روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والثاني عشر 112 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والثاني عشر 112 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والثاني عشر

رواية غوثهم البارت المائة والثاني عشر

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والثانية عشر

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السابع وعشرون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
_______________________
ومضى خليل الله يرفع شامخا أسمى بناء
متوجها نحو السماء بخير آيات الدعاء
فاقبل إله العرش منا يا ملاذ الأتقياء
وأفض علينا نعمة الإسلام يارب العطاء
واجعل دنيتي ما تبتغيه وما تشاء
أرنا مناسكنا وتب عمّن تقيد بالقضاء
يارب يا تواب فارحم من عبادك من أفاء
_”الشيخ محمد عمران”
__________________________________
لا يموت فردٌ منَّا جُملةً..
وإنما الموت دومًا يراود حياة المرء بأجزاءٍ ويساوره فيها، ورُبما يموت المرء في اليوم الواحد ألف مرةٍ بنظرة عينٍ تكسره وبنبرة صوتٍ تُتعبه، لكن وحدها الغُربة في أعين الأحباب هي ما تمزقه، حيث يصبح كما الأشلاء فلا هو وصل لنهاية الطريق ومات، ولا هو تخلص من الألم وتركه وفات، خُلقنا فوق هذه الأرض نحيا حياة تلمؤها الصراعات، لم نجد فيها راحةً حتى الممات، إنما هي دُنيا اسمًا ووصفًا وكأن الناجي من ألمها وعذابها هو من مات..
ولقد قرأت في واحدةٍ من الأساطير عبارةً عَلُقت بذهني حيث قيل فيها “الشر ضربٌ من الموت” ومثلي كان يبحث عن الموت ولم يجده فقرر أن يتخذ الشر مسلكًا وينتهجه لعله يموت ، لكن رُبما كنت هكذا قبل أن ألتقي بكِ أنتِ، فعلمت حينها أن لا ميتةٌ أعظم من الموت فداءً لعينيكِ، عيناك التي أتت بكل خير الأرضِ تقتل كل مابي من شرٍ لتنتصر على ضعيفٍ مثلي لم يعهد قوة زمانه وعصره إلا معها هي..
ومن جديد أُعلن أنا المُحارب الباسل خسارتي أمام عينيكِ
وكأن حربك وحدها بخسارتي فيها؛ أربحتني العالم بأكملهِ.
<“الحرب قامت عليَّ أنا، والضعيف أيضًا كان أنا”>
هؤلاء البشر مُنذ أن وجدوا فوق الأرض كان مسعاهم دومًا وأبدًا يُكلله الطمع، لم يسعوا سِوى لما تشتهيه أنفسهم حتى وإن كان الخطر يملأ دربهم، والأخطر من بينهم هؤلاء الذين ولدوا بحب النفس وجنون العَظمة فلم تعد أعينهم ترصد إلا هم وفقط، أما بقية الأرض ومن فيها، فهؤلاء هم الأتباع لهم فحسب، يبدو أنهم حقًا مساكين، فهل يرضخ المرء بإرادتهِ لكل أفاقٍ ولصٍ لكون صوته أعلى عليه من المُعتاد؟..
_براحتك لو عاوز تعمل زي أمك وتحط إيدك في أيد أعدائي وتقف في صفهم ضدي، بس عندك علم إنهم السبب في إجهاض مراتك وسبب ضياع فرحتك منك؟ ومش بعيد يكونوا هما السبب إنك راقد مكانك هنا؟؟ أنا جيت بس أقولك إنك متغمي على عينيك، وأكيد مش هيبدوك أنتَ على “يـوسف” علشان كدا كلهم بيذلوك هنا علشان خاطر “يـوسف” يتشفى فيك من تاني..
هتف “سـامي” الحديث بغيظٍ وغلٍ وهو يعلم أنه يتحدث لذاك الطفل الجبان الذي دومًـا يستسلم له في نهاية المطاف دون أن يجادله، وقد ألقى بالسُم على مسامع ابنه ومعه تلك الحرباء الملونـة التي تضع لمساتها الخبيرة بأسلوب الشكاء والبُكاء فتثير في نفس الآخرين شفقتهم وتُغير إتجاه مشاعرهم نحوها لتصبح محط الأنظار منهم وكأنها ترفض أن يحمل طريقها أخرى غيرها، وقد نُشِبت النيران في صدر “فـاتن” فهتفت بصوتٍ عالٍ محتدٍ:
_متسمعش منهم حاجة ولا تركز معاهم أصلًا، أظن أنتَ بنفسك شوفت اللي حصل منهم ومحدش فيهم بخل عليك بحاجة ولا حتى بخلوا بالرعاية، في الوقت اللي أبوك ومراتك كانوا شاغلين بالهم بالفلوس والشغل، بعدين محدش كان يعرف إن مراتك حامل أصلًا، هي قالت لمين إنها كانت حامل؟.
توترت “شـهد” ما إن أدركت أنها وضعت بين المطرقةِ والسندان حينما بدا “نـادر” مشوشًا أمامها وهو يتفرس ملامحها بعينيهِ وقد أضاف والده يلحق ما يُمكن له إلحاقه بقوله الذي بدا أكثر إتزانًا:
_لولا عملتهم هما وأمك إنهم يخفوك كدا ويبهدلوك ويبهدلوا الكل وراك كان زمان مراتك لقت اللي يرعاها وهي حامل، بدل ما تقع من طولها كدا وتسقط، ومش بعيد يكونوا عرفوا إنها حامل وحبوا يزودوا كسرتي فيك، ولا المعدول ابن خالك يبقى بيردلك القلم قلمين بعدما أنتَ أتجوزتها وعملت اللي هو مقدرش يعمله، فوق قبل ما يخلوك تعادي أبـوك.
كان الحديث يشبه السُم حينما يُضاف إلى وجبةٍ دسمة تشتهيها النفس فتلتهمها دون فحص ما يُقدم لها، لكن ماذا يحدث في حالة فقدان الشهية والتقزز من الحديث؟ بالطبع لن يتم ابتلاع ما يُقدم ولو كانت النفس تتتوق لما تُريده، وحينها شعر “نـادر” بذاك الشعور البغيض الذي يُهيمن عليه منذ صغرهِ حيثُ الشتات والنفور ووصول المعلومات إليه كأنه آلة تتلقى وفقط دون أن يحق له المناقشة فيما يدور، وقد وجد أمه تترجاه بعينيها ألا يفعلها ويُصدق ما يُقال، لذا تنهد بقوةٍ ثم هتف بثباتٍ:
_محدش هيقدر يخليني أعاديك، ولا حد يقدر يلعب في دماغي علشان بطلت أطلع بدور العبيط دا، دلوقتي بقى أنا هفوق من اللي أنا فيه وفترة رقدتي دي وكل حاجة هتترتب من تاني واللي ليه حق هياخده، مهما كان الحق دا لمين، وأظن يعني المفروض ناخد عِظة من اللي حصلي، علشان لو مش واخد بالك أنا كنت هموت في غمضة عين، وأنا خارج من كباريه، أنتَ بقى سألت نفسك ابنك كان في كباريه ليه؟.
سؤال أتى غير متوقعٍ ليزعزع ثبات والده الذي أرتخى جسده وهو يرمق ابنه بعينين جامدتين ليجد التحدي للمرةِ الأولىٰ يسود المُحيط بينهما على عكس المتوقع، وقد قرر أن يستثني تلك المرة لذا أقترب منه بمشاعر لا يعلم ابنه ماهيتها الحقيقية حيث أعتاد على الكذب من والده الذي مال عليه يُلثم جبينه وهتف بنبرةٍ رسم فيها الشوق ببراعةٍ:
_أنتَ وحشتني أوي وصدقني أنا ممكن أعمل أي حاجة علشانك، أنا من يوم يومي مبعملش حاجة غير علشانك أنتَ وبس، أنا هسيبك تهدا شوية وتفكر في كلامي وتحاول تفهم إني ماليش في الدنيا دي غيرك وبس، أنتَ ضهري ومش عاوزهم يكسروا ضهري بيك أنتَ.
تطلعت إليه زوجته بنفورٍ وبِغضٍ وهي تعلم أن ألاعيبه لن تنتهي، وقد رآت بأم عينيها نظرات ابنها وهو يبحث عن الأمان بقربها هي، وقد أنتظرت زوجها الذي أبتعد عنه يأمر “شـهد” بقولهِ:
_حضري نفسك هتيجي معايا الشركة.
أومأت له موافقةً وهي تعلم أن الوقت لصالحه هو ولا يتوجب عليها أن تُخالف أوامـره، لذا أنصاعت له واستأذنته تبدل ثيابها بينما زوجها فرمقها مُتعجبًا ليجدها عادت بأدراجها إليه تعتذر منه بقولها:
_أنا هروح لأن للآسف كل حاجة هناك محتاجة ملاحظة ورعاية، فأنا هتحرك مع أنكل ومش هتأخر عليك، هرجع تاني هنا.
تجاهل الرد عليها وهتف بلامبالاةٍ حقيقية:
_أعملي اللي يريحك شيء ميخصنيش.
حسنًا هو يفعل ما يجعلها دومًا تتقد مثل النيران المُلتهبة وقد تحركت من أمامه نحو الغرفة الأخرى بعدما سحبت ملابسها وقد خرج “سـامي” من الغرفة وتبعته “فـاتن” التي ما إن خرجت نحوه هتفت بصوتٍ عالٍ:
_اسمع!! أنا كدا خلاص جيبت أخري وأظن مفيش رجا ولا أمل فينا مع بعض، طلقني بالأدب والهدوء وبلاش شوشرة وفضايح، أظن يعني بعدما عرفت إنك خطفت عيل صغير مستحيل أقبل إن اسمي يفضل مربوط باسمك..
أنهت حديثها فوجدته يلتفت لها ببرودٍ وهو يغلق زِر حُلته الرسمية وأضاف يتشدق بسخريةٍ رسم عليها الذهول:
_يا شيخة !! تصدقي زعلت أوي؟ بعدين مالك محموقة أوي كدا على الواد الصغير؟ ماهو رجع في نفس اليوم أهو والموضوع أتلم وعدى على خير، وأنا علشان قلبي طيب حطيته في نفس مكان عمه علشان أسهل عليه يروح يجيبه، أنتِ اللي ست ظالمة وعلطول شايفاني وحش.
أرتسمت السخرية فوق ملامحها وكتفت ذراعيها عند قفصها الصدري وهي تُضيف بنفس الثبات والقوةِ:
_معلش، هبقى أروح أكشف على عيني يمكن أشوفك بعد كدا، المهم تطلقني وتجيبلي ورقتي ولو على حاجتي وحقوقي منك، فأنا مش عاوزة منك حاجة والأحسن تطلق من نفسك بدل ما نوصل للمحاكم، أنتَ برضه راجل ليك اسمك..وسمعتك مش حمل بهدلة.
طالعته بإزدراءٍ وهي تُكمل حديثها مما جعله يقبض على فكيها يُطبقهما معًا بضغطٍ ثم هتف من بين أسنانه بغيظٍ:
_وماله يا حبيبتي، وصلينا للمحاكم وأطلبي الطلاق وأنا هخرج الورق اللي معايا منه نسخة وأقول إنك مجنونة وفاقدة للأهلية يعني الدعوى كلها هتبقى باطلة، وهترجعي تحت عصمتي تاني، واللي مباخدوش بالرضا هاخده بالغصب، أعقلي علشان لسه بفوقلك، ما أنا مش عيل بريالة علشان واحدة ست تلعب بيا الكورة وتروحي تتسرمحي مع رجالة غريبة، أومال لما أموت هتعملي إيـه؟.
دفعته بعيدًا عنها بعدما كانت أنفاسه تلفح وجهها وقد ظل صدرها يعلو ويهبط وقد قبضت على المزهرية تُهدده بها وحينها أتت “حـنين” من الداخل تقف بقربها وهي تقول بصوتٍ مُضطربٍ:
_مدام “فـاتن” أنا عاوزاكِ ثواني.
كانت تقصد إلهاء الآخر لكي يتراجع عما ينتوي فعله، وحينها خرجت “شـهد” التي بدلت ثيابها فأشار لها حماها أن تتبعه وتحركا سويًا للخارج بعدما أوزع زوجته بنظرةٍ وقحة جعلتها تبصق في أثره وهي تلعنه وتسبه حتى ربتت الأخرى فوق كتفها وأضافت بثباتٍ:
_متزعليش نفسك، هما الرجالة كلهم عرر وزبالة كدا، منه لله فكرني بحمايا كان راجل ناقص زيه كدا.
أنتبهت لها “فـاتن” وهي تسألها بصوتٍ مهتزٍ:
_حماكِ؟ هو أنتِ متجوزة يا “حنين”؟.
حركت رأسها نفيًا وعدلت الحديث بقولها:
_كنت، أنا مُطلقة والحمدلله إني أتطلقت دي كانت جوازة غبرة، ولو أنتِ عايشة مع واحد زي دا بس، فأنا كنت مع ٣ أفظع من بعض، حمايا وأبنه الكبير وجوزي، ربنا يقويكِ يا مدام.
أبتسمت لها بحزنٍ حينما تذكرت ما مر عليها في زيجتها السابقة ثم ولجت المطبخ تتابع ما تقوم به بينما الأخرى ظلت تنظر في أثرها بشفقةٍ على فتاةٍ صغيرة مثل هذه يبدو أنها كما الورقة في مهب الريح الخريفية اشتدت عليها قسوة الطقس لتسهل على الآخرين دهسها بالأقدام..
__________________________________
<“لا تحزن لأجل من تسببوا في تعكير صفوك؛ أقتلهم”>
الإنسان في كل الأعمار ماهو إلا نِتاجٌ للأفعال..
فمن من لم يكبر على غِرار ما تلقاه في صغرهِ؟ لكن الفارق الوحيد هو ذاك الصوت الذي يأني بقلب كل فردٍ منا فيأمره ويملي عليه بما يتوجب عليه أن يفعل، لذا كُلما خَفتَ الصوت بداخلك، كُلما أصبحت غليظ القلب فجًا..
كان “يـوسف” يبدأ صباحه الجديد في مقر عمله بشركة البترول وهو يجلس وسط الإدارة يُتابع التجديد وإعادة الهيكلة الجديدة والذي ترأس اسمه تلك القائمة فيها ليحصل على الترقية الجديدة التي سيحصل عليها خلال الاسبوعين المُقبلين، لينتهي من العمل بداخل المواقع إلى الإدارة، وقد تعجب كثيرًا من موافقته..
فلو كانت حياته فارغة كما السابق لكان رفض وأحتج وأصر على الترحال بين مدن المُحافظة لكن الآن أضحى يملك من يحتاجونه لذا وافق وهو يسعى للاستقرار لعله يرسى من بعد الإبحار القاتل لأنفاسه، وقد قام بالتوقيع والتصديق على القرار أخيرًا وهو يتنهد بعمقٍ رغم كرهه للعمل الرسمي لكن يتوجب عليه أن يرضح ويقبل..
خرج من الشركة يفتح هاتفه وأخرج رقم شقيقته أولًا وما إن جاوبته هي رد عليها بصرامةٍ كُبرىٰ كأنه يلقي أمره عليها دون مناقشةٍ:
_معاكِ ساعة آجي ألاقيكي لابسة هدومك وجاهزة، لو لقيتك مش لابسة يا “قـمر” هلبس وشك في الحيطة، سامعة؟.
كان يُخفي المرح عن حديثه لكنها أدركته من صوته وحينها شهقت بلهفةٍ ثم أغلقت في وجهه حتى رمش هو مستنكرًا فعلها ثم أغلق الهاتف وتحرك بسيارته نحو الحارة، وقف بجانب السيارة يفكر كيف يتحدث مع زوجته التي أكتفت فقط بالرد على رسائله ثم أغلقت معه، بينما هو فحسم أمره وجلس في سيارته من جديد وأخرج دفتره وقلمه..
مرت دقائق عليه ثم خرج من السيارة وتوجه نحو الأعلى يطرق بابها ففتحته لها شقيقتها الصُغرىٰ وما إن رأته ضحكت له وهي تقول بحماسٍ:
_صباح الخير يا “يـوسف” وحشتني.
ضحك لها ثم مال عليها يُلثم جبينها وهتف بنبرةٍ هادئة رخيمة أمام النسخة المُصغرة من زوجته:
_وأنتِ كمان وحشتيني أوي، خلصي بس إمتحانات علشان نقعد مع بعض براحتنا، المهم هديكِ حاجة تديها لـ “عـهد” وهديكِ أنتِ حاجة حلوة، بس لما أمشي دلوقتي تمام تدخلي تديها الحاجة؟ تمام يا سكر؟.
أومأت موافقةً فيما أعطاها هو الخطاب الذي كتبه ووضعه في مظروفٍ بُني خاصًا بخطاباته لها ثم أخرج ميدالية صغيرة على شكل عروسٍ ترتدي فستانًا باللون الوردي وقد شهقت “وعـد” بسعادةٍ حينما أهداها قطعة من القطع المهووسة هي بها، وحينها مازحها هو بقوله الهامس حتى لا تسمعه زوجته:
_بصي هو أنا فاكر إنك بتحبي المادليات اللي على شكل عرايس، فجيبتلك واحدة حلوة صغيرة زيك، وكل ما تساعديني هكبرهالك لحد ما تبقى في يوم عريس كبير كدا حلو يليق بيكِ، مش فاهم سر حبكم للحاجات الغريبة دي بس تمام.
ضحكت “وعـد” وأخذتها وهي تشكره وقد خرجت أمها من الداخل تسألها مع من تتحدث فوجدته هو يعتدل في وقفته بعدما تلاشت بسمته حينها هي رمقته بنظراتٍ جامدة خاصةً بعد تغير حال ابنتها أمسًا وفزعها بسبب الكوابيس التي ظلت تُلاحقها حتى أمتلأ الليل بصراخاتها ثم أنتهى عليها وهي تضم نفسها بوضع الجنين وجسدها يرتجف بشدةٍ ولولا عنادها وتحذيرها لأمها لكانت الأخرى نادته لكي يتعامل معها كما كان يفعل..
خرجت “مَـي” من شرودها على صوت “يـوسف” الذي هتف بثباتٍ يستفسر عن تواجد زوجته فتنحنحت هي تُجلي حنجرتها ثم أضافت بثباتٍ:
_نايمة يا “يـوسف” هي تعبت شوية ونامت متأخر للآسف وعندها شغل كمان شوية أؤمـر تحب أبلغها حاجة معينة؟.
للآسف هو لا يملك أي شجاعةٍ أو حتى ثقةٍ فيها وفي تفكيرها لكي يلجأ إليها، خاصةً بعد اصطدامهما سويًا قبل سفره فمن المؤكد لن يُبرح تفكيره بشأنها لذا أضاف بثباتٍ كأنه يثبت له ملكيته على ابنتها:
_لأ مُتشكر، أنا هبقى أبلغ مـراتي لو فيه حاجة.
حركت رأسها موافقةً وقبل أن يتحرك تمامًا أوقفته بقولها الذي خرج مُهتزًا منها وكأنها تُصارع نفسها لكي تتفوه بما تُريد منه:
_أنا عاوزاها تبقى معاك علطول على فكرة، مش هكسب حاجة لما أشوفها طول العمر تعبانة بغيابك، زي ما دلوقتي بقيت أشوفها زعلانة زي الأول، ساعدها زي ما كنت بتساعدها لو هتقدر يا “يـوسف”.
أصابته بكلماتها في مقتلٍ حيث أوضحت له ما لم يكن مرئيًا أمام عينيه وهو وسط تلك الصراعات نسىٰ أنه كان يِصارع لأجلها هي، حينها زفر بقوةٍ وقد تيقن أنه يتوجب عليه أن يُعيدها لعلاجها من جديد وقد هرب من أمامها نحو شقته لكي يأخذ شقيقته ويرحل بها..
بينما في الداخل تململت “عـهد” في نومتها بسبب حركات “وعـد” التي أوقظتها من نومها وخاصةً حينما مرت رائحة عطر “يـوسف” عند أنفها مما جعلها تُجعد ملامحها ثم أنتفضت بلهفةٍ تُمشط الغرفة الخالية بعينيها لتجد خطابًا يتوسط صدرها وقد كان يستقر عند أنفها في السابق وقد أمسكته بكفين مُرتجفين وحينها فتحته لتجده كتب في المقدمة:
_ماليش وش أرفع عيني في عينيكِ وألاقيهم زعلانين بسببي، بس أنتِ عارفة إني برضه مش راجل ظالم علشان أفتري عليكِ وأقولك مالكيش حق، أنا المرة دي هطلبها منك بصراحة وهقولك ينفع تنصفيني أنتِ؟..
في أخر الجواب دا لو قريتيه ورديتي عليا بعدها هعرف إنك ناوية تنصفيني، ولو مش هتردي ودا حقك يبقى أنا فعلًا مستاهلش إنك تكوني معايا، أقلبي الورقة على ضهرها…
كما أعتادت تُنصت له حتى في غيابه وتفعل ما يود، وقد أنحبست أنفاسها بداخل رئتيها حينما فتحت الخطاب لتجده كتبه على نفس غِرار سابقه قائلًا في أحرفه الأسطورية:
_تلك المرة فحسب يكتب لكِ ذاك الضعيف الذي أضحى كورقةٍ في مهب الريح، فأنا ليس بمعزلٍ عن الألم وليس بمفارقٍ للتعبِ، سأسرد لكِ قصتي منذ البداية، فأنا كنت الفتى الأول لرجلٍ تضج المجالس بطيب ذكراه، رجلٌ خُلِقَ ودودًا وعطوفًا لا تستحقه تلك الحياة بناسها الغير رحيمين أن يكون بينهم، لذا فارق الحياة وفارقني وكُتِبَ علي الألم من بعدهِ، فذاك المُدلل المدعو “يـوسف” تحول من أميرٍ إلى ذليلٍ، فبعدما كنتُ أتنعم في الخيرات، غدوت باحثًا عن الفُتات، فتات الأنسانية والمشاعر المُتبقية، فأنا من علمني أبي أن أمد يدي دومًا للآخرين بالخير، أصبحت أنا أمد يدي للغير..
لاحظت هي إرتجافة كتابته عند وصوله لتلك النقطة بينما هو أستمر في الكتابة مُكملًا:
_بالطبع لشخصٍ مثلي لديه كرامة تأني لأجل تألمها، وعزة نفسه تتوجع لأجل رُخصها، لن أقبل أن أفعلها وأتذلل لمن يُكرمني، بل خرجت باحثًا عن نفسي في الخارج، خرجت أبحث عن ذاتي حتى أنل حُريتي وحياتي، فتحول ذاك الفتى المُطيع إلى آخرٍ يتمرد على كل شيءٍ، تعلمت منذ خروجي وسط العالم أن القانون السائد هو قانون الغاب، فإذا لم يملك المرء منا أي قوةٍ ستأكله وتنهش لحمه الذئاب، كنت أسير أبحث عن الموت لعله يُصادفني ومن براثن الحياة ينقذني، فأصبحت أرمي بنفسي في غياهب الشر، وألقي بقلبي في ظُلمات الضُر، لكني وبالرغم من كل ذلك لازلت أحافظ على إنسانيتي، وأثناء ما كنت أبحث عني أنا وجدتني عندكِ هُنا، رجلٌ كريمٌ به العديد من الصفات الحَسنة، فلم أراني جميلًا ووفيًا بقدر ما أراني في عينيكِ، حتى غدوت أشكر كل الطُرقات التي قادتني إليكِ، فتلك المرة وفقط دعيها الفرصة الأخيرة لي ومن بعدها أفعلي ما تُريدينه أنتِ، لكني أنا سأستمع تلك المرة لصوت الشر بداخلي وسأفعل ما أريده أنا حيثُ النزعة البدائية بداخلي وأنتِ خير من يعلمها منذ قدومي إليكِ هُنا..
كانت تتفاعل مع كل كلماته حتى السطر الأخير وهو يُهددها صراحةً حينها أغتاظت منه كثيرًا وكادت أن تصرخ بغيظٍ مما كتب وكم تمنت أن تجده أمامها لتبرحه ضربًا، لكن هاتفها صدح صوت هاتفها برقمه فخطفت الهاتف سريعًا وهي تهتف بحنقٍ وغيظٍ منه:
_أنتَ بتهددني!! بتقولي أعملي اللي عاوزاه وأنا هعمل اللي أنا عاوزه؟! طب مش عاملة حاجة ومش هسمع كلامك ومش هرد عليـ….
شهقت ما إن أدركت أنها بالفعل تحدثه وقد قطعت شهقتها تلك حديثها حتى ضحك هو رغمًا عنه لكنه استعاد ثباته وهتف بمراوغةٍ:
_طب بالراحة على نفسك بس، بعدين أنتِ اللي معصباني وحارقة دمي بكلمك مش بتردي عليا، قُصره بقى علشان أنا مبحبش حد يزعل مني، أنا هسيبك النهاردة خالص براحتك مش هضايقك ولا حتى هكلمك، بس أنا مبسيبش حاجة تخصني، وأنتِ كلك على بعضك كدا مالكيش في النهاية غيري أنا، حتى لو هضطر إني علشانك أنتِ أعمي نفسي عن كل حاجة وآسف لو كنت زعلتك مني، بس أكيد مش قصدي إني أخليكِ تزعلي وخصوصًا لو مني أنا بعد كل اللي بينا، إلا لو أنتِ عندك شك فيا بقى؟.
هذا المُتحذلق الخبيث يرمي الكُرة في ملعبها حتى يصبح رد فعلها بمثابة الفعل نفسه، لذا تنهدت بقوةٍ ثم أضافت بصوتٍ مهتزٍ وهي تتذكر كيف فقدته في كابوسها المروع:
_ماشي يا “يـوسف” طالما أتكرمت وسيبتلي النهاردة كله يبقى كتر ألف خيرك وشكرًا إنك سايبني يوم كامل أتمرد، خلينا نشوف هنرسى فين أنا وأنتَ في الآخر بقى.
أبتسم ما إن استشف الرضا والهدوء في نبرتها وقد أضاف بمرواغةٍ تقسم أنها رآتها أمام عينيها لم تسمعها فقط حين أضاف:
_آخرتها هتبقى فل وأنتِ عارفة هترسى وتتعودي على إيه، ولا شكل غيابي عنك طول الليل نساكِ، ممكن أفكرك عادي.
ضيقت جفونها بريبةٍ لتسمع الجُملة ذاتها منذ أن تلاقيا سويًا وتواصلت مفترقات الطرقات ببعضها ليجمعهما الدرب ذاته:
_على حُضني إن شاء الله.
تورد وجهها خجلًا وغضبًا في آنٍ واحدٍ وقد أغلقت في وجهه دون أن تنتظر منه التكملة، فيكفيها تواقحه وهي تعلم أنه خبيثٌ لدرجةٍ كُبرى ستجعل مقاومتها تنهار عند دخولها أرضه، لكنها أيضًا ضحكت رغمًا عنها ما إن أدركت أن ما يفعله فقط لأجلها هي، لذا تنهدت بعمقٍ ثم خرجت من الفراش ولازالت تلك البسمة مُرتسمة فوق شفتيها..
__________________________________
<“إن كنت لا تُحب ما نفعله، أصمت ولا تجعلنا نكرهك”>
“مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد”…
حكمة قديمة قيلت على الألسنةِ تتردد بين الناس وقد استغلها فتى صغيرٌ أحق الاستغلال، فحول مصائب البيت إلى ما يُريده منذ عدة أشهر ووالده كان يتهرب منه بحجة العمل، والآن نال كل ما أراده في طرفة عينٍ حيث يجلس على الشاطيء في مدينة الاسكندرية يلعب بالرمال ويبني القلاع والمباني، ثم يذهب لِـ “نِـهال” التي كانت تعاونه فيما يفعل ويناولها المياه..
مر الوقت حتى كادت الشمس ترحل ليحل الظلام محلها وقد جلس “أيـهم” يتابعهما بمللٍ يضع وجهه بين كفيه وهو يُمرر عينيه فوقهما ليصله صوت ضحكات زوجته العالية فتحرك يجلس بقربهما وهو يهتف ساخرًا:
_معاكم السواق الخصوصي بتاع أهاليكم يا فندم، تحبوا نتنيل نروح فين تاني؟ ويلا قبل ما الدنيا تليل هنمشي إمتى؟.
تابعه “إيـاد” بغير إكتراثٍ ثم أضاف بلامبالاةٍ:
_ونمشي ليه؟ ما إحنا قاعدين هنا بنلعب والدنيا فاضية وحلوة زي الفل أهو، ومتعبناش وهنطلع الشقة نغير وننزل نكمل فسحة وبكرة نروح براحتنا، ليه مستعجل علطول كدا.
ضيق والده عينيه ثم خطفه من قميصه الأبيض يقبض عليه وهو يقول بنبرةٍ جامدة من بين شفتيه المُطبقتين على بعضهما:
_ولا!! أقسم بالله أروقك هنا، إحنا قولنا يوم واحد بس سيادتك تغير جو وتشم نفسك ونرجع علشان الشغل اللي هيتكركب قبل ما “بـيشوي” يسيبه ويروح يقعد على القهوة زي كل مرة، يبقى بنغير الكلام ليه؟.
ضحك الصغير وحرك كتفيه ببراءةٍ جعلت والده يتركه ثم هندم له قميصه وهتف بثباتٍ يخفي إحراجه من تراجعه أمام صغيره بتلك الطريقة:
_ماشي، بس بكرة أقول يلا يبقى يلا من غير لوع، مش علشان بقولك أنت‌َ صاحبي يبقى تاخدني بالقفا، ممكن تاخدني بالحب وهتبقى أشيك على فكرة منك.
ضمه “إيـاد” الذي تجاهله منذ بداية اليوم ضاحكًا وحينها شدد “أيـهم” مسكته لابنه الذي عاد وجهه يتورد من جديد بعد الشحوب الذي ملأ مُحياه وقد تحرك من قرب والده يصنع حُفرة جديدة بعيدًا عن تلك التي بناها مع أمـه حتى يعاونه فيها والده..
جلس “أيـهم” يراقبه ويراقب ضحكاته كُلما مرت كتلة هواء فوق وجهه وداعبت خصلاته لكي تتطاير نحو الخلف وقد استقر أكثر بجوار زوجته يخبرها بإمتنانٍ لها ولمجهودها المرئي مع صغيره:
_أنا الحقيقة مش عارف دا سِحر اسكندرية وهواها ولا بركة وجودك ومحاولتك معاه، بس أكيد يعني أنا بشكرك على كل حاجة بتعمليها علشانه، على ما أظن يعني من غيرك كنت هفشل زي كل مرة إني أعرف أتفاهم معاه، خصوصًا لو أنا حاسس بالذنب ناحيته طول عمري.
رفعت عينيها له وهتفت بنبرةٍ ودودة ترافقها بسمة طفيفة وعذبة زينت وجهها البريء وهي تقول مُردفةً:
_أنا أتعاملت مع أطفال كتير، ودرست سيكولوجية التعامل مع الأطفال خصوصًا اللي الظروف خليتهم يدركوا أمور أصعب منهم ومن عمرهم، ممكن ناس تشوف “إيـاد” بيبالغ أو مكبر الموضوع أو بيتدلع بس اللي فاهمه بجد هيعرف إن مشاعر الطفل أصعب من مشاعر الكبار في تقديرها، الناس فاكرة الطفل مشاعره عادية وممكن يتم تجاهلها بس دي كارثة، علشان كدا لازم نفهمه ونتفاعل معاه ونقدر حجم زعله وغضبه، ودا تفكير “نِـهال” المُدرسة..
توقفت وهي توسع بسمتها أكثر ثم أضافت بودٍ أكبر وعاطفةٍ جياشة تعبر عن أمومتها المركومة بداخلها:
_أما بقى “نِـهال” الأم اللي هي أنا فأنا مش هستحمل أشوفه زعلان أصلًا، مش هقبل أشوفه متضايق أو حتى ينفع أخلي فرصة لحاجة تزعله، هو بيديني الحاجة اللي كل الدنيا دي مديتهاش ليا يبقى مش هينفع أبخل عليه بحقوقه عليا، زي ما أنتَ كدا مش بخيل عليا ولا معايا حتى بمشاعرك رغم إنك مش النوع اللي ممكن يتكلم ويعبر، بس كفاية أفعالك بتقولها يا “أيـهم”.
ضيق جفونه وهو يبتسم لها ثم سألها بنبرةٍ خافتة:
_وأفعالي بقى بتقولك إيه؟.
كتمت ضحكتها حينما وجدته يقترب منها أكثر ثم أضافت بدلالٍ عليه وهي تهز كتفيها وكأنها عادت لأيام صباها ومراهقتها وهي تتحدث لحبيبها:
_بيقولوا إنك مُغرم.
سألته بعينيها هل يبدو هكذا كما توضح أفعاله بينما هو أقترب منها يُهيمن عليها بطلتهِ الخاطفة ولثم وجنتها ثم أضاف مُعدلًا على ما تفوهت به:
_لأ والله أنا واقع، ألحقيني بقى.
أرادت هي أن ترد له فرحته تلك بسعادةٍ بالغة فأضافت بنبرةٍ هادئة حينما أشارت بعينيها نحو الصغير الذي أندمج فيما يفعل:
_أنا سألت “إيـاد” نفسه في أخوات ولا لأ بس لقيته فرحان ونفسه في أخوات زي كل صحابه وزمايله، فكلمت “عـهد” وهي هتحددلنا معاد عند الدكتورة اللي هي بتشتغل معاها وهي بصراحة شجعتني أوي وقالتلي إن الدكتورة دي غير أي حد في المجال دا، فأنا بتمنى من ربنا يكرمنا ويجعل الحلم يتحقق على إيديها، رغم إنه صعب.
أحتل الألم نبرتها وهي تتذكر الأحاديث السابقة التي كانت تتلقاها من الأطباء وفي كل مرةٍ كان يتم إتهامها بالفشل الذريع وأنها لم تُنصت لهم، على الرغم أنها كانت تفعل ما بوسعها وقد لاحظ ذلك زوجها فرفع كفه يمسح على ظهرها وهو يُطمئنها بقولهِ:
_متقلقيش يا “نِـهال” والله العظيم أنا ما هضغط عليكِ ولا حتى هجبرك تعملي أي حاجة، أنا بس عاوزك تتأكدي إن مفيش حاجة مستحيلة لحد واثق في الله وإيمانه كبير، والله لو تسمعي كلام “أيـوب” عن المعجزات اللي حصلت في الإسلام وإزاي الدعاء ممكن يغير الأقدار هتتأكدي إن ربنا هيكرمك قريب، وإن شاء الله ربنا هيراضينا ويكرمنا مع بعض، ولو محصلش الحمدلله برضه أنتِ معايا أهو ومعانا “إيـاد” أظن أنتوا نعمة في حياة أي حد..
ضحكت هي له حينما استطاع أن يُطمئنها ثم حركت رأسها نحو الصغير تراقبه فوجدته يركض نحوهما ثم سحبهما معه حتى وصلوا سويًا للحفرة التي حفرها ثم بدأ معهم في بناء القلعة الجديدة وتلك المرة تشاركت الأيدي بأكملها وعلى رأسهم “أيـهم” الذي استعاد جزءًا من روح الطفولة معهما لترتفع ضحكاته وتزداد أكثر بمشاكسة ابنه..
__________________________________
<“نُزهة برفقة القمر لن تضر بشيءٍ”>
الغبي في العُرف دومًا هو من لا يستغل الفُرص..
وهذا الغباء لم يكن متاحًا في قاموسه، بل هو ذكيٌ لدرجةٍ كُبرى تُمكنه من قلب الموازين لصالحه، خاصةً بعد تلك اللحظات التي يُدمر فيها كل شيءٍ بغبائه وتهوره، وقد أوقف السيارة أمام الأرض الكبيرة الفارغة وبجواره جلست “قـمر” وما إن أوقف السيارة حركت رأسها تبحث عن المكان فوجدته يهتف بثباتٍ:
_تعالي لسه البيت جوة مش هنا..
نزلت خلفه بإطمئنانٍ بالغٍ فيكفيها أنه معها وقد لاحظ هو ضحكتها الواسعة فألتفت لها بتعجبٍ يسألها عن سبب ضحكتها وعدم بزوغ الخوف على معالمها:
_هو أنتِ مش خايفة؟ المكان شبه مهجور يا هطلة.
تمسكت بذراعه وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة تمازحه بها:
_عيب يا جدع متصغرناش، هخاف وأنا معاك؟ بعدين هو أنتَ لو عارف إن فيه خطر بنسبة حتى ١٪ ممكن تعرضني ليه؟ يلا بس خلينا ندخل أنا الفضول مموتني، يلا بقى.
لثم جبينها ثم تحرك وهي خلفه وقد وصل للبيت الذي جعلها تبتسم بسعادةٍ وحماسٍ معًا تتوقًا لما هو قادم، وقد أتى الحارس له يرحب به فصافحه “يـوسف” وتولى مهمة التعريف قائلًا بثباتٍ:
_دي بقى تبقى “قـمر الراوي” أختي الصغيرة وصاحبة المكان دا الأصلية، أي وقت تيجي هنا أديها الأمان أظن أنا مش هوصيك، أنتَ فاهم.
رحب الرجل بها وأشار على عينيهِ فيما ولج بها شقيقها نحو الداخل ليجدها شهقت بحماسٍ وهي تراقب تلك التحفة الفنية، حيث المكان الذي بدا كأنه حقبة زمنية توقف بها الزمن لفترةٍ وترك أثره بها، حينها وزعت نظراتها في المكان المُضاء بأضواءٍ ذهبية وبُرتقالية، رأت العديد من التُحف القديمة والآثرية، ورأت العديد من الصور للكثيرين من عمالقة الفن، حينها ضحكت وتوسعت ضحكتها حينما رأت ما صنعه بالمنتجات البلاستيكية لتجده جاورها وهتف ضاحكًا وهو يشير نحو الأريكة:
_دي موهبة غريبة بس بحبها أوي، أي حاجة بحب أعملها بالبلاستيك والورد والورق، بحب أستخدم حاجات غريبة أوي، بس إيه رأيك؟ عجبك المكان هنا؟.
ألتفتت له توميء موافقةً له فوجدته يضمها بأحد ذراعيه ثم زفر بقوةٍ وهتف بثباتٍ بعدما صارع نفسه لكي يتحدث بما سيقول:
_أنا المكان دا عملته علشان أهرب فيه من الدنيا برة، مكانش عندي فكرة إني ممكن في يوم يكون ليا حد أهرب ليه ويشيل همي ويخاف عليا، بس ربنا بقى رحيم بعباده وعلى قد التعب بيكون العوض، فأنا جيبتك هنا علشان تكوني عارفة كل حاجة عن أخوكِ، دا مكاني ودي حياتي كلها، بس ورا كل دا حاجات تانية خالص، المهم إني عاوزك معايا علطول، تبقي في ضهري زي ما أنتِ، وهقولك على سري كله بس وعد محدش يعرفه غيرك حتى ماما، مش عاوزها تعرف، تمام؟!.
أرتابت أمامه وزاغ بصرها فيما تنهد هو وقرر أن يُشاركها ماضيه كاملًا، أراد أن يُفصح لها عما تحمله من قبلها لذا بدأ في سرد كل شيءٍ منذ أن استيقظ على فاجعة أسرته حتى وصل إليها ووقف على أعتابها، ظل يقص عليها وكأنه أنفجر يسرد أمام نفسه، أخبرها عن كل شيءٍ عاناه في غيابهم عنه وخاصةً فترة مكوثه بالمصحةِ النفسية يتعامل بها كما المجنون الذي فقد عقله رغم وعيه البالغ حينها..
كان يحاول إخفاء ألمه عنها حتى وجدها تضمه لها وتمسح فوق رأسه برفقٍ وهي تبكي لأجله وما إن توقف عن التكملة وجدها تهتف بشراسةٍ لا يعلم كيف لرقيقةٍ مثلها أن تتسلح بها:
_عرفت ليه بكرههم وبخاف منهم؟ بس أقسم بالله لو آخر يوم في عمري مش هرحمهم ولا هسامحهم، ويا أنا يا هما، وراهم لحد ما أشفي غليلي منهم كلهم، واللي هيفكر منهم يقرب منك أنا هاكله بسناني، أنتَ أعقل واحد في الدنيا كلها، وأطيب أخ وأجدع صاحب وأرجل زوج، أنتَ أحسن منهم كلهم، كفاية إنك مبقيتش نسخة منهم بعد كل اللي شوفته منهم دا، أبوك ربى راجل صح وتربيته لسه أثرها جواك.
ضحك رغمًا عنه ثم تنهد بقوةٍ فوجدها تُمسد فوق رأسه كما كان يفعل هو معها في صغرها، كان يريد محو أي حواجز قد تكون وُجِدت بينهما، أراد أن يوصل قلبه بقلبها من جديد وقد أعتدل واقفًا بعدما مسح وجهه ثم أمسك كفها لكي يُريها المكان بأكمله، أرادها أن تشهد على موهبته حتى رأت نفسها مرسومة في صغرها وكبرها بمواجهة صورة “عـهد” وقد كتب أسفلها عبارة يتغزل بها:
_”أفنيت في الحزن والبؤس أيامي وعُمري..
ووحده وجودك من يُسعد القلب يا قـمري”
شهقت تلك البلهاء حينما رأت صورتها وتلك العبارة أسفلها وحينها تعلقت في عنقه تهتف بنبرةٍ ضاحكة وهي تمازحه:
_أنتَ طلعت تحفة فنية، إن شاء الله هقفل عليك في نفس المتحف، عارف لو مكانتش البت “عـهد” طيبة وتستاهل وجودك مكانش زماني فرطت فيك، يا بختي بيك.
مسح فوق ظهرها ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة هو الآخر:
_هو الحقيقة يا بختنا كلنا بيكِ، حبك لكل اللي حواليكِ غريب يا “قـمر” عاملة زي الأم وهي بتحامي على عيالها، كل اللي بتحبيهم محظوظين بيكِ، يا بخت ناسك بيكِ ويا بخت اللي ربنا رزقهم حُبك.
يبدو أنه يُعطيها ما كانت تفتقر إليه بدونه، حيثُ يبثها طاقة هائلة من حب الذات والثقة في النفس ثم يُعطيها الحماية التي تحتاج إليها من والدها، ثم الحُب من شقيقها، وأخيرًا ثناء الرفقة لبعضهما، وقد ظلت معه تتجول وهو يتولى مهمة تعريفها على المكان مُتناسيًا كل ما يُحزنه عن عمدٍ، وكأن رحلته برفقة القمر لن توقف العالم بشيءٍ..
__________________________________
<“هؤلاء هُم الكبار في كل مكانٍ، فأنصت لهم”>
العالم قد يكون مُمتلئًا بالقسوةِ على هيئة أشخاصٍ..
فربما تخدعك أعينك وتصور لك أنك تراهم أشخاصًا لكن في الحقيقة ماهم إلا قسوة تتحرك وهي تظهر بهيئة البشر معها، وقد تخدعك نفس الأعين حيث تصور لك القسوة في أشخاصٍ لن تجد أرق من أفئدتهم..
كان “نَـعيم” مع حلول الليل يجلس في ردهة البيت الواسعة برفقة “إيـهاب” الذي جلس معه يُٕنهي عدة أمور وضوابط خاصة بدفاتر العمل والتجارة اليومية، حيث كان يتولى مهمة الإشراف على كل شيءٍ بنفسهِ وفي المقعد المجاور له كانت “سـمارة” تتثاءب وهي تنتظر إنتهاء زوجها لكي تتوجه نحو شقتها حتى وقعت عينا “نَـعيم” عليها فأوقفه قائلًا:
_بقولك إيـه كفاية كدا بقى وشوف البت الغلبانة دي رقبتها أتلوحت من نومتها كدا، يلا صحيها وخدها شقتك وماشوفكش قبل بكرة، أعتبرها أجازة ليك.
ضحك له “إيـهاب” ثم ألتفت يُمسد فوق رأسها بحنوٍ حتى فتحت عينيها بعدما خرجت من سِنتها تلك فوجدت “نَـعيم” يُخاطبها مُعتذرًا بقولهِ:
_معلش يا “سـمارة” تعبناكِ معانا، بس أعمل إيه كل حاجة معاه ومن غيره الدنيا هتتوه مننا، طمنيني عليكِ كويسة؟ الواد دا مقصر معاكِ في حاجة؟ قولي بس أنا نفسي أشده شدة محترمة كدا أظبطه بيها.
ضحكت له وحركت رأسها نفيًا وهي تقول بنبرةٍ يغلب عليها النعاس حتى بدا صوتها ناعمًا للغاية:
_لأ والله، دا مش مخلي أي حاجة يقصر فيها، لا أكل ولا رعاية ولا علاج ولا حتى مواعيد دكتور، ربنا يكرمه ويراضيه زي ماهو مراضيني كدا ومخليني مش محتاجة حاجة وهو معايا.
ثنائها عليه كان يُبدد مخاوفه أن يكون صورة أخرى من والده صاحب القلب القاسي، فكان هو أول شاهدٍ على معاناة أمه حينما كانت تبكي في جوف الليل وتصرخ بألمٍ من والدهما وأفعاله معها، كان يسهر بقربها يمسح دمعها ويراها وهي تترجاه ألا يُصبح مثله، وهاهي زوجته تؤكد ذلك وقد طالعه “نَـعيم” بفخرٍ ثم توجه لها بعينيه يسألها بإهتمامٍ:
_طب قوليلي بقى عاوزة تجيبي إيه ولد ولا بنت؟.
ضحكت بخجلٍ حينما سألها هذا السؤال الغريب وقد أنزلق كفاها تلقائيًا نحو بطنها تمسد عليها ثم هتفت بضحكةٍ مكتومة:
_عاوزة ولد صغير كدا أسمراني زي أبوه ونفس شهامته وحلاوته، عاوزة أشوف شقاوة “إيـهاب” وهو صغير.
حينها مال عليها زوجها يهتف بمراوغةٍ عبثية:
_بقى دا اسمه كلام؟ وهي شقاوة “إيـهاب” وهو كبير قصرت معاكِ في إيـه بس، متصغرناش يا عمنا.
ضحكت بصوتٍ عالٍ لكنه كمم فمها قبل أن تفضحهما ضحكتها العالية حتى لكزه “نَـعيم” بالعصا فوق فخذه وهتف ينهيه عن وقاحته قائلًا:
_ما تتلم بقى أنا قاعد.
ألتفت الآخر يُزيد من وقاحته هاتفًا بلامبالاةٍ:
_طب ما تقوم.
قبل أن يتحدث “نَـعيم” من جديد ولج لهما “إسماعيل” بهدوء وهو يتحدث في الهاتف بأدبٍ وطريقةٍ رسمية جعلتهم يتعرفون إلى من يتحدث وقد ولج لهما أكثر يجلس بقرب “نَـعيم” ثم حرك جسده نحوه يُلثم رأسه كما يفعل دومًا حتى ربت الآخر فوق كتفه وهو يقول بصدقٍ:
_أهو أنا باجي عندك أنت‌َ وأضعف أوي، مقدرش أزعلك حتى، مجرد ما بشوفك بتطمن وقلبي بيرتاح، كنت بتكلم حماك صح؟ حضرتك وتحت أمرك دي لازم تكون ليه هو.
أومأ له “إسـماعيل” موافقًا ثم أضاف بثباتٍ:
_كان بيقولي نجهز الورق والصور ونروح الصحة علشان نطلع الورق وقالي نروح نشوف القايمة علشان نمضي عليها بحيث إننا نفضى لكتب الكتاب ومفيش حاجة تعطلنا، بصراحة أنا مبفهمش في الحاجات دي فهخلي “إيـهاب” يتعامل بقى، بس أنا طمنتها وقولتلها إن الحاجات دي مش فارقة معايا والمهم هي.
أبتسم “إيـهاب” بسخريةٍ وأضاف بتهكمٍ:
_طمعتهم فينا يعني، جدع يا موكوس جدع يا ابن الخايب.
رمقه شقيقه بتعجبٍ وحرك كتفيه وهو يُضيف بلامبالاةٍ وبغير إكتراثٍ:
_شوف مين بيتكلم، مش أنتَ ماضي قايمة بـ ١٠ مليون جنيه على نفسك؟ دي “ضُـحى” لما عرفت مكانتش مصدقة نفسها إن فيه حد ممكن يعمل كدا، فأنا خليتها تعرف إننا رجالة شاريين مش زي بتوع اليومين دول.
أنتفض “إيـهاب” يتقدم للأمام في مقعده يسأله بحدةٍ مندفعًا خلف صوت حميته الإنفعالية:
_بتقول إيه؟؟ كرر كدا تاني يا حيلة!!.
كرر شقيقه الحديث بتفاصيل أكبر جعلت “إيـهاب” يضرب فوق رأسه بباطن كفه ثم هتف بنفاذ صبرٍ يوضح له ما في الأمر الذي غفل هو عنه:
_يا حبيبي كفاية أم الطيبة دي، دا كان إختبار من الحج ليا، حب يعرف أنا شاري ولا لأ وأنا كنت فاهم إنه بيختبرني فحبيت أعرفه إني مش عيل صغير وصحيح خليتهم عشرة مليون علشان كنت عارف إنه مش هييجي عليا ولا عليها، وساعتها هو بنفسه قطع الورقة دي لما نجحت قدامه، وكتبنا كل حاجة بما يرضي الله، الحاجة اللي جيبتها واللي الحج جابها واللي هي كانت جايياها من تحويشة عمرها، وهي بنفسها عارفة كدا، تروح تفتح صدرك كدا في وش الناس وتلبس نفسك؟.
ضحك “نَـعيم” رغمًا عنه وكذلك “سـمارة” ما إن أنهي هو الحديث وقد سأله “إسماعيل” بقلة حيلة وتيهٍ عما يتوجب عليه فعله فوجد “سـمارة” تُضيف بدلًا عنه بحكمةٍ:
_والله ما بتفرق عند ولاد الأصول، أسمع مني أنا وأنا هفيدك، مفيش واحدة ست هتزود القايمة وتكتب حاجات هي مش جايباها غير لو هي عارفة إنها مش بنت أصول ومش هتأمن على البيت وصاحبه، وعدم المؤاخذة يعني مفيش راجل هيركز في القايمة ويشكك في مراته غير لو عارف إن ميطاقش وعِشرته صعبة وهييجي يوم يخليها تطهق منه، والله لو فيه حد من الاتنين عاوز يخلع هيعرف يخلي التاني يقوله حقي برقبتي ويخرج بالهدوم اللي عليه، يبقى توكل على الله وربنا يراضيك.
أبتسم لها “إسماعيل” حينما رأى نظرتها للأمور وكيف صبغت الحكمة حديثها فقد كان حائرًا لا يعلم ما يتوجب عليه فعله ولو كان الأمر مُتاحًا لديه لكان قام هو بجلب كل شيءٍ بمفرده ويكفيه فقط أن تُنير هي ليله وتؤنس حياته ولا يهمه ماهو دون ذلك، فهل من يشتهي الضُحى ستجذبه مُغريات الظلام؟.
__________________________________
<“أنا هنا ضحية للمرضى النفسيين بالخارج”>
لا شك أن الإنسان يشبه الحاسوب يتلقى المعلومات ثم يصدر النتائج، ولا شك أن المشاعر دومًا تتفاعل مع بعضها نتيجةً لما تتلقاه ممن هم أمامها ومما يُصدر لها، فنحن عبارة عن ضحايا خلفتها القلوب القاسية لأصحاب النفوس المريضة، لنصبح نحن الجاني في حين أننا المجني عليه…
فــي صَــبيحة الـيـوم المـوالي..
كان “مُـنذر” في عمله بتلك المشفى يتابع عمله بغرفة “مـحمود” حيث الحالة الأهم من وسط الحالات التي يتابعها هو بنفسه ويتولى مهمة الإشراف على صاحبها الذي تطور كثيرًا عن السابق فأصبح يجاوبه ويتفاعل معه ومع حديثه حتى سأله “مُـنذر” بثباتٍ وهو ينتظر جوابه بحماسٍ مُلتهبٍ:
_طب دلوقتي إحنا وصلنا لنقطة جبارة مع بعض، فكرة إنك تكلمني وترد عليا دي قوة هايلة منك، حاليًا أنا بكلم “محمود” الجديد اللي جواك تفتكر هتقدر تبدأ من جديد بعدما تخرج من هنا؟..
سأله لكي ينتظر منه الجواب الذي سيكون بمثابة الحياة مُجددًا لميتٍ بدأ يـعود للحياة رويدًا رويدًا وقد تنهد “محمود” ثم أضاف بنزقٍ كأنه يود الهرب من الجواب:
_بلاش توجع دماغي بكلام ملهوش لازمة، خصوصًا إنك شبهي وفاهم كويس أوي إن الاسئلة دي مُتعبة بس خليني أفكر معاك يمكن ترسى وتهدا شوية..
توقف هنيهة يلتقط أنفاسه ثم أضاف:
_هخرج من هنا والناس كلها عارفة إن أخويا رماني هنا بحجة إني مجنون وغير متوازن وتصرفاتي مش موزونة بشهادة الكل، طبعًا بعدما الدنيا كلها شهدت عليا وأنا بشتم وأقل أدبي وأكلم نفسي بالدوا اللي كان بيتحطلي، بس لما أخرج بقى هواجه كام حد؟ الناس والعيلة والقرايب والجيران؟ لو أنا هنا بموت مرة نظرتهم برة بتموت ألف مرة، وجعي هنا أنا هقدر أداويه بس هما برة وجعهم مش بيتداوى، نظرة عينهم بتوجع، وخوفهم من الإنسان بيقتل، وكلامهم عليه وإتفاقهم ضده بيدبح، عاوزني أخرج برة أواجه كل دا؟ هبقى مجنون فعلًا، علشان اللي يعاشرهم هيعرف إن البُعد عنهم غنيمة ومكسب كبير أوي.
تنهد “مُـنذر” بثقلٍ ثم أنتقل يجلس بجوار الآخر وأضاف بقلة حيلة كأنه يسير على نهج حديث الآخر:
_معاك حق، يمكن هما برة بيوجعوا بس فيه حاجات تانية بتوجع أكتر، هما صحيح أغبيا وبجحين ولسانهم طويل وحرامية وفيهم كل العِبر بس من بين كل عشرة فيهم هتلاقي واحد حلو، صدقني أنتَ لو هتخرج من هنا يبقى تخرج علشان نفسك أنتَ، علشان هما ورأيهم ملهمش لازمة أصلًا، علشان تقف على رجلك من تاني بعد كل اللي حصل، أقعد مع نفسك وأحسبها صح هتلاقي إنك لازم تخرج من هنا زي ما خرجت من قوقعة سكوتك..
رمقه “مـحمود” بغير إهتمامٍ وأبتسم ببرودٍ جعل “مُـنذر” ينسحب من المكان نحو الخارج ليتقابل مع “فُـلة” التي خرجت لتوها من غرفة المريضة المجاورة وقد أبتسمت له بلطفٍ وحيته برأسها وهي تقول بنبرةٍ خفيضة:
_صباح الخير يا دكتور “مُـنذر”..
تعجب هو من طريقتها اللطيفة ومن نظارتها الجديدة التي تخفي عينيها عنه خلف عدستيها الزُجاجتين، وقد أقتربت منه تقف بالقرب منه وهي تُضيف بنبرةٍ هادئة:
_لو حضرتك فاضي ممكن تتفضل تفطر معانا أنا والزُملا فيه كام حد كدا جمعوا بعضهم وقالوا نفطر مع بعض، أتفضل معانا.
أرتسم الأسف فوق ملامحه حينما أضاف مُعتذرًا منها:
_شكرًا ليكِ بس أنا مش بعرف أفطر مع حد أو وسط ناس وكدا، تتعوض مرة تانية وشكرًا لذوقك يا دكتور.
كانت متيقنة من جوابه قبل أن يُعطيه لها وكأنها مُدركة حجم وحدته وهروبه من الناس، لذا تتبعت أثره بعينيها وهي تشعر بالحزن لأجله تفاعلًا معه وقد أنسحب هو نحو غرفته مباشرةً يغلقها على نفسه فتنهدت هي بقوةٍ ثم تحركت من الرواق نحو الخارج، بينما هو في الداخل فجلس على المقعد يتنفس بعمقٍ وهو يحاول تفهم مشاعره التي تُثار بداخلهِ ما إن تقترب هي منه، فلقد لاحظ أنها الوحيدة التي بأقل فعلٍ يصدر عنها تجذب إنتباهه، هي وحدها التي وبالرغم من كل شيءٍ..
حتى أنـه لاحظ أنها قامت بتغيير نظارتها الطبية؟ من المؤكد أنه أعتاد على دراسة كافة التفاصيل حوله واستخدام كافة حواسه لكن ليست بتلك الطريقة!! وقع صريعًا في حلقات مُميتة من التفكير كانت هي محور تلك الحلقات لكنه حاول صرفها عن عقله، وقد حدث نفسه بنبرةٍ جامدة يُنهرها بقوله:
_إحنا هنخيب ولا إيـه؟ من إمتى يعني؟.
كان يتحدث بتلك الطريقة مع نفسه ليجد الجواب على لسانه يُعطيه ما تحير هو فيه بقولهِ الصارم:
_متستهبلش، أنتَ عارف من إمتى يبقى تكتم خالص.
زفر “مُـنذر” بحدةٍ وأغمض عينيه هربًا من صورتها التي تلوح أمام عينيه، أراد أن يهرب من مشاعره التي تتفاعل معها وتهتم بها، أراد أن يصرفها بالكامل عن رأسه لكن يبدو أنها غدت إحتلالًا توغل خفيةً ليشغل رأسه الفارغ، لكنه سحب الملف المُلقى أسفل ذراعه ليقرأ العبارة التي توسطت منتصفه حيث كُتِبَ عليه “الإتجار بالبشر_ دور الأيتام”..
تلك هي القضية التي علم أنها محط الأنظار من “ماكسيم” وأعوانه فتنهد بثقلٍ وهو يعلم أن هناك كارثة ستقترب من هؤلاء الضُعفاء لا شك في ذلك، كانت قضية صعبة تحتاج للكثير من الجُهد والتريث لكي يتحرك في أول خطواته ويشبه من يسير في حقل الألغام حاملًا روحه على كفيه..
__________________________________
<“يريدون في الأرض فسادًا، لذا يهدمون كل إصلاحٍ”>
اللهم إنا نعوذ بِكَ من شرور أنفسنا، ونستعيذ بك حين ننطق كلمة لأحدهم نحسبُها عادية وهي تكسر قلبهُ وتحزنهُ أيامًا، فاللهم إنا نطلب منك العفو وأن ترزقنا حُبك وحب جنتك ثم حب عبادك الصالحين..
جلس “أيـوب” بالمسجد وسط الصغار في الوقت الواقع بين صلاة الظُهر والعصر، حيث يتابع معهم دوره في تسميع حفظ القرآن الكريم ويُشرف على تعاليمهم الأمور الدينية رغم عدم سماح القيادات له بذلك، لكنه دومًا يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى، وقد أنهى الصبي الصغير تسميع وترتيل ما تيسر من القرآن الكريم فتنهد “أيـوب” مبتسمًا له ثم أضاف بلباقةٍ:
_اللهم بارك، ربنا يبارك فيكم ويفتح عليكم ويزيدكم تقربًا منه وحبًا له وييسر لكم الطرق نحو طاعاته، ويملأ قلوبكم بالصبر والإيمان، الحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، ربنا جعلني سبب أني أحفظكم القرآن الكريم وجعلكم سبب علشان ربنا يستخدمني فاللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، هنبدأ في الأربعون النووية والنهاردة الحديث الكام لو فاكرين؟.
أجابه الصغار في نفس الوقت بنبرةٍ حماسية:
_التالت يا شيخ “أيـوب”.
أبتسم لهم وأضاف بثباتٍ وهو يطالعهم ببشاشةٍ:
_الله يفتح عليكم، التالت صح، النهاردة هشرح ليكم الحديث التالت وهنحاول كلنا نحفظه مع بعض رغم إن كلكم ما شاء الله حافظينه بس يمكن وأنا أولكم نكون نسينا، وبعدها هنشرحه مع بعض كلنا، متفقين؟
سألهم ليأتيه الجواب المُلتهب حماسًا فيما أمسك هو أحد الكُتب القديمة العتيقة ليبدأ في إلقاء الحديث عليهم بهدوءٍ ورزانةٍ ورجاحة عقلٍ حيث بدأ بقراءة الحديث قائلًا:
_عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن عُمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال سمعتُ رسول الله ﷺ يقول “بُنِىٰ الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن مُحمدًا رسول الله، إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا”..
أنهى إلقاء الحديث ثم أضاف من جديد يُتابع التفسير بقولهِ:
_قال رسول الله ﷺ أن الإسلام بنى على خمسٍ، فمن أتى بهولاء الخمس فقد أتم إسلامه كما أن البيت بيتم بأركانه وكذلك الإسلام يتم بأركانه، زي البيت بالظبط، ومعنى أنهم خمس فدا تعبير معنوي شبه بالتعبير الحسي ووجه التشبيه بين الدين والبناء أنهم بيت، فالمعنى راجع إن البناء الحسي إذا أنهدم بعض أركانه لن يتم، فكذلك البناء المعنوي يعني اللي مبني على نفس المعنى، لذلك قال رسول الله ﷺ:
” أن الصلاة عماد الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين وهكذا يتم قياس البقية في الحديث البناء المعنوي، وقد ضرب الله ﷻ مثلًا للمؤمنين والمنافقين فقال تعالى “أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان”…
أنهى الاستدلال بالآية الكريمة ثم تابع مُكملًا:
_فقد تم تشبيه بناء المؤمن الذي وضع بنيانه على وسط طودٍ أي جبلٍ راسخٍ، وشبه بناء الكافر بمن وضع بنيانه على طرف بحرٍ هارٍ لا ثبات له فأكلها البحر وحينها ينهار الجُرف وينهار بنيانه فوقع به البحر فغرق ودخل جهنم، وقوله ﷺ بنى الله عزَّ وجل الإسلام العظيم على خمس دعائم من أجل امتحان العبادة..
بمعنى إن الصلاة عبادة بدنية وهي فعلٌ للشيء، والصيام عبادة بدنية كذلك ولكنه كفٌ وترك، وقد يسهل على الإنسان أن يفعل ويصعب عليه أن يكفّ أو العكس، يعني يقدر يصوم فروض ونوافل وقد يسهل عليه أن يصوم لكن لا يسهل عليه أن يبذل قرش واحدا وهكذا، فنُوِّعت العبادات ليكمل بذلك الامتحان ومن أوجه التنوع أيضًا : أن الزكاة بذلٌ للمحبوب وهو” المال” ، والصيام كفٌ عن المحبوب “الطعام والشراب والشهوة اللي الإنسان المفروض يتحكم فيها”
بمعنى إنه مش وقت ما يجوع ويعطش ياكل، بالعكس لازم يستنى ويصبر، والحج فيه إجهادٌ للبدن وبذلٌ للمال،
فيرى البعض أن في هذا الحديث إشكال وهو إن تقديم الحج على الصوم؟ يعني خلاف ظهر إن الصيام الأول ولا الحج؟
والجواب عنه أن يقال : هذا ترتيب ذِكري، والترتيب الذكري يجوز فيه أن يقدم المؤخر، يعني ممكن يتم تقديم المؤخر ويتقال هو الأول والله جل علاه أعلى وأعلم وقد سبق في حديث جبريل عليه السلام تقديم الصيام على الحج…
فمن دلوقتي نبدأ نلتزم بأركان ديننا، ونصلي ونحاول نلتزم ومننساش إن المُحب يحب لقاء حبيبه، أفتبخلون على أنفسكم بلقاء المولىٰ الحبيب؟.
كما المعتاد طريقته سلسة ومُبسطة جعلت الصغار يتفقون معه ثم قطعوا على أنفسهم الوعود بما يتوجب عليهم فعله بينما هو ضحك لهم حتى وجد رجلًا يشير له فخرج هو له من المسجد يسأله بأدبٍ:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيـوة يا فندم خير؟.
أنتبه له الرجل يطالعه بتكبرٍ ثم هتف باستعلاءٍ:
_معاك “عبادة الطيب” موظف في وزارة الأوقاف، حضرتك عندك علم إن المسجد ميفعش يفضل مفتوح كدا ولا ينفع حلقة القُعاد دي؟ أظن يعني المفروض إن حضرتك عارف الكلام دا كويس، يبقى بتعاند معانا ليه؟.
أنتبه له “أيـوب” ولطريقته المُتعالية فقرر أن يتمسك بالهدوء والأدب لذا هتف بثباتٍ أمامه:
_حضرتك عارف إني إمام المسجد هنا وبحفظ الأولاد القرآن وبراجع معاهم، ماظنش فيه جُرم حصل لواحد بيحفظ أولاد صغيرين كلام ربنا وسنة سيدنا محمد ﷺ، حضرتك شايف خطورة في أولاد بيعرفوا دينهم؟.
كان يسأله بثباتٍ وقوةٍ مما جعل الرجل يرمقه بنظراتٍ مُتفرسة ثم أضاف بتهكنٍ وهو يستعد للرحيل:
_مش شغلك، ياريت تخلي بالك كويس علشان مش كويس أجيلك هنا مرتين، خصوصًا إنك عارف كويس أوي إن فيه تعليمات.
تنهد “أيـوب” بثقلٍ وظل يستغفر ربه سرًا وجهرًا وقد ألقى نظرة عابرة على الصغار بحيرةٍ في أمره لكنه تذكر قول الإمام “علي بن أبي طالب” رضي الله عنه وأرضاه حين قال: “‏فِي الْجُبْـنِ عَارٌ وَفِي الإِقْـدامِ مَكْرُمَةٌ،
وَالمَـرءُ بِالْجُبـنِ لَا يَنْجُـو مِنَ القَـدَرِ”
وهو ليس بجبانٍ لكي يتراجع عما يفعل لذا عاد لسيرته الأولى حيث الجلوس بين الصبية وكأن شيئًا لم يكن، وقد رسم البسمة فوق وجهه ثم بدأ في تلقينهم الحديث الشريف حتى يتم حفظه بعدما قام بتفسيره وشرحه لهم.
__________________________________
<“متى يحين للنور أن يأخذ محل الظلام؟”>
غريب هو الإنسان حينما يفقد روح الشغف نحو الأشياء التي كان يُحبها ويتتوق إليها بكل طاقته، فيعود باردًا وفاترًا بعدما كان يتأجج بالنيران لأجل الحصول عليها..
كان “سـراج” في مكتبه يصول ويجول بعدما هاتف “نـور” بشأنه زواجهما فلاحظ تهربها منه دون أن تُعطيه أي مُبررٍ واضحٍ لذلك، هي فقط تهربت منه وأنها غير مستعدة لأي أحاديثٍ في هذا الشأن في الوقت الحالي؛ حينها ثارت الأفكار بعقله وظل يبحث عن الأفكار التي تُسعفه رغم فشله بذلك لكثيرٍ من الوقت فلم يكن أمامه سوى أن يترك مكتبه وخرج منه مُباشرةً يولج سيارته ثم قادها إلى حيث بيتها..
وصل إلى هناك في فترةٍ قياسية ليجدها تجلس كعادتها بوسط الحديقة بمفردها تضع السماعات الكُبرى فوق أذنيها وهي تمسك أحد الكُتب باللغة الإنجليزية فتنهد بقوةٍ ثم ولج يجلس أمامها حتى رفعت عينيها المُهتزتين كحال جسدها لترمقه بتعجبٍ بعدما أغلقت هاتفها فوجدته يضيف بثباتٍ كأنه لم يكترث بها:
_أنا جيت هنا علشان المفروض آجي أشوف البيت، بس دخلتلك أنتِ علشان قاعدة لوحدك، ليه يا “نـور”؟ أنا من إمبارح فرحان مفيش حاجة عكننت عليا زيك، وزي ردك البارد عليا وأنتِ بترفضي الجواز مني، أنتِ لسه مش عاوزاني؟.
حركت رأسها نفيًا وبكت وهي تجاوبه بلهفةٍ:
_مش كدا والله يا “سـراج” بس أنا صعبان عليا نفسي أوي، أنا مبقاش معايا حد خالص في حياتي، بابا وبقى في شغله من تاني وعمتو في الأتيليه بتاعها، وكل صحابي اللي كانوا هنا معرفش حد فيهم، واللي لقيتهم لما رجعت قاطعوني لما “شـهد” قطعت معايا وكأنها بتنتقم مني، هعزم مين أنا في الفرح دا يا “سـراج”؟ أنا من ساعة ما رجعت وكل حاجة هنا أكبر مني ومن تحملي ليها، صدقني أنا نفسي أكون معاك بس دا هيكون فرحنا، ومن حقي اليوم دا يكون حلو وأفرح فيه، خصوصًا إنك ناوي تعمل فرح.
تأججت النيران بداخله فورما وجدها تبكي أمامه بتلك الطريقة وقد لفت نظره أن المتسبب في ذلك وأحزنها كانت. “شـهد” وحينها زفر هو بقوةٍ وقد أشتدت ملامحه بقسوةٍ ثم أعتدل واقفًا وهو يقول بصوتٍ جامدٍ وبنبرةٍ غلظة:
_وأنا متعودتش حد ييجي عليا وأسكتله، حقك هييجي وهيتعملك فرح زي أي عروسة، بس الأول قسمًا بالله حقك هييجي لحد عندك تالت ومتلت، ومبقاش “سـراج المـوافي” إن ما خليتك تاخدي حقك منها، علشان أنا صبرت كتير بس طالما جت على اللي يخصني لأ كدا كتير.
أنهى الحديث ثم أولاها ظهره وأختفىٰ من أمام وجهها لتتابع هي أثره بذهولٍ لكنها سكتت وأغمضت عينيها حتى لا تبكي من جديد، خاصةً بعدما وجدت العديد من صديقاتها القُدامى قاموا بإلغاء الصداقة بينهن وبينها ومنذ هذه اللحظة وهي تشعر أن قلبها مقبوضًا وكأن الأرض تميد بها..
__________________________________
<“أخذ الحق كما الحِرفة لا يحتاج إلا من يحترف المهنة”>
في مقر عمل شركة الراوي..
كان “عُـدي” ينتقل بين الفنية والأخرىٰ يتابع العمل مع الشباب ثم يعود من جديد لمكتب “رهـف” التي كانت تتجنبه خاصةً بعدما تحدثت مع خالها وأكد لها أن أمرها تم كشفه وهي تتحدث عنه بتلك اللهفة وكأنها عادت لأيام مراهقتها وقد رأت أن أحسن ما يتم صُنعه أن تتجاهله كُليًا حتى أبدت له ذلك بأفعالها..
وقد لاحظ ذلك “عُـدي” ذلك وقبل أن يولج لها مكتبها من جديد أمتنع عن هذا الفعل وأنصرف من مكانه يتجه لمكانٍ آخرٍ فلاحظ “يـوسف” يدفع “سـامي” في منكبيه ثم غادر المكان تمامًا بغضبٍ عارمٍ وقبل أن يتبعه لاحظ “سـامي” يضحك ببرودٍ حتى جاورته “شـهد” وهي تسأله بقلقٍ بالغٍ:
_مكانش ينفع تنرفزه كدا، أكيد هيورطنا أكتر.
أبتسم لها بلامبالاةٍ وتجاهلها ومر من المكان فعلم حينها أن “سـامي” أفتعل مشكلة لأخيه حتى جعله يتحرك بتلك الطريقة فزفر “عُـدي” بقوةٍ ثم ولج غرفة مكتبه يهرب من الجميع ولو كانت علاقته بها أفضل لكان شاركها ما يساوره..
بينما “يـوسف” فولج سيارته وهو يهرب من طاقة غضبه قبل أن يستبب بقتل زوج عمته ثم ذهب إلى بيت “نَـعيم” مباشرةً حتى لا يذهب إلى أمه وتراه بتلك الطريقة وقد ولج لهناك ليجد الشباب سويًا برفقة كبير البيت وهم يضحكون ويمازحون “مُـحي” بمشاكستهم المعتادة حتى ولج هو لهم فساد الصمت ما إن رأوه بتلك الطريقة المتهجمة وقد سأله “نَـعيم” بتهكمٍ:
_حصل إيـه؟ مالك يا سيدي؟.
أشار “يـوسف” على نفسه مستنكرًا وهو يقول تلك المرة بوجعٍ من إلصاق تلك التهمةِ الفجة به:
_بقى ابن الرقاصة دا يتهمني أنا أني حاولت أجهض “شـهد”؟! أنا هقتل عيل صغير في بطن أمـه لسه؟ مرة يتهمني بقتل ابنه ومرة تانية بقتل حفيده؟ أنا خرجت من غير ما أعمل أي حاجة تخليني أقتله بس صدقني كدا كتير عليا أوي، المرة الجاية هتبقى بقتل بجد.
أنتبهوا له بأعين مُتسعة ثم نظروا لبعضهم وقد أقترب منه “إسماعيل” يربت فوق كتفه وهو يُشدد أزره لكن “يـوسف” حاول أن يتمالك أعصابه أمامهم وكأنه يعلم أن دوائه هنا، لكن ظهور “سـراج” فجأةً جعلهم يصمتون من جديد ليسأل هو بحيرةٍ:
_ماله دا؟ حد جه جنبه؟.
أنهى حديثه ثم أقترب منه يناولها سيجارًا لكي يُشعلها فأضاف “مُـحي” بسخريةٍ تهكمية:
_هو ناقص ولعة، هو شايط لوحده.
ضحكوا عليه فيما نفث “يـوسف” هواء سيجارته بقوةٍ بعدما أولاهم ظهره إحترامًا لتواجد “نَـعيم” بينهم وقد سأله “سـراج” بإهتمامٍ عن سبب وصوله لتلك الحالة فقد أناب “إسماعيل” نفسه وجاوب بدلًا عن رفيقه وهو يتحسر عليه وعلى حاله فضحك “سـراج” رغمًا عنه بنبرةٍ عالية جعلت “يـوسف” يغتاظ أكثر وهتف بنبرةٍ جامدة وهو على وشك التشابك معه:
_أنا مش ناقص عبط أمك دا على المِسا يا “سـراج” فتضحك على إيه هو أنا ناقص هبلك؟ ما تريح شوية بقى.
أوقف “سـراج” ضحكاته وجاوبه بقلة حيلة وهي يحاول أن يبدو جادًا فيما يتحدث عنه:
_أصل البت دي فاجرة، عدت مرحلة البجاحة وبقت في مرحلة الفُجر والقدُر، اللي مخلياك تاكل في نفسك كدا وواقف تفكر إزاي تشفي غليلك، هي اللي مسقطة نفسها وهي اللي راحت برجليها للدكتورة تعملها إجهاض، مش قولتلك أنتَ غلبان وسط الجبابرة دول يا غريب؟.
حديثه كان كما السلاح ذو حدين، حيث جزءٌ منه أصاب الهدف وقام بإخماد نيران “يـوسف” والجزء الثاني ألهبها أكثر ليؤكد له أن قهر المظلوم دومًا يُفتك بقلب صاحبه كما تأكل النيران في نفسها..
______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى