روايات

رواية غوثهم الفصل المائة وثمانية 108 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة وثمانية 108 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة وثمانية

رواية غوثهم البارت المائة وثمانية

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة وثمانية

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث وعشرون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أناجيكَ بقلبي الضعيف ولم
أملك من الصبر كما ملك أيوب..
أبكي مخافةً من الضعف وكلي
يقين كما بكى وتيقن يعقوب..
فأنا لم أكن بنبيٍ بل أنا عبدٌ ضعيف
وذنبي ثُقله بروحي ليس بخفيفٍ
وإني يا الله قصدتُ منك النجاة
وبدون هداك أنا وحدي في الدرب المُخيف.
_”غَـــوثْ”
__________________________________
لن أحدثكِ كي أطلب منكِ الرأفة،
بل سأخبرك بما عايشته من قبلكِ حتى أصبحت ما أنا عليه، فأنا منذ أن ولدتني أمي خُلقتَ مسئولًا وحاميًا لعائلتي، حيث أنا لم أكن صبيًا كما أمثالي من أبناء عمري، بل كنت غريبًا عن الكُل أملك هيبة ووقارًا، فكنت أحمل فوق عاتقي مسئوليات أكبر مني لكني أحبها، حيث كنت أملأ حياة الجميع بالأمان في حين كنت أنا أبحث لذاتي عن الإطمئنان، فقبل مجيئك كنت أشبه من يسير في صحراءٍ قاحلة شمسها حارقة، نعم لم تكوني أنتِ أول النساء في حياتي،
ولا أول المُصادفات بطريقي، حيث كانت تسبقكِ أخرى حضرت ربيع العُمر وقد حولته إلى خرابٍ،
أخذت مني طاقة الشباب وأصبحتُ معها كهلًا،
وفوق كل ذلك وجدتُها تترك يدي عند مفترق الطرق وغدوتُ في الطريق وحيدًا، ومن ثم صُدفةً ألتقيتُ بكِ أنا وصغيري، حينها فرح قلب كلانا وكأننا قطعة واحدة تمت تجزئتها،
فهو رأى فيكِ الأم التي لم يعهدها في سنوات عمره،
وأنا رأيتُ فيكِ الشجرة التي سأستظل عندها من قسوة شمس الطُرقات الحارقة، نعم قد تكونين لست الأولى في دربي، لكنكِ وحدكِ من توغلتي في قلبي، نعم قبل مجيئك كنت بمفردي ووحدي، لكنكِ خير إنتصار حربي.
<“السكوت عن الألم بحجة الألم، ألم في ذاته”>
كانت مواجهة الاثنين معًا ثقيلة وخاطفة للأنفاس، ساحقةً للروح وقد وقف “إسماعيل” بينهما ذاهلًا بأنفاسٍ مُحتبسة داخل رئتيه ليجد “مُـحي” قام بتفجير القُنبلةِ بهتافهِ الحاد:
_وأنا مرضالكش تفضل في بيت بتكره صحابه، أخرج برة البيت مشوفش وشك هنا تاني، لو عندك دم بجد بقى.
كلاهما يثأر لنفسهِ بطريقته الخاصة، حيث أحدهما يثأر من صورة الماضي والثاني يكره كون أن أصل من يقف أمامه تسبب في إفساد مستقبله وحرمه من أمـه، الكراهية أمتدت لكليهما وتعششت في الصدور، وكأنها صراعٌ أمدي خُلِقَ بين أبناء العم، وكما فاضت الألسنةِ كذلك فاضت الأعين، حيث النظرات النارية التي طفقت تشتبك ببعضها في ملحمةٍ ضارية نُشِبت بينهما جعلت “مُـنذر” يمسك تلابيب الآخر بحدةٍ وهو يهتف من بين أسنانه المُطبقة فوق بعضها:
_أنا لو هسكت على قلة أدبك، هسكت بس احترامًا لأبوك، إنما أنتَ مالكش عندي احترام، أنتَ واحد قليل الأدب وعيل صغير.
دفعه “مُـحي” بعيدًا عنه وقد تدخل “إسماعيل” بينهما يفصل النزاع القائم أساسًا في المُقل وهي ترمق بعضها وقد وبخهما بنبرةٍ عالية كونهما أقارب وأخوة، فيما أتى “إيـهاب” وراقبهم بعينيه ثم أطلق كلمته الناهية بقوله:
_عندك أنتَ وهو!! جرى إيـه يا شوية غجر هو أنتوا عيال صغيرة؟ حصل إيه علشان تمسكوا في بعض كدا؟ خلاص هتموتوا بعض وواقفين لبعض على الواحدة؟.
انتبهوا له وحينها تفكك اشتباك النظرات بينهما وخمدت نيران الحرب وقد أقترب أكثر منهما وهو يقول بنبرةٍ جامدة، متصلدة كحال طبعهِ القوي الذي لم يعرف الرضوخ:
_مفيش حد فيكم ليه حق يمسك في التاني كدا، علشان ببساطة أنتَ وهو أخوات، فاهمين الكلمة ولا لسه مش مدركين اللي وصلتوله؟ لسه فاكرين بقى إنكم غُرب عن بعض وإنكم واقفين لبعض زي الددبان على غلطة واحدة.
كاد أن يُقاطعه “مُـحي” بإنفعالٍ لكن هتاف “إيـهاب” أوقفه حينما نطق بنبرةٍ أقوى من سابقتها:
_أنا مخلصتش كلامي لسه، وشوفت كل حاجة ومش محتاج اسمع لواحد منكم، وكويس إن اللي في قلوبكم لبعض أتكشف، بس أنا بقى هكملهالكم، علشان تبقى مشيت صح.
أنهى حديثه ثم أخرج من جيب بنطاله بظهره المِدية الحادة ثم قام بفتحها وإظهار نصلها الحاد بحركةٍ خاطفة سرقت الأنفاس المُتهالكة منهم وتبعها بتهكمٍ صريحٍ وهو يشملهما بنظراتهِ المُستهجنة:
_دي بتخلص بسرعة، واحد فيكم ياخدها يجيب بيها كرش التاني وتبقى كدا مشيت صح، واحد يتقتل والتاني يدخل السجن ونبقى كلنا أرتاحنا منكم، طالما مش هتيجي بالحب، نمشيها بالحرب، ها مين هيبدأ؟..
هدر بجملته الأخيرة ذات الهيبة الفارضة، والقوة الطاغية وقد هتف “مُـنذر” بنفاذ صبرٍ ونيرانٍ لازالت تحرقه في موضعه أرضًا:
_محدش هيبدأ أنا هامشي ومش معتب البيت دا تاني، هو طردني من بيته ودا حقه، بس أنا عندي عزة نفس ومش هقبل يجمعني بيه مكان تاني واحد أو نكون مع بعض.
تدخل “مُـحي” يهتف بسخريةٍ تهكمية:
_دا على أساس إنك يا واد ودود أوي، ما أنتَ اللي بدأت بالغلط، بس أقولك كدا كدا الغلط هيركبني أنا، الحج “نَـعيم” أكيد مش هيزعلك بعد ما رجعتله ابنه الكبير وبقيت صاحب فضل عليه، فأنا هوفر عليكم التعب وهسيب أنا البيت، خليهولك.
كاد أن يتحرك لكن ظهور “نَـعيم” في مجالهم فجأةً أربك الأوضاع حيث صدر صوت عصاه يسبق حضوره ثم هتف بنبرةٍ جامدة وعالية رغم استمساكه بالثبات قبل أن ينفعل:
_محدش هيخرج من هنا الليلة دي، لا أنتَ ولا هو، واللي هيخطي شبر واحد برة البيت دا يُحرم عليا ليوم الدين، حتى جنازتي ميمشيش فيها ولا يقف ياخد عزايا، طالما هي بقت كدا بقى وكل واحد بدماغه، وروني اللي عندكم يا عيال “الحُـصري”.
كلمته دومًا ناهية للتراهات، وأوامره قاطعة على الكل، وظهوره مهيب ومقدر منهم، وكذلك أقل الحروف الصادرة عنه تُحترم وتُقدر، لذا سكتوا عن الحديث وكاد أن يُظهر “مُـنذر” عكس ذلك كونه لم يفهم في المشاعر ولم يعلم كيف يتعامل معها، لكنه دومًا يكره الأوامر ومن يصدرها، لكن نظرة عمه وحدها جعلته يتراجع عما كان سيفعله ويتفوه به وقد عزف عن الوقوف وسطهم وأنزوى بنفسهِ بعيدًا عنهم كما لو كان طفلًا أفتعل المُشكلات وحُكِمَ عليه بالإنزواء..
بينما “مُـحي” ففهم أن والده استمع لحديثه فزاغ بصره بعيدًا يهرب من قسوة النظرات المصوبة نحوه، أما والده فطالعه بخيبة أملٍ جعلته ينسحب من أمامه ثم توجه نحو مقر الخيول يُفرغ طاقته هناك بدلًا من إفراغها فيمن يقفون أمامه.
وقد أقترب “إسماعيل” صاحب القلب البريء يقف بمحاذاة أبيه الروحي ثم مسد فوق كتفه وهتف بنبرةٍ هادئة يُطمئه بها ويمسح فوق فؤاده:
_متقلقش، إن شاء الله المشكلة هتتحل ويتصافوا، أوعدك والله إني مش هنام ولا هسكت غير لما يتصافوا مع بعض، وأنتَ بنفسك هتشوفهم وتفرح، متزعلش نفسك بس هما قلوبهم شايلة.
أغمض عينيه بألمٍ وأطلق تنهيدة حارة من جوفه ثم فتح جفونه بتروٍ يُطالع وجـه “إيـهاب” الذي أخفى سلاحه إحترامًا وتقديرًا لكبيره ثم أقترب منه هو الآخر يهتف بثباتٍ:
_اسمع كلام حبيبك، دي عيال مخها تعبان عاوزة تتظبط، متقلقش نفسك وهما أكيد مش هيكسروا كلمتك، روح يا “إسماعيل” يلا شـوف “مُـنذر” وخليك معاه، وأنا هشوف “كازانوفا” التاني دا قبل ما يموت “ورد” بغبائه.
كان يقصد الخيل بحديثه وقد حرك عينيه نحو “مُـنذر” الذي وقف بعيدًا يُدخن سيجارته بعيدًا عن الأعين كافةً، بينما الآخر فأدرك أنه يخرج إنفعالات تراكماته بصورةٍ خاطئة، حيث أضحى يتأهب للحظةٍ تتكيء فوق جرحه ومن ثم يُخرج البركان من أسفل الرُكام فوق قلبه، الآن هو أشفق على نفسه كثيرًا، حيث ماضٍ لازال ينخر في نحره، وحاضرٍ يضربه في مقتلٍ، وكرامةٍ تأني بألمٍ لنفسها، وقد حانت منه ألتفاتة للخلف فوجد “نَـعيم” يختفي من المكان وهُنا فقط أدرك أنه تمادىٰ في الخطأ.
__________________________________
<“بالأمس كانت لكم، واليوم وصلت لنا”>
يحيا المرء من بعد الموت دومًا،
ففي بعض المواقف يتيقن المرء من حتمية موته، حيث يلفظ أنفاسه الأخيرة ويُخرجها متمنيًا الموت من بعدها، ثم يعود ويدرك خطأه حينما يرى الحياة بعينيه، ثم يقوم بالعدول عن الموت إلى التسمك بالحياةِ، فرُبما بعض الأشخاص هم سبب نجاة البعض الآخرين، ورُبما هم من الأساس سبب حياة البعض الآخرين..
وقف “يـوسف” غير مُصدقٍ لما يراه ولوهلةٍ ظنها واحدة من تخيلاته العبثية لكن إقتراب “أيـوب” منه لكي يرحب برؤيته تزامنًا مع تواجد “قـمر” بين ذراعيه ووقوف “عـهد” نُصب عينيه أكدوا له أنها حقيقة وقد أبتعدت عنه شقيقته وهي تبتسم له بفخرٍ بينما هو فعانق “أيـوب” بصمتٍ لم يحتاج لحديثٍ، حيث قام العناق بتأدية واجبه وإظهار مشاعره وقد أبتسم “أيـوب” ومسد فوق ظهر الآخر وهتف بصوتٍ ملئته العاطفة:
_مكانش ينفع أسيبك لوحدك في يوم زي دا، ومكانش ينفع أضيع فرحة “قـمر” باليوم دا مني، أدخل يلا وعرفهم إن اللي خلف مماتش.
أبتعد عنه “يـوسف” يُطالعه بامتنانٍ جعل الآخر يضحك له ثم حثه بحماسٍ لكي ينتقل للداخل وقد ألتفت “يـوسف” خلفه ليجد “عـهد” تقف أمامه مبتسمة الوجه والعينين كذلك، تبدو المدينة اليوم متوهجة وليست فقط لامعة، ثم ما هذا؟ أهي وضعت الكُحل تزين بهِ مُقلتيها؟ هل تحتاج عيناها لمزيدٍ من السحر لكي تفتنه؟ من الأساس هو يرفع رايات الاستسلام لها دون المزيد، أما الآن فهو غاص وغرق وأسِر وآهٍ من ذاك الأسر المُحبب، حيث لا يود أن ينفك ولا يريد منه حرية، وقد هتفت تنتشله من غوصه فيها بقولها:
_ربنا يوفقك ويكرمك، يلا وريني شطارتك بقى.
كانت تحثه وكأنها أمٌ تحث صغيرها لكي يُحسن صُنعًا وقد أبتسم لها بعينيهِ ثم أقترب منها يُلثم جبينها حتى خجلت هي من فعلته بسبب الواقفين وقد هتف في أذنها بنبرةٍ هامسة:
_عينك جامدة في الكُحل، أبقي كتري منه.
أنهى حديثه وأسبل أهدابه نحو مُقلتيها القاتلتين وهو يُفكر بجديةٍ هل يُعقل أن يُقاتل لأجل عينيها، ثم تأتي هي وتقتله بعينيها؟ بينما هي أربكها ورفع قدر توترها ثم همس من جديد بنبرةٍ دومًا تعزف فوق أوتار فؤادها البريء أمام طُغيان حبه:
_حبيب عيوني.
أبتعد عنها أخيرًا يناولها حُريتها وقد أتى “عُـدي” يُناديه وما إن رأهم أقترب يرحب بهم وقد أدرك “يـوسف” الخديعة المُحاكاة من خلفه بإتفاقهم سويًا، وقد لاحظ أن “أيـوب” يرتدي حُلة سوداء هو الآخر تُشبه ما يرتديه هو، وقد فهم أن هذه هي فكرة تلك الهِرة الصغيرة التي ترمقه بعينين ضاحكتين.
بعد مرور دقائق امتلأت القاعة بالعديد من الأفراد أصحاب المكانات الإجتماعية المُختلفة من بين شباب عاملين، وكبار المستثمرين، ورجال الأعمال وكذلك بعض رجال الشُرطة والحكومة، وسادت لحظة صمت تبعها حديث “رهـف” وهي تقوم بالتعريف عن برنامج الحفل وكانت تتحدث بلباقةٍ، وقد راقبها “عُـدي” بفخرٍ ثم أخرج هاتفه يلتقط لها صورة أثناء تحدثها وهي تقف فوق المنصة توجه حديثها أمام الجميع دون رهبةٍ أو خوفٍ وكأنها متمرسة..
تلى تلك اللحظة الإعلان عن ظهور “يـوسف” وتوليه مُهمة الحديث، وحينها كان يقف في الخفاء بجوار “عـهد” التي حثته برأسها أن يفعلها وكذلك “قـمر” التي هتفت بحماسٍ بالغٍ:
_أنا جيت علشان أنا مشوفتش “مصطفى الراوي” بس عارفة ان ابنه موجود، أنتَ قد الدنيا كلها وأنا معاك، وأفتكر إن هو شايفنا ومبسوط دلوقتي بينا وإحنا مع بعض، عاش يا بطل.
في الحقيقة أصابت هدفها بالحديث وقد ضمها يُلثم قمة رأسها ثم هتف بحبٍ وعاطفةٍ أبوية خالصة لها:
_لو هعمل حاجة دلوقتي هتبقى علشانك أنتِ.
ودعها وتحرك صوب المنصة وقد علا صوت التصفيقات الحارة بمجرد ظهورهِ كنموذج من وسط النماذج الشابة المجتهدة فيما تفعل، وقد وقفت “عـهد” تتابعه بعينيها وكأنه صغيرها يصعد لعرضٍ مسرحي لمرته الأولىٰ وكذلك “قـمر” جسدت بعقلها صورة والدها في شقيقها وقد ترقرق الدمع في عينيها وحينها تسلل كف “أيـوب” لكفها يحتضنه لكي يُطمئنها بتواجده.
بينما “يـوسف” فبدأ التحدث بقولهِ اللبق الشجاع دون أن يهاب من أي فردٍ وكأنه ترك تربية “نَـعيم” تتحكم فيه وتُنتج ردود أفعاله الظاهرة في قوله:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
ومساء الخير على حضراتكم، وعلى حضوركم الكريم المُشرف لواحد من أهم الفعاليات مؤخرًا وهو معرض المنتجات اليدوية بشتىٰ أنواعها ومختلف الخامات المُتعارف عليها، مع حضراتكم “يـوسف مصطفى الراوي”..
ابتلع الغصة المتوقفة في حلقه وأضاف مُجاهدًا:
_ابن المرحوم “مصطفى الراوي” المؤسس الأول لشركة “الراوي” الخاصة بتصدير الخامات الخاصة بالصناعات اليدوية، الحقيقة إن ممكن تكون نظرة البعض نظرة سطحية شوية لمعرض زي دا، بس في الحقيقة هو على النقيض تمامًا، المعرض دا بخلاف إنه سلط الضوء على المواهب الشابة بمختلف تفاصيلها ومميزاتها، بس ساهم كمان في توضيح الهوية المصرية، مصر مش دولة حضارة واحدة ولا هي قايمة على أساس واحد، مصر مهد الحضارات بمختلف الأزمنة، بدايةً من الحضارة الفرعونية نهايةً بالعصور المستحدثة، مصر مرت بكل الأنواع، ورغم كل دا فضلت مصر زي ماهي، صعب يتم حصرها في حضارة واحدة، مصر فيها أكبر حضارة فرعونية اللي لحد لحظتنا دي لسه سرها محدش يعرفه، وكذلك الحضارة الإسلامية وكتير من الحضارات في مصر لسه أثرها موجود..
سكت هُنيهة عابرة ثم أضاف بأكثر لباقةً عن السابق:
_الحقيقة إن الحضارات دي لازالت حية وقائمة حتى اللحظة دي والدور في دا يرجع لشغل الشباب وتمسكهم بحضاراتهم، هنلاقي هنا في المعروضات دي إنها كلها قايمة على مختلف الأنواع، بين نماذج للحضارة الفرعونية واللي كل رسوماتها ولُغتها موجودة ومرسومة على كل النماذج، وبعض رسومات الحضارة الإسلامية اللي موجودة في معظم التصميمات هنا، وغيرهم كتير وكتير تم صنعها بأيادي مصرية، والدور هنا راجع للشباب اللي بيرجعوا حضارتهم وقيمتها من تاني، علشان كدا دور الشركة قائم على دعم الشباب ومواهبهم، وهنا هستعين بجملة قريتها في كتاب إنجليزي قبل كدا بتقول..
سكت لوهلةٍ يرى تركيز الناس معه وإنصاتهم له وخاصةً “عـهد” التي ظلت تحرك رأسها تحثه على الاستكمال وهي تقوم بتصويره بلحظة فخرٍ جعلته يبتسم رغمًا عنه ثم عاد لرشده وأضاف:
“If you don’t belong, don’t be long”
_الجملة عبقرية بشكل كبير، المقصود منها إذا كنت لا تنتمي، لا تطل بقائك، بمعنى أوضح وأعمق إن المكان اللي متاخدش منه إنتماء وإهتمام، مش هتقدر تفضل فيه كتير غصب عنك، لو جينا نطبق الجملة دي هنلاقيها تليق بالشباب، الحقيقة إن مؤخرًا أنتشرت ظاهرة الهجرة سواء الشرعية أو غير الشرعية، السبب هنا إن مفيش إنتماء للمكان اللي هما عايشين فيه، المعظم عنده جهل بقيمة اللي عنده، علشان كدا لما بيفقدوا الأمول بيمشوا، لكن لما من تاني نحيي حضاراتنا ونعرفهم قيمة هويتهم ساعتها هيزيد تمسكهم ببلدهم وحضارتهم وخصوصًا لما ياخدوا فرصتهم إنهم يبدعوا ويخرجوا مواهبهم وتتقدر في بلادهم، هنا هيحسوا بالإنتماء لأرضهم ووطنهم ويتمسكوا بهويتهم، وساعتها هنكسب أجيال جديدة واعية ومقدرة قيمة بلدها وتاريخها، علشان كدا التركيز كله بيكون على الشباب، إذا أرادوا إفساد المجتمع أفسدوا الشباب، وإذا أرادوا إصلاح المجتمع أصلحوا الشباب، شكرًا لحضراتكم.
أنهى خطابه الذي نهايته كانت تواري خلفها مصيرًا يخص الشباب في كل الأوطان، حيث المحرك الأقوى المستهدف من كل عدوٍ، بينما هو فكان كفارس المعارك بأكملها، وفي أبلغ الكلمات التي قد توصفه هي كلمات “عنترة بن شداد” يزهو في نفسه قائلًا:
_ “الخيلُ تعلم والفوارسُ أنني
شيخُ الحروب وكهلُها وفتاها
وَدَنَتْ كِباشٌ من كِباشٍ تصطلي
نارَ الكريهةِ أوْ تخُوضُ لَظاها
ودنا الشُّجاعُ من الشُّجاع وأُشْرِعَتْ
سمرُ الرماح على اختلافِ قناها
فهناك أطعنُ في الوغى فرسانَها
طَعناً يَشقُّ قُلوبَها وكُلاها”
مثله تربىٰ وسط الخيول في بيتٍ أغدقته شيم الرجال حيث الشجاعة المُفرطة والقوة المُبهرة، رجلٌ مثله المعركة بأكملها تخضع لها بما فيه الأرض ذاتها بمن يعتلوها، حتى وإن خسر إحدى جولاتها لا شك من ربحهِ، فبالأمس كانت لهم واليوم تخضع له.
__________________________________
<“لا تتعجب من قوة الشر لديهم هم بجهلون قيمة الخير”>
في منطقة التجمع الخامس..
كانت “فاتن” وصلت لابنها برفقة “أيـهم” منذ بداية اليوم وحتى حلول المساء، تجلس برفقته عوضًا عن غيابه طوال الفترة السابقة وقد لاحظ هو أثر الكدمات على جسدها وبعض العلامات الزرقاء عند رسغها وما بعده وهي ترفع كفها تُطعمه وسرعان ما أدرك ما أصابها فسألها بإهتمامٍ:
_هو بابا ضربك زي زمان صح؟.
أنخفض كفها تلقائيًا للأسفل وهي تحاول الهروب من سُلطة نظراته عليها وقد أبتسم هو بسخريةٍ وهتف بوجعٍ جعل عينيه تنكسر بألمٍ:
_علشان كدا مجيتيش صح؟ وياترى مين لحقك من إيديه بقى؟ “عـاصم” بيه ولا مراته ولا سابك لما اتأكد إنك خلاص مفيش نفس فيك؟.
نزلت عبراتها تلقائيًا فيما تنهد هو بثقلٍ ثم ضمها له يُلثم جبينها وكأنه يسترضيها، يعلم أنها ظلت تحاول لأجله كما كانت تحاول لأجل ابن خاله، كل النتائج في نهاية الأمر تخضع للفشل المحتم، وقد ولجت لهما “حنين” وما إن رأتهما سويًا أبتسمت لهما وهتفت بمرحٍ لمرتها الأولى:
_طب تصدقوا أنا حظي حلو أوي إني جيت شوفتكم مع بعض كدا، والله يا مدام حالته كانت صعبة أوي من غيرك، خليكِ معاه هنا بقى علشان تاخدي بالك منه، مش كدا يا أستاذ “نـادر”؟ هتنكر إنها وحشتك وتعبت من غيرها؟.
ناظرها “نـادر” بتعجبٍ من طريقتها وتطفلها عليهما وسرعان ما أدركت هي ما فعلته فتراجعت مُتقهقرة وعدلت عن طريقتها السابقة حينما وضعت الدواء بجوار الفراش فوق الجارور الخشبي وأضافت بخجلٍ بالغٍ:
_أنا… أنا آسفة لو كنت تطفلت عليكم بس أنا فرحت لما شوفتكم مع بعض، عن إذنكم، لو أحتاجتوا حاجة أنا برة.
أنسحبت أسفل نظراته بعدما شكرتها أمه وقد هتفت هي بنبرةٍ ضاحكة تمازحه بها:
_شكلها طيبة أوي، أو هي طيبة أصلًا، وأمينة في شغلها وبنت حلال أوي، لما تقوم بالسلامة وتقف على رجلك أنا هخليها تشتغل شغلانة تانية أو حتى تروح مستشفى حلوة بدل المرمطة في المستشفيات الحكومية، هي تستاهل إنها ترتاح.
أومأ بصمتٍ دون أن يُبدي إكتراثه بما تتفوه عنه فهناك ما يشغل عقله، حيث مصيره المجهول وهو يجلس هنا لا يعلم بما يُحاك في الخارج فيما أمسكت والدته هاتفها تزامنًا مع دخول “أيـهم” لهما وقد نطق برسميةٍ خالطها الود:
_إزيك يا “نـادر” أتمنى تكون أفضل دلوقتي.
أنتبه له الآخر وخرج من شروده مومئًا بثباتٍ وقد رأت “فـاتن” تحديث القصص التي قامت به “شـهد” عبر تطبيق الواتساب وهي توثق فعاليات المعرض ومن الضمن صورتها وصورة المعرض وكلًا من “عـاصم” و “سامي” أيضًا وحينها أبتسمت بسخريةٍ وهي تتهكم بعينيها وملامحها على الأخرى التي لم تُقدر ألم زوجها ومحنته وقد لاحظها “نـادر” وهي تجلس بجوارهِ وسحب الهاتف منها بحركةٍ خاطفة ورأى بعينيه ما كانت تراه هي..
حينها أرتسم الألم فوق ملامحه وهو يرجع للخلف بالصور ليراها لا تكترث به من الأساس، تبدو في غاية سعادتها وهي بدونه، فمن المفترض أنه غائبٌ عنها وهي تقلق عليه؟ حتى والده يبدو أنه لم يبال به، لقد حسب نفسه عزيزًا لا يُهان، والحق أن لا غيره يُستهان به.
وقد لاحظ “أيـهم” ذلك وحدة نظراته قارنها الألم فمال عليه يمسك كتفه فلاحظه يقوم بتكبير الصورة وأمعن نظراته فيها فهتف “أيـهم” بنبرةٍ هادئة:
_بص يا “نـادر” يمكن الظروف مجمعتناش مع بعض قبل كدا، ويمكن أنتَ بالنسبة ليا مجرد شخص معرفة أبويا مش أكتر، بس دا ميمنعش إنك صعبان عليا أوي، حبك وإنتمائك رايح لناس غلط، أنا آه معرفش عنك معلومات كفاية بس يمكن أنتَ عينك عليها غشاوة، وأنا دوري هنا أني أساعدك أو أشيلهم خالص.
ضيق “نـادر” جفونه بارتيابية كأنه يسأله عن المقصد فوجده يُضيف بمزاحٍ طفيفٍ:
_عينك يا “نـادر” هشيلهم لو غلبتني.
ضحك له الآخر مُرغمًا على ذلك وقد عاد “أيـهم” يجلس فوق المقعد في إنتظار قدوم طبيب العلاج الطبيعي لكي يباشر عمله معه في استكمال الجلسات الفيزيائية لكلا قدميه المُتضررتين اثر الحادث الذي تعرض له مُنذ ما يُقارب الشهرين.
__________________________________
<“كُن عادلًا بعقلك، ورحيمًا بقلبك، أنتَ مفارق”>
السكوت عن الألم والركض خلف إخفائه يُعد ألمًا كذلك..
فالصمت عن فرط الأذىٰ يعتبر سقمًا قويًا للروح، رُبما تهدأ نيران الجرح لكن نيران الألم لازالت توجع صاحبها، ومن يعلم فرُبما البوح يكون مؤذيًا وكذلك الكتمان..
في منطقة السمان كان “مُـحي” أنهى جولته برفقة مُهرته البيضاء اللامعة في ساحة الركض بعد جولةٍ ساحقة أُعميت فيها أعينه عن الرؤية، حيث ظل صدى كلمات “مُـنذر” يتردد ويجول في سمعهِ كونه هو الطرف المؤذي، وبالطبع لن يرضخ للحديث ذاك، فهو لن يقبل أن يُصبح مجرد صورة أخرى من عمه المؤذي، لن يقبل أن يكون هو الأكثر حقدًا وبُغضًا من شخصٍ مساوئه لا تُعد ولا تُحصى وقد استمع لصوت ضميره حينما أنبه ووبخه بسبب طرده للآخر.
أنتهت الجولة بألمٍ مفرط جعله يجلس أرضًا وهو يلهث بأنفاسٍ مُتقطعة والعرق يتصبب من جبينه وذراعيه القويين وكذلك التصقت خصلاته اللامعة فوق حبينه المُتندي وقد رأى بعينيه منشفة قماشية ممتدة له على بعد ذراعٍ طويلٍ جعله يرفع عينيه للماثل أمامه فوجده “إيـهاب”.
زفر بقوةٍ وألتقط المنشفة بصمتٍ يمسح بها وجهه وخصلاته وجبينه ولِحيته المُنمقة وقد جلس “إيـهاب” على عاقبيه أمامه يهتف بثباتٍ:
_مش هلومك علشان أنتَ دماغك ناشفة وعندي زي أبوك، بس اللي حصل غلط كبير أوي، دا ابن عمك يا “مُـحي” غصب عنك وعنه وعن الكل، صحيح هو طبعه غريب بس جدع ومش زي أبوه، بلاش تخلي دماغك تسوحك.
تبدلت نظرات “مُـحي” للغضب وكذلك أحتدت نبرته وهتف بإنفعالٍ بالغٍ وكأنه ألتقط الفرصة أخيرًا ليُعبر عما بداخلهِ:
_وأنا مغلطتش وأنتَ قولت إنك كنت سامع كل حاجة بنفسك، كل ما يشوفني يودي وشه الناحية التانية كأني عدو جاي يمسك في رقبته، هو اللي مش طايقني ولا عاوز يشوفني أصلًا، وأخرتها يقف في بيتي يهيني ويناطح فيا؟ من إمتى حد فينا بيتهان في أرضه يا “إيـهاب”؟.
هتف حديثه المُحتد وسرعان ما استوطنت الغصة مقرها في حلقه وكذلك بدا الألم واضحًا في عينيهِ ثم هتف بوجعٍ ظهر أثره على الفور بقوله:
_أنا مش مستغرب إنه مش بيحبني، علشان أنا محدش هنا طايقني حتى أنتَ ومش هنكدب على بعض، أنا محدش هنا طايق وجودي ولا حاببني، وإذا كنت قاعد هنا وسطكم فأنا هنا علشان مخرجش برة أعمل حاجة غلط تخليكم تتكسفوا ولا حتى تغضبوا عليا، علشان كدا أنا هخلص السنة دي وأمشي وأسيب البلد كلها، وأهو أخفف عنكم الحمل والهم شوية.
توسعت عينا “إيـهاب” ذاهلًا مما يُقال وقد هتف بصدمةٍ يستنكر القول السابق بقولهِ:
_أنا بكرهك؟! هكرهك ليه يا “مُـحي”؟ يبقى أنتَ كدا متعرفش مين هو “إيـهاب الموجي” علشان أنا عمري ما كرهت حد، يا بتكون حبيبي وصاحبي يا بشيلك خالص من طريقي علشان مش ناقص عطلة منك، أنا لو بكرهك مش هشيل همك وأبقى خايف عليك حتى من نفسك، عاوزك تنجح وتفوق لحياتك وفلوسك وتعرف شغلك، مش هخاف عليك زي ما بخاف على “إسـماعيل” وحاطط عيني عليك، بطل خيابة وكلام عبيط، كلنا هنا بنحبك بس أنتَ اللي مش حاسس.
لمعت العبرات في عيني “مُـحي” وظهر الألم في مُقلتيه وهو يقول بغصةٍ أحكمت الخناق عليه وعلى حلقهِ:
_كلامه وجعني أوي يا “إيـهاب” أنا مش شبه “شـوقي” ولا هكون زيـه، مش هينفع أكون شبه اللي بوظ حياتي ومخليني أعيش بعقدة نقص وبشحت الحب حتى من أبويا، يا أخي ياريته ما كان خلفني وكان أكتفىٰ بـ “تَـيام”.
علم “إيـهاب” أن الآخر معاناته وصلت للروح وأستقرت بها، يعلم أن المعاناة لديه لم تَكُف عن النزيف مادام هو حيًا، وقد ساقته عاطفته ليجذب “مُـحي” نحوه ثم مسح فوق ظهره ونهاية خصلاته وحينها نزلت عبرات “مُـحي” أخيرًا..
في القرب منهما كان “مُـنذر” يقطع المكان ذهابًا وإيابًا وهو يضرب الأرض أسفله بخطواتٍ واسعة وفي يده السيجارة التي لم تُعد ولا تُحصى، وهو يطالع ساعة هاتفه لكي يرحل مع شروق الشمس، هكذا أتخذ القرار حيث يمسك العصا من المنتصف، فلا يُعاند قرار عمه، ولا يُلهب نيران كرامته، وقد ظل “إسماعيل” معه لم يتركه حتى ألقى الآخر لُفافة تبغهِ بحنقٍ وزفر بقوةٍ يدفع الهواء خارج رئتيه وقد جاوره الآخر وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا سايبك تشيط وتخرج اللي جواك، بس صدقني كدا غلط وبتيجي على نفسك وأنتَ كاتم، بس بما إني من صغري صاحبك الوحيد وأنتَ كدا برضه، هقولك إنك غلطت أوي فيه، “مُـحي” مش وحش يا “مُـنذر” ولا حتى بيكرهك، قلبه أبيض أوي زي العيال الصغيرة وحاول كذا مرة يخليك تقرب منه وأنتَ اللي رافض، صحيح “تَـيام” غيره بس إشمعنا بتتكلم معاه وعادي والتاني علطول متنشن من ناحيته؟.
لماذا؟ الكلمة المحورية التي بسببها تلخص كل شيءٍ هُنا، هذه الكلمة التي بشأنها أن توضح الحقائق كافة وتُظهرها للعلن، وقد سكت “مُـنذر” بسأمٍ حيث فقد القدرة على الجواب، لكن طريقة الآخر وطرده له وإهانته بتلك الطريقة لم يتحملها مثله عزيز النفس، لكنه حقًا أخطأ حينما أتهمه أنه يُشبه الآخر كما أخبره بكرهه له وفي الحقيقة هو يتمنى أن ينل حُبه..
مرت دقائق أخرى عليهم خرج فيها “نَـعيم” من كهفه ثم مر على البيت وخرج نحو صغيره وهو يعلم أين هو تحديدًا وقد ذهب إلـيه يحمل في يده الحامل المعدني وما إن وصل وجده يجلس أرضًا يستند بظهره فوق باب المُهرة بمفردهٍ ويبدو أن “إيـهاب” تركه حينها أقترب منه والده وجلس على المقعد الحجري ثم أمسك شطيرة من الحامل الذي يمسكه وما إن تلاقت نظراته بنظرات الآخر أبتسم له وهتف بنبرةٍ هادئة:
_أنتَ جعان وأنا عارف إنك لما بتضايق بتدور على أكل، أكسف أيدي بقى علشان أربيك هنا زيك زي الخيل العنيد.
لم يُصدق الآخر ما يراه فأغمض جفونه بتعبٍ جعل والده يسحب كفه ثم تحرك يجلس أمامه على رُكبتيه وهتف بنبرةٍ ضاحكة يمازحه:
_فيه مرة خيل كان حرنان على الكل، مش راضي يسمع الكلام ومتعصب ولا حتى راضي يرجع لأوضته، وفضل كدا حبة حلوين لحد ما الكل زهق منه، بس أنا لأ، مقدرتش أزهق منه لأني بحبه وكنت بحبه أوي، جيت في يوم فتحت الأبواب كلها ومسكت المسدس وضربت طلقة زي ما دربته قبل كدا، قولت هشوف رد فعله إيه، ساعتها كنت بتمنى ميخيبش ظني، ودا حصل جري عليا أنا، وقف قصادي ونزل راسه كأنه بيقولي إنه آسف، فهمته علشان أنا صاحبه، بس مذليتهوش ولا جيت عليه زي ما هو فكر، أنا نزلت على رُكبي ودعكتله رجله لحد ما قعد هو كمان قصادي، وساعتها عرفت إني مربي خيل أصيل، مهما أتمرد مش هيكسرني.
تنهد بثقلٍ ثم رفع الشطيرة يُطعمه بها وقد لاحظ عبرات “مُـحي” المحبوسة بين الجفون وهتف بثباتٍ يواري خلفه حزنه:
_أنا مش بكرهك، ومقدرش أكرهك علشان أنا مش كافر ولا جاحد بالنعمة، عارف يا أبو كلام أهبل زيك كدا؟ أنت‌ ماجيتش غلطة زي ما فاكر ولا جيت غصب عننا، أمك ساعتها رضيت عني وقالتلي إني لازم أجيب ليا ونيس في الدنيا دي، هي كانت حاسة إنها مش هتكمل معايا وإن فيه حاجة هتفرقنا، بس أنا مشاعري غلبتني، وحصل وحملت تاني، فضلت خايف أوي لحد ما أتولدت وشيلتك بأيدي، ساعتها جيت زي النور كدا تشيل الضلمة من حواليا، قولت ربنا عوضني بيك أنتَ، بس ملحقتش أفرح وهي سابتني، حسيت ساعتها إني مش هقدر أعمل حاجة ولا هتقوملي قومة، بس وأنتَ صغير مسكت أيدي وشيلتك أسمع قلبك بودني، أصلي كنت خايف تسيبني وتروحلها، بس ساعتها أنا حسيتك بتحضني، وحبيتك أوي أوي، ولسه بحبك أكتر والله، مينفعش أكره السبب اللي خلاني عايش في الدنيا دي قبل ما أروح للحبايب كلهم، أنا مقدرتش أكرهك وأنتَ بعيد عني لما سيبتلي البيت ومشيت، وكل يوم كنت بستناك ترجعلي، علشان حضنك كان وحشني، أنا هكره روحي يا أهبل أنتَ؟.
نزلت عبرات “مُـحي” وأبتلع الطعام في فمه وحينها شعر بالإنكسار في قلبه ولم يشفى إلا حينما خطفه والده في عناقٍ مُفاجيءٍ جعله يتمسك بـه وهو بلهفةٍ:
_أنا مش شبهه يا بابا، مينفعش أكون شبه اللي كسرني طول عمري وشرد أخويا وأتسبب في قهر أمي وكسرتك، مينفعش أتشبه باللي خلاني لوحدي كل السنين اللي فاتت دي، ولو شبهه مش عاوز أفضل زيه، والله بحاول.
مسح أبوه فوق ظهره وكأنه يُهدهد صغيره، فهو يعلم في قرارة نفسه أن ابنه لم يُخطيء لذلك القدر، كما يعلم أن جرح الآخر من والده لازال حيًا يؤلمه، وقد أبتعد عنه ابنه ثم أمسك الشطيرة يُطعمه في فمه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_كُل بألف هنا وشفا يلا، قال شبهه قال، دا كان بومة وعينيه أعوذ بالله بطق شرار، مش زيك موكوس عينك رمادية وكلها حنية.
ضحك ابنه له وعانقه من جديد وكأنها فرصته الوحيدة في الخلاص من ألم روحه بينما والده ظل بقربه لفترة من الوقت يُطعمه كل ما أتى بيه ولم يريحه سوى رؤية الراحة في عيني صغيره ثم أنسحب من المكان يتوجه نحو الآخر الذي ظل جالسًا بمفرده وما إن رأى عمه أنتفض من مطرحهِ وقد هتف الآخر بثباتٍ:
_شوف يا “مُـنذر” أنا من أول مرة حسيتك مني، عينك شبه عيني وطبعك من طبعي لدرجة خليتني أفتكرك ابني، وفعلًا مكدبتش في ظني، أنتَ ابني برضه ومتقلش عن غلاوة عيالي، بس “مُـحي” مش زي شوقي، أصلًا مينفعش الاتنين يتشبهوا ببعض، التاني كان جاحد وقلبه أسود عايش علشان نفسه وبس، الحريم كانت زي الهدوم كل يوم مع واحدة حتى إنه كان بينساهم من كترهم، يمكن “مُـحي” ورث فكرة إنه يكون محور إهتمام وحب الظهور منه، بس مش حقود ولا غلاوي، وأنتَ برضه شبهي مش شبه التاني مش هجيبلك سيرته، لو عاوز تنسى اللي حصل حب أخواتك اللي هنا، علشان أنا كلها كام سنة وهسيبهالكم وأمشي، يبقى أخليكم في كتف بعض ولا ضد بعض؟ وعلى فكرة أنا عمري ما قبلت العداوة بين خيولي، فمابالك بعيالي بقى؟.
سأله بقوةٍ جعلته يدرك خطأه وما فعله وقد كاد أن يتحرك “نَـعيم” ويتركه لكن صوت “مُـنذر” أوقفه بلهفةٍ يستجديه:
_هو أنت‌ مش زعلان مني، صح؟.
كان يسأله بنبرةٍ مقتولة يتلمس منه الجواب حتى أبتسم له الآخر وأقترب منه يقف قبالته وأشار نحو موضع قلب “مُـنذر” وهو يقول بصدقٍ:
_لو أنا مش عارف إيـه اللي هنا كنت زعلت أوي منكم أنتوا الاتنين، بس أنا مشكلتي إني فاهم وعارف كل حاجة، وعارف قصدك كمان، يمكن أنتَ وصلته غلط بس أنا عارفه وفاهمه، تصبح على خير وعلى الله تمشي من غير إذني.
حذره قبل أن يتركه ويرحل من أمامه فيما جلس “مُـنذر” بحسدٍ مرتخي فوق المقعد لمدة دقائق تلاها ظهور “إسماعيل” يدعوه للنوم وحينها تحرك معه نحو الداخل بحساباتٍ أختلفت كُليًا عن السابق بعد حديث عمه معه، فلازال مُتخبطًا بعد تلك المواجهة الهينة رغم قوة أثرها.
__________________________________
<“لقد خسرت الأساطير كثيرًا ما لم تدون عنكِ”>
للمرءِ عيدان لا ثالث لهما..
وإنما القلوب المُتعبة هي من تصنع في كل يومٍ فرحت فيه عيدًا، اليوم المار بسلامٍ عيد، واللحظة التي ينتصر فيها على حروب نفسه عيد، كل ما يُسعد المرء ويُفرحه يعتبر عيدًا..
وقف “يـوسف” في الخارج بجوار “عـهد” وكأنه يعاند العالم بأكملهِ لكونه حظىٰ بها، أراد أن يخبر الجميع أنه أنتصر أخيرًا على الدنيا وأوجاعها ونعم بالسلام بتواجدها كان كفه يحتضن كفها بتملكٍ خشيةً من إنفلات كفها من كفه ومن ثم تفر هاربةً وقد أتى “أيـوب” وزوجته يقف بقربهما وحينها أنتبه له “يـوسف” وهتف يمازحه بقوله:
_الحركة اللي عملتها دي هتخليك بكرة الصبح عريس في الكوشة، مبروك ياض فكيت الحصار عنك.
رفع “أيـوب” حاجبيه بسخريةٍ وهو يردد خلفه باستهتارٍ:
_وهو أنا كنت مستنيك ترفع الحصار يعني، ما أنا لو عاوز أعمل اللي عاوزه أعمله، أنا بس مستني أجهز الشقة علشان تليق بيها، خليك في حالك بقى.
ضحك “يـوسف” رغمًا عنه وكذلك البقية فيما وهما يتمازحون مع بعضهم وقد أرتفع صوت ضحكاتهم غافلين عن الأعين المُنزعجة التي تراقبهم، حيث نظرات “عـاصم” التي لم تنتقل من عليهم بل رمقهما بأعين مُلتهبة وحادة حتى جاء شيطان الأنس يجاوره وهو يقول بسخريةٍ:
_شوفت بقى إن اللي عملناه كان صح؟ تخيل لو طول عمرهم في كتف بعض زي دلوقتي كدا؟ كنا هنشوف العز والهنا دا؟ كان زماننا مرميين في الشارع وضايعين، علشان ببساطة “عبدالقادر العطار” مكانش هيسيب ابن أخوه زي ما بيقول، كان هيقويه ويقف في ضهره لحد ما نبقى إحنا في الشارع، بص واقف صالب طوله إزاي بعدما كان حتى مش عارف يتلم على أعصابه من التوتر، إحنا لازم نفوق علشان “يـوسف” بدأ يفوق هو كمان وساعتها هتبقى خراب فوق دماغ الكل، وأنا معنديش استعداد أخسر.
رمقه “عـاصم” بإمعانٍ وهو يقوم بتدوير الحديث في رأسهِ من جديد ليدرك لتوه أن كل كلمة يتفوه بها الآخر حقيقة، فحقًا عاد “يـوسف” لشموخه من جديد وعلو رأسهِ وقوته ليبرهن للجميع من هو وأن ليس هناك ما يشبهه هو، وقد لمحهما “يـوسف” بطرف عينه فتجاهل وقوفهم حتى أتت “مادلين” تقف بقرب زوجها وهي تشير نحو فردٍ من الطبقة المخملية في تعارفٍ ودي..
بينما “قـمر” فحانت منها إلتفاتة نحو اليسار وقد وقعت عيناها على صورة والدها المُعلقة عند مدخل البهو الرُخامي وحينها ترقرق الدمع في عينيها وتحركت مشدوهة نحو الصورة ووقفت أمامها تتنفس بصوتٍ مسموعٍ وهي تحفظ أدق التفاصيل وأصغرها في ذاكرتها، وجدت نفسها تضحك وتبكي في آنٍ واحدٍ وكأنها تراه حقيقةً وقد جاورها “أيـوب” يمسك كتفيها بكفيهِ ثم وما إن طالعته أبتسم لها وهو يقول بصوتٍ رخيمٍ:
_أدعيله، أنتِ فرحتي النهاردة وكنتي فخورة بيه وبأخوكِ، وإنك بنت واحد وأخت التاني، يمكن زعلك إنك معملتيش زكريات معها دا خير ليكِ، علشان كان ممكن الذكريات دي توجعك أوي، والله العظيم أنتِ في نعمة، أحمدي ربنا إن أخوكِ موجود معاكِ ومكمل الطريق بعد فراقك عنه طول العمر دا، ولا هنيأس من رحمة ربنا بقى؟ أضحكي يا ستي، هو فيه “قـمر” بيزعل برضه؟.
ضحكت له من بين عبراتها المُنسابة وقد ضمها هو بأحد ذراعيه يُلثم جبينها، ثم مسح فوق كتفها بحنانٍ بالغٍ، هذا الذي لم يعرف القسوة ولم يُحبذ العنف، ولم يرضى بالتجاهل، دومًا يُغدق من حوله بالحب ويمدهم بالأمان.
أما “يـوسف” فذاك الغريب حقًا يستحق أن يسعد في حياته لذا أستأذن من الجميع ثم أخذ زوجته وتحرك بها نحو المسبح حيث المكان الفارغ المُضيء وقد وقف في المنتصف بها يهتف بنبرةٍ هادئة وقعت في أسر حضرتها:
_أنا فرحان إنك جيتي أوي، مش عارف بس يمكن كنت زي عيل تايه في المولد كدا ومش شايف أمه أو أي حد يعرفه وخايف يتوه أكتر ماهو تايه، بس لما جيتي وشوفتك دا أختلف خالص، بقيت واحد تاني أنا مستغربه، واحد سكت كل حاجة جوايا بس وقالي إنه بيحب “عـهد” وبس.
أبتسمت له بعينيها وهربت من أسر عينيه لعينيها بعيدًا عنه فوجدته يرفع رأسها من جديد لتواصل المُقل وقد أضاف مشدوهًا بفعل عينيها وهي تناظره:
_أنا آسف لو كنت خايف منك، وآسف لو كنت ضايقتك أو حتى أتسببت إنك تزعلي، اتأكدي إني لا يُمكن أزعلك وأنا قاصد، دايمًا هيكون غصب عني وأنا والله مش وحش ولا بقبل أأذي حد، بالعكس أنا دايمًا غرضي أبعد الأذى عن اللي بيحبوني كلهم، فأكيد مش هفرح بنفسي وأنا بظلمك..
سكت هُنيهة يلتقط أنفاسه ثم أضاف مُكملًا:
_أنا عمومًا بشكرك من تاني إنك جيتي ومسيبتينيش لدماغي، بالعكس أنتِ رحمتيني منها خصوصًا لما شوفتك بتصوريني بموبايلك وكأنك فخورة بيا، على ما أظن أنتِ علشان تتحارب بلاد مش بس يتخانلك العهد.
سحبت هي نفسًا عميقًا ثم ردت عليه بحديثٍ حماسي رغم خجلها من إطرائهِ عليها:
_أنا لو عندي شك واحد في الـ ١٠٠ فيك وفي حُبك ماكنتش هعمل علشانك أي حاجة، أنا مش أنانية ومش ملاك برضه، بس على الأقل مينفعش أرد على أفعالك بقلة أصل مني، عملت علشاني كتير ومطلبتش مني مقابل، يبقى واجبي أني أكون معاك، دا أنت حتى..
“My dazzling and strange man”
“رَجلي المُبهر والغريب”
تحدثت باللغة الإنجليزية وهي تهتف تلك الجملة وحينها ضمها هو بين ذراعيه ضاحكًا ليجدها تضحك هي الأخرى وعانقته بكلا ذراعيها وهي تُضيف بسعادةٍ تسللت من قلبه لقلبها:
_أنا مبسوطة أوي علشان أنتَ مبسوط، نفسي تفضل كدا علطول ولو أنا هقدر مش هبخل عليك خالص صدقني، المهم إني أشوف عيونك فرحانين..
تنهد هو بعمقٍ وأغمض عينيه وكأنه بذلك أسكت كل أصوات رأسه منعمًا بالدواء من سقم الأيام معها هي، فرحته بها تشبه فرحة “يعقوب” عليه السلام حينما عاد فلذة كبده، هي وفقط من وسط العالم من أحبها، وأختار حُبها وكره العالم إن كان يُحبها.
_______________________________
<“تعلم إتقان الصبر لكي تقاتل في وجه الحياة”>
آفة المرء الكُبرى دومًا هي التسرع..
فإن كان التسرع هو السلاح الصعب، فالصبر هو السلاح الأصعب، وقد كانت “مهرائيل” تجلس برفقة شقيقتها في مكانٍ عام بقرب الجامعة وهي تنتظر قدوم “بيشوي” الذي أتى لهما يحمل يده حقيبة ورقية بُنية اللون ثم جلس معهما لتهتف الأولى بإندفاعٍ:
_أنتَ تأخرت كدا ليه؟ معقول كل دا؟.
رمقها بتعجبٍ ولم يكترث بها ثم رفع الحقيبة يعطيها لها وهو يقول بسخريةٍ:
_أتعلمي تصبري، مبشوفش منك غير لسان طويل وياريته على حد، دا عليا أنا بس، أتعدلي يا “مهرائيل”
زفرت هي بقوةٍ تُخرج الضيق من جوفها فيما سأل هو عن سبب طلبهما لمجيئه إليهما وقد هتفت “مهرائيل” تفسر سبب طلبه بقولها المُضطرب:
_عامةً أنا بثق فيك، وعارفة إنك لا يمكن تقل بيا أو تتسبب في حاجة تزعلني، ودي حقيقة واضحة زي الشمس، بس أنا عاوزة منك خدمة، أنتَ قبل كدا قولتلي إن “مارينا” بتكلم واحد زميلها وأنتَ عارف و “يـوساب” كمان عارف وهو اللي قالك، بس هي عقلت وبطلت تكلمه خالص، بس من كام يوم رخم عليها وضايقها و “يـوساب” شافهم، ومن ساعتها هو مش بيكلمها وبيتعامل مع بجفاء، كل دا مقدور عليه بس الولد دا رجع تاني يكلم “مارينا” ويستفز فيها وعاوز يروح لبابا يقوله كل حاجة.
طالعها هو بتعجبٍ ثم حرك رأسه نحو الأخرىٰ فوجدها تنكس رأسها أرضًا وقد زفر هو بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ قوية:
_بصي يا “مارينا” أنتِ زي أختي وأنا بعزك من صغرنا وأنتِ عارفة وطول عمري شايفك حاجة كبيرة أوي في نظري، بس دا ميمنعش إني هسكت في الغلط، أنا راجل تربية بيت “العطار” وغير كدا صعيدي، يعني من الآخر مخي مقفول، خوفك من “جـابر” وتسلطه على حياتك خلاكِ دايمًا عاوزة تتمردي وتعملي عكس كلامه، ماشي معاكِ حق تثبتي نفسك ومتكونيش تابع، بس مش على حساب سمعتك واسمك، أنتِ كبنت مطلوب منك تحافظي على نفسك علشان متديش فرصة لعيل صغير زي دا يحط صباعك تحت ضرسه، المفروض إنك تكوني حاجة غالية أوي وبعيدة محدش يطولها غير لما نفسه يتقطع علشانك، إنما مش علشان طيش أو شوية ظروف في البيت تخليكِ تدوري على حاجة برة البيت، ساعتها اللي هتاخديه ضريبته هتكون قاسية، ودول كلمتين خليهم معاكِ طول عمرك، وأنا هتصرف متشغليش بالك.
تنهدت “مارينا” بقوةٍ وهتفت تُبريء نفسها بقولها الملهوف:
_صدقني أنا معملتش حاجة وحشة، هو قال إنه معجب بيا وبشخصيتي وطموحي، وحاجات كتير أوي كنت بفرح لما يقولها، لأن مش متعودة أسمع كلام حلو أو دعم، بس بعدها لقيته كدا مع الكل وأي بنت حلوة عنده تبقى نفس المواصفات بتاعة غيرها، أنا يمكن أتعلقت شوية بمشاعري معاه بس والله الموضوع كان هيبقى رسمي ويتقدم، وأنا مش هنكر إني وافقت أرتبط بيه علشان غرض مُعين بس أنا مش عاوزة أخسر صورتي الكويسة، علشان أنا مش وحشة ومش فاشلة والله، ولا بعمل حاجة غلط.
تفهم هو حديثها ومشاعرها كُليًا وطمئنها بحديثه حتى أنسحبت هي لتذهب إلى جامعتها وقد أنتظر إختفاء أثرها ثم حرك رأسه نحو خطيبته يهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_مش عاوزة نصيحتين أو أي حاجة أنتِ كمان؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تضم كلا ذراعيها معًا عند صدرها فهتف فدفع الحقيبة بخفةٍ نحوها وهو يشير برأسهِ إليها نحوها وقد فتحتها بعدما خرجت من طور التعجب لتجده أهداها مجموعة كتب كاملة لكُتابها المُفضلين حيث “محمود درويش” بكامل أعماله، ثم أعمال”نجيب محفوظ” ومعهما “فاروق جويدة”، أعطاها مجموعة من هوسها وقد أصدرت هي شهقة مُتفاجئة جعلته يبتسم لها ثم أضاف:
_قولنا نكسب الرضا منك علشان نضمن بس محبتك، عمومًا بكرة يكون عندك أضعافهم وأنا مش هبخل عليكِ بحاجة خالص.
كتمت ضحكتها رغمًا عنها فيما تسلل كفه نحو كفها يقبض عليه وكأنه يتأكد من صدق تواجدها أمامها بينما هي خجلت من فعلهِ وسحبت كفها من كفهِ وهي تقول بتلعثمٍ:
_شُـ… شكرًا ليك تعبت نفسك.
تفهم هو خجلها منه لذا زفر بقوةٍ ثم تشدق بنزقٍ:
_عفوًا يا “هـيري”.
علمت هي أنه يسخر منها فسكتت عن الحديث بينما هو زفر بقوةٍ فمن الأساس مزاجه حاد ولم يكن رائقًا وهي بطريقتها وخوفها دومًا تجعله كمن يحارب بمفرده فوق جبهة الحرب، وياليته حتى يملك السلاح، فحبه وحده لم يكفي ويلزمه حُبها لكي يقوى على الوقوف في الحرب لكنه أبدًا لن يستسلم.
_______________________________
<“نتمنى يمر اليوم خاليًا من كل شيءٍ إلا سلامنا”>
في بيت “عبدالقادر”..
كان يطمئن على ابنه بين الحين والآخر خاصةً أنه يقود على الطريق منذ بزوغ الفجر ولم يصل حتى الآن، وبالرغم من ذلك كان يحاول أن يُهديء نفسه حتى أتت “آيـات” تجاوره وهتفت بلهفةٍ تُعرب عن حيرتها:
_بابا هو أنا ليه حاسة إن طنط “نجلاء” مش طيقاني وبتعاملني بطريقة مش كويسة، والله ما عملت حاجة ليها، هي من ساعة ما وافقت أروح مع “تَـيام” هناك وهي واخدة جنب كأني عدوة ليها، وأنا والله مبحبش حد يزعل مني، تفتكر أنا غلطت؟.
كانت تحمل نفسها فوق طاقة تحملها وحينها حرك هو كفه يمسح فوق جديلة رأسها وهتف بمحبةٍ:
_محدش يقدر يلوم عليكِ ولا عليه، أنتِ كلها كام يوم وهتمشي من هنا وتسيبيني خلاص، بس أنا بقى مش عاوزك تزعلي نفسك علشان أي حد، علشان قرارك مش غلط، هي يمكن بس كانت حاطة أمل إنك تخليه يتراجع بس حرام لأن أبوه بقاله كتير محروم منه، وربنا شاء إنه يفرح بيه، وكتر خيره إنه لسه لحد دلوقتي موافق إنه بعيد عنه، يبقى لأ محدش فيكم غلطان خالص، لا أنتِ ولا هو، متزعليش نفسك يا روح بابا.
أبتسمت له بسعادةٍ فيما أحتضن وجهها بكلا كفيه ولثم جبينها ثم ضمها بقرب موضع نبضه بحنانٍ وهي تتنهد بعمقٍ حتى ولج لهما “تَـيام” صباحًا يمسك دفتر العمل ثم هتف بسخريةٍ تهكمية:
_شكلي جيت في وقت مش مناسب، صحيح أتفقنا نرحرح بس لأ مش كدا، أنا أولىٰ بصراحة يعني.
شهقت هي بصدمةٍ جعلت والدها يتسمك بها أكثر في عناقه ثم أضاف بلهجةٍ آمرة:
_أسبقني على الجنينة ومش عاوز صوت منك.
أقترب منه الآخر يسأله بأسلوبٍ تمثيلي:
_طب بوسة في قورتها طيب، أي حاجة أنا عيل غلبان والله بتشحتف على أي حاجة، أديني أي حاجة من اللي مكوش عليها دي، أنتَ بتحقق أحلامي خد بالك..
ضحكت هي بصوتٍ مرمري رنان جعله يمعن نظراته في عينيها بينما والدها هتف بنبرةٍ ضاحكة:
_عاوزني أديك؟ هديك فوق دماغك، يلا ياض.
لوح له “تَـيام” بحنقٍ وتوجه نحو الحديقة وهو يُغمعم بحنقٍ وضُجرٍ جعله يضحك عليه ثم هاتفها بنبرةٍ ضاحكة:
_روحي أعملي لينا اتنين عصير وهاتيله سندوتشات وتعالي أفطري معانا خلي نفسه تتفتح ويعرف يركز في الشغل، ولو إنه واد قليل الأدب، بس ماشي.
تحركت هي من أمامه بخجلٍ وسعادةٍ في آنٍ واحدٍ بينما هو توجه له كي يُباشر العمل وأوراقه معه، خاصةً في غياب “أيـوب” وإنشغال “أيـهم”.
_______________________________
<“سرقوا الصغير في أيام صباه”>
بعض البشر تتجلى عن قلوبهم الرحمة حتى تصبح أقرب للحجر الصوان في قسوته، وهؤلاء الفئة الطيبة وسط البشر وبكل آسفٍ رزقوا بقلوبٍ تهوى بهم إلى سابع قاعٍ وسط قومٍ قلوبهم أشد من الحجر في قسوته..
في مشفى الأمراض العقلية..
وصل “مُـنذر” صباحًا إلى هناك بعدما أمر عمه بفك الحصار عنه بعدما أمره بالعودة إليه من جديد، وقد وافقه “مُـنذر” لكنه خشى أن يتغيب عن عملهِ وقد ذهب إلى هناك ومر بجوار الشُرفة المُطلة على مكتب “فُـلة” ليصله حديثها المنفعل من الداخل وقد عبر الدرجات الصغيرة ووقف على أعتاب الباب الزجاجي يراها بعينيهِ حينما أندفعت ووقفت تضرب سطح المكتب بقولها:
_أنا فعلًا غلطت لما وافقت إني أقابلك يا “هـاني”، بس قولت معلش يا بت ابن عمك وطالب المقابلة بالذوق يبقى خلاص مفيش مشاكل، إنما توصل إنك تهددني وسط الكلام بطريقتك الغير مباشرة دي وبتتلون في الكلام، تبقى إنسان قليل الأدب وأتفضل أخرج برة.
أشارت بطول ذراعها نحو الخارج فيما وقف هو يرفع صوتهِ بنبرةٍ عالية هو الآخر وقد شعر بالغضب كون أن فتاة متمردة مثل هذه توبخه وتطرده من ملكه:
_أنتِ أتجننتي؟ بتطرديني من ملكي؟ ماهو لو أخوكِ وافق يكلمني زي البني أدمين المحترمين ماكنتش جيت كلمت عيلة هايفة زيك، بس أنا مش هسكت وهاخد حقي منكم وهوصلها للمحاكم وهنقف قدام القاضي، وساعتها محدش فيكم هيقدر يتكلم.
رفعت حاجبيها ورسمت السخرية فوق ملامحها وتشدقت بتهكمٍ تستخف به وبحديثه:
_والله؟ وهتروح تقول للقاضي إيه بقى؟ عاوز المستشفى من ولاد عمي بعد ما أبويا عديم الرحمة كان بيتاجر فيها بالأعضاء البشرية بحجة إن الناس فاقدين قواهم العقلية؟ مش كدا أوفر دوز بجاحة يعني؟.
أشعلت نيرانه بحديثها وصدمته فوق سكون وجهه، ولم يكن هو المتلقي بمفرده بل أيضًا “مُـنذر” الذي رفرف بأهدابهِ حيث ظل تائهًا عن طُرق الاستيعاب، ولم يفق سوى على صوت صرختها حينما حاول الآخر أن يتهجم عليها وأمسك بخصلاتها، وقتها تدخل هو مثل الإعصار ثم باعد بينهما وقد هتف الآخر بصوتٍ عالٍ يُكمل تهديداته لها:
_أنا هأدبك وأعلمك إزاي تتكلمي معايا بعد كدا.
أنكمشت للخلف خشيةً من همجيته البربرية وقد ألتفت له “مُـنذر” يتشدق بنزقٍ نتيجةً لغضبه من تحدثه معها بتلك الطريقة:
_طب يا حيلتها قول كلام غير دا.
أنهى حديثه ثم رفع كفه يُلكمه في وجهه في منطقة الأنف حتى سقط الآخر فوق المقعد يتأوه بعنفٍ وألمٍ بينما هي فوقفت بجوار “مُـنذر” وكأنها تحتمي فيه بصورةٍ غير مُباشرةٍ جعلته يركز ببصره معها هي وحدها وخاصةً الخوف البائن في عينيها هو يعلمه جيدًا.
_______________________________
<“كانوا أطفالًا لما أصبحوا دروعًا بشرية؟”>
لا تأمن مكر العدو وإن هدأ، ولا تألف صُحبة الخائن وإن صادق، لا تعتاد الصمت في حقك، ولا تقبل الرضوخ أمام مكانتك..
بعد مرور بعض الوقت بعد صلاة الظُهر..
خرج “أيـهم” من عمله يتوجه نحو المركز التعليمي لكي يأت بابنه من الدرس التعليمي وبعد وقد خرج من سيارته ينتظره أمام مدخل المكان وما إن مل من كثرة الإنتظار أخرج هاتفه يحادث زوجته حانقًا بقوله:
_تصدقي إنك هتتروقي مني، علشان لو كنتي جبتيه من الدرس هنفخكم أنتوا الجوز يا حلوة منك ليه، أنا واقف في الهوا مستنيه كل دا.
تعجبت مما يقول فهتفت بحيرةٍ واستنكارٍ:
_جيبته؟ هو لسه كل دا ماروحش؟ كلمني من بدري وقالي الميس هتراجع بس مش هتتأخر، وبعدها كلمني قالي إنه خلص بدري وروح، اسألهم في البيت كدا.
وافقها على الفور ثم ولج سيارته مُجددًا وهو يتنهد بعمقٍ وفتح هاتفه يتحدث مع البيت وحينها وجد رسالة صوتية من رقمٍ مجهولٍ وقد قام بفتحها وحينها توسعت عيناه على الفور وهو يرى صغيره مُكبل الأيدي ومعصوب العينين بقماشةٍ سوداء وكل الدلائل تبرهن على إختطاف لا شك في حتمية ذلك، حينها هوى فؤاده أرضًا وتندى جبينه وكأن هناك تُخمة أصابته أو حالة شللٍ وقد أتته مكالمة هاتفية جاوبها على الفور ليصلها قول الخاطف بلهجةٍ آمرة:
_أظن إنك شوفت ابنك أهو، أهدا وأعقل ولو فكرت تقل بعقلك هبعتلك ابنك حتت بالجملة والقطاعي، يا رب تكون بتسمع الكلام علشان متخسرش الحيلة، تمام يا أبـو “إيـاد”؟.
في الحقيقة هو حاليًا خارج نطاق المعقول والوعي، حيث يظن نفسه داخل كابوسٍ مروعٍ وبإذن المولى لن يُصبح غير ذلك، فهو مهما سافر وعاد وذهب خلف طرقات عقله لن يُصدق أن هناك فئة من البشر تستخدم الصغار كدروع بشرية لتحقيق مصالحها، لكن يبدو أننا وسط حقبة زمنية حوت مجموعة خسيسة من البشر، والكارثة في صمتٍ ليس بريئًا، وإنما هو أكثر جنايةً من جُرم العدو وتعدياته الغير مُبررة.
______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى