رواية غوثهم الفصل المائة والسادس والخمسون 156 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والسادس والخمسون
رواية غوثهم البارت المائة والسادس والخمسون
رواية غوثهم الحلقة المائة والسادسة والخمسون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد السبعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
سبحان من لا يُثيب الخير إلا هو..
يعلو له الكونُ دنياهُ و عقباهُ..
الشمسُ و البدرُ من أنوار حكمتهِ
والبرُ و البحرُ فيضٌ من عطاياهُ
الطيرُ سبحهُ، والزرعُ قَدسهُ،
والموجُ كَبرهُ، والحوتُ ناجاهُ
والنملُ تحت الصخور الصُم مَجدهُ
والنحلُ يهتف حمدًا في خلاياهُ ..
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
وما الذنب إن لم أكن موجودًا بغير مكاني؟
ولمن الذنب إن كانت الطُرق تُغربني عن عنواني؟
فأنا هُنا بين نفسي القديمة عالقًا وبين آخرٍ لم يُناسب زماني، وكأن كل المواطن غُربة، وكل الطُرقات ضياع، وأنا هُنا أقف حائرًا وليس لي في الفرح باعٍ، أنا هُنا ولم يخترني أحدٌ لكوني أنا، وإنما كنتُ آخر الحلول المُسلَّمة وكأن فقط الخيار لمجرد كوني هُنا، فكل الحروب كانت بيني وبين نفسي، ولم أجد من وسط الوحدة أُنسي، ولم أجد يومًا من يقف في صفي، حتى أنا أمام نفسي لم أنصفني، فمن أنا، وأين أنا إن كُنتُ من الغُربةِ لم أجدني، ومن بين العالم لم أعرفني، فرُبما العالم كان قاسيًا، لكني قسوت على نفسي أكثر وتقهقرت نادمًا، فأخبروا العالم أن يرحم فردًا حربه بينه وبين ذاته، وكل الورىٰ غافلين عن معاناته..
<“كل شيءٍ يكون مخبوءًا إلا من العيون”>
كل الأسرار تنكشف ذات يومٍ..
فلا يغدو شيئًا في سريرة المرء، وإنما تسطع شمسه من خلف الغمام وتُعلن عن كل شيءٍ كان مكتومًا أسفل ركامٍ من الضلال ومن ثم تظهر حقيقته فيزول باطله، وفي قوانين الحياة ما بُني على الباطل فهو باطل، وما خُفي خلف الحق فهو حقٌ…
ولأن الحقوق لا تُخفى كثيرًا، ولأن الجبان يفعل فعلته سرًا في الظلام، ينشقع له نورٌ يفضح أمره مهما اختبأ ووارى نفسه خلف أسوارٍ منيعة؛ ستهدم فوق رأسه بأقرب فرصةٍ عن طريق جُملةٍ واحدة فقط:
_دا ابن عمي.
كانت منها شبه ميتة، ناهية، ضائعة، عيناها زاغت في فراغٍ أمامه وهي ترفع رأسها تدريجيًا عن الورقةِ ليأتيها رده الغير متوقع حين قال بتهكمٍ:
_طب قولي كلام غير دا.
طريقته كانت أشبه بسخريةٍ أكيدة كأنه يعلم ويخفي الأمر عنها وهذا ما نطقته ملامحه على عكس عينيه، فنظراته تابعتها حتى قامت هي بإقصاء عينيها بعيدًا عنه كي تواري خجلها وخزيها منه، فتنهد هو مُطولًا ثم تحرك نحوها ومال عليها يسألها بحنوٍ وهدوءٍ:
_مالك؟ على فكرة أنا ماكنتش أعرف والله، وجاي أطلب منك مساعدة علشان محتاج الورق دا بس معرفش خالص إنه الحيوان دا ابن عمك، أنتِ زعلانة ليه طيب؟.
الآن هو يهتم ويسأل ويستفسر عنها وعن سبب حُزنها، كان هادئًا ومُهتمًا لتلك الدرجة التي جعلتها تتتابعه بعينين طرق الدمع أبوابهما فزاد اهتمامه بعينيه وحينها سألها باهتمامٍ أكبر:
_طب أنتِ مالك بتعيطي ليه؟ قوليلي.
تواصلت المُقل ببعضها معه حيث بكائها مع حيرته لتأتيه بجوابٍ مختنقٍ كان البكاء داعمه الأول كي يُحاصره:
_علشان مكسوفة وحاسة إنهم مش سايبيلني فرصة واحدة بس أرفع فيها راسي من صغري، سواء هو أو أبوه اللي كان بيتعدى على طفولتي وجسمي، وابنه بيكمل من بعده بشكل ألعن، مش راحم البنات الأيتام حتى؟ منه لله هو وأبوه.
فهم سبب حزنها وسبب خزيها منه وأن ما تُعانيه هي يصعب تفسيره بالكلامِ، فهم أن الأمر لديها أكبر من أن تُخفيه بداخلها وتكتمه بسريرتها، كانت عيناها تسرد عليه قصة ألمٍ مخبوءٍ في قلبها ولم تُفصح عنها، فقرر هو أن يمسح على قلبه بمزحةٍ أقرب لكوميديا سوداء لعلها تفلح في التهوين عليها:
_مكسوفة من إيه؟ أنتِ مخطوبة لمدرس جغرافيا يعني؟.
ابتسمت هي من بين عَبراتها المُنسابة وملامحها المقتضبة، ابتسمت وكأن البسمة تُعاند كي تظهر وتُفصح عن نفسها في كبدٍ وعناءٍ فوجدته يعتدل ويستقم بوقفته؛ تنهدت هي ثم التقطت الورقة وقامت بوضع الخِتم عليها ثم مدت يدها له وهي تقول بصرامةٍ عادت لها من جديد:
_لو في إيدك حاجة تعملها تلحقهم بيها، ياريت تلحق تنفذها بسرعة قبل ما البنات دي مستقبلها يضيع، كفاية طفولتهم وأحلامهم وحياتهم ضاعت على الفاضي من غير أهل يقدروا يساعدوهم ويساندوهم.
أومأ لها موافقًا ثم التقط الورقة وجاوبها بنزقٍ وهو يستعد للتحرك من موضعه:
_عندي كتير متقلقيش، بس دي أهم خطوة.
كانت كلماته مُتزامنةً مع إشارته على الورقة بين يديه، بينما هي أول ما بدر لذهنها كان ماضيه، فسألته بقلقٍ جعل صوتها مُضطربًا وكأنها تخشى السؤال الموجه له منها هي:
_هو أنتَ ممكن تقتله؟.
تفوهت وانتهى الأمر منها، بينما هو تعرقلت خطواته فالتفت لها يسألها بعينيه الحادتين وكأنها ساهمت في انتزاع رداء التعقل عنه ليصبح أمامها بتلك الهيئة التي وإن أراد أن يسفك لها دمًا، بالتأكيد سيكون دمها هي، لمح خوفها منه وارتعادها بمقعدها؛ فـزفر بقوةٍ وسألها بحدةٍ رغمًا عنه:
_وهو أنا همشي آقتل وخلاص؟ على فكرة أنا بطلت من بدري بقيت بدور على حلول تانية أسلم شوية، رغم إن البشر كلهم يستاهلوا الحرق بجاز كمان مش القتل بس، بس أن عاذرك أكيد خايفة عليه مني، ودا حقك.
أولاها ظهرها من جديد كعادة كل لقاءٍ بينهما لم تُكتب لها خاتمة تليق بمُحبيْن مثلهما؛ فهبت هي منتفضة من موضعها وضربت سطح مكتبها بحركةٍ عنيفة غير محسوبة كتعبيرٍ عن غضبٍ مستعر بها وعن نيرانٍ موقدة بداخلها:
_يولع هو وعيلته كلها فوق بعض، أنا لو خايفة على حد يبقى خايفة عليك أنتَ علشان مالهمش أمان، اللي من دمهم مسلمش من شرهم، يبقى أنتَ بقى إزاي هتسلم؟ أنتَ مش مستوعب لسه إن حياتك بقى فيها حد بيخاف عليك وعلى وجودك، وأنا مبتهزمش ومبرجعش لورا، أنا بنجح وبكسب وبس، وعلاقتي بيك هكسبها غصب عنك.
تلك المرة عاد قلبه الميت من جديد ينبض للحياة كأنها بكلماتها تلك ساهمت في إحياءه، تلك المرة وجد البسمة تساور شفتيه وعيناه تتسع كأنه يسمح للنور أن يدخل محل الظلام، وقد حانت منه التفاتة برأسه لها، فوجد التمرد باديًا عليها كأنها تتأهب لعراكِ معه..
ما هذا بحق الخالق؟ ألم تكن تلك التي كانت ضعيفة وتبكِ لتوها فوق المقعد كما الهِرة التائهة بليالٍ مُمطرة؟ الآن عاد تمردها كي تتسلح به؟ عاد برأسه للأمام فوجدها تقاطعه بثباتٍ:
_أنا هاجي معاك على فكرة.
التفت لها من جديد ثم قطع المسافة الفاصلة بينهما باندفاعٍ أعمى مثل الإعصار حتى سقطت فوق المقعد فوجدته يميل عليها ويهتف بنبرةٍ جامدة توقف سيل أمانيها فيه:
_أنا مش عاوز هبل، تيجي فين هو أنا رايح فُسحة؟ دي دار فيها ناس مشبوهة وقتالين قُتلى كمان، خليكِ بعيد لو سمحتِ، زي ما أنتَ خايفة عليا، والله العظيم أنا خايف عليكِ، أبوس إيدك أفهميني، أنا معنديش استعداد أدفع تمن عمايلي فيكِ أنتِ.
قربه مُهلك رغم ابتعاده، نظراته حانية رغم قسوة عينيه، خوفه بائن رغم صرامته وقوته، وحُبه واضحٌ رغم إخفائه، كل ذلك أسكتها حتى ظنت أنها فقدت الكلام وتلاشت الأحاديث، بينما هو همس باسمها لمرته الأولى بتلك الطريقة:
_”فُـلة”..!!
رفعت عينيها له بعدما هربت منه فوجدته يهتف بحنوٍ قلما أوضحه في طباعه الباردة:
_بلاش تدخلي نفسك في حاجة تخليني أخسرك.
وفقط، كانت كلماته مسك الختام للقاءٍ أتى بغير ميعادٍ وفاق كل موعدٍ سبقَ ورُتِبَ له، رحل من المكان بصمتٍ وتركها خلفه تتنفس بصعوبةٍ بعدما أثر عليها بقدومه ومجيئه، وبنفس المنوال كان أثر رحيله، وبين مجيءٍ غير محسوبٍ وبين رحيلْ غير مرغوبٍ سقطت هي في بحر حُبه للمرةِ التي فشلت في عدها وإحصاء مراتها..
والحُب له كان أقومًا من بغضٍ لا ترغبه هي
ولا يستحقه هو…
__________________________________
<“كانوا أقرب لنا من أنفسنا، وتلذذوا بتعبنا”>
الأقرب؛ أصعب…
تلك العبارة المكونة فقط من كلمتين، قد تُناسب الكل والجزء، فالأقرب دومًا أصعب في كل شيءٍ، وبالأخص حينما تأتينا الصفعات ممن هُم أكثر قُربًا منا، حيث اللا متوقع منهم ولا من غيرهم، فنحن لم يٕحزننا الأذى في المُطلق، وإنما يُحزننا الأذى من مُقربٍ…
مر النهار بسرعةٍ حتى وصل لمنتصفه، وهي منذ أيامٍ على نفس الحالة، بالتحديد منذ أن عادت من بيت أبيها، وقد تأثرت حالتها في العمل بمزاجها العكر، حيث تصادمت مع واحدةٍ من زُميلاتها بالعمل واتهمتها بخراب بيتٍ كان عامرًا كي تسرق الابن والزوج لها، وبالطبع تأثرت في نفسها وودت أن تترك العالم بأسرهِ وترحل منه، أرادت أن تترك الجميع بمن فيهم “أيـهم” و “إيـاد” لطالما العالم مُصاب بمرض التدخل في شئون الآخرين وإصدار الأحكام عليهم..
مجتمع مريض بفرض الظنون المُشينة، ولأنها أمرأة مُطلقة سبق لها الزواج ذات مرةٍ وفشلت في إحياء بيتٍ، ولأنها تُعاني من مشاكل بالإنجاب كغيرها من النساء، يتم وضعها بداخل الإطار الذي يحمل الصور المُشينة، تمامًا مثل صور المُجرمين بداخل أقسام الشرطة، لكن الفارق أنها مُصورة وسط المجتمع بذاته، ورغم كل ذلك، حديث شقيقتها هو ما يُلهب النيران في صدرها.
كانت شاردة حتى صدح صوت هاتفها برقم أمها فسحبت الهاتف تجاوب عليها بصوتٍ مختنقٍ نتيجة البكاء الذي خيم واستوطن بحلقها، ومع حديث أمها بلسؤال ذاته عن سبب رحيلها وحزنها كان جوابها مندفعًا:
_لو عاوزة تعرفي السبب فالبركة في الحلوة الكبيرة، اللي عمرها ما حست بيا ولا بحد غير نفسها، أنانية وطماعة وعاوزة الناس كلها تحت أمرها ومحدش يكون أحسن منها ولا حياته مرتاحة غيرها، بنتك اللي بتعايرني إني مش بخلف وبتفضل تخبي عيالها مني، بنتك اللي مستحملتش تشوفني راضية ومبسوطة بعوض ربنا وسممت بدني بكلام يسحب الروح، مشيت علشان مش عاوزاها تضايقني بكلامها، آخرتها بنتك شيفاني مجرد خدامة؟ بدل ما تفرح إني أخيرًا فرحانة في حياتي؟ اسمعي يا ماما، طول ما “نِـهاد” بتيجي البيت عندك أنا مش هاجي، وقفلوا على السيرة دي علشان متعصبش عليكم كلكم.
ازداد انفعالها بآخر حديثها تزامنًا مع وصوله البيت وإغلاقة لباب شقته وقد التفتت له “نِـهال” ثم عادت تهاتف أمها بنبرةٍ أهدأ كي لا ينتبه لها:
_طب سلام يا ماما علشان “أيـهم” وصل، هكلمك تاني.
أغلقت الهاتف سريعًا ثم وقفت أمامه وهي تحاول أن تبدو هادئة وطبيعية لكن نظراتها فعلت العكس ونبرتها أيضًا حينما سألته باندفاعٍ غير مقصودٍ منها له:
_هتاكل أسخنلك الغدا؟.
رفع كفيه في وضع الاستسلام بمحاذاة رأسه وهتف بطريقةٍ جدية وارى خلفها المزاح:
_براحتك، عاوزة تسخني مش هقولك لأ، مش عاوزة برضه براحتك ومش هقولك لأ برضه، اللي يريحك أعمليه بس أضحكي شوية في وشي الله يكرمك مش ناقصة وقفة حال هي.
ابتسمت رغمًا عنها ثم اقتربت منه ومسحت وجهها بكلا كفيها وهي تقول بنبرةٍ أهدأ بكثيرٍ عن السابق:
_أنا كويسة شوية بس كنت منفعلة علشان فيه حاجة مضيقاني، بس والله بقيت تمام متقلقش يعني، كفاية إني شوفتك قدامي.
ابتسم هو لها ثم سحب مقعد طاولة السُفرة وأجلسها عليه وجلس هو مقابلها ثم سألها بثباتٍ وقوةٍ كأنه يعلم أنه سيخرج الحديث المرغوب منها:
_ومين بقى سبب إنك تضايقي؟ على ما أظن يعني أنا وأنتِ متفاهمين في كل حاجة بينا، حتى موضوع الخِلفة سايبينه براحته خالص أهو، وعلى ما أظن كان حد قالي قبل كدا إن الحياة بينا مشاركة ومينفعش يكون بيقفل علينا باب واحد وحد فينا يخبي على التاني حاجة، وأنتِ من ساعة ما رجعنا متغيرة معايا، حصل إيه؟.
أشار لها بحديثها السابق واستخدم كلماتها كحجةٍ قوية عليها جعلتها ترضخ له في النهاية ثم قامت بإقصاء خصلاتها بعيدًا عن وجهها وهي تقول له بنبرةٍ متخبطة بين القوة الواهنة والضعف الأكيد:
_محصلش حاجة جديدة، بس نفس الحاجة اللي بتتعب الناس وهي التدخل من الباقيين، نفس الحكاية العبيطة بتاعة إن اللي زيي خرابة بيوت وخبيثة دخلت علشان آخد الواد وأبوه، ونفس موضوع إني هنا مش أكتر من واحدة بتراعي عيل صغير بس، وزي ما جيت أنا بكرة هتيجي غيري وتاخد مكاني، بس المرة دي الكلام جاي من قريب مش من بعيد.
ضيق جفونه عليها فتنهدت هي بقوةٍ ثم تابعت بصوتٍ حزينٍ:
_الكلام المرة دي كان من حد عزيز عليا، علشان كدا وجعني وأنا لما أتوجعت حسيت إن الدنيا قفلت في وشي كلها، بحاول أتغلب على كذا حاجة مع بعض بس بحاول والله إني برضه متأثرش وأخلي حد يزعلني وماشوفش كرم ربنا عليا ووصلت لفين.
قرب مقعدها له أكثر ثم وضع كفيه فوق كتفيها برخوٍ وقال بهدوءٍ وتفهمٍ لحالها المُضطرب كونها مُشتتة بين كلا الأمرين:
_حد هنا في الشقة دي خلاكِ تحسي بكدا؟ عمرك كنتِ مجرد سد خانة وخلاص؟ أظن أنا محسستكيش بكدا، ولا “إيـاد” نفسه خلاكِ تحسي بحاجة زي دي، بالعكس أنتِ من أول يوم ليكِ هنا وأنا قولتلك بصراحة إن أي حاجة قبلك مكانش ليها لازمة وإن اللي قبلك مكانش حُب، حتى دورك هنا كأم لابنك اللي قبلك مقامتش بيه أصلًا، فلو فيه حد محقوقلك هيبقى أنا وابني علشان من ساعة ما جيتي هنا وكل حاجة بايظة أتصلحت بوجودك أنتِ، جيتي وصلحتي اللي كان خربان مش نافعله تصليح أصلًا، يبقى ليه بقى نزعل؟.
ابتسمت هي بوجهٍ مُشرقٍ ثم اقتربت بصمتٍ منه ووضعت رأسها فوق كتفه فوجدته هو يرفع كفه ثم وضعه فوق خصلاتها الناعمة وظل يمسح فوقها صعودًا وهبوطًا ثم ابتسم برزانةٍ وشاكسها بقوله:
_تعرفي؟ أول جوازنا لما اتأكدت إني حبيتك أنتِ كأني أول مرة أحب أنا كنت متضايق على العمر اللي ضاع من غيرك، وروحت سألت “أيـوب” ليه مشوفتكيش أنتِ الأول مش هي؟ وليه كان نصيبي قبلك كله وجع كدا، ساعتها هو قالي إن يمكن لو أنتِ كنتِ جيتي الأول أكيد كانت الحكاية كُليًا هتختلف نهائي، بمعنى إن يمكن مكناش اتفقنا مع بعض، ويمكن موضوع الخلفة دا كان أثر عليا لأني أكيد وقتها كنت صغير وماكنتش ناضج كدا، بس الحكاية اتكتبت صح كدا، علشان تكوني أنتِ أحسن أم في الدنيا كلها، وابنك يجرب إحساس أم حنينة عليه بتقف في وش الدنيا كلها علشانه، هي كدا الحكاية صح ودا تمامها، متزعليش نفسك بكلام حد ولا يهمك نظرة حد، كفاية نظرتي أنا و “إيـاد” ليكِ، طب تعرفي إنه في الفجر حط فلوس في الجامع علشان تفضلي فرحانة؟ بقى حد يكون معاه رزق زي دا ويسمع كلام الناس؟.
حديثه جعل التُخمة تهجم عليها كأنها تناولت وجبة دسمة وكان أثرها بخمولٍ في الجسد وخفةٍ بالروح، حتى أن عينيها وهي تُلاقي عينيه كانت نظرتهما ناعمة وبطيئة ثم سألته باستنكارٍ امتزج بفرحةٍ:
_مطلع فلوس علشاني أنا !! هو قالك كدا طيب؟.
أومأ موافقًا لها بعينيه المُبتسمتين فوجدها تضحك باكيةً، تباينت مشاعرها مع بعضها ما بين الذهول والفرح وأول ما بدر لذهنها من فعلٍ كان الإرتماء بين ذراعيه باكيةً وهي تُكرر من بين نشيجها:
_ربنا يباركلي فيكم أنتَ وهو، أنا ماليش غيركم.
وهو أيضًا لا يملك غيرها، فهي تقبله بكل العيوب قبل المميزات، وهو يرتكن إليها من زحام العالم، هي تحديدًا كما الركن الهاديء بعيدًا عن صخب المدينة المُزعجة، وهو لها كما الفلك تدور في مداره هو فقط، علاقة فريدة من نوعها، كانت أولًا وأخيرًا الأمر الصحيح من بعد الخطأ، والاستقرار من بعد الشتات…
__________________________________
<“ولأن العائلة هي الأهم، خُذ منهم جيشًا لحربك”>
في حروب المرء مع ذاته قد لا يحتاج إلا جيشًا..
وهذا الجيش لن يأتِ من فراغٍ وإنما من شيءٍ أكيد؛ يُسمى العائلة، ولأن العائلة هي الأهم يتوجب على المرء أن يأخذ منها جيشًا منيعًا ضد نفسه وآلامه…
أنهت جلستها مع “فُـلة” تزامنًا مع نهاية النهار، وقد أتت لها الأخرى خصيصًا كي تقوم بعمل جلسةٍ معها تتابع بها تطور الحالة في النهايات الأخيرة قبل الانتقال للطور الآخر من العلاج، حيث استمرت معها بنفس منوال العلاج ونفس الطريقة التخيلية الاسترجاعية وكأنها تقوم بعمل برمجة كاملة للعقل من جديد، والأخرى لأجل حياة أفضل ستفعل أي شيءٍ وأولًا وأخيرًا “يـوسف” هو من يستحق المُجازفة لأجلهِ..
خرجت من العيادة النفسية ثم توجهت نحو بيت أمها أولًا كما أخبرته بنيةٍ مصطنعة وفي داخلها تود فعل شيءٍ غير ذلك وأيضًا لأجله هو، ولجت بيت أمها فوجدت “وعـد” ترتمي عليها وتعانقها وهي تقول بشوقٍ جارف:
_وحشتيني أوي يا “عـهد” تعالي عيشي معانا تاني.
ابتسمت هي بحبٍ ثم ضمتها لها بقوةٍ وهي تمازحها بقولها:
_أومال لو بعيد عنك بقى؟ دا الشارع في ضهر الشارع أهو، بس حاضر هقول لـ “يـوسف” وأرجع أعيش معاكِ هنا، ونخليه لوحده بقى علشان خلاص كدا قعدت معاه كتير، أسبوعين حلوين أوي عليه.
ضحكت شقيقتها وهي تبتعد عنها ثم ضمت خصرها من الأسفل بينما “عـهد” وضعت ما تمسكه من حلويات شرقية فوق طاولة السُفرة ثم ولجت لأمها المطبخ فضمتها الأخرىٰ بحبٍ وهي تطمئن عليها وعلى ملامحها المُضيئة وقد ضربتها بكتفها وهي تقول بخباثة أمٍ:
_بس أحلويتي ووشك منور، شكله واخد باله منك.
ابتسمت لها بخجلٍ وهي تقول بنبرةٍ ها ضحكة مكتومة:
_بس يا “مَـي” بقى، بعدين عادي أنا طول عمري حلوة.
ضحكت أمها ثم ضمتها من جديد وهي تُلثم رأسها ثم دعت لها بدوام السعادة والبركة والخير الوفير في بيتها، وقد استقرت “عـهد” بين ذراعيها لدقائق بسيطة ثم رفعت رأسها وهي تقول بلهفةٍ:
_هروح أسلم على حماتي وأتطمن عليها لحد ما الغدا يخلص، وأعملوا حسابكم هنسهر فوق كلنا، أنا السطح وحشني أوي وعاوزة أقعد فيه.
أنهت حديثها وفرت بسرعة إنطلاقة السهم وذهبت لشقة “غَالية” التي ما إن فتحت لها الباب ابتسمت بسعادةٍ ثم ضمتها لها تمسح فوق ظهرها وتخبرها عن مدى سعادتها برؤيتها ثم سألتها عن ابنها؛ فقالت الأخرى بنبرةٍ ضاحكة:
_هييجي على هنا ونقضي اليوم مع بعض كلنا، متقلقيش راجعلك مبسوط وفرحان ومزقطط كمان، ابنك كان في أيد أمينة يا “غالية” وأبقي اسأليه لما يرجع كمان.
لثمت جبينها بامتنانٍ لها لما تفعله مع ابنها ثم تحدثت بأملٍ تتمناه بكل ما فيها من طاقةٍ مُحبة للحياة:
_عقبال ما أفرح بولادكم يا رب وأشوفكم كلكم مبسوطين، ربنا يكفيكم شر غدر الدنيا وقلبة ناسها عليكم، خلوا بالكم من نفسكم وربنا يقويكم عليها، ربنا يجعل نصيبكم في اللي جاي أحسن من اللي راح.
أغرورقت عيناها لوهلةٍ وكادت أن تبكِ لكن “عـهد” ضمتها بقوةٍ تمسح بفعلها فوق قلبها والأخرى ضمتها بحبٍ ثم ابتعدت عنها وهي تقول بمزاحٍ كي تبدل الحزن الذي خيم عليها ما إن تذكرت ماضيها المؤلم:
_بقولك إيه كفاية نكد بقى وروحي أقعد مع مامتك يلا علشان لما ابني ييجي هيقعد معايا خليني أشبع منه، يلا يا عسولة من هنا أمشي على بيتكم يلا.
ضحكت “عـهد” وعادت لشقة والدتها تُجالس صغيرتها “وعـد” التي استقرت بين ذراعيها أولًا ثم طلبت منها أن تصنع لها الجديلة المُفضلة لديها وقد فعلتها “عـهد” لها وهي تُغرد بصوتها الرنان المرمري وهي تتذكر حديث “يـوسف” عن شقيقته حينما كان يفعلها في صغره لقمره:
_كان فيه فراشة صغنططة..
مفرفشة ومزقططة،
لابسة بلوزة منقطة
على جونيلا مخططة،
لابسة بلوزة منقطة
على جونيلا مخططة، منقطة ومخططة..
أكملت صنع الجديلة حتى منتصفها ثم تابعت الغناء:
_وسط الجنينة لمحتها
وهي طايرة في الهوا،
وسط الجنينة لمحتها
وهي طايرو في الهوا،
ناديتها بصت تحتها
قولتلها تيجي نلعب سوا،
قالتلي طيب يا اسمك إيه…
ضحكت لها شقيقتها التفتت تُلثم وجنتها وكأنهما نفس الشخص لكن الفارق في السن بينهما، هما نفس الملامح الرقيقة، ونفسها الأعين السوداء، نفس الخصلات الناعمة التي تُطابق خصلات أمهما، نفس الوجه المُستدير بحسنٍ آخاذٍ للأنظار المُقدرة للجمال، وقد طال العناق بينهما حتى نامت “وعـد” بين ذراعيها فخلعت عنها “عـهد” السماعة الطبية عنها ثم لثمت جبين شقيقتها وهي تتمنى لها سرًا وجهرًا:
_ربنا يكرمك بواحد زي “يـوسف” يقويكِ على الدنيا.
وكان ذلك جلَّ ما تمنته لشقيقتها الضعيفة التي عند الكِبر سوف تحتاج لشخصٍ مثله يكون قويًا بما يكفي كي يجعلها تواجه العالم، ويضعها هي في مقدمة الأشياء قبل نفسه حتى، هي وجدت بطلها المفضل وتتمنى للنسخة المُصغرةِ منها أن تجد مثله..
بعد مرور ساعات قليلة..
وفوق سطح البناية حول طاولةٍ مستديرة جمعت “عـهد” نساء عائلة زوجها حتى “قـمر” أتت لهن بعدما سمح لها “أيـوب” وقام بتوصيلها ثم عاد لعمله من جديد، كانت جلسة دافئة بين النسوةٍ والضحك والمزاح بعودة “ضُـحى” من العمل وسخريتها على الاثنتين حتى قالت بنبرةٍ ضاحكة بعد وصلة مزاحٍ لم تكف هي عنها:
_أنا أتريق عليكم براحتي لحد ما أتجوز اللي هتجيب سيرتي فيكم هجيب شعرها في أيدي، أنا بقولكم أهو، أحسن اللي أعمله في الناس يطلع عليا في الآخر.
وما بين مزاحٍ يُرسل ومزاحٍ يُستقبل استمرت الجلسة وأكتملت بمجيء “فـضل” و “عُـدي” خلفه وجلسوا سويًا مع بعضهم في ترحيبٍ وإطمئنانٍ وآخر من وطأ بأقدامه المكان بطلبٍ من زوجته كان “يـوسف” الذي صعد لهم يحمل في يديه فواكه وعدة مشتريات تناسب الجلسة التي أسستها تلك المُذهلة، ولم ينس النسخة المصغرة من زوجته حيث اقترق منها يلثم جبينها ثم أخرج عُلبة مستطيلة الشكل بها مجموعة من الدُمي بأحدث الأشكال، خمس عرائس متوسطين الحجم…
كانت تجلس بجوار شقيقتها وما إن رأت ما يقدمه “يـوسف” لها شهقت بقوةٍ وفرغ فاهها وهي تحرك رأسها نحو الجميع ثم استقرت عليه بعينيها الواسعتين المزودتين بإضاءة براقة فوجدته يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_دي هدية صغيرة كدا، بدل العروسة اللي خدتها منك جيبتلك خمسة أهم حاجة بس تكون مسامحة وراضية يا “وعـد” خلي ربنا يفكها على أخوكِ ويفتحها في وشه.
ضحكت حينما فهمت أن المقصد يعود لشقيقتها ثم تحركت تحتضنه بعناقٍ دافيءٍ ماثل دفء قلبها الصغير وهي تقول بنبرةٍ امتلأت بالامتنان والشكر:
_دي أحلى هدية في الدنيا كلها يا “يـوسف” شكرًا بجد وأوعدك هحافظ عليهم، وخلاص مش زعلانة منك علشان خدت مني “عـهد” بس متخليهاش تزعل لو سمحت.
طوقها هو بكلا ذراعيه ثم حرك عينيه نحو زوجته يغمز لها ثم قال بنعومةٍ تخصها هي وحدها:
_هو أنا أقدر أزعل العسولة بتاعتنا؟.
ضحك الحشد المجتمع عليهما خاصةً حينما قرب “عـهد” له هي الأخرى ولثم جبينها كأنه يؤكد صدق حديثه ومن ثم تتابعت الدعوات لهما بالسعادة والخير والذرية الصالحة، وفي تلك اللحظة أتى “أيـوب” يحمل معه الحلويات المفضلة لدى زوجته والجميع مُراعيًا ذائقة كل منهم ثم ولج وجاور زوجته التي ابتهجت ملامحها ما إن أتى هو وألقى التحية عليهم جميعًا..
أما “غالية” فهي لأجله تحركت تصنع له الشاي ثم وضعته أمامه وظلت تُرحب به كثيرًا وتخبره أن مجيئه أضاء البيت؛ فأضاف هو بأدبٍ:
_البيت منور بأهله يا أمي، ربنا يبارك فيكم جميعًا.
لاحظ بطرف عينه ابتهاج ملامح زوجته فمال عليها يسألها بنبرةٍ هادئة عن سبب ملامحها المُبتهجة:
_بتضحكي ليه؟ أوعي يكون مقلب من بتوعك، هزعلك.
حركت رأسها نفيًا ثم قالت بسعادةٍ بالغة:
_فرحانة علشان أنتَ جيت، متعرفش أنا مبسوطة إزاي إنك قاعد معانا هنا، وماما مبسوطة أوي بيك، دي كمان قالتلي إن هي بتعتبرك أخ لـ “يـوسف” أنا بفرح لما أكون معاك أوي في مكان.
لمعت عيناه هو بتأثرٍ وشعر بقلبه يهرول بسعادةٍ وسط الحقول الخضراء فمد كفه يضعه فوق كفها ثم همس خفيةً بعيدًا عن سمع الجميع:
_وأنا لما حسيت فجأة إني محتاج أكون معاكِ جيت.
تواصلت المُقل ببعضها بينها وبينه وعيناه تسرد لها عن حاجته هو للبقاء بجوارها، فـ “أيـوب” الذي يحُبها لم يكن ذاته هو الرجل الذي يجاورها، وإنما هو آخرٌ غيره طفولته كانت قاسية ولم يُعيد له صبا أيامه وعمره؛ غيره هي وحدها، وما بين عمرٍ ضائعٍ بدونها وعمرٍ آتٍ معها هي؛ هو يحاول جمع الماضي بالحاضر كي يكون مستقبله أفضل..
قطع لحظة الصمت تلك صوت هاتف “ضُـحى” برقم زوجها فزفرت هي بقوةٍ ثم كتمت الصوت والتي لاحظت فعلها كانت “قـمر” فقالت بسخريةٍ أقرب للتهكم:
_ مش هتردي؟ دا جوزك.
ابتلعت الأخرى الطعام المُلوَك بفمها ثم قالت بعنادٍ:
_لأ مش هرد، خلي “دهـب” تنفعه علشان يقفل تليفونه في وشي كويس، بقى أنا صاحية أصبح عليه وأتطمن عليه وهو يقفل في وشي؟ خليه يتعلم الأدب.
تدخل “يـوسف” يرد عليها بحنقٍ:
_أنتِ عبيطة يا بت؟ مش كفاية الواد مستحمل هبلك وأنتِ عاوزة حمام أسود ومصممة عليه؟ هو ناقص سواد يعني؟.
ضيقت جفونها وهي تشير نحو والدها كي تخبره خفيةً أنه لا يعلم أي تفاصيلٍ من تلك المخبوءة فأومأ لها بأهدابه؛ لتضيف هي بحنقٍ بعدما عادت لقوتها:
_أكيد “إيـهاب” اللي قالك، طب بدل ما هو مركز معايا كدا يروح يلم بنته خطافة الرجالة اللي مش مخلياني لا أنا ولا “آيـات” ولا “فُـلة” عارفين نتلايم عليهم، البت دي لازم تتأدب كدا هتطلع بتاعة رجالة خدوا بالكم.
عاد الضحك من جديد لهم يحاوط جلستهم وقد تحرك “عُـدي” من مكانه يجاوب على الهاتف والذي تابعه كان “يـوسف” ومعه “أسماء” التي تبدلت ملامحها لأجل ابنها الحزين الشارد، غاب بقدر ما غاب من دقائق ثم عاد لهم وقال بثباتٍ يُحسد عليه:
_أنا قدمت الـ CV بتاعي لشركة سياحة في دبي ووافقوا عليا خلاص، بعد إذنك يا “يـوسف” خلي “مادلين” تمضيلي على الورق علشان ألحق أخلصه قبل الشهر الجاي.
حديثه كان اللون الأسود الدخيل على لوحةٍ زاهية تسرق الأنظار والأعين معها ومن ثم يسقط فوقها لونٌ يخفت لمعتها ويسرق بهجتها، وأول من أندفع للأمام يسأله بإنكارٍ أكيدٍ للكلمات:
_وهو سيادتك عبيط؟ سفر إيه اللي هتسافره دا إن شاء الله؟ يعني بعد ما أخيرًا ربنا كرمك من وسع واشتغلت ووصلت للمكان اللي تستحقه جاي دلوقتي تقول هسافر؟ تسافر فين؟ وعلشان إيه؟.
ولأن الحزين فاقد الطاقة والقُدرة على النقاش أتاه بردٍ حاد أتى من عمق روحه المجروحة بسبب حُبٍ لم يكتمل:
_علشان تعبت ومش حابب أفضل هنا، عاوز أمشي وأسيب كل دا خلاص لأني مش لاقيني هنا ولا عارف ألاقي نفسي في مكان تاني، واللي بعوزه مش عاوزني، يبقى كفاية تعب قلب على الفاضي هنا، الشركة فيها كتير مكاني وهيقدروا يسدوا في غيابي، كلم بس “مادلين” خليها تمضي الورق وتوافق تكتبلي الخطاب اللي هما عاوزينه.
بدا وكأن أمره نفذ ولن يتراجع عنه، كانت لهجته صارمة وحادة وقراره شبه أكيدٍ لن يقبل مراوغة كي يتراجع عنه، وقد تتبعته النظرات حتى لاذ هو بالفرار من بينهم، ولأن علته هي العشق فكل كلمات المواساة لن تفلح في المسح فوق قلبه المكلوم من حُبٍ لم يكن له ذات يومًا مكانًا..
__________________________________
<“لأجل من نُحب نفعل حتى ما لا نُحب”>
كل استثناءٍ نفعله مرغمين..
إلا ذاك الذي نفعله لأجل من نُحب، نفعله طواعيةً منا بغير إجبارٍ والغاية تعود لأجل من أحببنا ورغبنا في سعادتهم، وتلك هي الحياة، قواعدها موضوعة ونهدمها فقط لأجل من نُحب…
كانت خير الأخت وهي تُراعي وتهتم بغيرها، كانت كما لقبها زوجها “مـلاك” أو ربما هي حمامة سلام حلت على أراضٍ خاربة وشموسها غاربة؛ فكانت هي شمسًا لها، حُبها وتفانيها فيما تفعل لأجل من تُحب كانا خير دليلٍ على جمال قلبها النقي، فهي لم تكل ولم تمل وهي تحمل تلك الصغيرة على ذراعيها تُهدهدها بعدما بدلت لها ثيابها بأخرى وبدأت في التحرك بها..
ولج “إيـهاب” الشقة وألقى التحية من على الأعتاب فوجدها ترد عليه بصوتٍ هاديءٍ حتى أقترب هو منها يقول بامتنانٍ لتواجدها مع زوجته التي لازال التعب يُماطل معها بروحةٍ وجيئة وعدم استقرارٍ:
_أنا والله مش عارف أقولك إيه، تاعبينك معانا وكتر ألف خيرك يعني عاملة الواجب وبزيادة، شكرًا والله وتسلم تربيتك.
أومأت له موافقةً ثم أضافت بخجلٍ من إطراءه عليها:
_متقولش كدا دا واجبي، كفاية إن “سمارة” اعتبرتني أختها خلاص، بعدين يعني “دهـب” متتسابش بصراحة ربنا يبارك فيها ويجعلها ذرية صالحة تتباهى بيها وبأخلاقها.
ابتسم لها ثم آمن خلف الدعاء وقد أتت “سمارة” ممن الداخل وما إن رأته ابتسمت له بوجهٍ مُشرقٍ وقد أنسحبت من أمامهما “آيـات” التي قالت بهدوءٍ استعدادًا للرحيل:
_طب عن إذنكم علشان أحضر الغدا لبابا و “تَـيام”.
أوقفتها “سمارة” تعرض عليها تناول الطعام معهما لكن الأخرى رفضت وأصرت على الرحيل، ثم وضعت الصغيرة بين ذراعي والدها بعدما لثمت جبينها ثم رحلت من الشقة تتوجه نحو بيت “نَـعيم” كي تكون حاضرة في استقبال زوجها عند عودته من العمل..
بينما “إيـهاب” فجلس فوق الأريكة يحمل بين يديه ابنته وقد أتت له “سمارة” تجاوره فضمها هي الأخرى له أسفل ذراعه الأيسر وابنته استقرت فوق ذراعه الأيمن ثم لثم جبين زوجته وقال بهدوءٍ رافقه الصدق:
_معايا خير الدنيا كله بين أيديا.
والخير هُنا يقصد به الاثنتين معًا، فالأولى هي المرأة المُفعمة بالحياة وسط موتٍ أزهق روحه ولم يُبقيه حيًا، والثانية هي الحياة بذاتها وفي صدق القلب بغير مبالغةٍ هي الروح الصغيرة التي سبق لها وغادرت هذا الجسد حينما كانت بريئة، وكأن البشر تكالبوا عليها وعملوا على رأبها، روحه النقية التي لم يعد يتذكر متى كانت تسكنه كي ترحل عنه؛ وفي عودتها يشعر بالأُلفةِ معها لهذا الحد؟..
لثم كف ابنته المضموم مرة خلف الأخرى فوجد “سـمارة” تهتف بنبرةٍ ضاحكة كأنها تقصد مناوشته:
_يا بختك يا “دهـب” متشالة على كفوف الراحة بحق وحقيقي، لما تكبري عرفيني الإحساس دا عامل إزاي؟.
ابتسم هو رغمًا عنه ثم مسح فوق ذراع زوجته وهو يتواقح بحديثه الغير بريء نهائيًا وإنما هو يعلم كيف يثير ثورتها بكلماته:
_عاوزة تتعاملي زي “دهـب” أنا معنديش مانع، بس حرام البت دي تفضل من غير أخوات كدا، يرضيك يا عمنا يعني؟.
لكزته في صدره بحنقٍ وهي تكتم ضحكتها عليه فيما ضحك هو بصوتٍ رنانٍ ثم أعاد رأسها فوق صدره وقال بصدقٍ آسر لها ووصل ليتمركز في قلبها:
_متقلقيش أنتِ مكانك زي ماهو في الحفظ والصون، أنا قولتلك هتلاقيني كل حاجة في حياتك ومش هتنازل عن إني أكون كل دنيتك زي ما أنتِ بتقولي، أنا خلاص كدا بقيت أب وأنتِ أم بنتي، يعني اللي كان نفسي فيه لقيته وحلم حياتي أنتِ حققتيه، حاليًا مش عاوز غير إني ماكونش نسخة تانية من “أشرف الموجي” عاوز أكون “إيـهاب” ابن “دهب” وأبو “دهـب” وحبيب قلب “سمارة” مامة “دهـب”.
ضحكت له بوجهٍ بشوشٍ ثم ضمت الصغيرة وهي على ذراعه بكفها كأنها تتأكد أن هناك عائلة هي تنتنمي لها، تتأكد أن السيناريو الذي سبق ورسمته في خيالها لم يتحقق؛ وإنما تبدل بغيره بفضل الخالق ورحمته الواسعة على العباد فتنهدت بعمقٍ وتذكرت حديث “آيـات” عن فضل الشكر لله فرددت بخفوتٍ:
_الحمدلله على كل حاجة كرمتني بيها يا رب.
وهكذا أطمئنت القلوب بجوار بعضها قبل أن تقوم بتحضير العشاء ويبقى هو أسير الطلة البريئة على ابنته النائمة التي سكنت رائحتها كل حواسه بالتقريب فلم يعد يشتهي أي شيءٍ غيرها، ولأن زوجته مُصابة بهوس النظافة الشديدة، فابنته تلقى رعاية فائقة مُفعمة برائحة الزهور وعبق البراءة من بشرتها الناعمة يرافقها، ابتسم على حاله بعجبٍ من أمره، فأسير الزنزانة تحرر من قيده وأصبح أسيرًا لقطعة لم تتعدَ نصف ذراعه وفي آسرها وجد الحُرية بأكملها، وكأن العالم بغيرها سجنه الحقيقي..
__________________________________
<“كانت رفقتك حلوةً بخيالي، وياليتُكَ بقيت”>
كُنتُ أمام العالم وحيدًا..
لكني استأنستُ بكَ في خيالي،
ولأنكَ لم تُصدق يومًا حُبي..
فلت يدك من يدي وتركتني أنا لحالي،
أيعجبك أمري وأنا أطمع في نظرةٍ
منك تَمُن بها عليَّ، وأنتَ تسير
بدوني ولا تُبالي؟.
صفعة الخذلان لا تُنسى ولو مسحوا موضعها بماء الذهب، وإنما أثرها باقٍ كما هو لن يزول إلا بزوال الروح، وبالأخص إذا كان خذلان المرء أتيًا من الشيء المرجو بكل جوارحه أن يُنصفه، فلا هنيئًا لمن هم خذلونا حتى أنطفأت لمعة العين..
على أعتاب البيت بعد المرور من البوابة المعدنية الكبيرة عبرت سيارة “مُـحي” وبجواره شقيقه الذي لم يُفارقه وحده، وقبل أن يترجل أيًا منهما نطق “تَـيام” بترددٍ كأنه يخشى الكلام:
_قولتلك بطل تروح يا “مُـحي” مش هتستفاد حاجة غير إنك بتوجع نفسك ومستني أمل كداب، وجودك في مكانها غلط، علشان خاطري سيبك من الشغل هناك خالص، لحد يا سيدي ما نشوف حل ونعرف الخطوبة دي هتكمل ولا لأ.
تنهد “مُـحي” بثقلٍ ثم هتف بنبرةٍ جامدة كأنه أوشك على فقد صوابه وبات جنانه أمرًا وشيكًا:
_أنا مبعملش حاجة لحد يمشي كلامه عليا يا “تَـيام” مهما كان هو مين، إذا كان أبوك بهيبته دي كلها عمره ما جبرني على حاجة، أنا عاوز أفهم هو كارهني ليه كدا، الراجل زي ما يكون معاه تاريخي كله، دا هو يوم بس الفرق، يوم ولقيتها بتضيع مني فيه؟ بس أنا مبسكتش على حقي، باخده لو في بوق السبع، وحقي هاخده.
اندفع الشقيق بخوفٍ عليه يقطع أفكاره التي بدأت تأخذ منحنى العنف بشكلٍ واضحٍ:
_مش حل، اللي أنتَ هتعمله مهما كان مش حل وأسمع مني، سيبها لربنا وتيجي زي ما تيجي، ولو هي نصيبك هتاخدها غصب عن أهل الأرض كلهم، بس بلاش تعمل حاجة غلط، خليك في شغلك ونفسك وسلم أمرك لربنا، لكن غير كدا لأ ومش من حقك أصلًا..
وأتت الزعقة العنيفة تقاطعه بغضبٍ أعمى:
_هــي حـقي..!! أنتَ مش فاهم حاجة ولا عارف أنا حاسس بإيه، دي بالذات مش هينفع تكون لغيري، أنا عمال أمسح في حياتي كلها بأستيكة علشانها هي لما تيجي حياتي تلاقيها تستاهل وجودها، أنا يوم ما كنت بين الحيا والموت شوفتها هي، وصحيت وأنا بناديها هي، ولما حلمت بنفسي في النار اللي لحقني في الحلم كانت هي، وفي حياتي دلوقتي أنا بطلت قرف وزفت علشانها هي، مينفعش أنا أحلم وغيري يحقق، علشان لو هي طلبت روحي هتاخدها من غير ما أفكر كمان..
أشفق عليه شقيقه فضمه لصدره قبل أن يترجل أيًا منهما من السيارة ثم أنفض العناق وولجا البيت، ولج “مُـحي” غرفته مُباشرةً كي يبقى حبيسًا بها بعيدًا عن الجميع، أما “تَـيام” فجلس بجوار زوجته يتناول معها الطعام ومعهما والده الذي لاحظ تبدل ملامح ابنه الكبير وتغير أحوال الصغيِّر فسأل بحيرةٍ من أمرهما:
_هو أنتَ وأخوك مالكم بقالكم كام يوم؟ هو بييجي يحبس نفسه في الأوضة ميخرجش غير الصبح على الشغل، وأنتَ بقالك كام يوم زعلان ومكشر يا سرحان، أنتوا فيه حاجة مزعلاكم؟ أوعوا تكونوا متخانقين مع بعض يا “تَـيام” أنا متطمن عليه علشان معاك أنتَ.
توتر “تَـيام” أمام والده وزاغ بصره لكنه عاود النظر إليه وتصنع ثباتًا واهنًا وهو يقول:
_لأ إحنا كويسين متقلقش أنتَ، بعدين “مُـحي” تعبان شوية علشان الشغل جديد عليه، وأنا علشان إحتمال أسافر مكان “بـيشوي” لسه بظبط كام حاجة بس متقلقش، ولادك بخير طول ما أنتَ معانا وبخير يا بابا.
ابتسم له والده بسمة مقتضبة لم تصل لعينيه ثم التفت ينظر خلفه بالتحديد نحو الأعلى حيث غرفة صغيره، فلو كذب عليه الجميع قلبه لن يكذب عليه، هو الذي يعلم ويدري بما يُصيب خيوله من على بعدٍ، أيُعقل أن يغفل عن ابنه الذي هو في أساس الأمر جزءٌ منه هو؟.
تحرك من مكانه نحو غرفة صغيره وقد ولجها بهدوءٍ وهو يعلم أن بابها مفتوحٌ، وما إن ولج وجده ينام فوق الفراش ولهول الأمر هو يعلم ابنه جيدًا، فَـ “مُـحي” لا ينام بتلك السهولة إلا إذا كان يهرب من حزنٍ يسكنه، ولا يفعل هذا الأمر إلا إذا يأس من العالم، ألا وهو احتضان صورة أمه المتوفية…
لمعت العَبرات في عيني “نَـعيم” حزنًا على صغيره فاقترب منه يُلثم جبينه ثم التفت وضمه لعناقه وصورة “نـدى” عَلُقت بينهما في المُنتصف كأنها حاضرة برغم الغياب..
في الخارج اقتربت “آيـات” من زوجها وهي تسأله بتيهٍ:
_هو حصل إيه طيب؟ أنتَ وأخوك حالكم متغير خالص، تحب أنا أكلم “جـنة” طيب وأفهم منها حصل إيه؟ أو أكلم مامتها اسألها؟ على الأقل نكون حاولنا علشان خاطر أخوك ميزعلش.
حرك رأسه نحوها ثم أخرج زفيره وعقب بقلة حيلة وليس بتمكنٍ في الكلامِ:
_كلامك هيعمل إيه يعني يا “آيـات”؟ هو راجل البيت والكلام لازم يكون معاه هو، بس أنا مش هسكتله لو فكر يقرب من أخويا، يبقى عبيط وخايب لو افتكر إني ممكن أسكتله ييجي على أخويا، دا أنا لو حد غريب احتاجني كنت بروح أقف في ضهره، يبقى الحل إيه مع أخويا؟ المشكلة إن” مُـحي” معاند مع نفسه، مش راضي يدخل حد ولا راضي يسيب الشغل هناك، مصمم على رأيه وبس.
مسحت هي فوق كتفه ثم قالت بحنوٍ كي تُطمئنه:
_مش عاوزاك تقلق، دا ابتلاء من ربنا وهيجازيه خير عليه، هو بس يصبر ويخلي أمله في ربنا كبير ومييأسش من رحمة ربنا عليه في مراده، بعدين هييجي أصعب مننا يعني؟ دا أنا كنت هكتب كتابي خلاص على حد تاني وعفشي يسيب البيت، وشوف النصيب قاعدة جنبك فين؟.
التفت لها يُحدجها بنظرة حادة ثم قال بيأسٍ:
_آيـات” أنتِ بتحرقي دمي؟ كل ما أنسى تفكريني إن فيه حد كان سابقني عندك؟ داهية تاخده هو و “مهند” في ساعة واحدة علشان دمهم يلطش، المشكلة إني مبطيقش “مهند” دا من يومي أصلًا، دلوقتي مقفول منه لدرجة القرف.
لوت فمها بخوفٍ ثم أجبرت شفتيها على بسمةٍ فاترة وهي تقول بثباتٍ كأنها تلفت نظره:
_المشكلة إنه صاحب “أيـوب” وكان بييجي عندنا البيت، فبصراحة أنا معرفهوش لأني عمري ما خرجت وهو عندنا، بس ممكن تلجأ لـ “أيـوب” يساعدك أو يتكلم معاه ويطفشه، أي حاجة تخلي أخوك ميزعلش، حرام شكله مبطلش زعل.
أخفض “تَـيام” رأسه للأسفل هربًا من التفكير الذي ملأ رأسه ثم زفر بقوةٍ وكأن كل ما يشغل كاهله فقط في تلك الأيام أمر شقيقه والحزن الذي أصابه، وقد أتى “إسماعيل” من الخارج ومعه “مُـنذر” أيضًا واحترامًا لجلوس “آيـات” غضا بصرهما عنها ولم يجلسا، وإنما سأله الأول بتعجبٍ:
_هو أخوك ماله فيه حد مزعله؟.
قبل أن يجاوب تدخل “مُـنذر” يقاطعه بمرحٍ قلما يتحدث به:
_قول آه بقى علشان نروح نكسر عضم اللي مزعله.
ابتسم لهما “تَـيام” وقال بصوتٍ انبسطت وتيرته من شدتها:
_ألف شكر يا رجالة أوعدكم قريب أوي هحتاجكم.
ابتسم كلاهما له على غرار المزاح بالقول، وقد بدا الأمر كأنه مزاحٌ لهما؛ لكن في سريرته إن لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد وفقط من المؤكد سيلجأ لبعض الحلول الغير سلمية بالأخص إن كان والدها يتربص لشقيقه ويحتج عليه كي يقطع عنه بقاءه في الحارةِ معهم، ولأن الخيول شامخة دومًا إن تعبت، تثور ثورتها من جديد.
__________________________________
<“ولأن سيف الحق كان بتارًا هرب منه كل جبانٍ”>
كلمة الحق سيفٌ..
ولأن مواجهة السيف تحتاج الأقوياء لن يُجابهها جبانٌ، وإنما من يفعل ذلك هو من يقف في صف الحق ويواجه الجُبناء بما تضمره أنفسهم الخسيسة، فاختر أيًا من السبيلين، أتنصر جبانًا فوق الحق، أم أن الحق فوق كل جبانٍ؟.
في صبيحة اليوم الموالي..
كان “عُـدي” بمقر عمله يجلس في مكتبه وقد أصبح كل ما يشغله هو أمر الرحيل وترك البلد بأكملها، وهذا ما يفعله هو، ومنذ أن علم بأمر عودة “رهـف” وهو يجلس حبيس مكتبه بعيدًا عنها حتى لا يلتقي بها ولو بمحض الصدفة؛ فيعود متقهقرًا لحدودها رغم أن هي من غَربته عنها، تذكر أمر الورق فترك مكتبه وتحرك نحو مكتب “مادلين”..
ولج بثباتٍ ورأسٍ مرفوع يمد يده لها كي تقبل طلبه فزفرت هي بقوةٍ ثم عدلت عن غضبها وبدلت طريقتها بأخرى أكثر هدوءًا:
_طب ليه؟ إحنا كلنا هنا محتاجينك والشركة حاليًا محتاجة ليك سواء في المنصب أو حتى في الترجمة وأنتَ ما شاء الله عليك، بلاش كل دا يا سيدي بس”يـوسف” محتاجك معاه هنا، محتاج أخوه مكانه يا “عُـدي” ومش بعد السنين دي كلها لما أخيرًا لقاكم تديله ضهرك؟ متكسرهوش بغيابك.
ابتسم لها بحزنٍ ثم تنهد بقوةٍ وقال بضياعٍ بان عليه:
_متبالغيش يا “مادلين” الموضوع بسيط، زيي زي أي حد اشتغل هنا وربنا كرمه وسافر، ولو على “يـوسف” هو مش لوحده ولا حاجة، بالعكس فيه غيري كتير معاه وكلهم عادي يسدوا مكاني، ولو على شغل الترجمة “نـادر” موجود وهو أولى مني كمان، على الأقل دا حقه، هستأذنك بس تمضي الورق وتعملي الخطاب علشان ألحق أروح السفارة أخلص نفسي.
أدركت أنه يُصر على قراره فرطبت شفاها ثم ألتقطت منه الأوراق وقالت بنبرةٍ بها لهجة آمرة كأنها تستغل سُلطاتها ضده:
_بص علشان أريحك يعني خلاص هاخد الورق منك، بس مش همضيه دلوقتي هراجعه الأول وأشوف مناسب ليك ولا لأ، وأنتَ تكون فكرت كمان من تاني، وتدرس مخططاتك، مع إني واثقة فيك إنك هتختار الأصلح ليك وللكل معاك.
ابتسم بسخريةٍ ثم وضع لها الأوراق وقبل أن يرد عليها فُتِحَ باب مكتبها وظهر من خلفه “عـاصم” فتنحنح “عُـدي” ثم خرج من المكان وتركهما بمفردهما وهو يعلم أن الحرب بينهما في هُدنة بسيطة وستقوم من جديد في أقرب موعدٍ..
خرج بشرودٍ وقد اصطدم فيها رغمًا عنه وقد سألته هي بألمٍ وهي تقوم بالمسح موضع منظارها الطبي الحديث:
_مش تخلي بالك يا “عُـدي” النضارة لبست في وشي.
عادت هي وعادت معها النبضات الغبية التي لم تكن يومًا بغير اسمها هي، ولأن العقل في بعض الأحيان يملك السُلطة الأكبر تدخل يذكره بآخر قراراته النهائية، فارتدى وشاح الجمود ورد بصلابةٍ عليها:
_ياريتني من الأول كنت خدت بالي، عن إذنك.
أنهى حديثه ورحل كأنه يفر من أمامها قبل أن يعود للغباء المُرصع من جديد، رحل من مكانه وتركها خلفه تتابع أثره بعينين جاحظتين وقلبها تضافرت به خيوط الألم، وبكل أسفٍ هي لن تقدر على لوم أحدٍ غير نفسها، هي الوحيدة المسئولة عن هذا الوضع الغبي الذي فُرِضَ عليهما، وخسارته لن تعوضها أي مكاسب مهما بلغ ثمنها..
في الداخل بمكتب “مادلين” حاولت أن تتجاهله وترسم الطابع العملي على ملامحها لكن الآخر هتف بجمودٍ قاسٍ كعادته في الفترة المؤخرة:
_هو سيادتك عايشة فين؟ شكلك ناسية إنك على ذمة راجل.
رفعت رأسها نحوه وهي تقول بسخريةٍ تهكمية ردًا عليه:
_طب كويس والله إنك فكرتني، كتر خيرك بجد، طلقني بقى علشان كنت ناسية حاجة زي دي، وياريت بسرعة لأن مش فاضية وزي ما أنتَ شايف بالنهار هنا، وبليل في الأتيليه، ومع ذلك وقت ما تحدد هاجي.
برودها أمامه ناقض نيرانه فاندفع في وجهها بغضبٍ:
_أنتِ مجنونة؟ فكراني هطلقك وبالساهل هعدي اللي عملتيه فيا كدا؟ أنتِ خونتي ثقتي فيكِ وحطيتي إيدك في أيد “يـوسف” بعدما آمنت ليكِ، كنت مأمنك على نفسي وأسراري وأنتِ خنتي الأمانة دي، وجاية دلوقتي تزعلي؟.
هو تحدث وأخرج ما في جبعته وهي يُحق لها أن تفعل المثل، فرفعت صوتها وهي تقول بنبرةٍ أعربت عن غضبها:
_تاني هتقولي خيانة؟ هو أنتَ ليه محسسني إنك قافشني في بيته ولا كنت على علاقة بيه؟ مصيبة سودا كمان لا تكون شايف إنك مش غلطان، تاني وتالت وعاشر ومليون، دا ابن أخوك، لحمك ودمك غصب عنك كمان، واللي أنتَ وأمك الله يسامحها إن كانت تجوز عليها الرحمة بقى فدا معناه حاجة واحدة يا “عـاصم” ملهاش تاني..
سألها بعينيه عن مقصدها في الحديث فأضافت هي بوقاحةٍ زائدة عن الحد المعقول:
_إنكوا عيلة عِرة وزبالة.
توسعت عيناه بغضبٍ جعل الجمر يُحيط عدستيه فيما تنهدت هي بقوةٍ ثم أضافت برأسٍ مرفوعٍ وشموخٍ:
_بص يا “عاصم” علشان أنا تعبت منك، اللي حصل كله كان لازم يحصل من الأول، مكانش ينفع أنا أدي “يـوسف” ضهري لأنه كان محتاجني، أو كان محتاج حد يقف في صفه وينصفه بدل ما يتجنن وسطكم، وعلشان كدا أنتَ لما قسيت عليه عمرك ما شوفت راحة في حياتك، بالعكس، أنتَ طول عمرك عايش رافض حياتك كلها، حتى الخلفة ربنا مأردش ليك بيها، ذليته وقهرته وكسرته وكان طبيعي إنك تتقهر وتتكسر زيه، وأمك كانت بتخبي الأكل منه رغم إنه بيته وحقه ودي فلوسه، بس طمعكم موصلكوش لحاجة في النهاية، وأنا بقولك أهو، هفضل في صف “يـوسف” وأنتَ خليك في صف ابن العالمة، بكرة يضحك عليك ويرقصك.
أقترب منها وأصبح الفاصل بينهما مكتبها ثم أضاف بنبرةٍ جامدة كأنه يُهددها أو ربما هذا مقصد كلماته:
_هتندمي بالجامد أوي، وهييجي عليكِ يوم تتمني فيه ترجعي من تاني لحياتك معايا، وساعتها مش هقبل بيكِ تاني، أنا كنت بعتبرك كل حاجة ليا، بس طلعت غلطان لما ظنيت فيكِ الخير… أنتِ طالق يا “مادلين”.
هوىٰ قلبها من موضعه فورما تحررت من قيده ووقفت أمامه برأسٍ مرفوعٍ يأبى أن يُخفض وكأنها ترفض أن تُذَل، بينما هو تألم أكثر بكثير عند إطلاق حُريتها؛ أكثر من معرفته أمر غدرها به، طالت النظرات بينهما وقد ضعفت أمامه فنزلت دمعة واحدة من كلتا العينين؛ فقالت بصوتٍ بالكاد سمعه هو:
_أطلع برة يا “عـاصم”.
وبالفعل خرج من المكتب كما ولج _ظاهريًا فقط_ أما القلب فنيرانه ازدادت لهيبًا واشتعالًا وروحه صرخت بألمٍ وهو يطرد آخر فردٍ في عالمه من موضعه، شعر بالغُربة تجتاحه وبالألم يسكنه، فلاذ بالفرار من أمام الجميع وولج مكتبه يغلق على نفسه بداخله، وقلبه يذكره من الأفق البعيد الغير مسموع أن تلك ذات يومٍ كانت هي العالم بذاته، واليوم العالم فنىٰ في عينيه..
__________________________________
<“هما وجهان وعملتهما واحدة فقط”>
لكل مقامٍ مقال ولكل شيءٍ وجهان..
لكن الوجهان لعملةٍ واحدة يشبهان السلاح ذو الحديْن في أمرهِ، وكأن النصل الثالم يُناقض النصل الباتر، وفي باطن الأمر هما نفس السلاح، وهي نفس العُملة لكن الفارق أن الصورتين متناقضتان، فالأولى تعبر عن القوة والثانية ماهي إلا الحق المكتوب…
كان يقف على أعتاب عمله
ويطمع فقط في نظرةٍ وليس بالكلام،
يتمنى رؤية ما تمناه واقعًا وليس فقط في الأحلام، يقف وهو يقوم بعد الدقائق آملًا في اللقاء، لكن يبدو أن النصيب سيتركه ولقبه المشتاق، وحتى الآن كل ما يخشاه هو الفراق، زفر بمللٍ حينما فشل في رؤيتها وقد ولج يرتمي فوق المقعد والطبيب يتابعه بعينيه الحائرتين حتى ولج عليهما والدها بثباتٍ، فرحب به الطبيب قائلًا:
_أهلًا يا أستاذ “بهجت” أتفضل.
لم يُجب والدها وإنما صمت عن الرد ثم التفت للجالس وهو يُطالعه ببرودٍ ظاهرٍ على عكس غضبه المستعر؛ فخاطبه بحدةٍ مفتعلة:
_شوف يابني، غرضك خلاص مبقاش ليك، تاخد بعضك من هنا وتمشي وتروح تشوف حالك بعيد هنا خلاص، الصيدلية دي مالكش عيش فيها، وأي مكان هشوفك فيه قريب مني أو من أهل بيتي أنا هزعلك.
في تلك اللحظة وقف “مُـحي” أمامه هتف بشموخٍ يُحسد عليه وعلى عزة نفسه:
_وأنا مبتهددش يا حج، واللي عندك أعمله، دا شغلي والصيدلية مش مكتوبة على اسم عيلتكم علشان تطردني منها، دا شغلي وبشهادتي، ولو زعلان أوي كدا أحب أقولك إني هشارك الدكتور فيها كمان، علشان أبقى قاعد في ملكي.
أغتاظ والدها منه فالتفت للطبيب كي يُشعل الفتنة بينهما فأضاف بنبرةٍ جامدة:
_طب أحب أقولك يا دكتور يا محترم إنه بيشتغل معاك هنا علشان بس يكون قريب من بنتي ويضايقها ويخنقها في عيشتها، بس خلاص بنتي أتخطبت وبقت لواحد غيره، فالأحسن ليه لو عنده دم يمشي، وأنتَ يا دكتور معانا من زمان وأخ لينا، عيب أوي لما تسمحله يستغلك كدا.
توسعت عينا “مُـحي” وزاغ بصره نحو الطبيب الذي طالعه بعجبٍ في أمره ثم عاد وهتف بثباتٍ ينفي تهمة موكله ويتولى مرافعة الدفاع عنه:
_محصلش يا أستاذ الكلام دا، أنا اللي شوفته صدفة مع “تَـيام” وأتعرفت عليه ولما قالي إنه خريج صيدلة فرحت لأنه معرفة وأمين وعينه مليانة، وعلشان كدا بقولك أنا اللي طلبته مش هو اللي جالي، ومع إحترامي ليك أنا مش هستغنى عنه لأن ظروفي متسمحش ليا إني أمشيه.
كان دون أن يعلم ينصفه ويتخذ صفه مقرًا في معركةٍ حامية الوطاس، تحدث عنه بالطريقة التي أذهلت “مُـحي” نفسه فثبت عينيه على الطبيب ذاهلًا حتى أقترب منه والدها يسحبه من مرفقه بحدةٍ وقبل أن يخرج من مكانه اصطدم في أحدهما، الذي ما إن رآه يمسكه بتلك الطريقة سأله بغموضٍ:
_دا إيه دا إن شاء الله؟.
وصاحب العبارة مجهول الهوية إلى أن يتم التعرف عليه، فربما نعرفه ورُبما لا، ورُبما نحن على يقينٍ بهويتهِ..
في مكانٍ آخرٍ غير سابقه…
وبواحدٍ من الأماكن التي تجلت عنها الرحمة، وسكنت فيها القسوة، مكان ابتعدت عنه مباديء الإنسانية وظهرت غيرها أخرى شيطانية، مكانٌ يليق بالبشر المُدنسين فقط، أما الطاهرين فإن أتوا إلى هُنا بالتأكيد عن طريق الصُدف..
أوقف “مُـنذر” دراجته البخارية أمام دار الأيتام وخلفه وقف “بـاسم” رفيقه بدراجته هو الآخر ثم جلس يستند عليها وأشعل سيجاره في انتظار الآتي، وقد وقف “مُـنذر” يبحث بعينيه عنه حتى لمح سيارته فتأهبت حواسه ثم التفت يخبر صديقه بثباتٍ:
_وصل.
جاوره الآخر ووقف في إنتظار الذي وصل ورؤيته بفارغ صبره وقد ترجل الآخر من سيارته وأقترب منهما يُلقي التحية أولًا عليهما ثم صافح كليهما، لينوب “مُـنذر” عنهما في التعريف قائلًا:
_أعرفكم، دا “بـاسم أحمد الطيب” صاحبي وكان صحفي سابقًا قبل ما الحال يتبدل عليه زيه زي غيره كتير.
رحب به الآخر بأسفٍ من نظراته وقد أكمل المتحدث تعريفه بقولٍ وجهه للآخر:
_ودا يا سيدي “أيـوب العطار” أو “الغَـوث” ودا اللي هيقدر يساعدنا ويساعد البنات اللي جوة دي، كدا معانا الحق والباطل.
وهُنا وفي هذا المكان ولأول مرةٍ نرى هذا التحالف بين هذين الطرفين، تحالف بين الحق والباطل معًا، وكأنهما وجهان وفي النهاية عملتهما واحدة، هُنا حيث الصراع الأبدي بين حقٍ مكتومٍ وشرٍ مخبوءٍ، والضائع بينهما طيور حُرة لم تنل حُريتها
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)