روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والعشرون 125 بقلم شمس محمد

موقع كتابك في سطور

رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والعشرون 125 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والخامس والعشرون

رواية غوثهم البارت المائة والخامس والعشرون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والخامسة والعشرون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الأربعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
يا حبيبى ليس لي فى هذه الدنيا سواك
أنت فى الدارين سؤلى أبتغى دوما رضاك
من مجيرى يوم خطب ماله إلا حماك
أنت نور لفؤادى ساطع يزهو بهاك
_”طـه الفشني”
__________________________________
كان قاموسي قبل مجيئك فارغًا من كل ما تعنيه الراحة، قاموسٌ كل معانيه أعربت عن الضياع، وكلما طالعتُ صفحاته لم أجد إلا الغُربة والشتات والتيه والزُهد والضياع والحروب ومن لم أعرفه عن نفسي أنا، وكل ما يُصيب المرء من تيهٍ في النفس وخوفٍ في القلب، كان قاموسي لم تزره كلمة واحدة تحمل معنى الأمان، لقد عاش القلب من قبلك في المُعاناة، ولم يجد من وسط كل العالم النجاة، عالمٌ عُرِفَ بالقسوة، وكأنه مستنقعٌ يَجرُ المرء للموت وليس للحياة.. لكن لكل مقامٍ مقال، وأنتِ خير المقال المدون في كتاب العُمر، فأتيتِ ودونتِ كل معاني الحياة، وكنتِ أنتِ بطريقك كل سُبل النجاة، فمنذ مجيئك والقاموس أضحىٰ آمنًا، وغدوت من بعد إضطرابي في الطُرقات هادئًا،
“اطمئن فأنا بجوارك هُنا” كأنها حروفٌ ألقاها قلبك لقلبي ودونتها أناملك بداخل قاموسي، ومنذ تلك اللحظة غدوت مُتطلعًا لتلك الصفحات التي لم أعهد بها الأمان، لكن بوجودك كتِبَ بأول صفحاتها أن “الأمان كان بكنفك هُنا”.
<“من وسط عالمٍ قُتِل فيه البريء، أحيتني عيناكِ”>
نظرةٌ، هي فقط نظرة دافئة من مُقلتين عميقتين بعمق نهرٍ صافٍ يُجرد المرء من أحزانه ويبث الأمان لنفسه ساحبًا إياه من اضطرابه، نظرة واحدة من الأعين التي نُحب ونبقى حينها في الأمان الأحب للقلب، نظرةٌ تُهدىٰ للمهزوم فيصبح مُنتصرًا على العالم بأسرهِ، ويُخلد السؤال من بعدها، كيف للمهزوم من نفسه والعالم أن تنصره عينان؟.
لحظة هدوء جمعتهما سويًا بقرب حظائر الخيول وهلال السماء يشهد على قربهما سويًا برفقة النجوم المنثورة في سماءٍ صافية كقلب عاشقٍ بريءٍ لم يملك إلا حُلمًا يُشبه نقاء قلبه، كان “إسماعيل” بجوار زوجته “ضُـحى” التي وقفت تلتقط صورًا ومقاطع تصويرية للخيول والفَرس بكامل سعادتها وحيويتها التي اعتاد عليها هو من قِبلها، وقد وقف يشرد فيها هائمًا على وجهه حتى حانت منها التفاتة سريعة ثم سحبته من كفه بُغتةً حتى أصبح شبه مُلاصقٍ لها ففاجئته بصورةٍ له معها ومع خيلٍ من بين الخيول…
تعجب هو من فعلتها وعدم خوفها منه وأراد أن يسألها لكن لسانه أبىٰ أن يُفسد على قلبه الفرحة بعدما نعت عقله بالغباء، أما هي؛ فهي ليست بالغبية أو الساذجة حتى تعجز عن تفسيره، لقد رأت بأم عينيها الصراع الناشب بين عقله وقلبه وقد تدخلت هي بقلبها لأجل الدفاع عنه، فهيمنت عليه بِطَلتها وسألته برقةٍ:
_شاغل بالك بمين وأنا معاك؟.
انتشلته بصوتها من شروده اللحظي وقد انتبه هو لها وحرك كتفيه ببساطةٍ تتنافىٰ مع الحرب الدائرة بينه وبين ذاته، فأقتربت هي أكثر وأمسكت كفه بين كفيها وسألته بنفس النهج المُتخذ من قِبلها:
_طب أنا هسألك تاني، هتكدب عليا؟.
تلك المرة استخدمت سلاحًا أشد فتكًا وكان عينيها حيث ركزت بسهامها عليه فاندفع هو بدون تفكيرٍ أكثر يسألها:
_أنتِ مش خايفة مني يا “ضُـحى”؟.
توقعت!! نعم لقد سبق وتوقعت هذا السؤال ولقد لمحته بعينيها في عينيه لكنها آثرت تجاهله حتى سألها هو بشكلٍ مُباشرٍ فسحبت هي نفسًا عميقًا ثم هتفت بشيءٍ من التعقل:
_هكدب وأقولك لأ؟ هبقى بدعي المثالية ودا مش طبعي، خايفة بس مش منك، مش خايفة من “إسماعيل” الطيب اللي قدامي، ولا قادرة أنصر عقلي عليك، خايفة آه بس أملي كبير في ربنا إن المحنة دي تعدي وأنا معاك، أنا هنا علشانك أنتَ.
استشف الصدق في حديثها ولمس التفاني في الكلمات المنطوقة وقد اوزعته بسمة صافية كحال عينيها حتى سحب نفسًا عميقًا يوصل به الهواء لداخل رئتيه ثم قرر أن يشاركها ألمه بقوله:
_عارفة أنا إيه اللي تاعبني؟ إن والله العظيم كل دا مش بإرادتي ولا بأيدي اختاره، مكانش بايدي إن أبويا يكون “أشرف الموجي” عديم القلب والرحمة، ولا كان بايدي إن حياتي توصل لكدا والدنيا كلها تتقلب بسببي، مختارتش حاجة في حياتي كلها، وبدفع تمن كل حاجة والتمن قاسي.
لاحظت الأسى المُتقطر من حروفه فربتت على كفه المُحتضن بين كفيها كأنها ماءٌ يُرمى على نيرانه فيخمدها حتى انتبه هو لفعلتها فتوجه بعينيه يُلحمهما بمُقلتيها وقد عدل حديثه بقوله ملهوفًا:
_لأ أخترت، أخترتك أنتِ وكنتِ الحاجة الوحيدة اللي اخترتها وصدقتها وقلبي صدق وجودها وأتأمل فيها خير، أنا عشمت نفسي بيكِ أنتِ بس والله، ولحد دلوقتي لسه متعشم ومفيش مرة ندمت على عشمي دا، بس خايف أأذيكِ بوجودك معايا، علشان أنا والله العظيم مباكنش في وعيي، ولا حتى بكون داري باللي بعمله، إحنا لسه على البر أهو، ألحقي نفسك قبل ما تغرقي معايا.
كأنه يُنذرها أو رُبما يُحذرها وهي ليست من النوع الراضخ، هي دومًا تعشق التمرد حتى على نفسها، تخوض التحديات ولو كانت الأصعب لتثبت مهارتها، دومًا تتجه للشيء الممنوع وترغب به، لذا تشكلت القوة في تعابير وجهها ونطقت بتحدٍ له:
_مالكش دعوة بيا أنا عارفة بسلك نفسي إزاي وطريقي بيكمل عادي، زي ما قولت خليك متمسك بيا بس ومش عاوزة منك أكتر كدا، ماهو مش معقولة هتكون علاقة منظورة من الإنس والجن كمان؟ لو أنتَ عليك واحد أنا عليا كتيبة بحالها خليني ساكتة أحسن.
ضحك رغمًا عنه حينما أتضح التحدي في عينيها ثم ختمت حديثُها بجملتها الأخيرة حتى ضحكت هي الأخرى معه بيأسٍ، فلم يجد بُدًا إلا من مُراضتها فقام بخطفها وكبلها بأحد ذراعيه لتتوسد برأسها صدره وهو يطوقها بذراعه وأضاف بعدما أطلق تنهيدة عميقة من جوفه المُتقد:
_صدقيني مفاضليش أمل غيرك.
عبارة صادقة تشبه حديثه الدائم القاها عليها وقد استكانت هي بقربه رغم أن هناك صوتٌ صدح في خُلدها جعل القلق يساورها ويُحيطها بهالةٍ من الخوف، لكنها بقربه تجاهلت كل شيءٍ وآثرت الاستماع لصوت قلبه وفقط.
وقف “إيـهاب” على مقربةٍ منهما يُتابعهما خشيةً من رد فعل شقيقه الذي قد يُشابه فعله أمسًا، فقرر أن يتحرك حتى يتدخل إن لزم الأمر، وما إن لاحظ خصوصيتهما انسحب على الفور بعدما ابتسم بسمة صافية تمامًا تخلو من شوائب القلق المُترسب لقلبه منذ يومين، ثم عاود الجلوس بجوار “عُـدي” الذي حاول أن يبقى ثابتًا حتى لا يُثير قلقهم بالقلق الذي تسرب إلى قلبه.
__________________________________
<“الصوت المتردد في داخلي أقوى من صوتي”>
الحديث المكتوم في بعض الأحيان يكون صداه أبلغ في الوصول من الحديث المنطوق على المرء، لقد قيل مرة على لسان أحد السالفين في الزمان أن لولا الصوت الداخلي الذي يعمل كشعلة نورٍ في بعض الأحيان لكان المرء فقد سمعه وبصره معًا، فإن كانت الرؤية بصرًا، فالسمع لصوت ضميرك بصيرة…
أخيرًا انتهى اليوم المُتعب وأنهى كافة الأدوار المطالب بالقيام بها، حتى دور الحبيب المُتخاذل أجاد لعبه ببراعةٍ ونجح في القيام به، فعل اليوم أشياءً كُثر أوصلته لمرحلة الضغط النفسي والعصبي، لكن أكثرهم جُرمًا كانت جنايته على قلبٍ بريءٍ قتل فيه الأمل..
خرج “مُـنذر” من مكتبه بعد مرور ساعاتٍ عليه بداخله أنهى خلالها العديد من الأعمال ثم قرر أن يواجه بشاعة العالم بأصعب المشاعر وأولهم هي، لذا بحث بعينيه عنها في الطابق بأكمله بعدما وجد مكتبها فارغًا، ثم الرواق الخارجي الكبير ثم بهو المكان، وأخيرًا هي في صالة الاستقبال تقف مع مجموعة من الأطباء وتتحدث معهم بعمليةٍ ولباقة وتضحك بوقارٍ وكأن شيئٌ لم يكن…
وقف يأسرها في عينيه ويُحاصرها بين الأهداب مُغلقًا عليها بالأجفانِ خشيةً من فقد صورتها، وقف مثل المنبوذ وسط العالم يتوسل منها بنظرةٍ لكي تُعطيه أملًا في غدٍ يعلم أنه لن يُدركه، أراد أن يصرح لها بكل شيءٍ فعله وفُعِل به منذ أن أجرم والداه في حقه حتى اليوم!! لكنه خشى من فقد نظرتها تلك، لأول مرةٍ منذ العديد من السنين يشعر بتلك النيران وكأن رشقات القصف أصابت مركز قلبه حتى أن هناك غُلافٌ من العبرات تكون في عينيه دون أن يدرك هو ذلك!!
وقف يُتابعها وكأنه لا يُملك إلا هذا الفعل حتى حانت منها التفاتة خلسةً ورآته يُتابعها كمختلسٍ يسرق الذهب من الأسواق، وقد تواصلت النظرات لثلاث ثوانٍ فقط مرت بعتابٍ كأنهم أعوامٍ، وقد شخصت هي ببصرها بعيدًا عن مركزية عينيه ولم تعلم أنها بذلك أعادت له الأمل من جديد، لقد شعرت به وبتواجده لذا حركت رأسها نحوه، أما هو فبتركيزه مع ردود الأفعال الصادرة منها علم كل شيءٍ لذا انتظر حتى تحركت هي من المكان واختفت بعيدًا عنه..
تحرك خلفها يبحث عنها في المكان بعينيه ملهوفًا لرؤيتها وفقط لكنها فرت كسرابٍ من بين يديه أو رُبما كأنها ليست بحقيقةٍ مادية، فواصل هو البحث عنها حتى وقف في حديقة المشفى وردد اسمها بلوعةٍ في الظلام:
_”فُـلة”.. “فُـلة”!!
لم تجاوبه ولن تجاوبه، تركته بمفرده خائب الأمل يبحث عنها بينما وقفت هي خلفه تطالعه بعينين باكيتين ثم أخفت نفسها خلف المبنى تلتصق به فوجدته يجلس بموضعه على رُكبتيه ثم مال بجذعه للأمام يلتقط أنفاسه وردد اسمها لكن تلك المرة بخوفٍ ولوعةٍ:
_”فُـلة”.
لفظها بأسفٍ على حاله وعلى ما تسبب في ضياعه من يديه لكن لكل صورة ظاهرة هناك خلفية مُخبأة لم يعلم عنها أحدهم شيئًا، فمبجرد أن يتم اقترابه منه ويُقترن اسمها بطرقاته من المؤكد أن فاجعة حياته الكُبرى ستكون عن طريقها هي وفقط، لذا عليه أن يحاول لأجلها هي، فإذا حدث وكُتِبَت لهُ فرصة ينجو بها بنفسه من بشاعة هذا العالم، بالتأكيد سيعطيها تلك الفرصة بحياته بأكملها لتصبح هي الأحق به في هذا العالم، لكن يرىٰ الهلاك هو نهايته..
__________________________________
<” بالأمس كنا ضد أعداءً واليوم نبحث عن عدونا”>
لولا رفع الغطاء عن الأعين بفضل أفعالٍ غير محسوبة من الآخرين لما كان أدرك المقصد من قسوة العالم حوله، لذا من الممكن أن من نُشبت بيننا وبينه الخصومة مثل حرب اتقدت بها ألسنة النيران ثم تخمد كليًا أن يكون هو ضربة عدونا القاضية.
لا يُصدق نفسه أنه فعلها وتحرك مع “نـادر” حتى وصل به لحارة “العطار” ولم يُصدق نفسه أنه عانقه وهديء من روعه وبكائه وقد تذكر ما مر عليه ولم ينس حتى بلحظة أن الآخر استكان بين ذراعيه وطالبه متوسلًا ببكاءٍ حارق:
_خليه يسامحني علشان خاطري يا “يـوسف” ههو بيحبك وهيسمعلك، مش عاوز أروحله كارهني، قوله يسامحني.
انتحب باكيًا فوق صدره وتشبث به بكفٍ مُرتجفٍ ولم يجد “يـوسف” بُدًا من مداهمة تلك المشاعر إلا أن يُعانقه ويُمسد فوق ظهره وهتف بصوتٍ أجش ظهرت به بحةٌ إثر البكاء الذي جاهد لكتمه:
_هيسامحك، هو طيب وهيسامحك، خليك معايا بس.
لم يعلم كيف نطق العبارة الأخيرة وكأنه هو من يحتاج له لذا وبدون تفكيرٍ أدلى بجملته حتى أرتخت قبضة “نـادر” على قميصه ثم رفع رأسه وهو ينتبه له وقد أدرك حينها أن الخطأ الأكبر بدأ من جُرمه في حق “يـوسف” لذا سحب كف “يـوسف” يحاول أن يُقبله فابعد “يـوسف” كفه سريعًا بدهشةٍ ظهرت بجلوٍ فوق ملامحه وتواصلت النظرات معًا بالعديد من المشاعر المُتباينة وقد وقع هو في صراعٍ بينه وبين نفسه، ولم يخرجه من شروده إلا صوت عمته حينما أتت له بقدح القهوة تضعه أمامه وهي تقول مُرحبةً به:
_القهوة بتاعتك أهيه، أتفضل يا حبيبي.
خرج من شروده على صوتها وقد ركز بعينيه على وجهها ثم سحب نفسًا عميقًا وأخذ منها القهوة لعلها تُخمد الأصوات المُتصاعدة بداخله وقد خرج “نـادر” من غرفته يستند على عصاه بعدما بدل ثيابه ثم جلس بجوار “يـوسف” حتى ابتسمت هي لهما فنطق ابنها بتعبٍ اتضح عليه:
_ماما أنا حاسس إني جعان، الأكل جاهز؟.
_آه يا حبيبي من بدري، كنت مستنياك تغير بس.
هكذا جاوبته وهي تتحرك نحو الداخل ثم عاودت الحراك لسيرتها الأولى وتوقفت أمام ابن أخيها تسأله بأملٍ تود منه ألا يُخذلها:
_ينفع تاكل معانا؟ بقالك كتير مبتاكلش وسطنا أنا نفسي بس والله تدوق أكلي، علشان خاطري ناكل مع بعض.
وزع نظراته بينهما بتساوٍ ثم هتف بجمودٍ ظاهري قبل أن يرق قلبه لها:
_كفاية القهوة، مش عاوز آكل.
أصابتها خيبة الأمل وتهدل كتفاها وهتفت بصوتٍ مختنقٍ:
_مش هجبرك، بس كان نفسي تقعد معانا وأحس إني وسط عيالي الاتنين وبناكل مع بعض، من بدري وأنا بحلم باللحظة دي وأنتَ معايا أنا و “نـادر”.
في الحقيقة هو لم يكن في حاجةٍ لمشاعرها تلك حتى يُصاب بالشلل الدماغي من كثرة تفكيره وكأنها مسألة حسابية اعجزته عن التفكير في حلها، فتنوعت الأصوات بداخله بين:
_آه طقم الحنية دا مش هيعدي بالساهل..
_يا عم حرام على أمك بص شكلها وهي بتتمنى قربه.
_بقولك إيه منك ليه، متصدعوناش هو مش صغير، عاوز يطفح يطفح، مش عاوز هو حُر، كفاية اللي هببه النهاردة وقاله لـ “نـادر” وكان هيضيعنا، أنا مش طايقه أصلًا.
تألمت رأسه بشدة وقد وجد الصوت الرابع ينطق بتيهٍ:
_طب والحل طيب؟ يعني يقوم يمشي ولا لأ؟.
هكذا ألقى بسؤاله عليهم في حوارٍ وهمي صنعته رأسه ليجدها تقترب منه ثم أمسكت كفه تضغط عليه وهي تنطق بنبرةٍ متوسلة أو هكذا بدت له:
_أنا دلوقتي بس حاسة نفسي لو هموت هبقى مرتاحة، أتطمنت إني سايبة ابني مع أخ بجد هيقف في ضهره وعارفة إنك بتحبني ومش هتقدر تقسى عليا، بس سيب نفسك لمشاعرك دي، وأهو تبقى فرصة لينا مع بعض دا أنا عاملة السمك اللي بتحبه والسَلطة كمان.
عفوًا أيها العالم فأنا لستُ بملاكٍ حتى أرضخ وأقبل بكل هذا، وإن رضخت وقبلتُ فمن المؤكد أن هناك ما أخفيه عليكم، لذا عاد للخلف بهيبةٍ ووضع قدمًا فوق الأخرى ثم مرر عينيه عليهما وأضاف موجزًا:
_موافق.
شهقت عمته بتلقائيةٍ وكأنها لا تُصدق فيما ططلت نظرة غامضة من عينيه وهو يبتسم بخبثٍ مع شعور بالتلذذ سار في جسده وأوردته وهو ينتوي أخذ الخطوة التي لمعت برأسه، وبالفعل بعد مرور دقائق امتلأت الطاولة بالعديد من الأطباق حتى ابتسم هو لها بصفاءٍ وقبل أن يبدأ بتناول الطعام وصله الصوت الساخر منه:
_يا راجل؟ حنيت أوام خلاص؟.
أغمض عينيه وضغط على الملعقة في قبضته ثم أضاف يتحدث مع نفسه بغلظةٍ وحِدةٍ:
_لا حنيت ولا نيلة أخرس وأدخل جنب أخواتك خليني أطفح اللقمة بقى، ويمين بالله لو نطقت تاني لأكون باطح راسي بحاجة ومخلص على صوت أهلك دا.
_هتقتلني يا أهبل؟ أعملها وكدا تبقى خلصت خالص هو حد جايبلي القرف غيرك بعمايلك دي؟ كُل يا أخويا كُل ألف هنا.
سخرية وتهكم من شخصٍ وهمي يُجاهد للتقليل منه بداخل رأسه؟ فما العمل إلا أن يضرب رأسه لكي تَكُف عن هذا؟ لا يوجد حلٌ إلا القتل، لكن مهلًا؟ لما يقتل مجرد ساكنٍ برأسه؟ الأفضل أن يقتل من تسببوا في هذا، مهلًا هي لحظات وقتية فقط.
خرج من شروده على صوت “نـادر” يُقدم له زجاجة من المشروب الغازي وهتف مستفسرًا أو رُبما يُلقي بتخمينٍ تمناه صحيحًا:
_أنتَ بتحب تشرب حاجة بصودا مع السمك صح؟.
أومأ له “يوسف” موافقًا ببسمةٍ هادئة وملامح أعربت عن التيه فيما قامت عمته بتوزيع الطعام لهما بحماسٍ مُفرط وكأنها تتسابق مع حواسها وأعضائها لكنها لم تشعر إلا بالفرح وهي تراه جالسًا بينهما كأنه كبير العائلة أما هو فكان قابعًا بين نارين، حيث تلك الذكريات الأليمة التي لم تُبرح خياله حينما كان يهجم عليه “سـامي” ويبعده عنهم عند تناول الطعام، وبين ذكرى جديدة تفوح منها رائحة الدفء كما تفوح رائحة عطر الأقحوان من الزهور المُفعمة..
أنهى جلسته وتناوله للطعام وإطمئنان عمته على زوجته ونساء عائلته ثم سحب سترته وارتداها وهندم ثيابه وخرج من الشقة بعد جلس قضاها في التسامر معهما ثم توجه نحو السيارة وجلس بها، مسح وجهه بكلا كفيه ثم سحب هاتفه وأخرج رقمًا يبغضه ويبغض صاحبه وقبل أن يفعل أي شيءٍ تردد صوت “نَـعيم” في أُذنيه هاتفًا بثباتٍ وشموخٍ:
_مش حلوة في حقك إنك تخلص على عدوك قبل ما تثبتله إنها راحت عليه، لازم تقهره في اللي يعزه هو ويحبه زي عينيه، خُد منه كل حاجة حتى لو كان السيط والسيرة نفسهم، وخليه زي قرد قطع كدا وبس، وربنا يكفيك شر اللي كعبك عالي عليهم.
كأن الحديث أتى له بموعده الصحيح حتى فتح المراسلات عبر أحد تطبيقات التواصل الإجتماعي ثم قام بارسال صورته برفقة عمته وابنها على طاولة الطعام ثم ضغط على أيقونة الرسائل الصوتية وتحدث بثباتٍ وعِزةٍ لم يملكهما إلا صاحب الحق..
على الجهة الأخرىٰ كان “سـامي” في مقر العمل وقد لاحظ وصول الرسائل له فأمسك الهاتف مُسرعًا ورأى الصورة بعينيه وسُرعان ما اتقدت النيران بهما لتزداد لهيبًا بصوته الذي يكرهه هو حينما أرسل له مرفقًا بالصورة:
_إزيك يا أنكل، هي مش برضه كانت بتقولك كدا؟ ما علينا النهاردة بجد كان يوم تحفة، قعدت وخدت مكانك وكلت وشبعت، آه وعمتو حبيبتي فصصتلي السمك علشان مبهدلش أيدي، كان نفسي أقولك اليوم ناقصك، بس أنتَ أساسًا راجل ناقص أصلًا، أظن فاكر كويس إن دي عيلتك اللي كنت بتحاول تبعدني عنهم، شوفت بنفسك بقى إن أنا اللي ليهم في الآخر، ولسه اللي جاي سواد على دماغ أمك.
ليست مجرد نيرانٍ فحسب؟ وإنما أحطاب العالم بأكملها وضعت بين جنبات صدره وسُكِبَ فوقها الموقد وهو يرى إنتصار عدوه عليه، ليس أي انتصارٍ، وإنما هو ينتصر عليه في أكثر ما خشى أن يقترب منه، حربٌ نُشِبت بين طرفي اعتمدا على أسلوب الكَـر والفَـر والرابح من يقضي على عدوه أولًا، لذا صرخ “سـامي” بقهرٍ ألقى بأدوات مكتبه أرضًا ثم أخرج رقم المُحامي يطلبه بسرعةٍ كُبرى حتى وصله الرد فاندفع مُنساقًا خلف غيظه من غريمه:
_عاوزك تخلصلي ورق طلب “فـاتن” في بيت الطاعة، ولو فعلًا مبقاش ينفع شوفلي أي صرفة أجيبها تحت رجلي تاني، مش بعد كل العمر دا هسيبها تروح مني، دا أنا أقتلها أهون، شوفلي صِرفة ومن غير ما “عـاصم” يعرف.
أنهى المكالمة الهاتفية ثم أغلق الهاتف وألقاه فوق مكتبه وشدد مسكته لخصلاته وخللها بأصابعه وهو يشعر أن رأسه كادت أن تتفجر من شدة تدفق الدماء لها.
__________________________________
<“لا تلومن الطيور على رقصه،
فالطير يرقص مذبوحًا على نفسه”>
علة المرء دومًا في ماضيه، وكأن خيوط الماضي تتشابك مع ألمه لتُشَكِل ألمًا ينصب صبًا في قلبه، لذا كُلما سألت مرءًا أي الأشياء يود أن يمحوها من أيام عمره لن تجد جوابًا إلا كلمة الماضي..
رحل بشقيقته من بيت “نَـعيم” بعدما ودع الشباب وقطع وعدًا بالمجيء مُجددًا ولم يخفَ عليه نظرة “إسـماعيل” لشقيقته أثناء رحيلها وكأنها أملٌ ينسلت من بين يديه أما هي فابتسمت له ثم لوحت بكفها وودعته ورحلت مع شقيقها في سيارةٍ أوصى بها “إيـهاب” لكي تقلهما إلى الحارة بدلًا من وسائل المواصلات، وبعد وصولهم لأول منطقة حارة “الـعطار” طلب منه أن يقف هنا ثم نزل برفقة شقيقته..
تعجبت “ضُـحى” من فعله كثيرًا من مطلبه وسألته حائرةً:
_مخلتهوش يوصلنا للبيت ليه؟.
_عاوز أتكلم معاكِ شوية لو سمحتِ بعيد عن البيت، تعالي نقعد عن محل عصير القصب دا نتكلم شوية براحتنا.
كان حديثه جامدًا ووجهه مُقتضبًا فيما عقدت ملامحها وتوجهت معه فيما سحب هو المقعد لها وجلست ثم جلس بقربها ونطق مُباشرةً دون الدخول للمقدمات أو المزايدات:
_أنتِ لازم تفكري تاني في موضوعك مع “إسماعيل” يا “ضُـحى” لازم تدي فرصة لعقلك زي ما حكمتي قلبك وخليتيه هو اللي يتصرف، تقدري تقوليلي الحل إيه؟.
تحدث بأكثر مما تخشاه هي، لذا ابتلعت ريقها وحركت بؤبؤيها هربًا من عينيه ثم هتفت بتلجلجٍ حينما لمس أشد الأوتار حساسةً بداخلها:
_وماله موضوعي مع “إسماعيل”؟ الدنيا لحد دلوقتي ماشية كويس وزي الفل ومفيش أي حاجة بيني وبينه يا “عُـدي” غير كل خير وهو نفسه محترم ومراعي ربنا فيا، مش فاهمة كلامك دا لازمته إيه؟.
رفع حاجبيه يستنكر ما تتفوه به كأنها تتهرب من مواجهة الحقيقة فأضاف هو بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_لازمته إيه؟ “ضُـحى” أنا أحترمتهم علشان هما مكدبوش عليا، قالولي كل حاجة حصلت بالظبط واللي عرفته بحكم أني أخوكِ يخليني أنصحك يا “ضُـحى” كفاية إننا مخبيين على أبوكِ وأمك حاجة زي دي!! لو حصل تاني و “إسماعيل” حالته اتدهورت هيبقى إيه العمل؟ بلاش هأمن عليكِ إزاي وأنتِ معاه؟.
ترقرق الدمع في عينيها وكادت أن تجهش بالبكاء لكنها أخفت ضعفها عنه فوجدته هو يمسك كفها وأضاف بقلقٍ حقيقي عليها:
_أنا والله مش بنظر ولا بقلل منه، بس الموضوع مكلكع، أنا أحترمت رغبتك إنك عاوزاه وعاوزة تحافظي على سره طالما دي حاجة قديمة وتخصه هو، بس حاليًا تخصك أنتِ كمان بما إنك مراته، إيه العمل؟ تقدري تقوليلي طيب؟ ومتعيطيش.
نهرها بنبرةٍ جامدة حتى مسحت هي وجهها بكلا كفيها ثم نطقت بصوتٍ مُرتجفٍ تخبره بمخاوفها:
_علشان كدا ماكنتش عاوزة حد يعرف، كنت متأكدة إن أول ما حاجة هتحصل دا هييجي في بالكم وإنكم تخافوا عليا وهو يصعب عليكم، وأنا مش عاوزة شفقة من حد، مش عاوزة كل شوية علاقتي بيه تبقى سيرة للناس، أنا وعدته أكون معاه وهو كمان كان معايا كويس أوي وبخير، علشان خاطري حافظ على وعدك ليا.
كالعادة رأسها اليابس لن يقبل المناقشة، تُصر على ما تود وترغب، لن تُزعزع إرادتها وقد عاد بظهره للخلف يسألها بتريثٍ كأنه يتكيء على أحرف كلماته:
_فاكرة ساعة “عـلاء”؟ قولتلك بلاش دا وكلنا قولنالك بلاش دا وساعتها قولتي أنا معاه وكل حاجة هتعدي وهو بيحبني، كانت إيه النتيجة؟ بص لأختك ومحترمش حرمة البيت، أنا بنبهك أهو، جواز من “إسماعيل” مش قبل سنة سنة ونص بالكتير قبل كدا لأ يا “ضُـحى” زي ما أنتِ كدا عاوزاني أحافظ على سرك يبقى تسيبيني أحافظ عليكِ، علشان أنا متأكد إنك خايفة بس بتعاندي مع نفسك.
عاد تمردها من جديد فهتفت باندفاعٍ تتولى مرافعة دفاع عن حبيبها البريء أمام ظلم البشر:
_بس “إسماعيل” ميتقارنش بحد تاني، المعفن اللي اسمه “علاء” دا كان نزوة وغارت في ستين داهية، إنما دا لو طلب روحي مش هقوله لأ، عارف ليه علشان أنا ربنا عوضني براجل بجد، ومستحيل هسيبه، أنا بحبه وهو بيحبني، أنتَ مش بتحب؟ بتحارب علشانها ولا لأ؟.
داعبت بأناملها نفس الوتـر لديه حتى عاد للخلف يرمقها بنظراتٍ ثاقبة بعدما أجادت اسكاته نهائيًا ولم يكن أمامه إلا أن يبتسم مُرغمًا على ذلك ثم زفر بقوةٍ وسألها بجمودٍ:
_تشربي إيه خلينا نروح ونخلص.
رفعت حاجبيها بتحدٍ له وسألته بتهكمٍ:
_أنتَ حرقت دمي وفورت أعصابي، شوف أغلى حاجة هنا وهاتهالي خلي عندك دم، ولا أنا علشان عيني مش زرقا ولا قصيرة هتعاملني ناشف كدا؟.
فهم ما ترمي إليه بكلماتها ومن تختص بحروفها لذا مال بجسده عليها يُهددها صراحةً بقوله:
_ورب الكعبة يا “ضُـحى” لو ما بطلتي لأروح وأكلك علقة؟ هخليكِ تعرفي إن الله حق علشان من ساعة ما عرفتي وهي بقت لبانة في بوقك، خلاص ياختي، أهدي.
كتمت ضحكتها على تذمره فيما طلب هو له ولها ما يعلم أنها تحبه وتركها أسيرة للشرود وتخبط الأفكار، تعلم أنها بمثابة مُخاطرة لكنها ستفعلها لأجل حُبها، تلك المرة تحديدًا هي أدركت أن الحُب هو أول الصعوبات التي يتوجب على المرء اثبات نفسه فيها، وهي لأجله ستفعلها، الأمر فقط يحتاج لجلسة برفقة “قـمر” حتى تُرتب نفسها.
__________________________________
<“لما نُحب الظلام وإن كان النور حتمًا سيظهر”>
الطريق الممتليء بالصِعاب يكن خيرًا من طريقٍ فارغٍ، لذا الأنفاق المُعتمة الواعرة نجد دومًا في نهايتها أضواءً تُنسينا ظُلمة الطُرقات وقسوة المسير، فلما نعتاد الظلام إن كان طريقنا نهايته نورًا؟.
وقف في البيت الواسع يُتمم على كل شيءٍ به بعدما ظهرت الأضواء وقام بتنظيفه من الغُبار وإعادة طلاء جدرانه وكأن يُطلي شقوق قلبه المعذب من بعد فُراقٍ دام لكثيرٍ من الوقت عليه، وقف يبتسم بسعادةٍ يتمناها تلك المرة أن تكتمل كما أراد، فقط عدة ساعات هي ما تبقت على اجتماعهما سويًا، وعلى عناقٍ منىٰ نفسه به كثيرًا بين ذراعيها لتحميه من الخارج، عاش يتيمًا وترعرع وحيدًا ولم يملك غيرها هي نورًا من وسط الظلام، حتى أن بيته أضاء أخيرًا لمشارفة قدومها..
وصله صوتها اللطيف من الخلف وهي تقول بمرحٍ:
_شوفت ذوقي حلو إزاي؟.
التفت “سـراج” باسم العينين والوجه فوجدها أمامه تسرقه برقة طلتها، يكاد يُجزم أنها الأجمل والألطف في هذا العالم، كانت أمامه بعينيها الواسعتين الضاحكتين كما ثُغرها الوردي، خصلاتها السوداء الطويلة بكثافةٍ أضحى يعشقها ثم غُـرة جميلة استقرت فوق جبهتها، كانت ترتدي سترة قطنية سوادء اللون بنصف أكمام، وارتدت سروالًا من خامة الچينز باللون الأزرق الثلجي، فبدت أمامه كقطعة حلوىٰ مُشتهاة لكنها لازالت مُحرمة عليه..
أقترب منها عدة خطواتٍ ثم وقف يأسرها بعينيه وهتف يراوغها بقوله:
_لأ والله محدش ذوقه حلو هنا غيري أنا.
رفعت كلا حاجبيها بعدما وَجمَ وجهها من جوابه المُغتر فيما علق هو مُعدلًا حديثه أو رُبما مفسرًا مقصده:
_ذوقي حلو علشان أخترتك أنتِ.
من الأساس هي مجرد فتاة ساذجة لذا ضحكت مُجددًا ثم سحبت نفسًا عميقًا وجاورته وهي تطوف المكان بعينيها ثم خاطبته دون أن تنظر إليه بل ظلت تُملي عينيها بالمكان:
_من أول مرة جيبتني هنا علشان تقولي دا هيكون بيتنا وأنا حاسة إنه بيتنا فعلًا، أرتحت ليه أوي وبقى عندي حماس أيام خطوبتنا نكمله مع بعض، ساعتها افترقنا عن بعض بس منسيتش البيت دا وفرحت لما رجعت لقيته، رغم إني كنت مش هكمل بس البيت دا بحبه ومش عاوزاه لحد غيرك.
أبتسم هو لها بصفاءٍ وسكت عن الحديث كعادته الغبية حينما يشعر بالفرح، على نقيض حزنه وضُجره يكون كأجود المُتكلمين، لذا راقبته هي بتعجبٍ ثم سألته بضيقٍ من صمته:
_هو أنتَ يا تطول لسانك، يا تسكت خالص، بتسكت في أوقات مينفعش تسكت فيها، البيت عجبك بعد التغييرات دي؟.
تنهد هو بِعمقٍ ثم أقترب منها حتى التصقت بالحائط خلفها وشهقت رغمًا عنها فيما حافظ هو على مسافةٍ كافية بينهما وأخفض نبرة صوته وهو يقول بصوتٍ رخيمٍ لامس أوتار فؤادها ليعزف أجمل الألحان:
_يعني دلوقتي عاوزاني أتكلم؟ وترجعي تقوليلي اسكت علشان أنتَ قليل الأدب؟ بس أنا بقى هلاعبك بالسياسة، ناوي من هنا لحد كتب الكتاب مفتحش بوقي خالص، وهحوشلك كله لوقته المناسب، علشان مقلش أدبي تاني.
اربكها بقربه منها فدفعته بكفها المرتجف، فرفع حاجبيه يسألها بمراغةٍ تزداد كُلما تحدث معها وكأنه يعيش في حُلم صيفي يُحلق به فوق السحاب:
_من أولها كدا إيدك بتترعش؟ أومال لما آخدك في حضني بقى هتعملي إيه؟ عمومًا أنا هبقى أوضحلك باستفاضة.
كتمت ضحكتها وهي تُشيح بعينيها عنه حتى وقد صدح صوت هاتفها برقم عمتها فابتعدت عنه حينما فرت هاربة وقد استرق السمع ليجدها تهتف بحماسٍ:
_بجد؟ لا أنا داخلة أهو استنيني.
أغلقت المكالمة تزامنًا مع التفاتها له تخبره بحماسٍ:
_أنا هروح لعمتو عندنا علشان خلصتلي فستان كتب الكتاب وهقيسه، متنساش البدلة بتاعتك، باي.
لوحت له مودعةً بخجلٍ فطري جعل الحُمرة تسكن وجهها وقد ابتسم هو حينما تابع حركتها ثم خرج خلفها بعدما أغلق البيت وتمم على كل شيءٍ به وحينها صدح صوت هاتفه برسالةٍ ابتسم هو لها بعدما تأكد أن هي من أرسلت له صورة الفستان، لكن ظنونه تبددت حينما وجد الرسالة من رقمٍ مجهولٍ مفداها:
_مبروك يا عريس، أنا جدع وهسيبك تكمل فرحتك للآخر.
سقط قلبه من موضعه وتوسعت عيناه وسُرعان ما قام بمسح الرسالة آخذًا بمبدأ اعتزل ما يؤذيك وقد قرر أن يبتعد عن كل ما يُهدد فرحته لكن القلب فُرضت عليه سياج الخوف لتسجنه وتمنعه عن الحُرية في التعبير عن فرحته.
__________________________________
<أمسى المستقبل حاضري، وأنا أسير الماضي”>
المستقبل؟ أهي تلك الكلمة التي يُقصد بها ماهو قادمٌ علينا أم ما نجهله نحن ونجهل ما قَدُمَ هو به؟ على كُلٍ لقد أتى مستقبلي وأمسىٰ حاضري وأنا وبكل آسفٍ أعانق الماضي الذي لم يُبرح عقلي وكأن تعاقد مع بعقدٍ أبدي لكي أعهده بكل أيام عُمري.
جلست فوق فراشها بعد عودتها من العمل بعدما فعلت كل شيءٍ لأجل التأكد من قرارها بشأن علاقتها معه، نعم لازالت تشعر بالحيرة لكن أمام استماتته لأجلها أخذت الخُطوة الصحيحة بشأن القرب منه، وقد أمسكت الزهرة التي أهداها هو لها بلونٍ يُقارب لون عينيها وابتسمت حينما تردد على سمعها جملته العابثة:
_بس الوردة حلوة وتستاهل المُعافرة.
بسمة هادئة صاحبت معها صخبًا في القلب وهي تختبر معه هذا النوع من المشاعر لمرتها الأولىٰ، لقد جاء مُحاربًا لأجل مدينة مُحصنة لذا شردت به أثناء عمله واندماجه فيما يفعل، تفانيه في العمل، وقوته في إدارة المكان، صرامته في توجيه العاملين، لينه مع المتدربين، كل شيءٍ يفعله يجعله الأفضل في عينيها، لذا ضمت الزهرة بكلا كفيها ثم اشتمت رائحتها وأعادتها من جديد لدفترها..
طُرق باب غرفتها ينتشلها من تيهها وولهها به وقد اعتدلت وهي تُعيد خصلاتها للخلف وترفرف برأسها كأنها تعمل أو تفعل أي شيءٍ كمراهقةٍ تخشى كشف أمرها، أما والدتها فولجت لها وجلست على الفراش بجوارها وهي تُحدثها بسعادةٍ:
_أنا خلاص كلمت خالك وأختك وخالتك وعرفتهم إنك وافقتي أوعي ترجعي في كلامك أبوس راسك، دا أنا ما صدقت عُقدتك تتفك أخيرًا والله من غير ما أشوفه حبيته ودخل قلبي، بس مش مهم أنا المهم قلبك أنتِ.
نكست “رهـف” رأسها بخجلٍ خشيةً من الجواب لطالما كانت صاحبة شخصية عملية لا تميل للعواطف أو تنساق خلف المشاعر، وقد فهمت “لـوزة” ذلك فرفعت رأسها وهي تقول بمشاعر أمومة خالصة:
_باين في عينك إنك بتحبيه وإنك مبسوطة، ريحي قلبي بقى وكملي فرحتي دي، والله ما عاوزة غير فرحتك وبس وتنسي كل اللي مزعلك، وتنسي الماضي بصاحبه كمان، خرجيه من حياتك علشان تقدري تعيشي يا “رهـف”.
فهمت هي أن الحديث يخص”حـمزة” لذا أغمضت عينيها فأضافت أمها بلهفةٍ تُقنعها بطريقةٍ أخرى:
_بصي يا حبيبة ماما، مفيش حد بيموت ورا حد، ومفيش حد بيوقف حياته علشان حد كلنا بنمشي، وإلا كنت وقفت من بعد باباكم؟ بس كان لازم أحاول وأحارب وأطلب حقكم من عمامكم ومامته علشان محدش منهم ياكلكم، وكملت وكبرتكم وفرحت بيكم، أنتِ برضه كملي وعيشي حياتك كلها، محدش هيقولك حاجة، بس كله إلا الخيانة، مينفعش ست تكون متجوزة ومع راجل وعقلها ومشاعرها مع واحد تاني حتى لو كان ميت، دي خيانة، وأنا عارفة إنك عاقلة، بس علشان كل الأمور تكون صح، أخلصي من حاجة “حـمزة” اللي هنا، أديها لـ “حـازم” أخوه يحتفظ بيها، بس أنتِ خلاص كدا، طالما بتدي فرصة لواحد تاني يبقى ميصحش إنك تفتكري حد غيره ولا حتى مشاعرك تبقى معاه، لو مش هتقدري يبقى من دلوقتي أهو أدي نفسك فرصة تانية.
أهي خُلقت لتصاب بالتشتت؟ أي مصيرٍ هذا الذي كُتِبَ عليها لكي تصبح بهذا الخلل؟ بالطبع هي تكره الخيانة وتكره الخائنين لكن الأمر يحتاج لبعض الوقت حتى تتجاوز “حـمزة” الذي ملأ حياتها لثُلثي عمرها بالتقريب، حتى وإن تخطت مشاعر حبها له، كيف ستتخطى رفقته الطيبة؟ لما من الأساس ولج حياتها إن لم يُكمل معها الطريق؟ هل لكي يتركها مُعذبة بتلك الطريقة؟ أم أن هناك حكمة لم يعلمها البشر؟.
__________________________________
<“العالم بأكمله في عيني سرابًا، فهل أقف لأجله؟”>
ثمة قلة قليلة من بين البشر يعشقون اللعب بدور الضحايا، تراهم هم المؤذيين الأوليين في حياة غيرهم لكن أمر إقناعهم بتلك الحقيقة أصعب من تقبل آذاهم، لا تدري هل هم حقًا يرون نفسهم بتلك الطريقة، أم هي مجرد وسائل لدفع أية شُبهات عن طُرقهم؟ لكن هل يُعقل أن لصًا يُقسم بآيات الخالق ويُصدقه بشرٌ غير الساذج؟..
تجلس كما هي في بيت عمها مع تلك الفتاة الغامضة التي تثير الخوف في نفسها بدءًا من هيئتها مرورًا بطريقة تعاملها في البيت، كل شيءٍ تفعله من باب الغموض حتى تناول الطعام ذاته، لقد رآت “شـهد” أن أفضل الحلول وأحسنها صُنعًا أن تعود لبيت أبيها بعد أن ينتهي من ظروف عمله التي أوقعه بها “سـراج” ولازال يحاول الحفاظ على هيبته وسط سوق الأعمال التجارية..
جلست بحديقة البيت وخصلاتها تسترسل من خلفها وتطير بفعل حركة الهواء وهي تمسك هاتفها تتصفحه بشيءٍ من قبيل الملل حتى أتت تلك الغامضة التي سحبت المقعد وأرتمت فوقه بعدما أخذت الجُرعة الثانية خلال هذا اليوم من المواد المُخدرة، وقد أخرجت هاتفها هي الأخرى فوجدت صورة “نـور” برفقة “سـراج” يُعلنان عن موعد عقد قرانهما فابتسمت بخبثٍ وسألتها:
_هي “نـور” صاحبتك دي هتتجوز؟.
انتبهت لها “شـهد” التي رفعت عينيها نحوها وزفرت بمللٍ وهي تُعقب بقولها:
_آه، هتتجوز واحد بيحبها وبتحبه.
_يعني مش “نـادر” زي ما قولتي إنهم بيحبوا بعض؟.
ها هي تُذكرها بكذبها عليها لذا هربت من أسر نظراتها بعيدًا عنها فضحكت الأخرى ثم أضافت بخبثٍ من جديد ونظراتها لا توحي بأي خيرٍ ولو ذرةٍ واحدة:
_عارفة؟ أنا كل ما أحاول أصفالك أكرهك أكتر، بجد أنتِ بشعة أوي، فاكرة أول مرة شوفته فيها؟ الغريب إنك وافقتي تتجوزيه عادي وأنتِ عارفة إني حبيته وإن صاحبتك كانت بتحبه، بس حلي في عينيكِ علشان فلوسه وشغله ومركزه، قوليلي كدا أنتِ أديتيه إيـه؟ ولا أي حاجة، أنتِ أنانية وخدتي اللي نفسك فيه وبس، بس دا أخرك واحدة مُطلقة، لا طالت سما ولا طالت أرض والله شمتانة فيكِ.
إن كنت تظن أن من تجلس أمامها غبية أو بشخصيةٍ يسهل التعامل معها فهي بالطبع وقعت في فخٍ بكل غباءٍ، وقد أمتد كف “شـهد” يقبض على خصلاتها وهي تهدر من بين أسنانها المُتلاحمة:
_بت!! أنا إن كنت سكتالك فدا علشان أنتِ بنت عمي مش أكتر وأنا مقدرة ظروفك، بس هتطولي لسانك هقطعه، ولو أنا مُطلقة فأنا أكيد أحسن من واحدة مدمنة مخدرات زيك، ولا فكراني معرفش إنك بتروحي النادي علشان تاخدي الهباب اللي بتطفحيه دا؟ روحي لـ “نـادر” يلا بس هو هيقبل يبص في وشك أصلًا؟.
أهانتها وتسببت في ألمها بحديثها ولم تجد “نـورهان” بُدًا من دفعها بعيدًا عن خصلاتها ثم تركتها واندفعت للداخل باكيةً بقهرٍ ثم ولجت غرفتها تضم جسدها فوق الفراش بكلا ذراعيها بعدما جلست القرفصاء، لتمر أمامها شرائط من عمرٍ فات لكن أثره لم يفت، ليتكرر في سمعها الآتي:
_بصي يا حبيبة بابا، أنا وماما لما قررنا ننفصل عن بعض خلاص، هي بقى فيه حد تاني كان في حياتها وأنا وهي مش متقبلين بعض تاني، وأنا فيه واحدة تانية في حياتي وخلاص رتبت أموري عليها، بصي هي خلاص اتجوزت النهاردة، وأنا بالكتير أسبوع وهتجوز، بس مش عاوزك تقلقي دا بيتك ومحدش هيقعد فيه معاكِ، ومصاريفك وكل اللي تحتاجيه هتاخديه مني ومش هخليكِ تحتاجي حاجة خالص.
لازال حديثه دومًا يتردد في أذنها وهي تجلس بمفردها، لم يكذب معها لقد مدها بالعديد من الأموال وترك لها بيتًا كاملًا تعيش فيه بمفردها، وفي نهاية كل أسبوعٍ تجد أموالًا طائلة تكفي تقريبًا لأربع عائلات خلال شهرٍ بأكمله، وكل ذلك حتى لا تتردد على حياته وتزعجه وتزعج “الهانم” زوجته كما تُلقبها هي، فلم تجد إلا المخدرات تلتقي بين أحضانها وتأخذها سبيلًا لنسيان ألمٍ لم ولن يُنسَ.
أخرجت هاتفها عنادًا بابنة عمها وضغطت على اسمه الذي لم يبرح سجل البحث لديها في كل المواقع الإلكترونية ثم أخذت الخطوة وراسلته مُباشرةً بكتابتها:
_إزيك يا “نـادر” عامل إيه؟ أتمنى تكون فاكرني.
أرسلتها له وأنتظرت الرد وحينما طال الإنتظار لجأت لتصفح صفحته وصوره التي تنوعت بين الرسمية بِحُلة عمله، وبين الأخرى بوسامته التي سرقتها منذ الوهلة الأولى وهو بكامل أناقته وزهوه، حتى أن أول لقاء بينهما لازال ساكنًا في عقلها ولازال يُعطيها أملًا.
__________________________________
<“أتيتُ إليكَ بكل ما بي، وجدتَك أنتَ ساكنًا بي”>
اللحظات التي تُفرق بين الشيء وحدوثه بالطبع هي لحظات مُميتة سارقة للأنفاس، لذا بين هذا وذاك ستجد أنفاسك مسحوقة ومسروقة منك ولن تعد إلا بتأكدك أن ما رسمته بخيالك تحقق أخيرًا..
على الرغم من ألمه ووجعه إلا أنه تحامل على نفسه ورسم سعادة زائفة أمام الآخرين حتى لا يتم سؤاله عن أي شيءٍ ولكنه لم ينس تواجد رفيقيه معه خاصةً “يـوساب” الذي عاون كثيرًا في الشقة وتحضيرها، ومعه “بـيشوي” حتى أنتهيا ونزلا برفقة الفتيات وقابلهم بالأسفل “نَـعيم” وهو يشكرهم بقوله الوقور:
_نورتوا البيت يا شباب، عقبالكم قريب كدا نتعبلكم في الفرح ونرد جمايلكم.
أقترب منه “بـيشوي” يُصافحه بقوله الثابت:
_مفيش جمايل بين الأخوات، وابنك طول عمره أخويا الصغير وعمري ما فكرت إنه مجرد صاحب، كفاية فرحته عندي بالدنيا كلها وأنا أتشرف بحضرتك في أي وقت من قبل حتى ما أعرف إنك والده، أظن قولتهالك قبل كدا.
ربت الآخر على كتفه ثم التفت للآخر يصافحه بقوله:
_أنا شوفتك النهاردة بس ارتحتلك برضه يا دكتور، عقبالك قريب كدا وساعتها أبقى خُد “تَـيام” بقى طلع عينيه وفوقيه “مُـحي” كمان مش هزعل والله.
ضحك له “يـوساب” وشكره ثم أشار للفتيات الثلاثة بالرحيل وقد ظل “مُـحي” ممعنًا بنظره في وجهها وهي تَغض بصرها عنه هربًا منه، شيءٌ غريبٌ بها يجذبه نحوها ويغيره كل قوانينه وثوابته، لن يبالغ بالقول إذ قال أنها أول فتاة يحفظ اسمها عن ظهر قلبٍ، وأول فتاة محتشمة رآها بعد معايشته ورؤيته لغيرها من الفتيات والنساء حتى الراقصات، لكن تلك؟ تلك هي رائحة المِسك التي حُرمت على من عاش وسط قذارة العالم، بالطبع يستحيل أن تجمعه بها طُرقات وإلا ستكون مُعجزة من الخالق..
انتبه له والده بعينين ثاقبتين بعدما أدرك أنها نفسها التي سُرقت في السابق واهتم لأمرها، ومن المؤكد أن هي ذاتها التي تجعله شاردًا فيها ومن المؤكد أن هي سبب وقوفه بتلك الطريقة وكأنه أعمى يود لمح النور، لذا خاطبه بلهجةٍ آمرة:
_وراهم يا “مُـحي” وصلهم لبرة.
أومأ موافقًا بعدما حرك عينيه بعيدًا عنها وخرج خلف شقيقه وقد كانت معهم “وداد” التي تدير بيت “عبدالقادر” وأتت لهُنا باعتبارها مُربية “آيـات” وأشرفت على شقتها كما تشرف على كل ما يخصها منذ صغرها.
في الخارج وقف “بـيشوي” حائرًا ورفع كفه يحك فروة رأسه وهو يقول بحيرةٍ في أمره:
_طب دلوقتي هنمشي إزاي؟ العربية مش هتكفينا.
سأله “يـوساب” بحيرةٍ اقتبسها من لهجته:
_أومال هما جُم إزاي أصلًا؟.
تدخل “تَـيام” يفسر له بقوله:
_بَعت العربية بالسواق تاخدهم هما الأربعة، خلاص روحوا أنتم بعربيتكم و “مُـحي” يوصلهم زي ما العربية جابتهم لحد هنا وخلاص.
من المؤكد أنه حلٌ لن يرضي كافة الأطراف لذا قال “بـيشوي” بثباتٍ:
_بص هات معايا “مهرائيل” و “مارينا” وخلي الست “وداد” و “جـنة” و “يـوساب” مع “مُـحي” وكدا نبقى ظبطنا الأمور وخليناها بحلول وسط ولا تيجي يا “جـنة” معانا ونودي “مـارينا” مكانك؟.
تحدث “مُـحي” بثباتٍ يمنع الاقتراح الأخير بقوله:
_عندي ليك فكرة أحسن، خُد معاك خطيبتك والست “وداد” وهات معايا الدكتور وخطيبته والآنسة “جـنة” وكدا نبقى مفرقناش بين حد والتاني.
على كُلٍ هذا أفضل الحلول وأجودها لكن ليست كل الحلول المُتاحة يتم تنفيذها، حيثُ تم التطرق لحلٍ غير المذكور وهو أن “وداد” و “جـنة” وقع عليهم الإختيار في سيارة “مُـحي” والبقية معًا بسيارة “بـيشوي” وفي كل الأحوال تم رضاء جميع الأطراف، وفي سيارة “مُـحي” جلس بها يتابعها بعينيه بين الفنية والأخرىٰ وهي تمسك في يدها المُصحف الشريف تقرأ منه بنبرةٍ خافتة والمرأة تضع رأسها على كتفها بعدما غلبها النُعاس فتحدث هو بثباتٍ:
_لو هي مضايقاكِ ممكن تحركي راسها الناحية التانية.
أنتبهت لصوتها لكنها لم تجاوبه على الفور بل انتظرت مرور ثوانٍ ثم جاوبته بصوتٍ مرتجف:
_لأ عادي، هي حرام بتصحى من الفجر علشان تشوف شغلها وتعبت معانا النهاردة أوي في الشقة، بعدين لو حركت كتفها كدا راسها هتوجعها، خليها كدا أفضل.
ابتسم لها في مرآة السيارة ثم ركز بعينيه مع الطريق ولازالت تخونه عينيه وتتطلع إليها وهو يُراقبها مُشبعًا عينيه بها، هيئتها خاطفة لأعتى الرجال، ومثله ينبهر بكل تفاصيلها، محظوظٌ من الرجال من تقع تلك الفتاة من نصيبه، يبدو أنها غير السطحيات التي قابلهن يتهافتن على سيارته ووسامته، وقلة اهتمامه بهن، ثم أموال أبيه الكثيرة، والأملاك الأكثر، إذا لم تنبهر بكل ذلك فماذا يلفت قلبها نحوه إذًا؟ بماذا يأتيها لكي تنتبه له؟ صدح صوته ساخرًا دون أن يعي لنفسه:
_سُرة من الدنانير وعشرون ناقة من الإبل تجيب؟.
انتبهت هي لجملته بدهشةٍ فيما حمحم هو بخشونةٍ ثم هتف بلامبالاةٍ حتى لا تكترث بأمر ترهاته وجملته الغير مقصودة:
_متشغليش بالك أنتِ، دي صفقة خِيم برتبلها بس شكلها هتعصلج شوية، أدعيلنا شكلك بركة وربك هيكرم.
ابتسمت له وهتفت بصوتٍ خافتٍ وهي تعود بنظراتها لكتاب الذِكر الحكيم وكأنها لم تكترث به:
_ربنا يناولك مُرادك ويرزقك بالخير والأصلح ليك.
دعوتها تلك سيعتبرها مكافاة جده واجتهاده طوال الأسبوع المُنصرم لذا سيحفظها في ذهنه ويُغلق عليه بسردابٍ حتى لا تُبرح عقله، لعلها تصبح حافزًا في أيامه المُقبلة ليُكمل بنفس المنوال دون أن ينحرف عن استقامةٍ مفروضة عليه.
__________________________________
<“إن كان طرف لساني خانني، فطرف عينك لن يخون”>
اللسان النقي دومًا هو ما يحفظ الأذى بعيدًا عن غيره، لكن ماذا لو تلك الكلمات التي طعنت المرء كالخناجر المسمومة هي ذاتها التي حملت الحقيقة وبثتها بثًا في وجه من أمامها؟ بالطبع لن يُشفى المطعون بها ولن يرتاح الطاعن..
كان يهرب من الجميع حتى ذاته واستقر بجانب صديقه الوفي “عـنتر” وقف معه يمسح فوق رأسه وخصلاته والآخر يُصهلل انسجامًا وانخراطًا معه، ورغم ذلك كان يواسيه حينما وجده على غير عادته معه فزفر “إيـهاب” حينما أدرك مداعبة الخيل له وهتف بضجرٍ:
_يا سيدي أنا كويس والله، مش ضامن أقولك بصراحة ألاقيك بتقلب عليا، عارفك شبهي قلبتك والبحر، وأنا شكاك بشك في صوابع أيدي، بس قولي تفتكر هو فعلًا حاسس إني بخنقه؟ أكيد مش قصدي بس أنا ماليش غيره، بهتم بيه علشان… علشان من غيره أنا اللي بتوه مش هو، تفتكر طيب هو لما قال كدا مكانش هو ولا كان التاني؟.
يستعن بالخيل حتى يجاوبه؟ حقًا من يراه سيحسبه يسير في دربٍ من الجنون لكن في حقيقة الأمر هو يعلم أن جوابه اليقين عند رفيقه، يعلم أن حركة الرأس وحدها ستجاوبه، وقد رفع “عـنتر” رأسه بشموخٍ يرفض حديثه حتى سأله رفيقه بضجرٍ:
_ولما هو لأ، قال كدا ليه يا “عـنتر”؟ إلا إذا كان حاسس بحاجة من دي، لو هو بس يريحني ويقولي ماله والله العظيم أنا ما هضايقه تاني، بس خايف أقرب منه يفتكرني بضايقه ولسه شايف عينه متعلقة بيا كأنه عيل تايه وسط الناس.
شعر بملمس كف أحدهم فوق كتفه فالتفت برأسهِ ليجده شقيقه الذي ازدرد لُعابه ونطق بترددٍ وخوفٍ:
_أنتَ ليه مش عاوز تقرب مني؟ خايف؟.
ارتجف صوته وهو يسأله حتى التفت الآخر بكامل جسده يجول بعينيه في ملامحه يُقارن بين تلك الهيئة والهيئة الأخرىٰ فلم يجد إلا الطيبة والبراءة وصفاء الملامح، بينما شقيقه فقال بلهفةٍ يدافع عن نفسه:
_أنتَ أكيد مش خايف صح؟ مينفعش أنتَ تخاف مني وتفضل بعيد مش عاوز تقرب، أنا أصلًا خايف من غيرك، وقولت إنك مش هتسيبني برة حضنك، بس أنتَ حتى مش عاوز تقرب مني، خوفت؟.
سأله مُجددًا ليأتيه الجواب على هيئة عناقٍ احتواه بكل قوته وهو يضغط عليه ويُكبله بكلا ذراعيه فارتمي عليه “إسـماعيل” بعينين لمعت فيهما العبرات وهو يقول بصوتٍ مهتز الوتيرة:
_متزعلش مني، والله ما أنا اللي زعلتك، “ميكي” قالي أنا زعلتك وزعقتلك قدامهم بس والله ما أنا، أنا ماليش غيرك أنتَ معقول هخليك تبعد عني وأضيعك من أيدي؟ متزعلش مني وغلاوتي عندك لو لسه زي ماهي.
مسح أخوه فوق ظهره صعودًا وهبوطًا واستقر بكفه على خصلات رأسه ثم خاطبه بحنوٍ أبوي ومشاعر دافئة أعربت عنها نبرته العميقة:
_لو؟؟ بطل خيابة ونقصان عقل، غلاوتك عندي زي ماهي ميقللهاش غير موتي وبس، بعدين أنتَ ليه فاكرني خايف؟ أنا مبخافش لو من الجن الأزرق نفسه، مش حوكشة اللي عليك دا، بعدين أنا قولت اسيبك واسيبه يمكن أكون خانقه ولا حاجة، مع أني يا أخي مستغرب، إزاي ميحبنيش، مع إن شكله رجولة وابن بلد.
ضحك “إسماعيل” بين ذراعي شقيقه الذي شاركه الضحكات ثم هتف بخنوعٍ وهمي:
_إحنا مش ناقصين قلبته، خلينا ياعم نكسب رضاه.
استكان بين ذراعيه يستشعر نعمة الأمان المسلوب منه منذ يومين وقد طوقه شقيقه وظل يمسح فوق خصلاته وقرأ له آيات القرآن الكريم بنبرةٍ هادئة جعلت “إسماعيل” يسحب نفسًا عميقًا ويتحامل على نفسه خاصةً بعدما حصنه “تَـيام” وأكد التحصين “نَـعيم” الذي قام برقي المياه وجعله يرتشف منها، مما ساعده كثيرًا في استقرار حالته وقد سأله شقيقه بنبرةٍ ناعسة:
_يلا علشان تنام وعلشان أشوف البت الغلبانة اللي الحمل بهدلها خالص دي، سايبها تعبانة ومش عاوزة تاكل ومستني أتطمن عليك، يلا.
حرك رأسه نفيًا وقال بثباتٍ:
_”مُـحي” كلمني وقالي إنه هيسهر معايا علشان مش جايله نوم بس هيراجع شوية وكنت مستني “مُـنذر” بس عرفت إنه مش إمبارح مش هنا وفي حارة “العطار” المهم أنا هقعد استناه وروح لمراتك سايبها من بدري، وحاول تخليها تاكل، كل شوية تدوخ كدا منك.
لثم جبينه ثم تركه بينما الآخر أرتمى فوق الأرض بتعبٍ ثم أخرج هاتفه ليجدها أرسلت صورها برفقته وحينها ضحك هو بملء فاهه وشعر بالسعادة لكونها معه وقد بدأ يراسلها وهي تجاوبه وتطمئن عليه.
في الأعلى توجـه “إيـهاب” إلى بناية شقته بخطى هادئة وهو يفكر بأمر زوجته وجداله معها، بالطبع سيجدها نائمة بتعبٍ ولم تتناول طعامها وهو المُهمل في حقها، ومعها كامل الحق في توبيخه، فتح باب الشقة يبحث عنها بعينيه وقد جذبه صوت الشاشة المُرتفع فزفر بقوةٍ بعدما تخيلها وفهم ما سَيُلاقيه لكنه تفاجأ بها تجلس أمام التلفاز وكان أمامها طبقًا مليئًا بالشطائر على شكل هرمي وبجوارها زجاجة عصير كبيرة الحجم سعتها تصل للترين، وأنواع عديدة من المواد المالحة وتأكل هي بنهمٍ بعدما سلطت عينيها على التلفاز..
جاورها بهدوء وهو يراقبها بصمتٍ وقبل أن يمد يده لكي يسحب شطيرة وجدها تمسك كفه وهي تقول بصوتٍ حاد:
_عملالك طاجن بامية باللحمة، كله علشان نفسي مش رايحاله وسيب أكلي علشان نفسي مسدودة لو سمحت.
قامت بقضم نصف الشطيرة بفمها حتى توسعت عيناه وتراجع بقوله:
_خلاص مش عاوز، طمنيني أخبارك إيه؟.
_أهو، ماشي الحال، باكل وأشرب وبتفرج على التلفزيون ومعايا إزازة العصير بتاعتي، هيكون ناقصني إيه يعني، الحمدلله ربنا مريحني من وجع الدماغ.
هكذا جاء جوابها لكنه شرد بماذا تقصد بجملتها الأخيرة إلا إهانته هو شخصيًا؟ حسنًا عليه أن يعاملها برفقٍ حتى لا تُبدي تمردها أمام عناده، لذا أقترب منها مُتخليًا عن جموده:
_ربنا ما يكتبلك وجع دماغ أبدًا، إلا قولي يا عمنا أنتِ بتتفرجي على إيه مخليكِ مركزة أوي كدا فيه؟.
تنهدت بقوةٍ وابتلعت الطعام في فمها وهي تخبره على مضضٍ بسبب مجارتها له:
_مسلسل تركي والحلقة منكدة عليا، البطلة حامل وسابت البطل وسافرت، هربت منه وهو ميعرفش مكانها، لأ ومش بس كدا دي يتيمة يا حبة عيني، بس هو يستاهل إنه يتساب.
_ليه هو عمل إيـه؟.
_أهملها الوغـد.
هكذا دار الحوار بينهما وهي تجاوبه بشرٍ حتى رفع أحد حاجبيه بشكٍ ثم ضمها لعناقه يُكبل حركتها وهي تحاول فك حصاره عنها لكنه كان الأقوى حينما هيمن على جسدها وهتف في أُذنها ببحةٍ رجولية أجشة:
_ماهي الغلطانة حد قالها تحب الوغد؟ كانت المفروض تحب عمهم علشان هو طيب يتحب، صحيح ناشف شوية، عصبي شويتين، هيبته تخض، بس طيب ولا لأ؟.
استشفت أنه يخص نفسه بالحديث لذا سألته بدلالٍ تعلم أثره جيدًا عليه:
_وهو حد كان جاب سيرتك؟ أنا بقول البطل، عمومًا هي هبلة علشان لو أنا مكانها مش هخليه يتحرك من جنبي أصلًا، بس كله بمزاجي أنا.
رفع حاجبيه مستنكرًا ثم طالبها بمراوغةٍ:
_طب ما تورينا.
ابتسمت بتعالٍ ثم ابتعدت عنه تُمسد فوق بطنها المُنتفخة بعدما انسلتت من بين ذراعيه ثم أمسكت كوب المياه وتحركت أمامه وهي تتبختر في خطواتها المُتهادية وصوت خُلخالها يرن فوق الأرض مع خطواتها الرزينة ثم حركت كتفيها بدلالٍ تزامنًا مع دندنتها الخافتة:
_تحت الرمش عتاب وحنين وعذاب
وعيون ما تنام، آه دوقت معاك طعم الأيام
والوقتي تغيب يا سلام.
رفع كلا حاجبيه وهو يتابع دلالها المغوي لأعتى الرجال وهي تحرك خصلاتها الغجرية بحرية خلف ظهرها وتتجاهله أما هو فلم ينسَ أنه لأجلها خاض الكثير من المعارك والمناوشات، صارع العديد من الرجال وحارب لأجلها، أقام الحروب شتى وجميعها أنتصر فيها، لكن ليس هناك نصرًا يُضاهي ربحه بعينيها اللاتي تُشع الدفء كما الشمس المُشرقة، تلك الفاتنة السمراء الشرقية التي فتنت الكثيرين ربحها هو من بين معشر الرجال وأصبحت بمملكته هو..
لذا قرر أن يتوجه لها لكن وقبل أن يُحرك ساكنًا صدح صوت هاتفه برقم “مـيكي” فخطف هاتفه وولج الشُرفة يُخابره بشكلٍ مُباشر:
_لامؤاخذة يا عمهم، بس فيه حاجة حصلت وقولت أفطمك، من كام ساعة كدا الراجل مدير الدار اللي “إسماعيل” راح يزورها أتقتل، الناس لقوه وسط الزبالة والكلاب حواليه وهو سايح في دمه، بس الحكومة لما جت بتقول إن اللي قتله محترف علشان الطلقة جت من مسافة بعيدة ودا اللي باين، المهم أنا أتطقست وعرفت إن لو فيه تحريات هتتعمل في الدار أكيد هيطلبوا “إسماعيل” علشان اسمه في الكشف، فطم أخوك وظبط دُنيتك وأنا معاك.
ليس مُجددًا، ألم يهنأ في أيامه لو لقليلٍ؟ أي مشوارٍ هذا الذي تورط به شقيقه حتى تصبح هذه هي النتيجة؟ ومَن مِن الممكن أن يفعلها في تلك المنطقة التي تمتاز بخطورةٍ فائقة؟ خطوط غير مُترابطة تحتاج لمن يقوم بجمعها لكي تتضافر معًا وتصنع جديلة مفهومة الخطوط المنثورة، أين “مُـنذر” لكي… مهلًا أين هو حقًا؟.
هذا ما جال بخُلد “إيـهاب” حتى توسعت عيناه ما إن جالت تلك الفكرة بذهنه لكنه هز رأسه نفيًا، وكأن الإحتمالان اللاذي دارا بخلده كلاهما أكثر صعوبةً من الآخر، فهل يطاوعه قلبه ويشك في كلٍ من “إسماعيل” و “مُـنذر”؟.
__________________________________
<“لما لم تخمد النيران المُتقدة بداخلي”>
نيرانه لم تتوقف، ضجيجه ليس له نهاية، الفوضى المنثورة بداخله أربكت ثباته، اليوم أمسى ثقيلًا لم ينتهي، كل شيءٍ حوله يشعره بالنفور من نفسه، وقد توجـه نحو السطح ليجدها تجلس وبيدها دفتر ورقي يبدو أنها انشغلت به وهي تُدندن بصوتٍ مرمري:
_الكلام لو كان يعبر عن الحنان
كنت قولت إني بحبك من زمان
كل يوم الشوق بيكبر عليا بان..
على بالي ولا أنتَ داري باللي جرالي
والليالي سنين طويلة سيبتهالي
في إنشغالي بكل كلمة قولتهالي..
لاحظ “يـوسف” صفو جلستها وتمتعها بما تفعل وهو في الحقيقة في أصعب لحظات غضبه لذا أولى المكان ظهره حتى لا يُزعجها ثم أخرج هاتفه يطلب رقم “أيـوب” الذي جاوبه رغم جمود سؤاله:
_أنا في الچيم، تعالى.
هذا أفضل الحلول وأحسنها طاقته لن تخرج بغير الغضب والعنف، هذا ما اعتاد أن يفعله دومًا لذا خرج من البناية ثم توجه نحو الصالة الرياضية ليجد زوج شقيقته بها فولج له وخلع سترتها يُلقيها بعيدًا فابتسم “أيـوب” ساخرًا:
_من أولها قلع كدا؟ طب سلم.
حدجه “يـوسف” بشرٍ ثم خطف القفازات الواقية لكفيه وأقترب من الكيس الأسود المُعلق ثم بدأ في الضرب متخيلًا رأس “سـامي” أو ربما جسد “عـاصم” أو ملامح “شـهد” بوالدها، أو جميع أعدائه حتى “سـعد” أيضًا، رآهم جميعًا وهو يضرب الكيس ثأرًا وانتقامًا حتى اقترب “أيـوب” وأمسك له الكيس مما جعل ضرباته تزداد قوةً وهو يلهث بأنفاسٍ مُتلاحقة..
ظل “أيـوب” معه يدعمه حتى أفرغ كامل طاقته وخلع القفازات باسنانه ثم ألقاها أرضًا وجلس فوق الأريكة الجلدية والآخر جاوره يُربت فوق ظهره وهو يسأله باهتمامٍ:
_أنتَ مش كويس!! دا ضرب غِل وغضب مش مجرد لعب رياضة، مالك بس حد زعلك النهاردة؟.
بأنفاسٍ لاهثة وصوتٍ مبحوحٍ جاءه الجواب:
_أنا، أنا اللي مزعلني النهاردة.
عقد “أيـوب” ملامحه من الجواب فوجده يستطرد حديثه مُتابعًا ما سبق:
_مش قادر أرتاح كدا، عاوز أولع فيهم بجاز، عاوز أشوفهم مقهورين كأن الموت واقف قدامهم، ناري مش هتبرد غير برجوع حقي منهم، مش هسامح في اللي ضاع وفاتني وعمري اللي عيشته مذلول تحت رجليهم، عاوز أشوفهم حاسين بالقهر.
لاحظ “أيـوب” الغِل المنبثق من كلماته لذا ربت فوق كتفه وأضاف بتريثٍ يدعمه أو رُبما يُبعد عنه توتره:
_أنا هساعدك، قولي بس الأول هو اللي يكره “مصطفى الراوي” و “عبدالقادر العطار” و “نَـعيم الحُصري” مش أكيد هيكره اللي منهم كمان؟.
أومأ الآخر موافقًا بتيهٍ فابتسم “أيـوب” بدهاءٍ وعاد للخلف بثقةٍ وهو يقول:
_يبقى خلاص ننزل باللي منهم.
عقد “يـوسف” ملامحه فيما تحرك “أيـوب” من جواره ثم استأنف ضرباته في الكيس المُعلق بنظراتٍ ثاقبة وكأنه أقسم أن يسترد حق ذويه وأولهم نفسه من “سـامي” الذي ترك أعتى ندبات الطفولة في حياته وحتى الآن لم يحصل على التعافي من يوم إختطافه، أما الآخر فقرر أن يتوجه للممشاة الرياضية يخرج به الغضب المُتبقي قبل عودته للبيت ولازال حديث “أيـوب” يصول ويجول في رأسه من كل حدبٍ وصوبٍ.
__________________________________
<“أنا هنا على الأرض أُذنب بمقام كل المُذنبين”>
دومًا الشعور بالذنب هو الآفة الكُبرى التي تصيب المرء بعد اقترافه كل خطأٍ، وكأنما لا يكفيه نيران الفعل ذاته ليزداد اللهيب أكثر بصوت ضميره المُعذِب له، والهرب منه لن تجد له سبيلًا، بل السبيل الوحيد هو أنك وبكل آسفٍ ستخضع لهذا الصوت ليزداد عذابك أكثر…
هنا يقف أسفل شُرفتها كمراهقٍ يختلس النظر لحبيبته وهو يتمنى أن تخرج له وتَطُل عليه لتُطمئنه، لم يغفل ولن يغفل دون أن يراها اليوم بعدما تسبب في حزنها وبكائها، اتخذ من مواجهة بيتها مرآبًا له وهو يجلس فوق دراجته في إنتظار طلتها عليه، وقف بمللٍ وهناك رغبة بالبكاء تُخيم عليه..
وقف محله يستند على الدراجة وقد خلع سترته الجلدية السوداء وظل بالسترة القطنية بعدما سارت الحرارة زحفًا لجسده من شدة غضبه، لذا ظل مكانه حتى لمح الشُرفة بالطابق الثاني تُفتح وولجتها “فُـلة” تستند على الدرابزون ويبدو أنها تبكي!! اللعنة عليه وعلى حياته وعلى أبيه وعلى تلك العصابات التي وقع بها وهو أولهم حتى يراها تبكي بهذا الشكل..
مسحت عبراتها ووجهها وهي تستنشق الهواء وقد سقطت عيناها عليه يقف أسفل شُرفتها، وقتها توسعت عيناها وتجمد بؤبؤاها في محجريهما وقد استقام هو في وقفته وقبل أن يُناديها وجدها تركض من الشُرفة ثم أغلقت الباب بصوتٍ عالٍ أحدث جلبة في سكون الليل وأجفل جسده على أثرها..
كاد أن يتحرك فوجدها تخرج من البناية وهي تضع وشاحًا فوق كتفيها وقد تأهبت حواسه لاستقبالها لكنها وقفت تسأله بنبرةٍ جامدة رسمت بها القسوة:
_بأي حق تيجي هنا؟ معندكش دم ولا كرامة صح؟ لو عندك ريحة الدم أمشي من هنا، محدش هنا هيبقى عاوز يشوفك ولا طايق سيرتك حتى، أمشي من هنا.
هدرت بجملتها الأخيرة بانفعالٍ جلي جعلها يمسك مرفقها وهو يقول بلهفةٍ وندمٍ نطقت به عيناه:
_اسمعيني بس، أنا آسف أنا عملت كدا علشانك أنتِ، خايف عليكِ من طريقي وخايف في يوم يجرالك حاجة، مش عاوزك تتعلقي بيا علشان، علشان أنا هنا على الأرض دي مقتول من يومي، أنا ابن موت من يومي، وأنتِ عَمالة تشديني ليكِ وأنا.. أنا محدش عمره حس بوجودي.
كاد أن يبكي مُجددًا أمامها وقد رفعت عينيها له تُثبتها على عينيه لتجد التوسل فيهما، لكن صوت كرامتها أعلى من كل صوتٍ حتى لو كان صوت القلب الذي يُحركها لذا دفعته بعيدًا عنها بقسوةٍ اصابته في مقتلٍ وهتفت باشمئزازٍ من قربه:
_أنا بكرهك، لا يمكن حتى أقبل بيك لو هتركع تحت رجلي، عارف ليه؟ علشان أنتَ متستاهلش إني حتى أفكر فيك وأعيط علشانك، وليهم حق يكرهوك مهما كان هما مين، علشان أنتَ أناني.
حديثها ماهو إلا شُعلة نيران ألقيت في هشيم قلبه لتتصاعد ألسنتها وتمسك في أوردته ومن ثم انتشرت النيران في جسده أما هي فلم تكف عند هذا الحد بل رفعت كفها وهوت فوق وجهه بصفعةٍ ثأرًا لكرامتها المهدورة على يديه وحينها توسعت عيناه وتراجع للخلف فيما سحبت هي نفسًا عميقًا وهتفت بثباتٍ:
_أهو دا بالظبط كان احساسي لما سمعت كلامك.
اولته ظهرها وولجت البناية برأسٍ مرفوعٍ ثم قامت بإغلاق الباب نهائيًا واختفى جسدها من بعد ذلك فيما وقف هو ينظر في أثرها بندمٍ ولأول مرة يُشفق على نفسه، ليس بسبب صفعتها ولكن بسبب حديثها الذي شابه مائة صفعة فوق وجهه، ترك العنان لعبراته تنساب فوق وجهه ثم امتطى الدراجة يقودها بقسوةٍ فوق الطريق متمنيًا أن يلقى حتفه تلك الليلة وينتهي كل شيءٍ..
لم يشعر بنفسه إلا حينما وصل لمنزل عمه دون أن يُدرك هو ذلك لكن يبدو أن عقله تغيب وحواسه هي التي قادته لذلك المكان، لذا ترك الدراجة ثم تحرك نحو البيت خاصةً لحظائر الخيول يقف بها أو رُبما يخرج طاقته، لكن قبل أن يفعل أي شيءٍ وجد “إيـهاب” يواجهه ثم سأله بجمودٍ:
_أنتَ كنت فين؟.
_كنت في مشوار بخلصه وجيت.
كان جوابه صلدًا وجامدًا أقرب للهجوم في حدته لكن الآخر دون تعقل أو حتى تفكيرٍ باغته بسؤالٍ:
_أنتَ اللي قتلت مدير الملجأ صح؟.
توسعت عينا “مُـنذر” وتجمدت أطرافه وتيبس محله فابتسم الآخر بسخريةٍ وهو يقول بنبرةٍ تهكمية:
_استحليت القتل خلاص؟ أنتَ اللــي عَــملتها؟.
سأله بنبرةٍ هادرة أقرب للصراخ حتى صرخ الآخر دون أن يتحكم في نفسه بقوله:
_آه، أنا اللي قــتلته، ومش ندمان ولا حتى زعلان إني عملت كدا، عارف ليه؟ علشان دا يستاهل القتل والحرق بجاز *** كمان علشان نخلص منه ومن اللي زيه، متحسسنيش إني قتلت شيخ جامع، دا واحد ابن ***** بيعتدي على بنات من سن بناته لحد ما يموتوا في أيديه، بيبيع جسمهم وهما عايشين، ويتاجر بلحمهم وهما ميتين، لو دا واللي زيه سكتنا عليهم الأرض دي هتبقى غابة، وطالما هي غابة بيحكمها أسود صعرانة، يبقى الحل إنك تبقى زيهم، وبما إني كدا كدا بقتل، يبقى أقتل حد يستحق القتل، وسواء هو أو غيره أو غيرهم بيتاجروا في الناس زي العبيد، أنا هفضل وراهم كلهم لحد ما يحصلوا “شفيق”.
اعترف بكل صراحةً وكأن كل ما يحدث حوله فاق قدرة تحمله على الاحتفاظ بسره وكتمان الحقائق، لم يفعلها في السابق ويلتقط أحدهم شيئًا ضده بل جرائمه دومًا كاملة، أما اليوم فهو وبكامل قواه العقلية يعترف ويُخبر على نفسه، لكن عقله لم يستعب إلا أن الغابة تحتاج لتمرد الضباع أمام الأسد الظالم..
_________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى