كانت ناعمة أوي ورقيقة، كان شعرها أشقر وبيلمع، وعينيها غريبة لا هي رمادي ولا هي عسلي، ومناخيرها صغيرة خالص ووشها رفيع وبريء، كانت حالة، أو طفرة ملهاش شبيه، ساعتها روحت لأبوها بحجة إن لينا عنده فلوس بتاعة أدوات الخيول، شوفتها وقابلتها، كان عندها خيل هي كمان وكانت بتتمشى بيه، روحت وقفت قدامها وعجبتني أوي، شكلًا وطبعًا، لقيت عيني بتخوني ووقفت عليها، فبقيت لا قادر أحركها ولا قلبي طاوعني ميشوفهاش، فضلت أتحجج مرة ورا مرة وأروح وأشوفها وتضحكلي مرة وأبصلها مرة…
توقف هُنيهة يلتقط أنفاسه المهدورة في ساحات الذكرى المُحببة وهي تتراقص فوق القلب:
_لقيت نفسي بقع فيها، وبقت من ضمن أهدافي الأساسية، روحت ساعتها وطلبتها وهي وافقت وكانت طايرة من الفرح، طلعلي ابن عمها وقالي إنه مش موافق وإنها خطيبته، وإن من أصول السمان البنت متخرجش برة عيلتها، ولو هتخرج يبقى مهرها خيول، ساعتها عينه كانت على الشراكة معايا وطمع، كل الجواز وقتها كان كدا خصوصًا لو تجار أو عائلات كبيرة، بس أنا بقى دراعي مكانش بيتلوي، قولتله يقدر قيمة الخيول وهدفعهاله فلوس، مرضاش ساعتها وصمم ياخد الخيول، كنت أنا ساعتها وقعت في حُبها أوي، في نفس الوقت تجارة أبويا الحُرة ميدخلهاش شريك، علشان كدا روحت عملت معاه معاهدة، قولتله أتجوز “نـدى” وهخليه الكبير في السمان، ويبقى دراعي اليمين وفي كتفي، حسبها صح ووافق وجالي، أسبوع واحد بس وسلم نمر وجاب ورا وقالي مبروك عليك، لا استحمل يشوف حبنا لبعض، ولا قدر يسد زي الرجالة، وكسبتها وكسبت حبي ليها وكنت أسعد إنسان معاها لما قالتلي إنها بتحبني…
لاحت ابتسامة تتراقص فوق شفتيه تزامنًا مع لمعة عينيهِ وهو يضيف بعاطفةٍ تُزاحم هيبته الطاغية:
_وقتها ماكنتش بقول كلام حلو أو أحب في حد، كنت قليل التعبير والكلام وكله، بس فيه عبارة بتقول إن لكل قاعدة شواذ، وهي كانت استثناء عن الكل، يعني ناشف وحجر مع طوب الأرض بس هي كنت معاها عيل صغير، محدش ياخد مني أي حاجة، بس هي كنت مديها قلبي ولو طلبت أيام عمري ماكنتش هقول ليها لأ، كانت بريئة زي عيلة لسه بادئة تمشي ومحتاجة تتسند، وأنا أتكتبلي أمسك إيدها في الطريق، كنت بحبها أوي كأني معرفش في العالم غيرها هي، خصوصًا لما كان “شـوقي” يتخانق معايا ويوجعني بكلامه كانت بتيجي تاخدني في حضنها زي المُهرة الوفية وهي بتساند خيالها، بس زي ما عيشت معاها أكبر فرحة، سابتلي القهرة، وسابتلي حبها فيكم، وخدت مني وعـد إني مسيبش حقي وأدور على ابني، ولو لقيته أعرفه إنها كانت بتحبه، وهي اللي قالتلي إنه عايش، وساعتها صدقتها علشان هي حلفت إن قلبها بيشوفه، كان قلبها أبيض أوي ووحشتني أوي.
تهدج صوته وهو ينطق بجملته الأخيرة حتى ضمه “تَـيام” بين ذراعيه يحتويه بمشاعر العاطفة المحمومة، وقد طالعهما “مُـحي” بتأثرٍ حتى ولجا لهما الأخوان سويًا يلقيان التحية وقد أنتبه لهما “نَـعيم” فطمئه بنظراتهِ “إيـهاب” ثم هتف يسأل عن زوجته وحينها أخبره “مُـحي” بثباتٍ يهرب فيه من تأجج مشاعره:
_هي من ساعة قالت عندها دكتور و “ميكي” خد عربية وراح يوصلها علشان أنتَ ممكن تتأخر، زمانها راجعة هي استشارة بس ومشيت الساعة تسعة ودلوقتي عَشرة وشوية.
في العيادة الطبية الخاصة بأمراض النسا..
كانت “سـمارة” تجلس بمفردها فيها تتابع بعينيها المكان حولها ورغمًا عنها اﻧكسرت روحها وتصدع قلبها، حيث تجلس كل النساء الحاملات بجوار أمهاتهن أو حماواتهن تتلقى كلٌ منهن الرعاية، وهي وحدها من تجلس بمفردها هنا وسط الزحام يتيمة الأبوين، مشاعر قاتلة لإمرأةٍ مِثلُها في تجربتها الأولىٰ للحمل تسير في الدرب بمفردها، حتى من أختصرت فيه العالم، عارضه العالم حتى لا يكون بقربها، وقد نزلت عبراتها رغمًا عنها وهي ترى إحداهن بجوار أمها تمازحها وهي تمسح فوق بطنها، وقد صدح صوت هاتفها فجاوبت بسرعةٍ ورغمًا عنها خرج صوتها مُختنقًا ليسألها زوجها بصوتٍ قلق:
_مالك يا “سـمارة”؟ أنتِ كويسة، تعبانة ولا إيـه؟.
تحاملت على نفسها حتى لا تبكي من جديد وهتفت بنبرةٍ أكثر اختناقًا من السابق وهي تقوم بحصار العبرات:
_لأ يا “إيـهاب” أنا كويسة، ضهري بس وجعني شوية من القعدة هنا والعيادة زحمة لسه قدامي كشفين واستشارة، أنتَ روحت ولا لسه في مشوارك؟.
_روحت آه، بس معرفش إن الدكتور متأخر كدا، عمومًا أنا قولت أتطمن عليكِ، خلي بالك من نفسك وأنا هكلمك كمان شوية.
هكذا جاوبها ثم أغلق الهاتف حينما ردت هي تُطمئنه عليها ثم عادت لشرودها من جديد، نعم تعلم أن مشاعرها سوف تتأذىٰ لكنها تختبر نوعًا جديدًا من الرؤية أمام عينيها، حيث تلك المشاعر التي كانت تجهلها هي ومن ثم تراها الآن، وقبل أن تستغرق أكثر في الفكر وجدت “إيـهاب” يولج لها ثم جاورها وهو يرمقها بعينيهِ الثاقبتين فوجدها تلقائيًا تبتسم له كمن استرشدت بعد الطرقات التائهة ويكفيها من كل الأمان فقط أنه معها هُنا.
بعد مرور بعض الوقت خرج بها من العيادة الطبية وهي تمسك كفه وقد رحل “مـيكي” الذي كان ينتظرهما فيما قاد هو السيارة الخاصة به وهي بجواره شاردة حتى سألها هو بتعجبٍ:
_مش عاوزة برضه تقوليلي مالك؟ دا أنا سي “إيـهاب” برضه عمرك ما خبيتي حاجة عني، عرفيني مالك بس.
تنهدت هي بقوةٍ وهتفت بصوتٍ متضاربٍ في المشاعر:
_صعبانة عليا نفسي شوية، كنت بفكر يعني لو أمي معايا زي الناس اللي شوفتهم في العيادة دول كنت هفرح أكيد، بس أنا بقى أتحرمت منها بدري أوي، وهي سابتني من غير ما أجرب حاجات كتير معاها، فضلت أفكر كدا يعني لو بِعد الشر عنك أنتَ مش معايا أنا إيـه اللي هيحصلي، فضلت أعيط من غيرك، وأنتَ معودتنيش أكون دلوعة، علمتني أقف وأسد في وش الكل، بس فيه حاجات بتوجع أوي.
كان هو أوقف السيارة وسط الزحام ثم أشار لها كي تنزل منها وقد تبعته هي فوجدته يتجه بها أمام مطعم شهير بالمنطقة خُصص لعمل “الكبدة” بمختلف أنواعها وقد جلست هي في مقابلته بينما هو طلب لهما الطعام حتى أبتسمت له وقد هتف هو بثباتٍ وهدوءٍ:
_أنا فضلت ساكت علشان عاوزك تتكلمي، مينفعش تفضلي كاتمة كل دا جواكِ وأنتِ حامل، العيل كدا هيتأثر خصوصًا لو بعد التالت، بس أنا مقدر أنتِ حاسة بإيـه، وعاوز أقولك إن مش كل الناس رزقها فلوس بس، ولا أهل، فيه أرزاق تانية كتير مش واخدين بالنا منها، زي إني أنا رزقك وأنتِ رزقي، ولا مش عاجبك إني رزقك بقى؟.
خجلت هي من إطرائه الخفي وقد أتى العمل ليضع شطائر الكبدة الشهيرة بالكبدة الاسكندراني وقد قرب الطعام منها مع زجاجة العصير وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_يلا علشان اللي في بطنك ميقولش إني أنا اللي مزعلك، شكلك هتورينا أيام عنب، بس أنا علشانك وعلشانه راضي، قومي بس بالسلامة وهاتيهولي وأنا مستنيكم تقومولي.
أنهى حديثه ثم أمسك شطيرة منهم يُطعمها وقد ضحكت هي ثم مالت برأسها تلتقط الطعام منه ليضحك هو تأثرًا بضحكتها بعدما خيم الحزن فوق ملامحها، وكأنها وحدها من بعد شقيقه القادرة على إخراج تلك النسخة منه، وكأنها عالمٌ غير عالم البشر.
__________________________________
<“لن تموت إذا خسرت، ستموت إذا استسلمت”>
بعد مرور يومين..
كانت الأوضاع تشبه البحر الهاديء، حيث الهدوء ثم الصخب ثم قوة الفعل ثم إنعدام رد الفعل، هناك من يثور، وهناك من يفعل، وهناك من يُخطط، وفي بيت “يـوسف” كانت “غالية” تجلس في شقتها صباحًا ترتشف الشاي بالحليب وقد طُرِق بابها فتحركت تفتحه وقد وجدت “فاتن” أمامها حينها غصبت منها وهي تراها نصب عينيها وقد هتفت الأخرى بلهفةٍ تستوقفها:
_استني بس، أنتِ مش عاوزة تخليني أشوفك وعمالة تتهربي مني، يعز عليا إني أشوفك كدا ومعايا في نفس البيت ومش عارفة أكلمك، أنتِ وحشتيني أوي يا “غالية”.
تأذت “غالية” من صوتها وفورًا تردد في أذنيها صدى صوت “يـوسف” في لقائها الأول به حينما تمسك بها يهتف بصراخٍ وقهرٍ:
_داسوني من غيرك، والله داسوني من غيرك.
حينها علا صدرها وهبط وهتفت بغلٍ دفنته لأعوامٍ في قلبها وهي ترمقها حاليًا أمام عينيها تقف بكل تبجحٍ:
_وأنتِ موحشتنيش، أنتِ وجعتينا وبس، مرة واحدة بس كنتي أرحميه وكنتي رجعيه لحضني، مرة واحدة بس كنتي حاولي علشانه، بس أنتِ أنانية وسلبية، فضلتي فاكرة إن ابني وابنك هيكونوا أخوات وطلعوا أوسخ من الأعداء، طلعوا كارهين بعض، وبياكلوا في بعض، وابني بيحاسب على المشاريب، بس لأ، أنا مش زيك، أنا غلاوة ابني مش هتهاون فيها، ولو فيه حاجة واحدة مانعاني إني أخنقك في إيدي بحق حرقة قلبي، هتبقى شفاعة “مصطفى” ليكِ عندي، هسكت علشانه هو وبس، أنزلي شقتك يا “فـاتن” وأبعدي عني، وعن عيالي، وربنا يجمعك بابنك، وأترحم على أخوك قريب، إنما جوزك دا هتف كل ما أفتكر سيرته.
أنهت الحديث ثم أغلقت الباب في وجهها قبل أن تستسلم لطاقة غضبها وتقوم بخنقها بين يديها، هي فقط تتحامل على نفسها لكنها لم تسمح لنفسها أن تتوانى في حق ابنها المسلوب وحق ابنتها المسروق، يكفيها فقط العيش حاليًا ببقايا النعيم مع أبنائها.
نزلت “فاتن” وهي تستمسك ببقايا قوتها وقد وجدت هاتفها يصدح برقم “نـادر” الجديد فقامت بالرد عليه على الفور لتجده يعاتبها بقولهِ:
_وحشتيني أوي وبقالك كام مش بتيجي، علشان خاطري أوعي تكوني زهقتي أنتِ كمان، طب “شـهد” ومش بتاعة مسئولية أصلًا، بس أنا محتاجلك دلوقتي، أنتِ كويسة؟.
أوقفت سيل البكاء المتدفق وهتفت بنبرةٍ مختنقة:
_أنا كويسة يا حبيبي بس كنت تعبانة شوية ومعرفتش آجي خوفت أعديك، بس أوعدك هجيلك النهاردة ومش هامشي خالص بقى، طمني عليك؟ أنتَ كويس يا حبيبي؟.
جاوبها وهو يُطمئنها وقد تنهدت هي بعمقٍ ثم ظلت تستمع له ولحديثه عنها وعن تطور حالته، كانت سعيدة بحديثها معه وهو يُخبرها بكل شيءٍ عنه وكأنه يُبرهن لها أن محاولاتها لم تفشل في إنقاذ ما يمكن إنقاذه وأهم الأشياء هي علاقتها به التي شارفت على الاستحالة.
__________________________________
<“كل الكلام حروبٍ، وفي حديثك وحده سلامي”>
أنا لم أُسيء ظني فيكَ وحتى لم أظلمك،
أنا أساءت الظن في نفسي أنا، وظلمتُ مع قلبك قلبي أنا، فأنا لم أفعل أي شيءٍ سوى الاستسلام لذكرياتٍ قاتلة في كل مرةٍ تفتك بي والآن سأعتذر منك..
كانت “نـهال” في شقتها صباحًا تتجهز لروتين يوم الجمعة في بيتها وقد تجهز “أيـهم” لكي يرحل بصحبة “فـاتن” لابنها، وقد ظل يتعامل في البيت بفتورٍ وكأنهما فقط يسكنان سويًا بالاسم مع بعضهما، حيث ظلت هي غارقة في الفكر وهو أمتنع عن الحديث وقد وجدها تجلس في المطبخ بمفردها خاصةً مع عدم تواجد “إيـاد” بالبيت وحينها مر عليها يحادثها بحديثٍ عادي يخلو من المزاح أو ما يُزايده:
_أنا نازل يا “نـهال” علشان عندي مشوار مهم، لو محتاجة حاجة كلميني، عن إذنك علشان متأخرش.
أنهى حديثه وكاد أن يتحرك لكنها هرولت نحوه وأمسكت كفه تهتف بلهفةٍ تستوقفه أو رُبما تستجديه:
_ممكن نتكلم مع بعض شوية؟ أنا حاسة إني محتاجة أكلمك دلوقتي وصدقني أنا مش هزعلك أو هضغط عليك حتى، أنا هفهمك حاجة ضروري، بس والله العظيم أنا صارعت نفسي علشان أكلمك، ممكن نتكلم؟.
بالطبع هي لم تعلم قدر نفسها في قلبهِ، فهي متى طلبت سيقوم بتلبية المطلب ومتى أمرت سينفذ، لذا حرك رأسه موافقًا فتنفست هي بعمقٍ كمن سيقف فوق جبهة الحرب يمسك بسلاحهِ ليخرج صوتها مبحوحًا:
_بص، أنا قبل كدا عانيت بسبب الموضوع دا، أتألمت وتعبت أوي بسبب اللي حصلي، جربت فوق الـعشر دكاترة والموضوع مُجهد بدنيًا ونفسيًا، حقن وأدوية ملهاش أول من آخر ونظام أكل ودوا بالساعة والثانية، وماسكة في علاقة متعبة أوي، وكل دا علشان أكون أم زي باقي الأمهات، صدقني الموضوع للست مختلف أوي، وخصوصًا لو زيي شغلي كله مع أطفال، أنا كنت بروح العيادة على الوقت بالظبط علشان مشوفش الستات وهما بطنهم مليانة وحوامل، وأنا مش زيهم، كنت بخاف أحسدهم على رزقهم غصب عني، عارفة إنه حقك وحلمك تكبر عيلتك، وأنا والله مش عاوزة أكون عبء عليك وأديك أمل في حاجة تعبت فيها…
تهدج صوتها واستسلمت للبكاء أمامه وهي تُضيف بصوتٍ متألمٍ من طيف الذكرىٰ:
_صدقني أصعب حاجة إن الإنسان يعيش في أمل بعدها يتحول لكسرة خاطر، كل مرة كنت بدي نفسي أمل وأقول هيحصل خلاص، بس كل مرة كنت بتصدم إني مش هقدر أخلف طبيعي زي أي حد، والعملية نسبة نجاحها متوسطة، مش عاوزة أخليك تعيش في الألم دا أنتَ كمان، بس واجب عليا أحاول علشانك زي ما أنتَ بتحاول علشاني.
لاحظ الألم المرسوم في عينيها والبائن في صوتها والإهتزاز في كلماتها والرجفة في جسدها، وحينها ضمها وهو يخفيها بين ذراعيهِ بإحتواءٍ حقيقي جعلها تتنهد بعمقٍ حينما وصلها صوته يُضيف:
_أنا مش عاوزك تيجي على نفسك حتى لو علشاني، أنا عاوزك تقتنعي إن المحاولة دي أهم حاجة فيها أنتِ وبس، أنا كل اللي يهمني مشاعرك يا “نـهال” وإنك تكوني معايا في أمان، لو على الخلفة ورب الكعبة راضي بيكِ أوي وبالواد عديم الرباية ابني اللي مخليني ألف حوالين نفسي دا.
أثار حنقها بحديثه عن الصغير فلكزته بكتفه في صدره وهي تحذره من التمادي وقد ضحك هو رغمًا عنه ثم أزاح خصلاتها بعيدًا عن وجهها ثم لثم جبينها وهتف بصدقٍ:
_ربنا يباركلي فيكِ وفيه، أنا معنديش أغلى منكم.
حركت رأسها موافقةً وهي تصدق على كلماته وقبل أن يتحدث هو من جديد يُغازلها صدح صوت هاتفه برقم أبيه وحينها أغمض عينيه يائسًا حتى ضحكت هي عليه حينما ظل يُغمغم بحنقٍ واستياءٍ على الحال الغير مُرضي.
__________________________________
<“الواقع قد يُشبه الأساطير أيضًا، لكننا لم ندرك”>
الساعة الآن دقت ووصلت السابعة مساءً..
حيث هنا في مدينة شرم الشيخ وقد تم فتح المعرض للزائرين من كل أرجاء المدينة، وبحضور قوة هائلة من رجال الأعمال والاستثمار أيضًا حظى المكان بإهتمامٍ من وسائل الإعلام والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، كان اليوم الأكثر ازدحامًا حيث الجمعة في تاريخ كل المعارض خاصةً اليدوية مثل هذه…
عند ردهة الاستقبال كان “يـوسف” يرتدي حُلة سوداء اللون كاملةً وكذلك كان القميص أيضًا لتُضاف الجاذبية فوق جاذبيته، ولكن ما جعل قلبه يهرع بخوفٍ هو حديثه أمام الجميع وأمام وزير االسياحة ووزير الشباب والرياضة، ووزير الصناعة والتنمية، يبدو أنه يقف على مشارف الخطر، وقد وقف يمسك في يديه ملفًا من المفترض أنه سيتحدث منه، لكن دومًا الخوف آفة العقل الكُبرى هو ما يسيطر على الإنسان..
أقترب منه في تلك اللحظة “عُـدي” و “رهـف” فزفر هو بحنقٍ وقام بإلقاء الملف أمامهما وهو يقول بصوتٍ مرتفعٍ بعض الشيء:
_أنتوا شكلكم أتجننتوا، متفقناش إني أقف أتكلم قصاد حد، ماشي أتابع المعرض والشركات والشباب، أسلم وأرحب، إنما إني أقف أتكلم وأبقى محور الليلة كلها، دي توريطة، أنا مش بتاع كلام محترم ورسميات.
تدخلت “رهـف” تحدثه بنبرةٍ قوية بها إصرارٌ كبير:
_لو سمحت ممكن تسكت؟؟ الموضوع مش مستاهل، الموضوع بسيط وأنتَ من ساعة ما جينا هنا بتعمله وما شاء الله الكل هنا حبوك أوي، صحيح أول مرة تيجي بس ربنا رزقك القبول والمحبة، أهم نقطة بقى إن “إسماعيل” مفهمك تقول إيـه، وأنتَ أصلًا من البداية مش محتاج لكل دا، أنتَ هتتكلم، و “عُـدي” هيترجم للكل، إحنا هنا علشان عمو “مصطفى” اللي الكل فرحان بيه وبابنه الناجح، عاوز تخليهم يشمتوا فيك؟ “سـامي” هنا النهاردة مخصوص علشان يشوف الدنيا وهي بتقع، هتخليه يفرح فيك؟.
حسنًا هذه القصيرة لم تكن بهينةٍ البتة، فهي تعلم نقاط ضعفه وكذلك قوته وتعلم كيف تؤثر عليه، لذا رمقها هو بتحدٍ فوجد “عُـدي” يتدخل بينهما يهدئه بقولهِ:
_بص، هنسيبك تقرأ الورق دا وتركز ولسه معاك ساعة كاملة أشرب فيها كوباية عصير وروق أعصابك علشان تعرف تتكلم، وأنا هدخل مع “رهـف” نتابع جوة كل حاجة، يلا.
تُرِكَ بمفردهِ من جديد وقد وقف يمسك الأوراق يتابع فيها الصور وما كُتِبَ أسفلها وقد أمعن التركيز وأوقف الأصوات بداخلهِ حتى يقدر على ارتشاف أكبر قدرٍ من المعلزمات داخل ذاكرة عقله، وقد رفع رأسه يُدلك عنقه أخيرًا وهو يزفر بقوةٍ وحينها وقعت عيناه على شيءٍ غريبٍ لم يفهمه مُباشرةً…
رآها مثل الصغيرة التائهة تبحث بعينيها عن شيءٍ لم يتعرف عليه، وكانت ترتدي كنزة صوفية قصيرة باللون الأحمر وأسفلها سترة بيضاء والبنطال باللون البيج وما يعرف في صيحات الموضة باسم “بوي فريند” والحجاب كان بنفس درجة البنطال، من المؤكد ليس هي، هذه من المؤكد تُشبهها وأتت لهنا تائهةً وقد أنساق خلف إنجذابه لها كما تنجذب الفراشة نحو اللهيب، لم يصدق نفسه وهو يتأكد من ملامحها وهي أمامه حقًا، وقد هتف مشدوهًا بغير تصديق:
_”عـهد”!!.
أنتبهت له أخيرًا تستهدى من تيهها على صوته وحينها أبتسمت وأقتربت منه بخطواتٍ واسعة تُلاقيه في منتصف الطريق وقد نبض قلبه بعنفٍ خشيةً من قوة التخيل، بينما هي فراقبت ملامحه بشوقٍ لتجده يخطفها في عناقٍ وهو قوي كأنه يُبرهن لنفسهِ بتلك الطريقة على صدق تواجدها هنا، بينما هي لاحظت تتبع النظرات لهما فأرتبكت في الحال مما فعل وحاولت أن تتمسك بالثبات لكنها هتفت تستجديه بقولها المُرتبك:
_الناس يا “يـوسف” عيب كدا.
لقد برهن لنفسه بالعناق و الآن تيقن بالصوت وحينها أبتعد عنها يُطالعها بغير تصديقٍ وهو يبتسم بعينيهِ وهتف باستهتارٍ كأنه لا يُبالي بغيرها في العالم:
_مش مهم الناس، أنتِ بالناس كلها.
ضحكت له بحنوٍ من نظراتها وقد أدرك هو حقيقة تواجدها فهتف مستفسرًا بدهشةٍ جلية في ملامحه:
_جيتي إزاي؟ ولا أنتِ مش هنا أصلًا؟.
ألتفتت خلفها تشير نحو شقيقته وزوجها وقد توسعت عيناه بذهولٍ وهو يراهما نصب عينيه ومقابل مُقلتيه وقد ركضت “قـمر” له تحضتنه بشوقٍ بالغٍ وحينها أغمض عينيه ينعم بالسلام بقربها بعدما ضمها له وقد فتح عينيه ليجد “أيـوب” يقترب منه وهو يقول بثباتٍ يدعمه به:
_أنا جيت علشانك أنتَ، يهمني إني أشوف بعيني نجاحكم في خطوة زي دي، وملاقيتش أحلى وأغلى من كدا على قلبك أجيبه معايا، الست الوالدة أعتذرت لأنها مش هتقدر تقف هنا وقالت إنها هتضعف، يا رب تكون المفاجأة عجبتك.
أحقًا يسأله؟ هذا الملاك لو يعلم أنه أحياه من جديد وأشعل عزيمته لما كان تفوه بذلك، بالطبع مهما يفعل معه لن يوفيه حقه، صدق من قال أنه غوثٌ، ومن غيره يعيش بين البشر بكل ذاك الحنان؟ يشبه أسطورة خيالية عن مدينة فاضلة لم يعرف سكانها الخطأ ولم يقعوا في الخطيئة، من المؤكد أن بعض الأساطير ستخلد ذكراه.
__________________________________
<“صراع أبناء العموم أشد طُغيانًا من صراع الأعداء”>
في منطقة السمان..
كان “إسماعيل” أنهى مخابرته الهاتفية مع منفسه الوحيد بتلك الحياة وكعادتهما لم تخلو المكالمة من المشاجرة ثم المزاح ثم الأمان أنهما معًا وسويًا وقد لاحظ قدوم “مُـنذر” نحوه فأعتدل في جلسته وهو يضحك بعينيهِ له حتى جاوره الآخر بعد الترحيب به، وقد ولج لهما “مُـحي” بجوارهما فوجد “مُـنذر” يزفر بقوةٍ وهو يُشيح بعينيه بعيدًا عـنه وقد هتف الآخر بحنقٍ منه:
_لو مش طايقني يا عم عرفني، شكلك لسه مش مستوعب إنك ابن “شـوقي” واننا ولاد عم، ما تيجي معايا دوغري وتقولي مش طايقني ليه؟.
هو لم يعلم أنه بتلك الطريقة يؤلمه، حيث الحقيقة المؤلمة لكون نسبه وأصله يرجعان لـ “شـوقي الحُصري” حيث المصير المحتوم، وقد هتف بصوتٍ هادرٍ يوقفه عن التمادي أكثر:
_أحترم نفسك ومتدخلش في حاجة متخصكش، ولآخر مرة هقولك أنا مش ابن حد، ومالكش دعوة بيا وباسمي، ويا عم تجاهلني وسيبك مني.
أغتاظ “مُـحي” منه وقد هتف بإنفعالٍ هو الآخر:
_أنتَ نسيت نفسك؟ بتكلمني كدا ليه ياعم هو أنا بشحت منك، أنتَ اللي رافع مناخيرك لفوق ومش طايق حد أساسًا، عرفنا ياعم إنك مهم، بس لآخر مرة تكلمني كدا، إذا كنت بتكرهني فبراحتك.
لم تهدأ النيران بتاتًا بل تأججت أكثر لدى “مُـنذر” وكأنه يرى صورة “شـوقي” متجسدة في هيئة “مُـحي” وحينها علم أن علته من أبيه لم تنفك عنه، لذا وقف أمام الآخر يؤلمه بالحديث قائلًا:
_لو بكرهك هبقى بكرهك علشان شبهه وزيه، نفس الطبع الزبالة وقلة الأصل وأخرتك هتبقى زيه لو فضلت بوساختك دي، ببصلك وعلطول بشوفه قصاد عيني، وأنا مبكرهش في حياتي قده وقد اسمي اللي بقى مرتبط باسمه.
كانت مواجهة ثقيلة خاطفة للأنفس وساحقة للروح وقد وقف “إسماعيل” بينهما ذاهلًا بأنفاسٍ مُحتبسة داخل رئتيه ليجد “مُـحي” قام بتفجير القُنبلةِ بهتافهِ الحاد:
_وأنا مرضالكش تفضل في بيت بتكره صحابه، أخرج برة البيت مشوفش وشك هنا تاني، لو عندك دم بجد بقى.
كلاهما يثأر لنفسهِ بطريقته الخاصة، حيث أحدهما يثأر من صورة الماضي والثاني يكره كون أن أصل من يقف أمامه تسبب في إفساد مستقبله وحرمه من أمـه، الكراهية أمتدت لكليهما وتعششت في الصدور، وكأنها صراعٌ أمدي خُلِقَ بين أبناء العم.
______________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)