روايات

رواية غوثهم الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السابع والثلاثون

رواية غوثهم البارت السابع والثلاثون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة السابعة والثلاثون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السابع والثلاثون”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
فـؤادي غدا مـن شـدة الـوجد فـي ظمأ
إلى نـحو من فوق السماوات قـد سما
ولـولاه ما أشـتـقـت لـحطيم وزمزما
شـغـفـت وقـلبي مات فـي الحب مغرما
فُـــؤادي….فُـــؤادي….فُـــؤادي
فـؤادي غدا مـن شـدة الـوجد فـي ظمأ
إلى نـحو من فوق السماوات قـد سما
ولـولاه ما أشـتـقـت لـحطيم وزمزما
شـغـفـت وقـلبي مات فـي الحب مغرما
_”كمال يوسف البُهتيمي”
_________________________________
رُبما يومًا ما في إحدى الليالي المجهولة كُتِبَ لنا أن نتلاقىٰ، وهذا تحديدًا ما حدث، لم أظنها قريبة بتلك الدرجة، فبعد غُربةٍ ومشقة في طريقٍ مجهولة هويته وجدتكِ أنتِ لأغدو كما الطير المُحلق في سماءٍ واسعة من بعد ضيقٍ كبير،
وغدوت أتذكر ذات مرةٍ حينما سألني قلبي عن الأُنسِ وعن أليف روحي بماذا سأخبره، وهُنا في عينيكِ وجدتُ الجواب، حتمًا سأخبره أنني حين وجدتكِ قولتُ:
_”أخيرًا لقد وجدتُها، ومن بين سائر النساء أخترتُها، ورضيت بها بقدري وارتضيتُها، هي بالكل، وهي الخير وهي دونًا عن سواها وجدتُ بها ما لم أجده بالغير، هي السَكينة والمسكن والسَكنِ، هي أكثري وأقلي وكُلي، هي الضلع الناقص مني…هي البيت وأجملُ ما إليه آليت.”
<“رأينا الربيع من بعد الكُربةِ، كأننا لم نرىٰ خرابًا”>
بعد مرور عدة ساعاتٍ كثيرة من رحيل “يوسف” من عند “أيوب” وأوشك الفجر على القدوم، كان “عبدالقادر” جالسًا في غرفته يمسك المنديل الورقي يقرأ المكتوب من ابنه، هو خطه يعلمه جيدًا، وطريقة حديثه وكتابته للفظ الجلالة، أراد أن يبكي ويصرخ لكنه عجز حتى عن هذا الفعل، يقيم الليل في البيت ويطلب من الله بتضرعٍ أن يمن عليه برؤية ابنه وقد وعده “يوسف” بأن يحاول لأجله، أخفض رأسه يضعها على عصاه بعجزٍ تمكن منه فشعر بكف أحدهم يحاوط كفيه وحينها رفع رأسه ليجد أمامه ابنه !! “أيوب” هنا في هذا الوقت !!.
رمش ببلاهةٍ وغير تصديق ودهشةٍ وكل مشاعر الاستنكار ليجد “أيوب” يقبل كفه وهتف بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_وحشتني، وحشتني أوي.
انتفض “عبدالقادر” من محله يسأله بلهفةٍ أخرجت نبرته محشرجة أقرب للبكاء:
_”أيوب” !! أنتَ هنا بجد ؟؟.
حرك رأسه موافقًا يوميء له ويؤكد صدق حدسه، فقال “عبدالقادر” بتشكيكٍ في قدومه:
_احلف بالله إنك هنا، عمرك ما تحلف كدب.
أبتسم له “أيوب” وهتف بنبرةٍ رخيمة:
_والله أنا هنا، يعني لو بتحلم هجيلك مشلفط كدا؟؟.
خطفه “عبدالقادر” بين ذراعيه وهو يبكي أخيرًا منذ حدوث هذه الواقعة، ابنهُ هُنا بين ذراعيه ولم يكن حُلمًا بل واقعًا ماديًا وملموسًا وواضحًا للعيانِ، والآخر وجد سكينته وأمانه هنا بين ذراعي والده من بعد أيام أشبه بالكرب في حالتها، أراد والده أن يخبئه بين ضلوعه بجوار قلبه، وأراد أن يحفظه بعيدًا عن كل الدنيا التي لم تعامله كما يستحق مثله أن يُعامل، بينما الأخر ودَّ لو ظَل هُنا مُحاوطًا بالأمانِ في كنف والده، محفوظٌ من كل شرٍ.
ابتعد عنه “أيوب” أخيرًا يطالعه بعينين دامعتين ماثلتهما عينا والده في النظرة، نظرةٌ تخالطها مشاعر كثيرة الاعتذار والندم والشوق واللهفة والاستنكار، حتى رفع “عبدالقادر” كفيه يحاوط وجهه وهو يسأله بنبرةٍ مبحوحة من مشاعره المستثارة بداخله:
_طمني عليك يا حبيبي، أنتَ بخير؟؟ جيت إزاي، أوعى يكون ناوي تروح في حتة وتسيبني، مش هقدر يابني على كدا، أبوس إيدك يا شيخ ما تقو…
بتر حديثه الذي خرج موجوعًا حينما مال عليه “أيوب” يُلثم جبينه ونزلت دمعة هاربة فرت من عينيه نحو سبيل وجهه فورًا ثم ابتعد عن والده وهو يقول بنبرةٍ مُحشرجة:
_مش هامشي والله ماهمشي، أنا ما صدقت أجيلك هنا.
احتضنه “عبدالقادر” من جديد وتلك المرة تخللت الراحة ثنايا روحه الممزقة لترممها تمامًا، بينما “أيوب” ابتعد عنه يقول بنبرةٍ هادئة:
_فين اخواتي وفين “إياد” وحشني أوي.
مسح “عبدالقادر” وجهه وتصنع الثبات وهو يقول بغلبٍ على أمره:
_ طلع عنينا ومغلب أبوه معاه، كان نايم في أوضتك بس “أيـهم” خده وطلع فوق لما راح في النوم، ريح أنتَ وأنا هطلع أجيبهم ليك وأصحي “آيات” الفجر قرب خلاص كلها ساعة وحاجات بسيطة.
هَمَّ والده بالتحرك فأوقفه “أيوب” بلهفةٍ وهو يهتف:
_لأ يا بابا، سيبني أطلع أنا أصحيه، عاوز أفرحه.
لمعت عيناه بوميضٍ مُبهجٍ وهو يحرك رأسه موافقًا ثم قال بنبرةٍ جامدة يعانده وكأنهما طفلان أمام بعضهما:
_خلص مع حبايبك علشان هتبات في حضني الليلة دي.
ابتسم له الأخر وهتف بصدقٍ خالطه الشوق:
_والله العظيم حضنك وحشني أوي.
لاحظ “عبدالقادر” انكسار نبرة صوته فهتف بخبثٍ طفق يظهر عليه وهو يستفسر منه بدهاءٍ قائلًا:
_حضني أنا برضه يا ابن “عبدالقادر” ؟؟ همشيها.
عادت البسمة من جديد تظهر على وجهه وهتف بتلقائيةٍ يُجاري والده في الحديث بعدما فهم مغزى قوله:
_أقسملك بالله لو كنت جربت الحضن التاني كنت جيت مشتاق برضه، بس للأسف لسه مجربتوش، ادعيلي.
رفع “عبدالقادر” حاجبيه فوجد “أيوب” يقترب منه ثم قبل كفه وتحرك من المكان بخفةٍ كما الطير المُحلق في غرفةٍ رغم ضيقها إلا أنها مُحببة إلى قلبه يرى بها حرية العالم أجمع، فيما تابع والده تحركه ورفع رأسه للسماء يهتف بامتنانٍ للخالق بعينين دامعتين وقلبٍ يرقص فرحًا بين أضلعه:
_الحمد لله…الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، سبحانك يا كريم.
خرج “أيوب” من غرفة والده وقبل أن يخرج من المكان متوجهًا نحو الأعلى وجد غرفة شقيقته مُضيئة من الداخل، فاقترب منها يطرق الباب بخفةٍ ليصله صوتها تقول بنبرةٍ خفيضة لم يُفارقها البكاء ظنًا منها أن والدها هو من يطرق بابها لكي يوقظها:
_أنا صاحية يا بابا، كنت بصلي قيام الليل، اتفضل.
اتسعت بسمته أكثر بعد استماعه لصوتها ثم فتح الباب بخفةٍ وهدوءٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يتقبل منك إن شاء الله عقبال ما تصلي في الحرم.
وصلها صوته وهو يتحدث فرفعت رأسها بلهفةٍ نحو مصدر الصوت وما إن رآته هو أمامها اتسعت عيناها بدهشةٍ ألجمتها محلها، تركت موضعها واقتربت منه تتأكد من وقوفه نصب عينيها بينما هو التقطها بين ذراعيه وهو يتنفس الصعداء أخيرًا، لم يصدق أنه أشتاق لها بهذه الطريقة، عرف مقدار شوقه لها فور احتضانها بين ذراعيه وقد وصله صوت نحيبها الذي أخذ يرتفع فابتعد عنها يحاوط وجهها بكفيه وهو يقول بنبرةٍ حزينة لأجل حزنها البائن عليها:
_خلاص أنا جيت أهو بتعيطي ليه؟؟ الحمد لله أني شوفتك وواقف قصادك هنا، بلاش تعيطي وتزعليني بالله عليكِ.
مسحت دموعها وجاوبته بنبرةٍ باكية:
_أنتَ وحشتني…ماكنتش متخيلة إنك هترجع تعبان كدا، أنتَ معملتش حاجة في حد ليه يحصلك كدا؟؟ ليه سايبين المجرم الحقيقي وماسكين فيك أنتَ.
رفع إبهامه يمسح العبرات العالقة في أهدابها مُمررًا كلا ابهاميه على عينيها وهو يقول بغلبٍ على أمره لم تخلو من لمحة الرضا بما كُتِبَ له:
_الحمد لله على كل حال، بعدين أنا خرجت علشان أنا معملتش حاجة وحشة في حد، هقولك تاني ، النار لم تحرق إبراهيم، والسكين لم تذبح إسماعيل، والبحر لم يغرق موسى، والحوت لم يأكل يونس
فقط كل ما علينا أن نثق بالله ونردد قوله تعالى:
( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ).
توقف عن استرسال حديثه ثم استأنفه من جديد قائلًا:
” والتّسبيح الذي أخرج نبي الله يونس من بطن الحوت، ألا تظن أنه مُخرجك من همومك و أحزانك؟ ويفرج كُربتك؟.
“‏لا إلهَ إلّا أنتَ سُبحانك إنِّي كنتُ من الظّالِمين.”
تنهدت “آيات” وسحبت نفسًا عميقًا ثم حركت رأسها موافقةً وقالت بصوتٍ مختنقٍ من بكائها:
_أنا كنت عارفة إنك قوي وإيمانك بالله كبير واللي حصل دا مش هيخليك تيأس من رحمة ربنا، أنتَ قدها وقدود، يلا أدخل ريح شوية شكلك تعبان ومُجهد أوي.
حرك رأسه نفيًا وهتف بإصرارٍ يشبه إصرار المُحارب لإستعادة أرضه باستماتةٍ:
_لأ أريح إيه، مستحيل أنا هرفع الآذان النهاردة، ماصدقت أخرج علشان أدخل بيت ربنا وأصلي فيه، أنا من توهتي هناك ماكنتش عارف أنا بصلي إيه وامتى، بس عشمان ربنا يتقبل مني.
أدمعت عيناها من جديد وظهر الحزن عليها ليس لأجلها، بل حزنًا على شقيقها وعلى ما آل إليه حاله بينما هو ضمها إليه من جديد مُربتًا على ظهرها بكفٍ وماسحًا بالآخر على رأسها بحنانه المعتاد الذي اغدقها به دومًا.
في الأعلى خصيصًا في طابق “أيـهـم” كان جالسًا في غرفة ابنه على الأريكة يراقبه بعينيهِ بعدما نام أخيرًا وقبلها كان يبكي بحزنٍ وتوسلٍ لأجل غياب عمه، تنهد “أيـهـم” مُطولًا بثقلٍ وكأنه يُخرج همومه من فوق صدره وليس مجرد زفرة هواء عابرة، وحينما وقع بصره على ساعة الحائط تحرك من موضعه يقترب من صغيره يوقظه لكي يذهب معه إلى المسجد، لذا مال عليه يُلثم جبينه ثم تحدث بنبرةٍ هادئة وهو يقول:
_”إياد” اصحى يا حبيبي علشان ننزل.
تململ الصغير في نومته فرفعه والده بكفيه حتى أوقظه أخيرًا فسأله الصغيرة بنبرةٍ تباينت بها المشاعر حين استفسر بأملٍ تكسوه لمحة إحباطٍ:
_”أيوب” هييجي إمتى ؟؟ كل ما أروح الجامع وهو مش هناك بعيط، ومش بعرف أصلي كمان.
تنهد “أيـهـم” بثقلٍ وضم الصغير إلى صدره وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_قريب إن شاء الله، هيرجع ونصلي وراه زي كل مرة.
بكى الصغير بين ذراعي والده من جديد فزفر “أيـهـم” بضجرٍ وهو يقول يسأله بتعجبٍ:
_يا بني بطل عياط بقى، مالك يا سيدي.
في تلك اللحظة وقبل أن يجاوبه الصغير صدح صوت جرس الشقة عاليًا، فقال “أيــهـم” بقلة حيلة ظنًا أن الطارق هو والده أو لربما شقيقته:
_يلا روح أفتح هتلاقي جدك ولا عمتك حد منهم علشان ننزل نصلي، يلا يا حبيبي روح افتحلهم.
كان يحدثه بهدوءٍ لكي يتبدل حال الصغير الذي تحرك من فراشه نحو الخارج يفتح الباب وإذ به يتفاجأ بوجهٍ أحب الناس إليه، ابتسامته المُشرقة والشوق المُطل من نظراته جعله يصرخ بسعادةٍ وهو يذكر اسمه مما جعل “أيوب” يميل عليه يحتضنه بشوقٍ بلغ أشده ولم يتمالك حينها الصغير نفسه من البكاء بين ذراعي عمه الذي مسح على ظهره وحدثه بلُطفٍ وبنبرةٍ ناعمة وهو يقول:
_بس أنا جيت علشانك أهو، متعيطش إحنا قولنا خلاص كبرنا وصَلبنا طولنا مفيش عياط تاني، بس يا حبيبي.
شهق الصغير بأنفاسٍ مُتقطعة وابتعد عنه يتأكد من وقوفه أمامه بل يحتضنه أيضًا وحينها بادر هو وتمسك بعمه بقوةٍ تتنافى مع حجم ذراعيه الصغيرين حتى ابتسم “أيوب” بحزنٍ وهو يقول بنبرةٍ خافتة:
_حضنك الصغير دا أوسع مكان ليا.
في الداخل كان “أيهم” في المرحاض يبدل ثيابه العملية بأخرى مُريحة لكي ينزل للمسجد ظنًا منه أن صغيره بالخارج مع عمته أو جده وحينما خرج من الغرفة وجد صوتًا يصله بسخريةٍ وهو يقول:
_ما تلبس عباية وانزل صلي فيها.
رغم دهشته وحيرته من هذا إلا أنه التفت لمصدر الصوت الآتي من عند أريكة غرفة الجلوس فوجد “أيوب” يحمل الصغير بكفيه ويرمقه بسخريةٍ رافقها قوله الساخر من جديد:
_أهيه يا أبو “إياد” !! مش هتحضني؟؟ دا ابنك قفش فيا.
حينها فقط تحرك “أيـهـم” بخطواتٍ واسعة نحو أخيه ولم يفعل سوى أنه خطفه بين ذراعيه بحبٍ خالصٍ حتى ابتسم الأخر وابتسم “إياد” أيضًا ولم يتحدث “أيـهم” بل أروىٰ ظمأ تعطشه لأخيه بهذا العناق، أيام صموده ووقوفه ثابتًا انهارت تمامًا أمام أخيه، تلاشت مقاومته وكل ما أراده فقط أن يستشعر بالأمان من جديد في تواجد نصفه الآخر وقد حدثه “أيوب” بصوتٍ مختنقٍ:
_وحشتني، وحشتني وجاي أقولك إن أخوك عاوز حضنك.
ترقرق الدمع في عيني “أيـهـم” وسحب نفسًا عميقًا وابتعد عن أخيه يهتف بنبرةٍ مُحشرجة خيم البكاء عليها:
_وأنا حضني كله ليك، بس خليك هنا متوجعش قلبي عليك تاني.
ابتسم “أيوب” له فيما قبل أخوه جبينه بقلبةٍ حانية وكأنه يعتذر منه على التقصير في حقه على الرغم أنه فعل ما بوسعه لأجل اغاثته لكن كل الطرق أحكمت منافذها وكل الدروب أوصدت أبوابها حتى المعابر الصغيرة أرغمت على الإغلاق في وجهه، بينما الأخر فهم نظرته المتآسفة لذا تحدث بودٍ وتقديرٍ يقول:
_أنا عارف إنك مقصرتش في حاجة، متشيلش نفسك هم حاجة، بعدين يلا ياعم الفجر قرب موحشكش صوتي في الصلاة ؟؟.
تنهد “أيـهـم” مُطولًا وحرك رأسه موافقًا وهو ينظر لأخيه، بدا بيتهم وكأنه أضاء لتوه، لم تكن مجرد ساعات عابرة كغيرها، لكنها ساعات بطعم الحياة من جديد، بدت فرحتهم وكأنها فرحة الطفل الصغير بعشية العيد وكأن الأمر له يستغرق مرور سويعات قليلة حتى يرتدي ثيابه الجديدة بعدما قضى ليلته مُحتضنًا ثيابه، هكذا كان حال الديار بعد عودة ابنها المفضل طيب الأثر حيث تحركوا جميعهم بسعادةٍ ينتظرون سماع صوته في مكبر الصوت رافعًا للآذان، هو من مَلأ أركان البيت بصوته العذب المُتغلغل داخل أرواحهم يُسَكِنُ آلامها.
_________________________________
<“لا أدري مَن فينا مصدر أمانٍ للآخر”>
“إن دموع المظلومين هي في أعينهم دموع، ولكنها في يد الله صواعق يضرب بها الظالم”
تلك العبارة كتبها “مصطفى الرافعي” ووقع عليها بصر “قـمـر” التي جلست تبكي كعادتها منذ اعتقال “أيوب”، لم تتوقع هي أن يحدث هذا الشيء بعدما أصبحت له، غفلةٌ أُخِذَ منها ولم يقو أحدهم على رفع الظلم عنه، كانت تشعر بأنها مكتوفة الأيدي في غيابه لكنها معه بشكل بقلبها، تلك الورقة التي وصلتها منه تكاد تُجزم إنها مثل طوق النجاة، حتى في غيابه يلهمها الصبر ويقوي عزيمتها في أكثر الأوقات حاجةً إليها وإلى الأمان حتى أنها احتارت في أمرها من منهما آمان الأخر؟ وقع بصرها على المنديل الورقي الذي أعطاه لها شقيقها تقرأ ما دونه هو من جديد حيث كتب:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أكتب لكِ اليوم من مكانٍ بعيدٍ بظروفٍ قاسية، أود إبلاغك أنني برغم أني هُنا عانيت إلا أني لكِ من بين الناس صَفيت، أنا هنا أتجرع القسوة ولم أقوى على إخبار أي أحدٍ سواكِ، وبرغم كل هذا أنا وقلبي على يقينٍ أننا سنجتمع معًا ونحيا معًا لننسىٰ وجع الأمسِ، هذا ليس حديثي أو مجرد كماتٍ عابرة لأجل طمئنتك فقط، إنما هو حديث الإمام على بن أبي طالب حين قال:
“سنحيا بعد كربتنا ربيعًا كأننا لم نذق بالأمسِ مُرًا.⁣”
أطلب منكِ الدعاء والتيقن بأن الخالق أرحم على قلوبنا من وجعٍ أكبر من قدرة تحملنا، إلى لقاءٍ مجهولة معلوماته، إلى حياةٍ ننسى بها كربتنا معًا.
تنهدت مُطولًا تحاول وقف الدموع من جديد فدلف “يوسف” غرفتها بعدما طرق الباب وأذنت هي له بهذا، وما إن دلف ووقع بصره عليها بهذا الحال الذي لم يتغير بل يزداد كُربة لذا أقترب منها يلثم جبينها بحنوٍ يقدر به مشاعرها ثم ضمها إليه وهو يقول بيأسٍ:
_طب ما أنا طمنتك عليه، أعمل إيه تاني؟؟.
جاوبته بنبرةٍ باكية مختنقة تعبر عن تعبها:
_طب هيخرج إمتى ؟؟ أنا عاوزة أشوفه واتطمن عليه، كلامه بيقول أنه تعبان أوي ومحتاجني، دا أنا ملحقتش حتى أخد على فكرة إننا هنكون سوى.
هَمَّ “يوسف” بالرد عليها يُطمئنها ويُطيب كسر روحها لكن صوت “أيوب” وهو يرفع الآذان في المسجد أوقفه عن هذا وسرق حدسه بالكامل وكذلك شقيقته التي تحرك بؤبؤاها بتلقائيةٍ نحو شُرفة غرفتها ثم انتفضت من محلها تركض نحو الشرفة تستمع للصوت وتتأكد من هويته وما إن تأكدت من هذا تحرك قلبها في موضعه والتفتت لشقيقها تقول بفرحةٍ كبرى:
_دا صوته، صوته يا “يوسف” دا “أيوب” هو اللي بيأذن.
عقد ما بين حاجبيه واقترب منها ينظر من الشرفةِ فوجد الصوت آتيًا من المُكبر الخاص بالمسجد وحينها ترك شقيقته محلها وخرج من الشقة لكي يتأكد إن كان هذا هو بالفعل أم أن هذا هو المُسجل الخاص بالمسجد.
صوته أتى كما شعاع النور من وسط غياهب الظلام لكي يشق طريقه ويبعث في نفوس الناس أملًا أن الظُلم سينتهي لا محالة وأن الحق مهما طال درب الحصول عليه، حتمًا سنحصل عليه، ليس فخرًا وتكبرًا لكن ثقةً في وعد الله، نزل “يوسف” فوجده يقف عند مكبر الصوت يرتدي عبائته البيضاء ويقف صامدًا وكأن ماحدث لم يقم من الأساس، على الرغم من الضربات الموجودة في وجهه وأثر اللكمات والكدمات إلا أنه وقف يرفع الآذان بصوتٍ عذبٍ وقد دلف الشباب والرجال والصغار أيضًا حتى امتلأ المسجد قبل موعد الإقامة على عكس المعتاد لكن صوته جذب الناس.
كان “بيشوي” في غرفته ساهرًا كعادته يقرأ المراسيل التي لم تُرسل لصاحبتها حتى الآن، تكالبت عليه الهموم أكثر وأكثر وأصبح غريقًا يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل إعلانه عن نهايته، لكن حزنه بل كامل حزنه كان لأجل صديقه، هو لم ينسَ أمر اختطافه الذي تسبب به “جابر” والآن اعتقاله، غير هذا يكفيه نظرة “مهرائيل” له وهي تتوسله في التدخل وإنقاذ “أيوب”، هي لم تنطقها شفهيًا بل قالتها عيناها، تذكرها من جديد ووقع بصره على خاطرة أحد الكُتاب المُفضلين لديه “فاروق جويدة” حين كتبَ:
_”⁣‏ربما غدًا أو بعد غد، ربما بعد سنين لاتُعد، ربما ذات مساءٍ نلتقي في طريق عابر من غير قصد”
دون هو هذه الخاطرة بيده بالخط العربي العريض وعلقها فوق مكتبه بجوار اسمها الذي دونه بعدة خطوطٍ فنية ذات مهارة عالية امتاز هو بها، تذكر كيف كلما حاول الهرب منها تجمعه بها كل الصُدف والدروب لتتلاقى نظراتهما سويًا وحينها يدور بينهما أصدق الأحاديث التي لم تتفوه بها الألسنةِ يومًا، وقبل أن يغوص في فكره أكثر ويتذكر عينيها وجد صوت “أيوب” يصله فتعرف عليه على الفور وانتفض من محله يخرج من غرفته فوجد “تريز” والدته تقترب منه وهي تقول بلهفةٍ:
_هو دا صوت “أيوب” صح ؟؟ هو رجع ؟؟.
حرك كتفيه بحيرةٍ وبدا أمامها مشوشًا فاقتربت هي تدفعه من مرفقه وقد رافق حركتها هذه قولها:
_أنتَ لسه هتبصلي !! أنزل شوف واتطمن وتعالي طمني، يلا يا واد “رقية” سايبالي العيال أمانة، متعرينيش قصادها.
جاهد ليكتم ضحكته وركض فورًا نحو باب الشقة لتتقابل مع جاره والد “جنة” التي وقفت بجوار والدها الذي تجهز للنزول إلى المسجد فاندفعت هي بغير هُدى تسأل “بيشوي”:
_هو أستاذ “أيوب” رجع ؟؟.
انتبه لها وهو يغلق باب شقته وقال بنبرةٍ حائرة:
_مش عارف والله يا “جـنـة” بس يا رب.
حركت رأسها موافقةً وبداخلها أملٌ يزداد لكي يكون خرج من جديد، وتطمئن عليه هي، حتى وإن كان أحب غيرها واختار أخرىٰ لكنها لن تتنازل عن أملها بشخصٍ مثله تمامًا في كل شيءٍ.
في المسجد استعد لإقامة الصلاة فتحدث للمصلين خلفه يطلب منهم بجملةٍ اشتاق هو لها من حيث أعتاد عليها دومًا وهو يقول:
_ساووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إتمام الصلاة.
من بعدها وقف المُصليون في صفوفٍ مستوية ليقوم هو بالتكبير مُعلنًا عن بدء الصلاة وإقامتها وكأنها صلاة العيد المنتظرة من قِبل الجميع، صوته وإتقانه في قراءة القرآن ورفع الآذان يجعل الأفئدة تبكي من الخشوع، بينما “قـمـر” لم تتمالك نفسها من فرحتها وللمرةِ الثانية تختبر إحساس الفراشة التي تحلق بأجنحتها فوق حقل الزهور، حتى وهي تستعد لصلاتها كانت تتحرك بحيويةٍ أيقظت البيت بأكمله.
في الأسفل وقف “أيوب” بجوار الناس يتلقى الترحيبات والتهنئات بعودته من جديد حتى وجد “بيشوي” يركض نحوه ويحتضنه بتهليلٍ وحماسٍ وكذلك “تَـيام” الذي رفع صوته وهو يقول:
_خال العيال حبيبي، والله بعودة يا غالي.
ضحك “أيوب” واحتضنه وهو يقول بضحكاتٍ يائسة:
_وحشتني ياض، أوعى تكون رحرحت في غيابي.
انتشرت الضحكات عليهما سويًا، فاقترب “فضل” وابنه “عُدي” يرحبان به وهو كذلك لكن شعوره بالخزي لم ينفك عنه، يخشى أن يكون ضعيفًا أمامهم أو يصدقون ما يتم وصفه به، هو لم يكن إرهابيًا أو مجرمًا كما يزعمون، بل هو صاحب حقٍ يُدافع عن الحق، وقد أقترب منه “يوسف” يُسلم عليه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_ألف حمدًا لله على سلامتك، الحارة نورت بيك من تاني.
ابتسم له “أيوب” وحرك رأسه موافقًا حتى تحدث “عبدالقادر” بنبرةٍ لم تنفك عنها الفرحة وهو يقول:
_طب يا جماعة عن اذنكم بقى هنروح علشان نرتاح وبكرة إن شاء الله كل المحلات إجازة واللي عاوز أي حاجة يجي البيت وإن شاء الله طلبه يتنفذ، عن اذنكم.
انتشرت الأحاديث الفَرِحة والهمهمات السعيدة بهذا الحديث بينما “أيوب” حرك رأسه نحو البناية الخاصة بـ “يوسف” فوجد “قـمـر” تقف في الشُرفةِ بحماسٍ لم يقو هو على تجاهله حتى وجد نفسه يبتسم لها بدون وعيٍ فيما أشارت هي له أن يأتي عند البناية فاقترب منه “أيـهم” يقول بنبرةٍ هامسة في أذنه:
_روح يلا قبل ما نطلع على البيت، يلا يا ياض.
تحرك “أيوب” من بين الحشد المجتمع نحو بنايتها يقف بداخل مدخل البيت مُنتظرها حتى فُتِحَ المِصعد وخرجت منه هي وفور وقوع بصرها عليه أمامها ركضت الدرجات الخمس الفاصلة بينهما لتفاجئه بعناقها له !!.
فرغ فاهه من هول الصدمة التي ألجمته محله، لم يتوقع أن تفعلها هي، لم يتوقع من الأساس أنها نزلت لأجله في هذا الوقت وما إن أدرك حقيقة وقوفها بين عناقه حينها رفع ذراعيه يضمها للمرةِ الأولى منذ أن أصبحت له، الأمان والسكن وجدهما هُنا معها، استمع لشهقاتها الباكية فابتعد عنها يمسح عبراتها المُنسابة وهو يقول بنبرةٍ رخيمة بعدما أبتسم لها:
_لو أعرف أني هعيش في الربيع بالسرعة دي كنت جيت بصاروخ، بتعيطي ليه، مش قولتلك ثقي في ربنا ورحمته.
حركت رأسها موافقةً وهتفت ببكاءٍ خنق صوتها وأخرجه متقطعًا:
_بعيط علشانك، علشان ملحقتش أقولك أني بحبك يا “أيوب”.
تبدلت تعابيره من جديد إلى الذهول ويبدو أن جراب الحاوي لم ينتهي من مفاجآته، الأول انتظارها له وثانيها عناقها وثالثها اعترافها المنتظر، وقبل أن يدرك هو ذهوله وجدها تقول بنفس البكاء وكأنها تؤنب نفسها:
_علشان خوفت أقولك أني فخورة بيك وإني عاوزة أسمع صوتك وأنتَ في المسجد علشان أحس بنعمة ربنا عليا، نفسي أقول لكل الناس أني مراتك وإن الراجل اللي صوته حلو دا جوزي….كنت عاوزة أقولك كل حاجة بس ملحقتش وخدوك مني والله.
بكت من جديد فضمها هو تلك المرة ووضع رأسها على صدره وهو يقول بثباتٍ لا ينفك عن شخصه:
_أنا اللي فرحان بيكِ معايا، وفرحان إن الصبر اللي صبرته كله نهايته كانت أنتِ، أنتِ وبس يا “قـمـر”.
ضحكت من بين دموعها فلثم هو جبينها وقال بنبرةٍ رخيمة يبثها القوة والأمان التي رآى حاجتها إليهما:
_كل حاجة بتحصل خير حتى لو مش مُدركين دا، وكل حاجة بفضل ربنا علينا، أصلها دار شقاء مش درانا إحنا وربنا في كتابه العزيز بسورة البقرة:
قال الله تعالىﷻ:
“وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.”
وقفت تستمع له بتيهٍ فوجدته يُضيف مفسرًا من جديد:
_يعني الحمد لله على كل النعم، يمكن يكون ابتلاء ليا يزود من حسناتي أو يمكن علشان نتيجته تكون مُفرحة زي فرحتي بكلامك ليا طيب وجعي كله، متزعليش نفسك واحمدي ربك إننا هندوق الربيع سوى.
لمعت عيناها بفخرٍ به وأرادت أن تخبره بهذا حتى وجدت رجال عائلتها يدخلون البيت فابتعدت عنه بخجلٍ وأخفضت رأسها بخجلٍ وكذلك هو تلبسه الحَرج من وقوفهما سويًا هنا فوجد “فضل” يقول بنبرة هادئة:
_نورت الدنيا يابني، ربنا يبعد عنك الشر وينصرك على كل ظالم، تعالى بقى اتفضل معانا.
جاوبه بنبرةٍ هادئة لكن الخجل يُلازمها:
_ربنا يكرمك يا أستاذ “فضل” مرة تانية إن شاء الله، عن اذنكم هروح علشان الحج مستني، السلام عليكم ورحمة الله.
تحرك من المكان بينما “قـمـر” تعلق نظرها به ووقفت تبتسم بخفةٍ تتفحص ملامحه الملكومة بفعل الضربات التي تلقاها وتمنت لو استطاعت أن تطيب جراحه هي بنفسها لكن لكل مقام مقال، لذا صعدت مع رجال العائلة نحو الأعلى بعد رحيله من البيت.
_________________________________
<“نُشبه بعضنا كثيرًا، دون أن نعلم هذا”>
صعد “يوسف” لسطح البيت مُباشرةً بعد عودته من المسجد برفقة رجال عائلته وأخرج سيجارته يشعلها وهو يستند على سُور السطح مُراقبًا المكان بنظراته بعدما تخلى عنه النوم خاصةً أن “عـهد” لم تفِق اليوم على كوابيسها كما اعتادت، حيث قضى فترته السابقة مُشتتًا بين شقيقته والتهوين عليها وبين زوجته الضعيفة التي تعاني الويلات بكل ليلةٍ حيث تأتي والدتها وتناديه أو تطلب رقمه وهو الوحيد القادر على إخماد وحشها المروع.
وقف هو في الجانب الأيسر من سطح البيت بينما هي على الجانب الأيمن بجوار الورد وقد لاحظ هو حركتها فتحرك نحوها ليقول بنبرةٍ هادئة:
_اقول صباح الخير ولا صباح الورد ؟؟.
التفتت له وهي تقول بوجهٍ يبتسم ببشاشةٍ:
_صباح الرزق الحلو والورد والياسمين.
رفع حاجبيه بتعجبٍ فوجدها تقول بسعادةٍ:
_عرفت إن “أيوب” خرج، أول مرة احس إن الدنيا دي فيها مظلوم بينتصر عادي، وفرحت أكتر علشان “قـمـر” معرفتش أنام من فرحتي كدا كدا ماكنتش عارفة أنام بس أول مرة أحس إن فيه سبب قوي يخليني صاحية.
ابتسم لها بخفةٍ ولأول مرة ينتبه للجُمل المكتوبة على ألواحٍ معدنية زرقاء اللون فوق السطح مُعلقة بجوار الورد قرآها قبل مرةٍ على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي:
_ ‏”ازرع ورودَكَ في دارٍ حُللتَ بها
حتى يشمَّ عبيرَ الوردِ مَنْ زارا”
وجملةٌ أخرى مكتوبة على لوحة معدنية أخرىٰ:
_”يَا وَردة فِي كُل الفُصول”
لاحظت هي تعلق نظراته بهذه الألواح فقالت بتفسيرٍ:
_دي جمل لقيتها على الفيسبوك عجبتني وعلشان أنا بحب الورد حطيتها جنبه، بحس الورد حنين أوي تحسه مبيزعلش حد، رغم أنه بيزعل زينا.
انتبه لها وهتف بتلقائيةٍ لا يعلم إن كان يقصدها أم لا:
_شـبـهـك يعني.
حركت “عـهـد” رأسها نحوه بدهشةٍ فوجدته يفسر بثباتٍ مقصد قوله السابق الذي يبدو أنه قصده:
_الفترة اللي فاتت كنتي واقفة مع “قـمر” وبتشجعيها رغم إنك دايمًا محتاجة للتشجيع، شوفتك بتقويها في محنتها رغم إنك في محنة زيها، فكرتيني بالجملة اللي بتقول أنا شوفت طير بجناح مكسور بيواسي طير من كتر الطير تعب، فزيك زي الورد يعني متختلفوش كتير عن بعض.
شعرت هي بالخجل أمامه وحركت رأسها نحو الورود تتابعها بعينيها وكأنها تتبين موضع الشبه بينها وبين الزهور لتجده هو يقترب من اللوح الخشبي المُعلق وأمسك القلم يكتب به بخط يده جملةً تصفها هي لا غيرها:
_وكأن حَقل الورود هو مَوطنها، وفي الأصل هي ربيعٌ”
راقبت هي حركته وما كتبه على اللوح الخشبي بينما هو تحرك جانبًا حتى يتسنى لها قراءة المكتوب فتحدث هو بلامبالاةٍ يزيل أي ظنون قد تتعلق في ذهنها:
_الوردة الحمرا دي شكلها حلو، علشان كدا كتبت الكلام دا ليها عقبالك إن شاء الله.
ضحكت رغمًا عنها وأضافت بيأسٍ منه:
_أيوة كدا كنت هستغرب لو كملت عادي، متبقاش “يوسف” بعدين كدا كدا أنا مش مستنية حد يقولي أني وردة، أنتَ اللي قولت لوحدك.
ابتسم لها ثم تحرك من مكانه وقبل أن يخرج من المكان قال بنبرةٍ هادئة:
_متنزليش الشغل من غيري، هروح شغلي النهاردة وهرجعلك تاني، اللهم بلغت !!.
نظرت في أثره بدهشةٍ ثم زفرت بقوةٍ وعادت لما كانت تفعله حيث العناية بزهورها وما إن وقع بصرها من جديد على العبارةِ قالت بنبرةٍ يائسة:
_طب والله لايقة عليا برضه، قليل الذوق.
في بيت “العطار” وقف “أيوب” في غرفته يقوم بتمضيض جراحه المادية على جسده لكن البسمة شقت وجهه ما إن تذكر عناقها له، لم يكن عناقًا بل هو الربيع الذي حل من بعد الخراب، تذكر حديثها واعترافها الذي أزال عنه مخاوفه وتذكر فخرها به وأنها تود إخبار الجميع أنها له وأنه لها لذا تذكر في الحال أمر هاتفه وصفحته الشخصية التي لازال بها أعزبًا في خانة الحالة الاجتماعية، حينها أخذ هاتفه من درج مكتبه ثم فتحه فوجد صور عقد القران الخاص بهما ومنهم صورة عناق كفيهما سويًا.
قام بوضع الصورة وتغيير الحالة إلى متزوجًا ثم قام بوضع وصفًا أسفل الصورة والحالة الاجتماعية:
_”أخيرًا لقد وجدتُها، ومن بين سائر النساء أخترتُها، ورضيت بها بقدري وارتضيتُها، هي بالكل، وهي الخير وهي دونًا عن سواها وجدتُ بها ما لم أجده بالغير، هي السَكينة والمسكن والسَكنِ، هي أكثري وأقلي وكُلي، هي الضلع الناقص مني…هي البيت وأجملُ ما إليه آليت،
كانت الخيار المؤكد والأكيد، فإذا وُضِعَت في مقارنةٍ مع القمر حتمًا سأختارها هي، وهي بدون ضوءِ القمر الساطع “قـمـر”.
كانت الصورة لعناق كفيهما وتوثيق زواجهما للناسِ عبر الصفحات ورافق كل هذا حديثه الذي كتبه هو ثم عاد يقف أمام المرآةِ يُداوي جراح ذراعيه وعنقه ووجهه حتى فتحت الغرفة عليه بدون سابق إنذار ليطل منها “أيـهم” في يده علبة الإسعافات الأولية وما إن رآه “أيوب” تنهد براحةٍ وكأن الأخر أعتاد على هذا في كل مرةٍ يحدث له هذا يتعامل معه “أيـهـم” ومع جراحه وقد أقترب منه مثل الأب الذي يراعي صغيره المجروح في أرض الدُنيا الظالم أهلها.
__________________________________
<“طريق الحق أسهل مهما بدا طويلًا مُتعِبًا”>
مرت عدة ساعات من بعد انتشار خبر عودة “أيوب” وسط فرحة الحارة بأكملها بكل من فيها، كبارها وصغارها ونسائها، عودته حقًا تستحق الفرحة من الجميع عدا بعض الحثالة مثل “شكري” الذي وقف في شرفة شقته يهاتف صديقه النائم الذي استيقظ لتوه على خبر خروج غريمه بعدما أخبره “شكري” قائلًا:
_عاملي فيها بطل، أهو خرج يا حيلة ولو عرف إن دا أنتَ اللي عملت فيه كدا هتبقى سواد على دماغ أهلك، خرج الفجر وصلى بالناس كلها والحارة ولا كأنها ليلة عيد.
اندفع “سعد” من فراشه يصرخ بانفعالٍ:
_يعني إيه خرج !! عمي مأكدلي إنها فيها شهور وسنين كمان، دا أمن وطني مش هزار، أنتَ متأكد يا “شكري” !! ما يمكن دا هري على الفاضي وهو مخرجش ولا حاجة.
تحدث “شكري” بهمسٍ حانقٍ:
_هو البعيد غبي ولا السيجارة مغطية على مخه؟؟ يا جدع بقولك أبو سما جارنا مصلي وراه النهاردة في الفجر والحارة كلها رايحة عند “العطار” النهاردة علشان لو حد ليه طلب، وعمال يوزع فلوس على الكل، شكلك هتتروق.
أغلق “سعد” في وجهه الهاتف ثم ألقاه بعيدًا على الفراش ورفع كفيه يشددهما على خصلاته لا يصدق أن هزيمته أتت بهذه السهولة، وتلك السرعة، ظنه ضعيفًا لن يقوَ عليه لكنه لم يضع بخاطره أنه يستند على الدعاء حتى وإن أغلقت في وجهه أبواب الدنيا لكن أبواب الإتصال مع الرحمن لازالت مفتوحة، لذا سحب هاتفه يطلب رقم عمه يتأكد منه وما إن تأكد حينها ارتمى على الفراش بخيبة أملٍ هزمته شر الهزيمة.
في مكان أخر في الحارة وقف “جابر” يراقب الوضع بنظراته حتى أتى أحد التِجار زميله في سوق العمل يسأله بتعجبٍ:
_مش هتروح تبارك للحج “عبدالقادر” ؟؟ الحارة كلها هناك عندهم والمندرة مش مكفية حد.
نظر له “جابر” بسخريةٍ وهو يقول بتهكمٍ:
_أروحله ليه إن شاء الله ؟؟ هو يخصني في حاجة؟ بعدين دا عيل مُجرم وإرهابي أروح أقوله مبروك مربي في بيتك مجرم، يا أخي خلونا ساكتين.
تحدث الرجل يردعه عن قوله وهو يهتف في وجهه بحدةٍ:
_عيب كدا يا “جابر” !! اختشي أومال الحج طول عمره خيره على الكل، عمره ما قصر في حق حد، وابنه بالذات “أيوب” طول عمره زي نسمة الهوا، دول مش جيران دول أهل لينا، عيب كدا وتعالى بارك للحج كدا احنا أخوات كلنا.
دلف “جابر” محله فضرب الرجل كفيه ببعضهما متحسرًا على العِشرة المهدورة بينهما من قبل “جابر” الذي يتسم بقلة الأصل، بينما “بيشوي” دلف له متعمدًا هذا أن يعبر عند طريقه وما إن رأه الأخر تأفف بضجرٍ وهتف بنزقٍ:
_يا رب هَون، خير !!!.
جاوبه بتعالٍ وهو يثير استفزازه:
_لأ خير متقلقش، أنا كنت في المنيا، وخالك بيسلم عليك، بيقولك هتعرف تتربى لوحدك ولا يجيلك هو؟.
أرجع “جابر” ظهره للخلف وهو يقول بتهكمٍ:
_طب وأنتَ مالك، احنا عيلة في بعض، بعدين رايح المنيا مخصوص علشان تشكيني ؟؟.
ابتسم له بسخريةٍ وهتف بوقاحةٍ يعتادها معه:
_لو على شخصك أنتَ متستاهلش أني أمشي أخر الشارع حتى علشانك، بس لأجل عين تُكرم ألف عين، وبصراحة العيون اللي عندك قدارة.
رفع “جابر” حاجبيه من جمَّ وقاحة الأخر الذي أقترب منه يقول بنبرةٍ خافتة بثت الرعب في نفس الأخر:
_لو فاكر إن اللي فات مات تبقى غلطان، اللي فات لو رجعلك هياكلك، فلم الدنيا معايا كدا أحسنلك واعتبره تهديد، دا أولًا، ثانيًا تيجي النهاردة بيت الحج “عبدالقادر” تباركله على رجوع ابنه، ماهو مش معقول نسيبي ميباركش لرجوع أخويا، حتى علشان شكلك ولا عاوز الناس تقول إنك سبب في اللي حصل ؟؟ أوعى يكون أنتَ ؟؟!.
تحدث “جابر” بنبرةٍ جامدة يسأله بضجرٍ:
_ليه هو ممكن حد يقول إن أنا السبب ؟؟ أنا مالي إن شاء الله.
حرك كتفيه بحيرةٍ مصطنعة ورافق حركته قوله:
_يمكن، أصل كنت سمعت إن ساعة الخطف حصل حاجة زي كدا، تحس كدا إن “أيوب” ابن ضرتك، بس معلش مستنيك علشان تشرفني يا حمايا.
زاغ بصر “جابر” بخوفٍ وازدرد لُعابه فاقترب منه “بيشوي” يُقبل وجنته وهو يقول بوقاحةٍ بعد حركته هذه:
_وصلها لصحابها يا حمايا.
تركه مصعوقًا ورحل من مكانه بعدما تأكد أن “جابر” سيصبح كما عروس الماريونت في يده وهذه البداية فقط التي اوضحتها نظراته، بينما الأخر تفاقم بداخله الثأر لأجل نفسه وكرامته التي يتعمد “جابر” إهانته.
__________________________________
<“أين الدرب المعلوم إن كنتُ أنا الضائع”>
وقفت “رهف” في غرفة مكتبها تمسك أحد الملفات في يديها تتفحصها بتركيزٍ حتى دلف لها “يوسف” مكتبها فوجدها تقول بلهفةٍ:
_يا عم اتأخرت ليه، أبوس إيدك الاجتماع فاضل عليه خمس دقايق.
تنهد بثقلٍ وحرك رأسه موافقًا فاقتربت هي منه تقدم له الملف وهي تقول بتوترٍ من تلك اللحظة الهامة في عمل الشركة:
_بص أنا راجعت والمفروض إن العرض دا هيتقدم مننا، هو شغل مش مهم أوي بس “سامي” قاصد يحطنا في وش المدفع علشان كدا أنا عملت دراسة وحطيت فيها عرض الشركة باسم الكل، هتقدمه أنتَ ؟!”
حرك رأسه نفيًا وقال بثباتٍ:
_لأ، أنتِ اللي هتقدمي العرض دا بنفسك، علشان الشغل هنا كله باسمك وأنتِ الواجهة بتاعة القسم دا، بطلي خوف يا “رهف” وخليكي واثقة في نفسك، وعلى فكرة أنا زعلان منك.
زفرت في وجهه بعمقٍ وهتفت بتلجلجٍ:
_عارفة إنك زعلان مني علشان محضرتش أي حاجة خاصة بيكم، بس والله غصب عني، مش بايدي، أنا مبقتش أحضر اي مناسبات علشان بتصحي جوايا ذكريات مش عاوزة أعيش فيها تاني، بس أقولك خدني عرفني عليهم كلهم وبالمرة أشوف “عـهـد”، قولت إيه ؟؟.
تنهد مُطولًا بثقلٍ ثم نظر في ساعة معصمه وما إن لمح التوقيت قال بنبرةٍ بنبرةٍ فاترة:
_قولت نشوف شغلنا وبعدها نشوفك أنتِ.
تحرك بعد حديثه وهي خلفه تمسك في يدها الملفات حتى وصلا إلى غرفة الإجتماعات معه فوجد بها عمه “عاصم” و يقابله على الطاولة “سامي” فتحدث الثاني بتهكمٍ:
_إيه اللي جابك ؟؟ مش عاوزين نشوفك بصراحة.
سحب “يوسف” المقعد وجلس عليه بجوار عمه وهو يقول بلامبالاةٍ ووقاحةٍ كعادته:
_لما تبقى شركة أبوك أبقى أتكلم، دي شركتي يا أنكل.
نظر له “عاصم” بطرف عينه ثم زفر بعمقٍ فتحدث “سامي” يرد عليه بجمودٍ وقسوةٍ:
_احترم نفسك يالا، الأسلوب دا تتكلم بيه في القهوة البلدي اللي أنتَ فاتحها، إنما هنا تتكلم بأدب مش عاوزين فضايح.
سحب “يوسف” زجاجة المياه الموضوعة على طاولة الاجتماعات وهو يقول بنبرةٍ فاترة:
_وماله ابقى تعالى شدلك فيها حجرين على حسابي، ولا أنتَ مبتشدش غير في الغُرز البلدي ؟؟.
قبل أن يندفع “سامي” ويرد عليه فتحت الغرفة ليتقدم طرف العمل الأخر بذويه المختصين بالعمل أيضًا وتم التعارف بينهم فسألت “رهف” بحماسٍ ازداد إليها من نظرات “يوسف” المُشجعة لها:
_طب نبدأ !! يدوبك نلحق علشان العرض التقديمي.
تحدث “عاصم” بهدوءٍ ووقارٍ يليق بمنصبه:
_لسه مستنين الرئيس التنفيذي للمشروعات الجديدة.
نظر “يوسف” إلى “رهف” التي حركت كتفيها بحيرةٍ وكأنها تخبره عن عدم معرفتها بالأمر فتحدث “يوسف” باستفسارٍ أخرج نبرته جامدة:
_مين إن شاء الله ؟؟ المفروض إن إحنا التلاتة ومعانا “رهف” مقدمة العرض ومجهزاه.
دلفت “شهد” في هذه اللحظة تقول بزهوٍ في نفسها:
_أنا !! أنا يا أستاذ “يوسف”.
حرك رأسه نحو مصدر الصوت وكذلك “رهف” بينما الأخرى وقفت بشموخٍ لا يليق بصفاتها تطالعه بتحدٍ جعله يحرك رأسه نحو عمه الذي حرك رأسه للجهةِ الأخرى وكأنه يسأله بنظراته، هل تريد المزيد ؟ بينما الأخر تهجم وجهه وحل عليه الوجوم ويبدو أن الراحة لم تعرف طريقه، أو هو الضائع من نفسه فأين درب من ضَيع ذاته؟؟.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى