رواية غوثهم الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السادس والثلاثون

رواية غوثهم البارت السادس والثلاثون

رواية غوثهم الحلقة السادسة والثلاثون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السادس والثلاثون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
_ يــا رب…يــا رب
يا رب فيضٌ من ثنائك بالعطايا قد هما…
غَمر القلوب بجوده يــا رب…فيضٌ من ثنائك بالعطايا قد هما..للكائنات تكرمًا…
يا بئس قلب عن حقيقة جوده السامي عما..
يرتاد دربًا شائكًا أبدًا يراه مُظلمًا..
يا بئس قلب عن حقيقة جوده السامي عما..
يرتاد دربًا شائكًا أبدًا يراه مُظلمًا..
والجود من طبع النَبيِّ وآلهِ
والجود من طبع النَبيِّ وآلهِ.. كي تعلما..
فلنقتدي بنبيينا..
فلنقتدي بنبيينا..
في جودهِ كي نُكرما.
_”مُحمد عمران”.
_________________________________
غريبان أرادت لهما الدنيا أن يتلاقيان سويًا، كلٌ منهما يختلف عن الأخر وكأنهما مقطوعة موسيقية مختلفة الأوتار جمعهما لحنٌ واحدٌ ليظهر الجمال في وجودهما معًا، حزنها وبؤسها أمام غربته وضعفه ليقف كل منهما للأخر حاميًا له ويعلنها هو صراحةً بقوله:
“أنا هُنا….حتمًا أنا هُنا، إذا زاد حملكِ ومال كَتفكِ أنا هُنا، وإذا زار الخوف أحلامك لا داعي للقلق فطمأنينتكِ بجواري هُنا، وإذا فُرضت عليَّ الحروب بأكملها لا مانع أخوضها لأجل عينيكِ و أعود لكِ من جديد لأخبركِ؛ أنني فقط ودومًا لأجلك هنا.
<“لست بطيرٍ كي أحلقَ، بل أنا مُعتقل”>
أنهى “أيوب” الابتهال ثم أعلن عن موعد الفجر وقام برفع الآذان بصوته وأنهاه ثم قام بتأدية ركعتي السُنة والرجال في المسجد كذلك ثم ركعتي الفرض وأنهى الصلاة أخيرًا والتفت يُرحب بالناس ووالده كذلك و “إياد” معهم أيضًا، وقبل هذا بلحظاتٍ قليلة كانت “قمر” تستمع لصوته بسعادةٍ غامرة، زوجها هو نفسه إمام المسجد ويأم الناس للصلاةِ، ناهيك عن صوته العذب الذي أجاد قراءة القُرآن وكأنه يسكب الطمأنينة سكبًا بتلاوته لداخل قلبها، لذا ابتسمت بسعادةٍ وتضرعت للمولى يحفظه لها ثم دلفت لكي تصلي هي الأخرىٰ.
بعد مرور دقائق خرجوا من المسجد مع بعضهم وأخرهم كان “أيوب” الذي وقف يغلق باب المسجد ونزل الدرجات الباقية بجوار “إياد” الذي وقف بجواره يتثاءب وهو يشعر بالبرودة نتيجة اقتراب فصل الخريف عليهم حتى حمله “أيوب” وهو يقول بسخريةٍ بعدما لاحظ ارتعاشه:
_تعالى أحسن تقع وأنتَ نازل نايم على نفسك كدا.
ضحك الصغير ووضع رأسه على كتفه يستشعر الأمان بعدما ضمه “أيوب” إليه يدفئه بوجوده وما إن نزل “أيوب” الدرجات يجاور الرجال حتى وجد مجموعة رجال يقتربون منهم وتحدث من يتقدمهم بنبرةٍ رسمية حادة:
_أستاذ “أيوب” اتفضل معانا.
وقف “أيوب” مصدومًا وكذلك الرجال حوله وحينذاك وقع بصره على السيارة البيضاء فابتسم بسخريةٍ وترك الصغير على ذراع “أيهم” مستعدًا معهم للرحيل وسط دهشة واستنكار البقية وأول من أوقفه كان “أيهم” الذي أمسك ذراعه يسأله بنبرةٍ جامدة وهو على وشك الإنفعال:
_رايح فين؟؟ استنى هنا نفهم مين دول.
نظر له “أيوب” بمعنى أن الأمور معلومة لديه ولا داعي للقلق بهذه الطريقة حتى وجد الرجل صاحب الحِلة الرسمية يقترب منه وهو يقول بنبرةٍ متحفظة وكأنه يعلن هجومه الشخصي عليه:
_لو سمحت اتفضل معانا من غير شوشرة أحسن.
كان البقية إبان ذلك في حالة تخبط واستنكارٍ لهذا الموقف وقد اندفع “يوسف” يسأل الرجل بنبرةٍ جامدة وغضبٍ طفق يظهر عليه في الحال:
_ييجي معاك فين ؟؟ دا واحد خارج من الجامع، أنتَ جاي تاخده من كباريه؟؟ وأنتَ هتروح معاهم فين وإزاي ؟؟.
اندفع بغضبه يستفسر من “أيوب” الذي ربت على كتفه ثم التفت للرجل يقول بنبرةٍ حاول احتواء الهدوء معها كأنهما كما إصبعين لا يتركا بعضهما:
_اتفضل حضرتك أنا جاهز ومن غير أي شوشرة.
اتسعت الأعين أكثر وزاد الاستنكار حينها وبكى “إياد” وهو ينادي على عمهِ ولم يحتاج لتفسيرٍ واضحٍ يخبره مَن هؤلاء فهو كبيرٌ بما يكفي لعقله استيعاب الأشخاص وطبيعتهم، بينما “أيوب” تلاقت نظراته قبل رحيله بنظرات والده “عبدالقادر” الذي طالعه بعدة مشاعر كساها الخوف والقلق المتواريان خلف شموخه ليجد ابنه يقترب منه ثم مال على كفه يقبله وهتف بنبرةٍ مُحشرجة:
_ادعيلي، راجعلك تاني.
حينها انفطر قلب “عبدالقادر” على صغيره وهو يحدثه بهذه النبرة التي أوضحت خوفه حتى وإن كان ثابتًا أمامهم لكن قلبه يرتجف من الداخل وكذلك ابنه أيضًا، رفع “أيوب” نفسه لتتقابل نظراته بنظرات والده وحينها حاول طمأنته بنظراته لكن عيناه نطقت بتوسلٍ أن يدعو له والده الذي هتف بثباتٍ زائفٍ ينافي بكاء قلبه وانكسار روحه:
_روح يابني ربنا ينصرك ومستنيك نفطر سوى.
أبتسم “أيوب” رغمًا عنه وحرك رأسه لتتقابل نظراته بنظرات “يوسف” و “فضل” ومعهما “عُـدي” حينها شعر بالانكسار حقًا، صهر العائلة المُبجل يؤخذ من بينهم كما لو أنه أجرم في حق المُجتمع، هنا حقًا شعر بسكينٍ يمر على عنقه وخاصةً وهو يُسحب من ذراعه أمامهم ليبدأ غضب “أيهم” و “تَـيام” أيضًا الذي حاول الركض خلفهم وفهم الأمور بينما “يوسف” ظل محله تائهًا لا يقل في تكبيله عن “أيوب” الذي وُضِعَ بداخل السيارة مثل المجرمين.
حالة هياج انتشرت من الجميع بخوفٍ انصب داخلهم خوفًا على “أيوب” فيما وقف “عبدالقادر” يراقب الوضع بانكسارٍء ابنه يؤخذ أمامه بهذه الطريقة وهو يعجز حتى عن الحديث ورفض ما يحدث، لاحظ حركة الشباب وصراخ “إياد” باكيًا والعربة ترحل من المكان فلم يكن أمامه سوى أن يضرب الأرض بعصاه حتى أسكتهم جميعًا وانتبهوا له ليقول هو بقوةٍ غير متوقعة في هذه اللحظة لم تنبع سوى من شخصٍ مثله:
_بس !! ابني هيرجع مع شروق الشمس إن شاء الله، يلا كل واحد فيكم على بيته اتفضلوا يلا، ومش عاوز كلام كتير.
نظر “يوسف” إلى “فضل” الذي حرك رأسه موافقًا بتفهمٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة لم يفارقها الحزن والخوف:
_إن شاء الله يا حج، ربنا يطمنا عليه إن شاء الله.
سحب الشابين بعد جملته من بين احتجاج “يوسف” على ما حدث لكن خاله مال على أذنه يهتف بلهجةٍ ثابتة:
_بس بقى واسمع الكلام تعالى فوق وأنا هفهمك.
أرجع “يوسف” رأسه للخلف يراقب وقوف وصمود “عبدالقادر” الذي ظل كما هو وبجواره “أيهم” يحاول تهدئة ابنه الصغير الذي أخذ يبكي على عمه ويطالب به، وحينها تذكر “يوسف” بكاء “عهد” حينما أخبرته عن إعتقال “أيوب” من قبل وفهم أن فعله هو المتسبب في هذا.
_________________________________
<“بريءٌ يصرخ وسط عالمٍ أبكم لم يسمع صرخاته”>
صعد “يوسف” مع خاله و “عُـدي” فوجد “قمر” أمامه تسأله بتعجبٍ عن عدم تواجد “أيوب” بالأسفل مع أسرته، كما أنها لاحظت غيابه وبكاء “إياد” بالأسفل:
_”يوسف” هو فين “أيوب” ؟؟ و “إياد” عمال يعيط تحت ليه ؟؟.
نظر لها شقيقها بضياعٍ ووقف أمامها حائرًا وتائهًا، وكذلك “فضل” أيضًا و معهما “عُـدي” الذي تحدث بنبرةٍ خافتة يقول:
_متقلقيش يا “قمر” هو بس راح مشوار مهم وكلها ساعات ويرجع إن شاء الله، و “إياد” بيعيط علشان مراحش معاه، ادخلي نامي أنتِ وهو بكرة هيكلمك إن شاء الله.
وزعت نظراتها بينهم ولم تصدق حتى سكوتهم، بل هناك شيء أكبر صبَّ القلق داخل قلبها، هناك ما ينبئها أن هناك شيء مريب لكنها قررت أن تترك كل هذا وانسحبت من أمامهم حينما ازداد مقياس القلق بداخلها خاصةً مع نظرات أخيها الذي هرب بها منها وصمت عن الحديث على غير العادة.
دلفت “قَـمر” غرفتها وضربات قلبها تزداد بخوفٍ عليه لم تهرب من احساسها لطالما كانت دومًا ذي إحساسٍ صادقٍ لم يكذب عليها في شيءٍ كما سبق وأخبرها أن “أيوب” هو بطلها الآن نفس القلب يخبرها أنه مسه ضُرٌ، لكنها تطلب من الله أن يلطف به ويعود لها من جديد.
“في مبنى الأمن الوطني”
وصل “أيوب” مع الرجال وتم وضعه بداخل غرفة التحقيقات يتم فيها معاملته كأنه أسوأ المجرمين أو أشد اجرامًا منهم، كل هذا وهو يقف صامدًا دون أن يظهر عليه أي رفض أو احتجاجٍ بل أظهر قوته عمدًا ورسم الثبات بنظراته حتى دلف له الغرفة رجلٌ تظهر عليه القوة المُبالغ فيها وكذلك نظراته ثم سحب المقعد المقابل له وجلس عليه يسأله بثباتٍ:
_ها يا “أيوب” !! إيه الأخبار بقى ؟؟.
رفع “أيوب” حاجبيه باستنكارٍ وردد خلفه مُعلقًا عليه:
_أخبار ؟؟ طب دي عيبة أني أكون هنا ومتكونوش عارفين الأخبار، جايبني علشان الأخبار؟؟.
ابتسم الرجل بخفةٍ ورد عليه بسخريةٍ:
_لأ ماهو إحنا بنحب نسمع لايف، ها إيه اللي كان ورا جوازك بقى ؟؟ بتخطط لإيه؟؟.
تبدلت ملامح “أيوب” إلى أخرى جامدة فأضاف الأخر بعدما قرأ ملامحه الجديدة وعلم أنه يضغط عليه:
_ها !! إيه اللي كان ورا جوازك.
فهم “أيوب” بالتقريب ما يحدث حوله وأن البلاغ المقدم ضده صدر عن عمدٍ لذا تسلح بالبرود وأعاد ظهره للخلف يهتف بنبرةٍ ثلجية في برود رده عليه:
_العامود.
_نعم يا أخويا !!!.
كان هذا رد المُحقق عليه مستنكرًا كلمته الغير متوقعة فوجده يحرك كتفيه وهو يقول ببراءةٍ موضحًا سبب قوله:
_مش حضرتك بتسألني إيه كان ورا جوازي؟؟ العامود، كان ورايا العامود الرخام بتاع المسجد وعلى يميني المأذون عقبال ولادك وجنبه وكيل العروسة عقبال حبايبك إن شاء الله.
تفاقم غيظ الرجل منه وضرب الطاولة بكفه عدة مراتٍ وهو يقول بنبرة عالية جَهورية حينما هتف بانفعالٍ:
_ولا !! أنا مش عاوز استعباط !! عامود إيه ؟؟
ابتسم “أيوب” بسخريةٍ هو يقول:
_حضرتك عاوز تقنعني إن الدولة الحمد لله حلت كل مشاكلها وخلاص جوازي هو اللي عامل أزمة ؟؟ على كدا لو عندي مع مراتي خلافات شخصية أكلم مين هنا؟؟.
تحرك الرجل من موقعه واقترب من “أيوب” ظنًا منه أنه بذلك يَبثه الرعب والخوف ولم يعلم أن الأخر لم يخشاه ولا يخشىٰ أي مخلوقٍ مثله بل يخشى الخالق وحده، وظهر ذلك حينما تحدث الأخر بنبرةٍ هادئة لكن اثرها يبعث الخوف داخل النفوس الضعيفة:
_لو فاكر إنك هتفضل تستظرف كتير تبقى غلطان، أنتَ جاي هنا في قضية ترويع المواطنين، عارف يعني إيه ؟؟ يعني أقل حاجة سنة دا طبعًا وفقًا للمادة ٣٧٥، الله أعلم ممكن توصل لكام لو طلع عليك حاجة تاني.
كرر “أيوب” الحديث خلفه بسخريةٍ مُهولة حين هتف:
_ترويع مواطنين ؟؟! معنى كلامك دا إني بستعرض قوتي على خلق ربنا ومعنى كلامك دا إني بلطجي ماشي بسلاح كل اللي يقابلني اضربه !! ياترى بقى مين للمواطنين اللي أنا عملتلهم ترويع ؟؟.
ابتسم الرجل بخفةٍ وهتف مُعدلًا عليه:
_أو إرهابي، بتستغل الأطفال والشباب الصغيرين وتعملهم غسيل مخ علشان يخضعوا ليك، وطبعًا بتهددهم وتخوفهم، دا غير إن فيه فيديوهات ليك وأنتَ بتهدد واحد من الحارة عندك وكذا مرة تروح تتهجم عليه، يعني محدش اتبلى عليك.
اندفع “أيوب” يرد على حديثه بغضبٍ تفاقم عن السابق:
_وهو اللي يحفظ الأطفال القُرآن ويعلم الشباب أمور دينهم يبقى كدا إرهابي ؟؟ واللي ينصح الناس ويمد أيده ليهم يبقى إرهابي ؟؟ واللي يدافع عن بنت من واحد بيتعرض ليها يبقى كدا إرهابي ؟؟ أنا مش إرهابي، أنا مسلم.
تحرك الرجل من موضعه واقترب من المقعد يستند على ظهره بيده يستعرض قوته أمام “أيوب” الذي فهم عليه وعرف ما يفعله بينما قال الأخر بلامبالاةٍ:
_على العموم يعني أنتَ منورنا حبة حلوين كدا لحد ما نشوف عليك حاجة تاني ولا ملفك نضيف، مع أني شايف قدامي واحد هيطول معانا حبة حلوين أوي.
قالها ببرودٍ وكأنه لا يبالي بمن أمامه ولا بمشاعره وقبل أن يتجه للباب يفتحه وجد “أيوب” يهتف من خلفه بقوةٍ لم تفارقه بل يزداد تمسكها به في أسوأ حالاته وظهر ذلك حين هتف مرفوع الرأس:
_إذا دعتك قوتك على ظلم الناس فتذكر قوة الله عليك
احظفها كويس يا باشا وركز فيها، علشان لو المكان كله هنا معاك، أنا معايا اللي أكبر وأعظم من الدنيا كلها، معايا رب كريم، ولو عليا أنا هعتبر نفسي واحد ربنا ابتلاه علشان بيحبه، ويا بختي لو أنا محبوب عند ربنا.
قوته وشموخه وسمو نفسه في الحديث ظهروا للأخر الذي اهتز ثباته لوهلةٍ، قوة “أيوب” أكبر منه على الرغم من كونه يجلس في هيئة المُجرم، اعتاد في هذا الموقف على رؤية الضعف والهوان، لكن الجالس أمامه يُظهر قوةً لم يعهدها من قبل، لذا تلاحمت نظراتهما سويًا بتحدٍ سافرٍ جعل المُحقق يعلن هزيمته حينما هرب منه وفتح الباب يخرج من المكان تاركًا “أيوب” خلفه وما إن خرج الأخر زفر “أيوب” حينها بقوةٍ وهتف بنبرةٍ خافتة:
_يا صبر “أيوب”…يا رب أنتَ المُغيث أغيثني.
مرت دقائق قليلة عليه بداخل غرفة التحقيقات تبعها دخول رَجُلين للغرفة ثم قاما بسحب “أيوب” من تلابيبه ولم يقو هو على مواجهتهما نظرًا للفارق الجسدي بينهم، وتم وضعه بداخل الغرفة الصغيرة واقترب أحدهم منه لتبدأ المعاملة المطلوبة خصيصًا له هو.
في بيت “عبدالقادر”
مر على أخذ ابنه حتى الآن خمس ساعات، ولم يعد ابنه، حالة خوفٍ سيطرت عليه ولم تعد أعصابه تتحمل يخشى على صغيره كثيرًا من هذه الحياة، يود الصراخ والركض إليه والبحث عنه لكنه حتى الآن لم يعلم مكانه، البيت أصبح مُظلمًا وكئيبًا والأمر فقط عدة ساعات، “إياد” ينام على قدم جده من كثرة البكاء و “آيات” تمسك المُصحف تقرأ آيات الذِكر الحكيم تستشفى من ألم روحها بالقرآن لكن قلبها ينزف بخوفٍ على شقيقها.
رفع “عبدالقادر” رأسه للأعلى يطلب من المولى بتضرعٍ وبكاءٍ أتضح في توسله وهو يقول:
_يا رب….ابني ملهوش غيرك، احفظه يا رب ومتكسرنيش فيه وانصر أخوه في مشواره ويرجع مطمني عليه، يا رب إحنا عبادك الضُعاف وأنتَ القوي، انصره واحفظه يا رب.
نظرت “آيات” له بعينين دامعتين وتركت المُصحف من يدها ثم اقتربت من والدها تندس بين ذراعيه وهي تبكي وما إن اقتربت منه ورفع ذراعه يضمها إليه بكت بحرقةٍ وقهرٍ على شقيقها فوجدت والدها يربت عليها ويُطمئنها بقوله:
_بس بقى متعيطيش، هو مبيحبكيش تعيطي ولا تزعلي زمانه على وصول دلوقتي ولو جه لقاكي كدا هياكل دماغي، وأنا بصراحة ضعيف قدام عتابه.
ازداد بكاؤها أكثر فتنهد “عبدالقادر” مستسلمًا ورفع كفه يربت على خصلاتها وهو يهدهدها كما لو أنها طفلته الصغيرة وليست فتاةً كُبرى في سن الشباب، لكنه يعلم حبها وخوفها على أخوتها وخصوصًا “أيوب” صديقها الوفي، وفي هذه اللحظة صدح صوت جرس الباب فانتفضت هي من محلها بفرحٍ ظنًا منها أن الطارق هو أخوها “أيوب” لكنها تفاجئت بـ “أيهم” يدخل لهم ويبدو عليه الخذلان فسأله “عبدالقادر” بلهفةٍ:
_فين “أيوب” يا “أيهم” ؟؟ أخوك فين ؟؟.
نكس رأسه للأسفل وهتف بنبرةٍ خافتة فاترة خالية من الروح وكأنه صوتٌ مبرمج:
_للأسف ملقيتش “كامل” بيه في بيته مسافر في مهمة برة وقافل موبايله ومعرفتش أوصله يا بابا.
نظرت له “آيات” بعينين دامعتين وخاصةً حينما نكس “عبدالقادر” رأسه للأسفل وكأنه تأكد من ألم ابنه حتى أنه شعر بنفس الوخز في قلبه وكأنه انقسم نصفين، بينما “أيـهم” أقترب من “آيات” يربت على ظهرها حتى وجدها تقول بنبرةٍ باكية:
_هو مش هيحصله حاجة صح ؟؟ أكيد هيرجع ويكون كويس، بالله عليك حاول تعمل أي حاجة متسبهوش لوحده هناك، هيتعب أوي لوحده.
خطفها بين ذراعيه فتحول حديثها إلى شهقاتٍ مُتقطعة وفي هذه اللحظة أراد أن يبكي هو الأخر مثلها ويصرخ ويتخلى عن ثباته لكنه وقف أمامها صامدًا يحاول بثهم بقوةٍ هو في أوج الحاجة إليها، لكن الموقف حتم عليه أن يتولى هو زمام الأمور وإدارتها لكن قلبه يصرخ من القلق على أخيه، بل أن عقله صور له ما يمكن أن يحدث معه بالداخل.
_________________________________
<“بكى القمر لأجل حزننا”>
في منزل “قمر” مرت ساعاتٌ أخرى وصلت إلى العشر منذ إلقاء القبض على “أيوب” في فجر اليوم، ولم يقوى “يوسف” على الكذب أكثر من هذا خاصةً بعدما عاد مع “أيهم” ودلف إلى غرفته ينام بها لكن أخته لم تتوقف عن السؤال، زوجها لم يجاوب على الهاتف ولم تتوصل له وتوقفت عن التواصل معه، كل شيءٍ حولها يدعوها للخوف وتحققت مخاوفها حينما أخبرها أخوها بما حدث، حينها بكت ونزل دمعها تقول من بين دموعها أنه كان ولازال بريئًا من أي جُرمٍ.
اقترب “يوسف” منها يحتضنها فوجدها تبكي أكثر وتتمسك به وهي تقول من بين بكائها:
_والله معملش حاجة وحشة لحد، “أيوب” أصلًا مبيزعلش حد يا “يوسف” علشان خاطري حاول تتصرف أعمل أي حاجة، “أيوب” طيب أوي والله.
ربت “يوسف” على ظهرها وشدد ضمته لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة لم يخفى عنها التأثر والحزن لأجل شقيقته:
_عارف والله، والله عارف إنه طيب وأنه مبيزعلش حد، أوعدك أني مش هبطل أحاول علشانه، بس عاوزك تمسكي نفسك شوية يمكن يكون كلها النهاردة بس ويخرج تاني، متخافيش يا “قمر” أنا معاكِ هنا.
بكت من جديد وكل ما يدور بخلدها مساويء الإعتقال كما تسمع هي من الكثيرين حولها، تعلم أن أيامهم هناك تمر بصعوبةٍ كما أن هناك العديد من الأشياء تحدث لهم تحاول هي الهرب من التفكير بها فيكفيها خوفها عليه، لذا تمسكت بشقيقها تحتمي به من أفكارها المقيدة للاطمئنان الذي هرب منها، ولم يبقى سوى الخوف وحده بداخلها يأكل في ثنايا روحها.
على جهةٍ أخرىٰ قامت “مَـي” بإخبار “فاتن” عنما حدث لـ “أيوب” والآخرى نظرًا للقرابة بينها وبين “عبدالقادر” بصفتها ابنة خالته شعرت بالحزن لأجله ولأجل ابنه الذي لم تسمع عنه سوى كل خيرٍ، ومع شعورها بالحزن لأجله بكت وهي تستمع لحديث الآخرى التي بكت رغمًا عنها وهي تقول:
_والله عمره ما رفع عينه في حد ولا حتى زعل حد منه، ناصر المظلوم وناصف الغلابة دايمًا، ربنا يفك كربه ويرده لأهله من تاني، الحارة مضلمة من غيره حتى صوت الآذان تحسيه جديد علينا كدا، يا رب رده لينا من تاني.
بكت “فاتن” وهي تستمع لحديثها ودعت الله أن يرده لأبيه من جديد، كانت تود الذهاب إلى هناك لتؤازر ابن خالتها لكنها تذكرت أمر “شهد” لذا تراجعت عن فكرها وألقت الهاتف بجوارها فوجدتها تدخل غرفتها وهي تقول بنبرةٍ مصطبغة بالمرح:
_طنط ممكن أتكلم مع حضرتك ؟؟.
حركت رأسها موافقةً وهي تثبت عينيها عليها، فدلفت لها “شهد” تقول بنبرةٍ أتضح بها التردد:
_ممكن أنزل النهاردة شوية مع صحابي في النادي؟؟ أنا قولت لـ “نادر” وهو قالي استأذن منك أنتِ الأول، مش هتأخر هجيب شوية حاجات وأشوفهم علشان وحشوني خالص.
زفرت “فاتن” مُطولًا وسألتها بسخريةٍ:
_طب ولو حصل واتأخرتي زي المرة اللي فاتت؟؟.
زفرت “شهد” بأنفاسٍ مكتومة ثم ابتسمت بتصنعٍ وهي تقول:
_مش هتأخر إن شاء الله، بعدين يعني القعدة بتكون حلوة ولذيذة اوي مش بقدر أسيبهم، لو هتضايقي خلاص هقعد هنا أحسن بس متزعليش.
نظرت لها “فاتن” بإمعانٍ وفكرت أن ربما الأخرى تتحدث مع ابنها وتوصل له الأمور بصورةٍ خاطئة لذا تراجعت عن قرارها وقالت بنبرةٍ هادئة تعبر عن قلة حيلتها وربما استسلامها للأمر:
_روحي يا حبيبتي بس متتأخريش.
ابتسمت بحماسٍ ثم تحركت من الغرفة لكي تلحق نزهتها المنتظرة، لم تتعجب الأخرى من حالها بل سخرت منها، فتاة غير مسئولة عن أي شيءٍ في زواجها لم تقدر البيت الذي تعيش به ولا حتى غياب زوجها، بل هي سطحية تنظر للحياة من جهة الترفيه غافلة عن المسئوليات المُلقاةِ على عاتقها لكنها لم تعلم أن الأخرى تهرب من خبر زواج “يوسف” بهذه الطريقة.
خرجت “شهد” من الغرفة وتوجهت لغرفتها تمسك الهاتف تتفحص حساباته الشخصية تنتظر أي صورة أو إشارة لحساب الفتاة لكنها لم تتوصل لذلك، كيف تزوج بهذه السرعة ؟ أمر زواجها منه تطلب عامين وأكثر بكثير، والآن الأمر لم يكلفه سوى شهر ونصف ؟؟ وعقد قرانه ؟؟ من المؤكد أنه وقع بحب الأخرى حتى يتخذ القرار بهذه الطريقة أو لربما يعرفها من بعد انفصالهما، من هذه التي جعلته يخون نفسه وقلبه لأجلها !!.
أغلقت الهاتف والقته على الفراش بعدما فشلت في العثور على أية تفاصيل تُعلمها بهوية “عـهد” وللحق لم تعلم أنها أصبحت الهوية له في حين كونه غريبًا.
________________________________
<“ليس كل السكوت ضعف، بل أشد القوة هي الصمت”>
استمر اليوم في محاولاتٍ مُميتة من الشباب في التوصل لـ “أيوب” وذلك من خلال التردد على الكثير من الجهات الحكومية ومحاولة التوصل لأي عامل يقوم بمساعدتهم، لكن جميعها بائت بالفشل، حتى “تَـيام” الذي لجأ إلى بعض أساتذة القانون الذي تعلم القانون على أيديهم لكن أيضًا محاولته كمن ينفث في وجه المحروق ظنًا منه أنه يعاونه على الشفاء لكن أنفاسه تخرج هباءً.
شعر “يوسف” بالعجز وهو يعود للمرة الثانية مع “أيهم” مخذوليْن من كل الجهات حتى معارف “إيهاب” و “نَـعيم” لم ينفعونه بشيءٍ، بينما “أيـهم” كان كما البركان الثائر ينتظر فقط هزة أرضية بسيطة ليعلن عن نفسه، وقد لاحظ “يوسف” حالته وقبل أن يخرج من السيارة عاد من جديد يربت على كتف “أيهم” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_مش عاوزك تقلق إن شاء الله بكرة بالكتير وأخوك هيكون معاك، الصبر بس وكله هيكون تمام.
التفت له “أيـهم” يسأله مستنكرًا بنبرةٍ جامدة تدل على غضبه وغيظه ممن حوله ومن قلقه على أخيه:
_أصبر !! أصبر لحد إمتى يا “يوسف” ؟؟ أخويا بلف عليه من الصبح مش عارف أوصله وأخرتها تقولي الصبر !! كل باب أروحه الاقيه مقفول وكل سكة أدخلها الاقيها مقفولة، أنتَ مش عارف إيه اللي ممكن يحصله جوة، مجربتش الحرقة اللي أنا فيها دي وأنا عارف أخويا بيحصله إيه جوة، أنا متكتف ومش عارف أتحرك ومطلوب مني أصبرهم كلهم وأنا مش لاقي اللي يقويني.
تنهد “يوسف” مُطولًا ثم ربت على كتفه يشدد أزره وهو يقول بلهجةٍ رغم ثباتها خرجت حزينة لأجل “أيوب” وهو يقول:
_ان شاء الله هنلاقي حل وبكرة يمكن يكون الراجل دا رجع القاهرة، عاوزك بس تفضل ثابت علشان ابنك وأختك، لو على “أيوب” فهو قوي وهيقدر يعدي من المحنة دي، المهم بس نشوف حل وصرفة قبل ما يفوت الأوان ويتنقل من هنا.
حرك “أيـهم” رأسه موافقًا بقلة حيلة فنزل “يوسف” من السيارة وتحرك الأخر بسيارته وقبل أن يدخل “يوسف” البناية تقابلت نظراته مع نظرات “سعد” وقف حينها يقرأ تعابير وجهه ليسود التحدي نظراتهما ويرسم “سعد” شجاعة لا تمت شخصه بِـصلةٍ لذا اقترب منه “يوسف” بخطواتٍ واثقة فوجده يقول بنبرةٍ ساخرة:
_خير يا عريس ؟؟ جايلي ليه مزنوق في حاجة من محلي؟
أمسك “يوسف” تلابيبه بحركةٍ خاطفة لم يتوقعها الأخر وأضاف من بين أسنانه يهدده بصراحةٍ وهو يقول:
_قسمًا بربي لو أنتَ السبب في الليلة دي أنا ما هيكفيني فيك عيلتك كلها، وقابل مني وش عمر أهلك ما شافوه في حياتهم، هوريك النجوم في عز الضُهر، علشان الحركات القذرة دي أنا أتوقعها منك عادي جدًا،عارف ليه ؟؟ علشان زيك زي العيال الصغيرة تضرب وتجري متعرفش تعمل زي الرجالة وتقول أنا عملت.
رسم “سعد” البرود ببراعةٍ على ملامح وجهه وسأله ببرودٍ أكبر جعل “يوسف” يتيقن مما يفكر به:
_مقولتليش تشرب إيه ؟؟.
دفعه “يوسف” على المقعد وهتف من بين أسنانه بنبرةٍ حادة حين هدر بغيظٍ منه:
_ابقى اسأل أمك، هتقولك بيشربوها سادة على روح الرجالة، إنما أنتَ مشكوك في أمرك بس وعد مني لو حصل هوزع ساقع يرطب على الحارة كلها.
تركه “يوسف” والتفت ليدخل البناية فوصله صوت “سعد” يتحدث بتشفٍ وبرودٍ أكبر من السابق وهو يقول:
_طب خلينا في دلوقتي، هتشربونا إيه ؟؟ عيش وحلاوة؟؟.
قرر “يوسف” التغاضي عن أفعاله وتحرك نحو البناية يدخلها ويطمئن على شقيقته التي لم تكف عن البكاء منذ علمها بما حدث لزوجها وللحق هو يكره حزنها وضعفها ويشعر بالعجز لرؤية فرحتها مكسورة بهذه الطريقة.
في الأعلى جلست “قمر” فوق السطح تمسك خطابه بيدها تقرأه وتشعر به حولها على الرغم من البكاء المداهم لها لكنها كانت تدعو الله أن يلطف به، لم تكف عن الدعاء بتوسلٍ حتى شعرت بكف أحدهم يوضع فوق كتفها فالتفتت بلهفةٍ لتجد “عـهد” أمامها فجلست “عـهد” بجوارها على الأرض وهي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول اخفاء تأثرها بحالة الأخرى:
_مش جاية أهون عليكِ علشان كلنا زعلانين وقلبنا ميت من الخوف، بس جاية أقولك إنك قوية ولازم تقفي على رجلك علشان لما يخرج يلاقيكي قوية، إن شاء الله ميطولش جوة ولسه إحنا مش عارفين إيه اللي حصل ممكن يكون إجراء روتيني وهيخرج تاني بخير، تفائلي بالخير.
تنهدت “قمر” وهتفت بنبرةٍ باكية ترد عليها:
_أنا خايفة عليه هو علشان محدش عارف مكانه، لو حد بس يقول هو في أنهي مكان هرتاح، الغايب من غير سبب بيوجع أوي دا أنا عيشت عمري كله مقهورة على غياب أخويا، ودلوقتي مش عاوزة جوزي يغيب هو كمان.
بكت بقهرٍ بعد حديثها وكأن اوجاعها عادت تنتفح من جديد ليتضح أنها لم تلتئم بل هي هادئة بفعل المسكنات، لم تعترف له بمشاعرها ولم تخبره حتى بفخرها به، أرادت أن تسمع الرسالة المكتوبة منه بصوته ويصلها لها بدفء نبرته، احتضنتها “عـهـد” بين ذراعيها تربت عليها وتحتويها بينما “قمر” تمسكت بالخطاب أكثر وكأن كلماته تتضح لها في هذه اللحظة، فهمت لما كتب لها أنه تألم وتعذب ممن حوله ويحتاج لها.
وقف “يوسف” يتابعهما سويًا ولم يمنع نفسه من التبسم، زوجته تحتضن شقيقته وأيضًا تبثها بالقوة، أضعف الفتيات تقوي أخرى وتشدد أزرها أيضًا، وأخته تبكي بضعفٍ ولأول مرّة منذ التقاءه بها، لذا تحرك نحوهما وجلس على ركبتيه أمامهما فارتبكت “عهد” من حضوره وانتبهت له “قمر” وسألته بلهفةٍ بعدما ابتعدت عن “عـهد”:
_ها رجع معاك؟؟ عرفت طريقه ؟؟.
حرك رأسه نفيًا بأسفٍ فلمعت العبرات في مقلتيها من جديد وتحرك بؤبؤاها بتلقائيةٍ تجاه “عهد” التي ضغطت على كفيها، فأخفضت “قـمر” رأسها نحو الخطاب من جديد فانتبه “يوسف” لما تمسكه شقيقته فأخذه منها بحركةٍ هادئة يقرأ المكتوب بداخله، ومنذ الوهلة الأولى قرأ الخطاب بقلبه قبل لسانه، شعر بكل كلمةٍ كتبها “أيوب” لشقيقته وأكثر ما جذب أنظاره كتابته:
_فالآن فقط أخبرك أنني رجلٌ حاربته قبيلته، وتعذبت منه عشيرته، الآن أتيتُ لكِ من بعد دربٍ مجهولٍ، لطريقٍ أراه بكِ المعلوم….جِئتُ إليكِ أحتمي من قسوة قبيلةٍ على غُلامٍ يتيمٍ لم يرى الرأفة منهم، بل وجد القسوة وما أشد منها….وفي بلاغة القول يسعني أن أصفك من بعدما وجدتكِ بأنكِ:
“خير الرُكن الدافيء، وأنتِ السكينة والمَسكن”
تأثر “يوسف” بالمكتوب والتمس الصدق في صياغة الكتابة وكأن “أيوب” استمع لقلبه قبل أن يخط هذا الخطاب، تأكد من حبه لشقيقته نزل ببصره لأخر الخطاب فوجد امضته المرحة وحينها ابتسم رغمًا عنه ثم رفع كفه يحاوط وجنة أخته وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_تصدقي !! لو أنا واحدة واتكتبلي الكلام دا والله ما أفكر حتى أسيبه، الكلام اللي مكتوب هنا كله صادق علشان خارج من القلب، واللي بيخرج من القلب بيتصدق، أنتِ بقى قلبك بيقولك إيه ؟؟ مصدقاه ولا لأ؟؟.
مسحت دموعها وجاوبته بعزيمةٍ اقتبستها منه هو:
_قلبي بيقولي أنه هيرجع ومش هيطول في بعده عني، وأنا مصدقة قلبي، زي ما صدقته لما عرف إن “أيوب” هو اللي ينفع أهل القلب دا، بس إمتى ؟؟.
ضمها “يوسف” إلى صدره وهو يقول بإصرارٍ:
_قريب إن شاء الله، هيرجعلك قريب أوي.
ابتسمت لهما “عـهد” وربتت على ظهر “قمر” ثم قالت بنبرةٍ هادئة تترك لهما المساحة الخاصة بهما:
_عن اذنكم هنزل أشوف ماما وجاية تاني.
نظر لها “يوسف” وكاد ينطق ويخبرها أن تبقى معهما لكنها انسحبت من المكان فورًا وظل هو بجوار شقيقته يحتضنها ويبثها أمانًا فقدَ منها.
في بيت “عبدالقادر” كانت “مهرائيل” تجلس مع “آيات” التي حاولت التماسك قدر المستطاع أمام الجميع لكنها هشة كما الورقة الخريفية الواقعة أرضًا، كانت تبكي بين ذراعي صديقتها، و “مارينا” تجاورها وتربت على ظهرها وتتحدث بحديثٍ يبثها بالقوة:
_صدقيني متزعليش نفسك، هيرجع إن شاء الله، بعدين يعني عاوزاه يرجع يلاقيكي معيطة كدا ومبهدلة نفسك؟؟ وعمو “عبدالقادر” هو كمان محتاج يشوفكم بخير، إن شاء الله هيرجع ونتطمن كلنا عليه، اسألي “مهرائيل” حتى كلنا واثقين من خروجه.
حركت رأسها موافقةً فربتت “مهرائيل” عليها وهي تحاول التماسك لأجل صديقتها فصدح صوت جرس الباب وتوجه “أيـهم” ليفتحه فوجد “بيشوي” أمامه وقد وصل لتوه من محافظة المنيا وما إن وجد رفيقه أمامه سأله بنبرةٍ جامدة:
_ازاي متقوليش !! مش عارف تكلمني وتقولي على اللي حصل ؟؟ متصرفتش ليه وروحت لحد من معارفنا.
ابتسم “أيهم” بسخريةٍ وهتف بقهرٍ:
_أنا دوخت من الصبح ومش عارف أوصل لحل، فاضل مين تاني علشان أروحله وأنا هروح لو حتى مشي على رجلي، يوم كامل معرفش حاجة عن أخويا من فَجر ربنا لحد ما قربنا على نص الليل.
وقف “بيشوي” مصدومًا فوجد “تَـيام” يلحقه نحو البيت وما إن رأه “أيهم” تأهب بلهفةٍ أخمدها “تَـيام” حينما قال بقلة حيلة وغلبٍ على أمره:
_للأسف موصلتش لحاجة، الراجل اللي روحتله دا قالي أنه كدا أمن وطني ودي محدش يعرف يتصرف فيها ولا حتى وسايط ومعارف.
نظر “أيـهم” و “بيشوي” إلى بعضهما البعض بانكسارٍ اتضح في نظراتهما بينما “تَـيام” نظر لخطيبته بخزيٍ وهي تنظر له بعينين دامعتين، أراد أن يُطمئنها ويأتي لها بالخبر اليقين لكنه خذلها وهي من وضعت به كل أملها وللحق لم تكن هي بمفردها بل أيضًا “عبدالقادر” الذي وقف في غرفة جلوسه واستمع لما يدور في الخارج وكأنه تأكد من ألم ابنه.
في مكانٍ أخرٍ بداخل غرفة تتسع لفردين كحدٍ أقصىٰ، يجلس بداخلها “أيوب” في ظلامٍ دامسٍ ينافي النور الموجود داخل قلبه، صوت قطرات الماء أثناء نزوله في الدلو أتلف المتبقي من أعصابه، الكدمات التي غطت وجهه جعلته يشعر بحالة خدرٍ في أعصاب وجهه، مُنِعَ عنه الطعام هذا اليوم لحين يعترف بما لم يقترفه هو، انكسارٌ، كل ما يشعر هو به الانكسار والخذلان فقط، ظل يحدث نفسه حتى لا يتسرب الخوف إليه كما يتسرب المرض الخبيث بداخل أوردة الجسم، ألقى جسده أرضًا ووضع أحد ذراعيه أسفل رأسه والآخر فوق عينيه.
كاد أن ينام أخيرًا فشعر برأسه ترتفع عن الأرض وتوضع فوق قدم احداهن كما أن هذه الرائحة الطيبة يعلمها هو جيدًا، لذا ابتسم لها دون أن يفتح عينيه وهتف يعاتبها بقوله:
_اتأخرتي عليا ليه يا “رقية”؟؟.
ابتسمت هي بدورها ورفعت كفها تضعه بداخل خصلاته وهي تقول بنبرةٍ هادئة تجاوب عليه:
_لا اتأخرت ولا حاجة أنا جيت أهو أول ما أنتَ طلبتني وقلبك ندهلي، قولي بس أنتَ تعبان ؟؟.
ابتسم بسخريةٍ وحرك رأسه نفيًا فمالت هي عليه تُلثم جبينه ثم ربتت علي كتفه لينام حينها “أيوب” نومةً هنية بعدما خدمه عقله وصنع له هذه المحادثة الوهمية بل يتوهم أيضًا أن والدته تحتضنه وهذا من لُطف الرحمن به وبقلبه أراد أن يرأف به حينما شعر بتواجد أمه معه، نعم هي متوفاة لكنها حية بقلبه وكأنه اختبأت بداخله.
__________________________________
<“غاب الفتى عن المكان، وأخذ معه الروح”>
لم يتوقع أحدٌ أن تصل المدة إلى عشرة أيام كاملين، نعم عشرة أيام اختفى فيهم “أيوب” عن الجميع وانقطعت أخباره، عائلته تحاول وأصدقائه و “يوسف”، طوال العشرة أيام لم يكف أحدهم عن المجهود الشاق في البحث عنه، كل الأحوال تبدلت تمامًا، البيت أصبح مظلمًا وروتينه تبدل كليًا، أبوه أصبح صامتًا عن الحديث والطعام صام طوال العشرة أيام تطوعًا لله.
حارة “العطار” بأكملها حملت الحزن في قلبها على غياب صبيها الطاهر، كل من بالحارة يحمل في قلبه ذكرى طيبة، لطالما كان دومًا صاحب الأثر الطيب على القلوب، أكثر الناس في الشعور بالتعب كانت “قمر” زوجته التي لم تلحق حتى أن تستوعب زواجها منه وأنها الآن تملك الحق في الحديث معه عن كل شيءٍ، لكنها تفاجئت باختفائه من المكانِ لكنه لم يخفى من قلبها، نعم هي تسير في يومها بصورةٍ شبه طبيعية وفي الأمس تبقى بجوار الصندوق المقدم لها منه.
“في منطقة نزلة السمان”
كان “يوسف” جالسًا بجوار الشباب في الكافيه الخاص به ومعهم “نَـعيم” أيضًا الذي سأله بقلة حيلة من بعد مقابلته مع أحد الرجال الكبار في المراكز الحكومية:
_طب مفيش أي أخبار عنه حتى، يعني طالما مساعدش خالص يجيب أي خبر عنه من جوة يطمن قلب أبوه عليه ويمطمنكم، أنا معرفهوش ومشوفتوش بس قلبي وجعني عليه، ربنا يفك كربه إن شاء الله.
تنهد “يوسف” مُطولًا وحرك رأسه نفيًا بقلة حيلة فهتف “مُحي” يسأل باقتراحٍ:
_طب بقولك إيه صح، ما تشوف كدا “سراج” !! الواد عنده معارف كتير أوي وأكيد حد منهم هيفيدك، شوفوا كدا.
تدخل “إيهاب” يقول بسخريةٍ من اقتراح الأخر:
_يابني “سراج” دا معارفه كلهم على القد، يعني آخره أوي عضو في مجلس الشعب، يقدم لعيل في مدرسة، يجيب لحد عداد مياه ولا عداد كهربا، إنما أمن وطني وحوار كبير زي دا ماظنش بصراحة.
تدخل “إسماعيل” يقول بلهفةٍ حينما تذكر من بعد قول أخيه:
_لأ !! استنى أبو “نور” دا اسمه “عادل” باين الراجل دا نائب المحافظ هنا وليه علاقات كتيرة أظن يعني يقدر يساعد “يوسف” أنه يلاقي جوز أخته، أظن يعني احنا كلنا ساعدنا بنته قبل كدا لما حصلها مشكلة، يعني جه دوره يرد الجِميل.
وصل الحديث لسمع “يوسف” وانتفض من محله وهو يقول مرددًا خلف “إسماعيل” بنبرةٍ قوية:
_صح، جه دوره يرد الجميل لينا، عن اذنكم.
نظروا لبعضهم البعض وهتف “نَـعيم” لـ “إسماعيل” يأمره بقوله:
_روح معاه متسيبهوش لوحده يا “إسماعيل”.
تحرك “إسماعيل” خلف “يوسف” بخطواتٍ واسعة حتى وصلا إلى مكان عمل “سراج”، وحينما رآهما ابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
_يادي النور، خير لو أني أشك بصراحة.
اقترب “يوسف” منه يقول بنبرةٍ جامدة:
_اركن كل خلافتنا على جنب واسمع مني الكلام دا، بيت “عادل” الجديد فين وقبل ما تتكلم هقولك متحشرش نفسك وهات العنوان.
وقف “سراج” وقد ارتسمت السخرية على ملامحه وهتف بنزقٍ يتهكم بحديثه عليه:
_يا راجل ؟؟ دا أنتَ بجح أوي.
اقترب “يوسف” أكثر وأمسك أداة فتح المظروفات يضعها على عنق “سراج” وهتف بنبرةٍ جامدة وقد فلت منه زمام التمسك بأعصابه:
_بجح وقارح ووشي مكشوف، انطق مكانه فين، جوز أختي بقاله ١٠ أيام مقبوض عليه ومش عارفين نوصله، انطق “عادل” ساكن فين أنا مفيش فيا أعصاب خلاص.
اقترب “إسماعيل” منه يبعده عن “سراج” الذي هندم ملابسه وهتف بتعالٍ وزهوٍ في نفسه:
_لو عاوز يبقى تيجي ورايا، غير كدا لأ.
ظهر الشر على ملامح “يوسف” لكنه قرر الاستستلام لـ “سراج” وزفر مطولًا وقد أعلن خضوعه له وهو يقول:
_ماشي، يلا بينا بس بعدها مترجعش تزعل.
وقف “إسماعيل” يتابعهما بنظراته حتى خرجا معًا من المكان نحو سيارة “سراج” الذي ركبها أولًا و “يوسف” بجواره ليقودها الأخر بقوةٍ يتحدى الأسفلت أسفل إطارات سيارته وبعد مرور نصف ساعة تقريبًا من القيادة الصامتة من كليهما أوقف “سراج” سيارته وهو يقول بسخريةٍ:
_ورايا برضه علشان قلة أدبك ممكن تحبسنا.
هتف “يوسف” بنفس السخرية وهو يفتح السيارة لكي يستعد للنزول منها:
_اسم الله عليك يا واد كلك أدب وأخلاق.
نزل كلاهما من السيارة ثم توجها نحو بيت “عادل” ضرب “سراج” الجرس حتى فتحته له مدبرة المنزل وهي تقول بتعجبٍ من زياتهما المفاجأة:
_خير يا حضرات !! فيه حاجة؟؟.
تحدث “يوسف” بلهفةٍ يستفسر منها:
_”عادل” بيه فين ؟؟.
أخبرته أنه بالداخل فطلب منها أن تأتي به أو تترك لهما فرصة للدخول فلم يكن أمامها سوى أن تطلب منه فرصة لكي تستأذن الأخر وقد دلفت للداخل حتى خرج هو يقترب منهما وما إن وجدهما أمامه قال بتهكمٍ:
_خير !! جايين بأنهي مصيبة دلوقتي؟؟.
اقترب منه “يوسف” يقول بثباتٍ:
_أنتَ عارف كويس أوي إننا مش بتوع مصايب، وجايين هنا علشان ليا طلب بس قبل أي حاجة جابب أفكرك إن مفيش مرة أنتَ أو بنتك احتاجتوا حاجة غير لما كنا موجودين معاكم، يبقى الأصول بتقول لما أطلب منك طلب تعمله من باب الرد.
وضع “عادل” كفيه على بعضهما ينتظر تكملة الحديث من “يوسف” الذي أخبره بأمر “أيوب” وأخبره أنهم فشلوا في العثور عليه حتى وجده يقول بتهكمٍ:
_يعني مش بس بلطجية وبتوع مشاكل، كمان إرهاب ؟؟.
اندفع “يوسف” يخبره بنبرةٍ جامدة قاسية:
_”أيوب” مش إرهابي، لو دا إرهابي ياريت كلهم زيه، دا واحد خارج من بيت ربنا لقى ناس بتاخده، لو “أيوب” إرهابي يبقى بنتك بقى شمال ومقضياها ولا نسيت يا سعادة الباشا !! نسيت إننا كلنا كنا هنضيع بسبب بنتك !!.
تنهد “عادل” بثقلٍ ووزع نظراته بينهما ثم تركهما ودلف للداخل بدون أن ينبث ببنت شفة فاقترب “سراج” منه يقول بقلة حيلة:
_فكك منه دا لا بتاع وسايط ولا بتاع خدمة لحد، راجل ندل.
_بتقول إيه ياض أنتَ ؟؟؟
كان هذا قول “عادل” حينما خرج واستمع لحديث “سراج” الذي التفت له وما إن رأه قال حديثًا يُنافي الأخر تمامًا:
_”عادل” بيه طول عمره أرجل راجل في الحكومة، يخدم الناس برموش عيونه حتى، راجل معطاء.
رفع “عادل” حاجبيه بسخريةٍ فيما وقف “يوسف” ينظر له بتيهٍ حتى أقترب منه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_معايا يلا، بس الواد دا ميجيش معانا.
تحدث “سراج” بسخريةٍ بعد حديث الأخر عنه:
_واد ؟؟ ليه كدا يا حمايا ؟؟ الله يرحم أيام ما كنت بتعتبرني زي ابنك، على العموم أنا عملت اللي عليا أعمل أنتَ اللي عليك.
تحرك “سراج” من المكان ومن بعده “يوسف” ركب سيارة “عادل” وتوجه نحو المكان المطلوب دخوله لـ “أيوب”، كان “يوسف” يريد الطير إلى هناك قبل غروب الشمس، رأسه تعج بالكثير من الأفكار المشوشة على عقله، وكل الخيالات أكثر سوءًا مما يسبقها، يود رؤيته والاطمئنان عليه ويخشى الكثير والكثير من الأشياء.
أوقف “عادل” السيارة أمام الجهة المطلوبة ومعه “يوسف” الذي جلس في إحدى الغرف بداخل المبنىٰ ينتظر أي شيءٍ ينفعه أو يفيده في التوصل لـ “أيوب”، خوف غريب يسيطر عليه لكنه تمسك ببصيص أملٍ منيرٍ نبع بداخله.
على الجهة الأخرى وصلت محاولات “عادل” قرابة الساعة ونصف تقريبًا في محاولةٍ منه لجمع “أيوب” بـ “يوسف” وقد نجح أخيرًا في هذا وحصل على موافقةٍ مبدأية.
كان “أيوب” جالسًا في تلك الغرفة الأشبه بالقبر الضيق، وقد خلع عباءة صلاته وبقى بسترته البيضاء القطنية التي تلطخت بدمائه، طوال الأيام السابقة يتم الضرب في أنحاء جسده وحصل على أنواعٍ مختلفة من التعذيب النفسي قبل البدني، عشرة أيام دون أن يرى نقطة نور فقط كل ما يحيطه الظلام ولم يسمع سوى قطرات المياه في هذا الدلو الفارغ، ولم يؤنسه في وحدته سوى القرآن الذي أتلاه هو بصوته، ومحادثاته الوهمية مع والدته.
فُتِحَ الباب عليه فجأةً فأغلق جفونه من الضوء المهاجم له وظن أنه ميعاد التعذيب قد أتى لكنه لم يتوقع أن يتم إخراجه من هنا، فوجد نفسه يُسحب من محله نحو الخارج فسار بصمتٍ والدماء تغطى ملامحه والكدمات تظهر على ذراعه وظهره، دلف الغرفة ولم يأتِ بباله أنها زيارة لأجله ولم يتوقع أن يكون الزائر “يوسف” !!.
وقف “يوسف” فور رؤيته للأخر يدخل له، زاغ بصره عليه وتعلقت نظراتهما ببعض، الانكسار من “أيوب” والشفقة من “يوسف”، غصة مريرة علقت بحلق كليهما، أي موقفٍ هذا تم وضعهما بداخله ؟؟ تحرك الضابط المسئول وتركهما بمفردهما، فاقترب “أيوب” يسأله بسخريةٍ:
_محدش قالي إنك واصل لدرجة توصلك ليا هنا، يا خوفي من اللي جاي بعد كدا، لو جاي تحرق دمي أنا مش ناقص.
تحدث “يوسف” بلهفةٍ وتقديرٍ لموقفه:
_مش جاي أتكلم أصلًا أنا جاي اتطمن عليك، أنتَ كويس!!
حرك “أيوب” رأسه نفيًا فأجلسه “يوسف” وجلس بجواره وهو يقول بلهفةٍ:
_طمني طيب إيه اللي عمل فيك كدا !!
جاوبه “أيوب” بقهرٍ حينما تذكر:
_هيكون إيه ؟؟ يلا الحمد لله على كل حال، المهم أهلي عاملين إيه ؟؟ أبويا كويس صح ؟؟.
حرك رأسه موافقًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
_كويسين والله، أنا مبسيبهمش من يوم اللي حصل، وكلهم بخير وأقويا أوي ناقصهم وجودك، حتى “قمر” بخير برضه.
عند ذكرها خفق قلبه بعنفٍ خشى أن يذكرها أمام شقيقها وخشى أن يسأل عنها وخشى أن تخشاه فيما بعد، وقد قرأ “يوسف” كل تعابيره وضياع ملامحه فهتف بتأكيدٍ:
_مستنياك، “قمر” مستنياك ومبطبتلش دعا ليك، صدقني كلنا ناقصنا بس وجودك معانا، قولي إنك بخير.
تنهد “أيوب” مطولًا وهتف بنبرةٍ رخيمة:
_كويس الحمد لله، بخير أوي كمان وبقيت أحسن لما اتطمنت عليكم، عاوزك بس تحطهم في عينك وعاوزكم تدعولي ربنا يهون عليا، ويقويني ويرزقني بصبر “أيوب”.
حرك “يوسف” رأسه موافقًا فتنهد “أيوب” يحاول تنظيم وتيرة أنفاسه الهائجة، يود البكاء والصراخ والشكوى، لكنه سكت، كان يشعر بنفس شعور الطفل الموضوع بداخل مدرسة داخلية وتكرم أحد أهله لزيارته، هو الآن طفل هل يحق له أن يخرج مع زائره ؟ لاحظ “يوسف” حالته فنادى عليه يذكر اسمه لينتبه إليه “أيوب” وسأله بلهفةٍ:
_معاك ورقة ؟؟ أو أي حاجة أكتب عليها؟؟.
حرك رأسه نفيًا بأسفٍ فظهر الإحباط على ملامح “أيوب” لكن “يوسف” أعاد له الأمل من جديد حين هتف:
_معايا مناديل ممكن تكتب عليها ومعايا قلم حبر.
أبتسم “أيوب” له وحرك رأسه موافقًا بمعنى أنه يعطيهم له فأخرجهم “يوسف” ليمسك “أيوب” القلم على الرغم من ألم كفه المضروب لكنه نجح في هذا وكتب رسالة لوالده وأسرته في المنديل الورقي ثم أتى بالورقة الثانية يكتب بها لزوجته، تردد كثيرًا في هذا الفعل لكنه بدأ الكتابة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أكتب لكِ اليوم من مكانٍ بعيدٍ بظروفٍ قاسية، أود إبلاغك أنني برغم أني هُنا عانيت إلا أني لكِ من بين الناس صفيت، أنا هنا أتجرع القسوة ولم أقوى على اخبار أي أحدٍ سواكِ، وبرغم كل هذا أنا وقلبي على يقينٍ أننا سنجتمع معًا ونحيا معًا لننسىٰ وجع الأمس، هذا ليس حديثي أو مجرد كماتٍ عابرة لأجل طمئنتك فقط، إنما هو حديث الإمام على بن أبي طالب حين قال:
“سنحيا بعد كربتنا ربيعًا كأننا لم نذق بالأمسِ مُرًا.⁣”
أطلب منكِ الدعاء والتيقن بأن الخالق أرحم على قلوبنا من وجعٍ أكبر من قدرة تحملنا، إلى لقاءٍ مجهولة معلوماته، إلى حياةٍ ننسى بها كربتنا معًا.
أغلق المنديل الورقي وأعطاه لـ “يوسف” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_من فضلك وصل دا لـ “قمر” وطمنها عليا.
حرك رأسه موافقًا وسأله بسخريةٍ:
_كتبتلها مع تحيات الاسطى “أيوب” بتاع القلل ولا لأ؟؟ ماهو حقك بصراحة لو أنا مراتي بتقولي كدا دا أنا أرمي نفسي في النار مش في الأمن الوطني !!.
ضحك “أيوب” رغمًا عنه فدلف لهما “عادل” يشير لـ “يوسف” بالتحرك من محله، وهنا ظهر الخوف من جديد وخيبة الأمل وانسحاب بساط الأنس من أسفل جسد “أيوب”، هل سيعود إلى محبسه ووحدته من جديد؟؟ الالم أصبح في روحه وليس فقط في جسده، أصبح متعبًا من كل شيءٍ وخاصةً حينما وقف “يوسف” لكي يتحرك من مكانه ويعود للخارج، لكن “يوسف” وقف يتذكر حديثًا قاله لأحد أصدقائه ذات مرةٍ عن العناق، وجال بخاطره حاجة “أيوب” إلى عناقٍ في هذه اللحظة، فعاد له يعانقه بحركةٍ مباغتة ألجمت “أيوب” محله لكنه رفع ذراعيه يحتضنه هو الأخر ليجد “يوسف” يربت على ظهره وعلى الرغم من الضربات القاسية الموجودة به لكنه تغاضى عنها ونظر لنصف الكوب الممتليء المتمثل في عناق “يوسف”.
رحل “يوسف” من المكان وعاد “أيوب” من جديد إلى محبسه بمفرده لقاءه مع الآخر أحياه من جديد، بث الأمل بداخله أن كربته هنا لن تدم طويلًا، بينما “يوسف” في الخارج شعر بالخيبة أكثر لكن هذا ما بوسعه، لكن هيئة “أيوب” وكدماته ألمته حقًا، هل هو هنا لكي يُضرب ويتعذب بهذه الطريقة ؟؟.
نام “أيوب” كما اعتاد في الأيام السابقة وتنهد مُطولًا يردد لنفسه:
“سنحيا بعد كربتنا ربيعًا كأننا لم نذق بالأمسِ مُرًا.⁣”
كان يخبر نفسه بهذا الحديث لكي يصبرها ويعلمها أن تتمهل وأن الخير قادم لا محالة من هذا، هو العبد المُبتلى، وبإذن المولى سيذق اليسر كما عاش بالعُسر.
بعد مرور عدة ساعاتٍ كثيرة أوشك الفجر على القدوم، كان “عبدالقادر” جالسًا في غرفته يمسك المنديل الورقي يقرأ المكتوب من ابنه، هو خطه يعلمه جيدًا، وطريقة حديثه وكتابته للفظ الجلالة، أراد أن يبكي ويصرخ لكنه عجز حتى عن هذا الفعل، يقيم الليل في البيت ويطلب من الله بتضرعٍ أن يمن عليه برؤية ابنه وقد وعده “يوسف” بأن يحاول لأجله، أخفض رأسه يضعها على عصاه بعجزٍ تمكن منه فشعر بكف أحدهم يحاوط كفيه وحينها رفع رأسه ليجد أمامه ابنه !! “أيوب” هنا في هذا الوقت !!.
رمش ببلاهةٍ وغير تصديق ودهشةٍ وكل مشاعر الاستنكار ليجد “أيوب” يقبل كفه وهتف بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_وحشتني، وحشتني أوي.
انتفض “عبدالقادر” من محله يسأله بلهفةٍ أخرجت نبرته محشرجة أقرب للبكاء:
_”أيوب” !! أنتَ هنا بجد ؟؟.
حرك رأسه موافقًا يوميء له ويؤكد صدق حدسه، فقال “عبدالقادر” بتشكيكٍ في قدومه:
_احلف بالله إنك هنا، عمرك ما تحلف كدب.
أبتسم له “أيوب” وهتف بنبرةٍ رخيمة:
_والله أنا هنا، يعني لو بتحلم هجيلك مشلفط كدا؟؟.
خطفه “عبدالقادر” بين ذراعيه وهو يبكي أخيرًا منذ حدوث هذه الواقعة، ابنه هنا بين ذراعيه ولم يكن حُلمًا بل واقعًا ماديًا وملموسًا وواضحًا للعيانِ، والآخر وجد سكينته وأمانه هنا بين ذراعي والده من بعد أيام أشبه بالكرب في حالتها.
_____________________
لا تنسوا إخوانكم في فلسطين بالدعاء وتذكروا
‏هذه الأرض لا تتسع لهويتين ، إما نحن أو نحن.
_____________________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)