رواية غوثهم الفصل السادس والتسعون 96 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل السادس والتسعون
رواية غوثهم البارت السادس والتسعون
رواية غوثهم الحلقة السادسة والتسعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الحادي عشر_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
________________________
“بربِّك ذَكِّرهم عَسى تنفعُ الذِكرى
فَكَم نِعم أَجدى وكَم مِنَن أَجرى
وَأَعظَمُها دينُ النبيّ محمّدٍ
هوَ النِعمةُ العُظمى هو المنّةُ الكُبرى
فَأَشهدُ أنّ اللَّه لا ربّ غيره
تَوحّدَ في الدُنيا توحّدَ في الأخرى”.
_” يوسف النبهاني”
__________________________________
_ما أشبه اليوم بالبارحةِ…
ونحن كما الغَريبينِ في ساحتي؟
فاليوم أراكَ عائدًا تطأ بقدميك من جديد مساحتي،
ورُبما تكون السماء هي ذاتها، وضوء القمر اللامع هو نفسه، والزهور التي تُسجل كما هي، لكن القلوب وما بها، لم يُعَد يُعرف بها، فتلاقينا في البداية ونحنا غريبان الهوية وكأننا مُجبران على ترك الوطن، ولما وجدنا الوطن رحلت عنَّا الأُلفة، وكأن ما جمعنا أول مرةٍ لقاءٌ كنا مُرغمين عليهِ..
واليوم يتكرر ونحنا متتوقين إليه،
فما بين قلبٍ هللَّ برؤية من يُحب وبين عقلٍ عداه والحزن فيه دَبَّ، تصارعت مشاعرنا وكأننا نقف أمام غريبٍ ليس بغريبٍ، بل هو من لأجلهِ حفظ اللسان موال العشق وأدخر له كل الحُب، فرغمًا عنَّا وعن أنف بنايتنا وأنف كل مَن يُعادي حبيبنا؛ مرحبًا بِكَ في أرضك الأحب، حيث وجدنا معكَ فيها كل الحُب.
<“قد يكون أراد العقل مُخاصمتك، لكن قلبي جيشك”>
أنهت “عـهد” الغناء وقد تهادى إلى أُذنيها صوت خطوات قادمة من خلفها بثت الرعب بداخلها فقررت القبض على السكين الموضوع أسفل وسادة الأريكة خوفًا من تهديدات المرأة التي أضحت ترافقها كما ظلها وقد سقط ظل الجسد الآخر عليها فأزدردت لُعابها وتندى جبينها وهي تحاول التماسك ثم التفتت فجأةً تضع السكين على عُنق مُحتل مكانها لتتسع عيناها على الفور عند التقاء عينيها بعينيهِ، لوهلةٍ ظنته خيالًا نسجته لها عيناها بإشارةٍ من عقلٍ مُضطر وما حيلة المُضطر إلا خياله، فيما ضمها هو بعينيه ولازالت السكين موضوعة عند نحره والنظرات تتحدث دون أن تتفوه الألسنة، العتاب والخذلان من جهتها، والشوق واللهفة من جهته وهنا أصدق ما يصف حالتهما كان:
_وإذا التقينا والعيونُ روامقٌ
صمت اللِّسانُ وطرفُها يتكلَّمُ
تشكو فأفهَمُ ما تقولُ بطرفِها
ويردُّ طرفي مثلَ ذاكَ فتفهمُ.
ها هو اللقاء يتكرر من جديد، نفس المكان، والليل ذاته، الأشخاص نفسهم، لكن القلوب وما بها تغيرت، فمن كانا عن بعضهما غريبين أضحيا قرينين، حتى السكين الذي تسبب في اللقاء الأول يُحيي الذكرى من جديد ويتسبب في اللقاء الثاني من بعد غيابٍ، وحقًا صدق من قال :
“ما أشبه الليل بالبارحةِ”، فمرت وكأنها بالأمس، والأعين لم تكن غريبة عن بعضها بل هي للأخرى تُعد مرسىٰ من بعد تيهها، القلب ينبض ملوحًا لشبيههِ، والأخر يمد كفه وللأنامل يمسك طرفها، نطقت هي تشكوه بعينيها، بينما يصرخ هو بنظراتهِ مُستغيثًا من عينيها، لحظة توقفت بها الأنفاس والحديث وكأن فُقِدَّ ما يُقال، لحظة لم تكن متوقعة بأي حال.
كانت لحظات عابرة، استغرقت أعوامٍ منها وهي تقف أمامه تتنفس بحدةٍ وكأن البكاء شارف على ظهور نفسه، بينما مرت اللحظة عليه ثوانٍ عابرة تمنى هو أن تطيل به لكي يروي ظمأه من أنهار اللؤلؤ بِمُقلتيها، وقد تخلى عن تعقله تمامًا وهو يضمها بين ذراعيه في حركةٍ خاطفة ضاربًا بكل ما حدث نفسه به عرض الحائط، فيكفيه أن يسرق لحظات عابرة وهي معه وقد سقطت السكين أرضًا بعدما أرتخى كفها عنها ليدوي صوتها عاليًا يشق الصمت والسكون، بينما “يـوسف” فأقسم أن مرساه هنا، وأُلفته هنا، وهداية طريقه هنا، وكل ما يُعطيه الهوية ويجعله إنسانًا هُنا، وقد قطع هو الصمت بقولهِ الذي خرج نادمًا ومُشتاقًا:
_وحشتيني، وعارف إني طولت في الغياب، بس أنا خلاص بقيت هنا.
ألقى الحديث وهو يمسح على ظهرها فيما سبحت هي في عالمٍ مُغاير لعالمه، فقد أُسِرَت مابين الحقيقة والخيال، تخشى أن يكون عقلها يرأف بها فيناولها حُلمًا جميلًا بدلًا عن كوابيسها، أو تخشاه هو بنفسه أن يخبرها أنه قرر أن يَفلت يديه منها، ولا شك أن أكثر ما يشوش المرء هو الصراع الناشيء بين عقلٍ يأنِ متذكرًا بوجعهِ، وبين قلبٍ يصرخ مستغيثًا لحبيبهِ.
وبين هذا وذاك دفعته بعيدًا عنها بعدما أدركت الصراع الذي طوق رقبتها فيما طالعها هو بأسفٍ وهو يعلم تمام العلم أن الحق معها هي وأن خطأه لا يُغتفر، وقد قررت أن تترك المُحيط له وأولته ظهرها وهي تلتقط أنفاسها المهدورة في ساحة حربهِ، وقد ابتسم هو رغمًا عنه حينما تذكر تفاصيل اللقاء الأول بينهما المشابه لهذا كثيرًا فمال بجسده للأمام يلتقط السكين وهتف بثباتٍ يُشابه ما هتف به سابقًا:
_سكينتك يا “عـسولة”.
تيبست محلها وتوقفت حركتها وكأنه أعاد ذكرى اللقاء المُحتم بينهما وعليه قررت أن تُظهر تمردها من جديد فألتفتت له برأسها تهتف لأول مرةٍ في هذا اللقاء بمعاندة مُهرة قررت التمرد على خيالها:
_خليهالك يمكن تنفعك، أصلك واخد على قطع الود والوصال
ألقت جملتها وركضت من المكان أو هكذا بدت خطواتها العنيفة وعلى عكسها تمامًا وقف هو مدهوشًا من جُرأة ردها وفطنة حديثها وطريقتها ككلٍ، ورغمًا عنه شقت البسمة وجهه العابس، فيبدو أن الخَيْال سيلجأ للهدنة مع المُهرة العنيدة، وقد لاحظ دفترها الموضوع فوق الطاولةِ وتحرك صوبه والتقطه بكفهِ شاردًا في رحيلها، لكن ما أكد له أنها باقيةً عليه جملتها التي حملت المُعاتبة خفيةً ونطقتها بعينيها صراحةً وخير طريقةٍ كانت العيون، والأعين بالكلام نواطق، كما بالسهام روامق
نزلت شقتها وهي تحاول التماسك أمام نفسها بظهوره من جديد؛ فحتى ما أدخرته من حديثٍ صرفته بأكملهِ بنظراتها له، كما أن مضختها الثائرة تنبض بعنفٍ من بين جنبات صدرها وكأن قلبها كاد أن يُقتَلعْ من جذورهِ كما شجرةٍ ضربها الإعصار المُفاجيء، وهكذا كانت طَلته أمامها، وقد جلست على طرف المقعد المخملي الذي قابلها ورفعت كفها تُدلك موضع نبضها ومن ثم أتت أبتسامةٌ مُشرقة تتراقص على شفتيها حينما أدركت حقيقة واحدة أنه من جديد أضحىٰ هُنا.
لا شك أن الصراع الناشيء بينها وبين كُلها أدى إلى تذبذب الثبات آخذًا بها إلى مرحلة الشتات، فأضحت هي مُشتتةً بين الاشتياقِ وعتاب الفُراق، حسنًا ستعلمه كيف يكون رد الفعل وهذا ليس لأجلهِ بل لأجل قلبه، قلبه القاسي الذي تركها ورحل ولأجل عَـهدٍ قطعته على نفسها لوالدته ومن المؤكد لن تخون العـهد وإلا لم تَكن هي “عـهد”، وقد شردت بعقلها في ذكرى لقائها مع” غالية” بعد رحيله بستة أيامٍ كانت خلالها منقطعة عن التعامل معها ومع “مَـي”.
(مُنذُ ما يقرب الشهر وأقل)
خلالها كان الجرح للجميع أشد ألمًا وكأن الإعتياد سكنهُ قليلًا فيما تلى ذلك، فكان رحيله لم ينفك عن ترك الوجع لهم لتضحىٰ قلوبهم مُعذبة يسكنها القلق عليه، ووقتذاك لاحظت “عَـهد” تجنب والدته لها وكأنها طفرة غريبة بين الجميع، وكُلما حاولت هي التحدث معها أو إقتحام تحصينها تتفاجيء بها تبتعد أكثر لذا أتخذت قرارها ونزلت لها ليلًا تُطرق بابها ولحسن حظها فتحته هي لها فسألتها هي بإندفاعٍ غير محسوبٍ:
_حضرتك زعلانة مني؟ صح.
ألقت السؤال بصوتٍ مهمومٍ وكأنها تُقر بحزن الأخرى منها فيما لاحظت ذلك “غـالية” التي أشفقت عليها وهتفت بنبرةٍ أقرب للوهن لتكون خير دليلٍ على ألمها النفسي من الأفعال المتصاعدة حولها:
_لأ يا “عـهد” مش زعلانة منك، أنا زعلانة عليكِ وعلى ابني، مش عارفة هو فين وقلبي بياكلني عليه، ومش هقدر أعمله حاجة، وواضح إن مامتك خدت القرار، فأنا برضه عذراها علشان هي أم وحقها تخاف على بنتها، وأنا أم وخايفة على ابني، فأنا للأسف مش هقدر أعمل حاجة، علشان الكلام ميزعلش حد، رغم إن “يـوسف” مش وحش والله، ابني جدع وأصله طيب وشهم، خسارة اللي بيحصله دا.
كانت تتحدث بقوةٍ في باديء حديثها ثم تحولت هذه القوة إلى ضعفٍ قاتلٍ نتج عنه تهدج صوتها ورافق ذلك بكاؤها وظهور عبراتها الموجوعة، فبكت “عـهد” هي الأخرى وأقتربت منها أكثر حيث ضَئُلت المسافة الفاصلة بينهما وكذلك بين قلبيهما عند حديثها:
_وأنا مع ابنك لأخر يوم في عمري، مش هسيبه لو كل الدنيا دي هتعاديه، أنا معاه ولِيه هو، وطريقي مش هيكمل غير بيه هو، حتى لو ماما مش قابلة دا مسيرها تفهم إني ماليش غيره، مش هينفع أفلت أيدي منه وهو كل مرة تحصله حاجة تخليه يمسك أيدي أكتر، بسببه أنا بقيت حرة من سجن أتفرض عليا ومشوفتش الحُرية غير معاه، وأنا عمري ما قليت بأصلي مع حد غريب طلب مني حاجة، يبقى أكيد مش هفلت أيدي من واحد أقرب ليا من نفسي ورجعلي كل حاجة، أتطمني.
حسنًا، هي أيضًا لم تنس أن ابنها سبق وأخبرها أنه أحب فتاة مُذهلة تفعل ما لم يتم توقعه منها، وهي الآن تُصدق على حديثه حيث خُيْلَ للأخرى أن حديثها يملك كفين ناعمين ثم أمتدا نحو قلبٍ مهمومٍ ومسحا عليه برفقٍ يُضمدان بذلك وجعه ويشفيان جُرحه، لكن آفة العقل البشري دومًا هي عدم التصديق لذا هتفت بصوتٍ تباين بين الأمل والاستنكار:
_يعني أنتِ مش هتسيبي “يـوسف”؟ هتستنيه؟.
سألتها آملةً في الحصول على الجواب المُريح الذي من المؤكد سيطلق قلبها حُرًا كما الطيرِ مُحلقًا في الكونِ الفسيح وهذا ما حدث بالفعلِ حينما أتاها الجواب اليقين من الأخرى تؤكد ظنونها بحديثها:
_والله لأخر عمري هستناه بس هو يرجع، يرجع ويعرف إنه مبقاش لوحده، بقى فيه ناس وراه بتحبه ومستنياه كمان، علشان كدا هعلمه الأدب الأول، ابنك لازم يفوق لنفسه، أنا أشد وأنتِ أرخي والعكس، ووعد ابنك في عيني يا غالية.
كانت تقصد الصفة وليس الاسم فيما ضحكت والدته التي أطمئن قلبها فور استماعه لحديث “عـهد” وابتسامتها المُرافقة كلماتها، وقد خطفتها وضمتها “غالية” بين ذراعيها بامتنانٍ لها وكأنها تود تخبئتها داخل قلبها، أما الأخرى فعلمت أن الوقت قد حان لتبادل الأدوار وتقف هي كما الحِصن في حمايته، فإذا كانت هي وطنه، فمن المؤكد أن الأوطان لن تتخلي عن ذويها، حتى وإن أرادوا المنفىٰ بعيدًا عن هذ الوطن.
(عودة إلى هذه اللحظة)
خرجت “عـهد” من رحلة شرودها بهذا اللقاء المعهود وتنفست بقوةٍ بعدما أخرجت أنفاسها المكتومة في قلبها ثم ولأول مرةٍ من بعد غيابه عنها تبتسم بكل ذلك الهيام حينما تذكرت عناقه لها وكيف عَلُقت رائحته بها، ونبرته الآسفة الملهوفة عليها ثم تذكرت كيف في عناقه أمتدا كفي الطمأنينة حولها، فالأمر في حضرته دومًا كان ولازال مُتناقضًا، ففي حين يُعانقها بكلا ذراعيه ويضيق المكان حولها إلا أنه أكثر الأماكن إتساعًا لها؛ حيث المساحة الحُرة لطيرٍ يُرفرف بكلا ذراعيه، أو كما الفرس الجامح الذي تم فتح الساحةِ له وتم تحرير لجامه ليركض فرحًا بأقصى سُرعةٍ لديه وقد جالت بخاطرها عبارة رددتها لنفسها:
_اليوم رأيت نُصبَّ عينيِّ حربًا بين اثنين أعرفهما؛
حيث أحدهما أنا والآخر أيضًا كان أنا، وكأن أراد العقل مُخاصمتك، في حين قرر قلبي أن يُصبح جيشك الوحيد.
_________________________________
<“أعاد الغائب عن المُقلتيْن، ساكن القلب والعيْن؟”>
يبدو أن التعب بلغ مبلغه أخيرًا حتى أضحى لا يُحتمل، رُبما التعب الروحي أقوى وأعتى من التعب الجسدي لكن كلاهما إذا أتحدا سويًا بالطبع سيقضيان على الضحية، وماهو إلا ضحية للتعب الجسدي بعد طريق سفرٍ استغرق منه ثلاثة عشر ساعةً متواصلين، وها هو يولج شقته من جديد وقد وصلت الساعة الثانية صباحًا وما بعدها بعشر دقائق، حينما مرر عينيه على ساعة الحائط أدرك أن سلطان النوم فرد جناحيه على أهل البيت، لذا حمل حقيبته وهاتفه الموضوع على الطاولةِ ذات السطح الزُجاجي ثم ساورته الحيرة في أمره، هل يستحم أولًا أم ينتقل في كنف النوم فوق جناحيه؟ قبل أن يُحسم أمرهِ ويتخذ القرار فُتِحَ باب غرفة شقيقته التي سارت بخطى وئيدة إثر النُعاس المُطبق عليها وفي لحظته هذه وجد قلبه يرق لأجلها، استفاق من أمر حيرته على مرآها أمام عينيه وقد خرج صوته يُناديها بلهفةٍ طغىٰ عليها الشوق من بين شفتيه: /
_”قـمر”!!.
كانت بالفعل مرت من غرفتها مسافة قُرابة المتر عبر الرواق لكي تدلف المرحاض لكن صوته عركل ذلك وجعلها تعود بظهرها بعدما تهادى إلى أُذنيها صوتهِ الملهوف مُناديًا عليها فيما قطع هو المسافة بينهما مُفرقًا مابين ذراعيهِ استعدادًا لمعانقتها وقد ركضت هي له باكيةً تتعلق برقبته من خلال ذراعيه اللاذي طوقا عنقه ، فيما ضم هو جسدها ورفعها عن الأرضِ وأطلق تنهيدة قوية أعربت عن راحتهِ وهتف بنبرةٍ مُلتاعة بنيران الشوق:
_وحشتيني أوي، كنت زي طير تايه في السما ووصل بلقاكِ.
انتحبت هي باكيةً بين ذراعيه غير مُصدقةٍ أنها بين ذراعيه وأنه بخيرٍ وعاد من جديد، لم تصدق أن أمانها عاد مُتمثلًا فيه هو، وقبل أن يتصوره عقلها سرابًا شددت ضمتها عليه وهي تقول بنبرةٍ مختنقة من فرط البكاء:
_وحشتني وقلقتني عليك، كل دا غياب؟ إحنا لو أعدائك كنت رأفت بينا وطمنتنا عليك، جالك قلب تغيب كل دا عننا؟ دا أنتَ غيابك على عنينا كلنا.
أنزلها تقف قبالته وأحتضن شطري وجهها بكلا كفيه وهو يقول بتأنيبٍ صريحٍ لنفسهِ أمام عينيها وكأنه أدرك فداحة موقفهِ لتوهِ بعتاب شقيقته الصريح له:
_حقك على راسي من فوق وحقك تزعلي أكتر من كدا كمان، بس كان غصب عني وفوق طاقتي يا “قـمر” إني أتحمل وأصبر وأنا مكاني، علشان كدا أنا مقدر زعلك مني، بس دا ميمنعش إنك وحشتيني أوي وإني ماصدقت أطل جوة عيونك.
ابتسمت له “قـمر” بعينيها وطوقته من جديد بكلا ذراعيها فيما أرتاح هو حقًا لمجرد أقترابها منه، يشعر دومًا وكأنها أساسه ونصفه وأكثره وكله، تشبه دومًا الجزء الألطف في هذا العالم وهو الذي يحبها بكل مافيه، وقد قطع التواصل بينهما “غالية” التي استشعرت همهمات من حديث ابنتها دون أن تلتقط الحديث أو هوية المتحدث، وبناءً عليه خرجت من غرفتها وما إن رآت حبيب عينيها في عقر دارهِ من جديد ركضت له تذكر اسمه بلوعةٍ فيما قطع هو المسافة لها ركضًا كمن يبحث عن النجاة في حربٍ ضارية.
تجدد اللقاء بينهما وهو يستقر بين ذراعيها الضعيفين مقارنةً بجسدهِ العريض القوي، وعلى عكس قوته الخارجية كان هاشًا من الداخل ففور التقاء الجسدين ببعضهما أراد أن يبكي ويصرخ ويشكو لها من قسوة العالم عليه، أراد أن يُرثي حاله لها ويطلب منها المواساة، لكن فضلًا منها عن كل ذلك أحتضنته باكيةً وهي تُشدد ضمتها له بعد إنقطاعٍ دام لشهرٍ كاملٍ دون حتى تواصل صوتي، وكأن بمرآه أمام عينيها حُيزَت لها الدُنيا، وقد هتفت مُلتاعة ببكاءٍ:
_نورت بيتك يا حبيبي، نورت الدنيا كلها من تاني.
ابتسم هو رغمًا عنه فهذه مرته الأولى التي يعود فيها من عملهِ بشركة البترول ويجد هذا الترحيب بكل هذه الحفاوة _بخلاف ترحيب حبيبته المميز_ ففي المعتاد كان يذهب لأحد الفنادق يقضي فيها ليلة أو ليلتين قبل أن يتوجه إلى بيت “نَـعيم” أو يدفعه طبعه الشقي المراوغ لبيت “الـراوي” لقد عاش كثيرًا يستمع لحديث الناس عن العودة للبيت بجوار الأحِبَّةِ وخاصةً من بعد الغُربةِ، أقتربت منهما “قـمر” تفصل بينهما وهي تهاتفه بقلقٍ بلغ الأثر عليه:
_روح يا حبيبي أرتاح شوية يلا، شكلك تعبان وطريقك كان صعب، أكيد جاي هلكان من “أسـوان”.
حرك رأسه بحركةٍ خافتة لكن عقله أنجذب إلى كلمة
“أسوان” التي تفوهت هي بها ومن المفترض أن هذا الأمر لم يعرفه غيره هو وفقط، لذا سألها بعينيهِ وأكدها بشفتيهِ مُستفسرًا:
_عرفتي منين إني كنت في أسوان؟.
رمى السؤال بحيرةٍ عليها فيما ابتسمت هي تُطمئنه أثناء جوابها عليه مُرضيةً لفضولهِ الذي آخذ يزداد على وجههِ:
_”أيـوب” قال إنه سأل حد من صحابكم طلع معرفة صدفة بينكم وهو اللي سأله وعرف إنك هناك، ويمكن دا اللي طمنَّا شوية عليك وخلانا عارفين أنتَ فين، يلا متشغيلش بالك وأدخل أرتاح، بكرة نتكلم براحتنا بقى.
أومأ لها موافقًا بتفهمٍ خالطه تفاقم بالغ في الشعور بالذنب على ما تسبب فيه لهم جميعًا، ويبدو أن حتى “أيـوب” ناله هذا التعب، غريب أمره هذا الرجل، لو كان شخصًا غيره لكان سأم هذه العلاقة التي لم تنعكس عليه سوى بالأذى والشر، يبدو أن أكثر الناس أحقية بآسفهِ هو “أيـوب” الذي لاحقه في ليلةٍ رُبما ينتهي هو بذاتهِ فيها، وقد تحرك نحو غرفتهِ مُباشرةً ساحبًا حقيبته بعدما لثم رأس أمه وجبين شقيقته وقد وصل التعب لأشده عليه حتى عملية الرمش بجفنيهِ أصبحت ثقيلة كما ثُقل الملح بالحقائب.
وعلى عكسهِ أعتلى وجه والدته حماسٌ من جديد وقد استقر فؤادها أخيرًا برؤيتهِ ومعه لمعت عيناها بعبراتٍ فرحة وهي ترفع رأسها للأعلى تمتن للخالق على عودة فلذة كبدها سالمًا من كل سوءٍ، وقد أقتربت “قـمر” منها المسافة المُتبقية وضمتها كتفيها بكلا ذراعيها ووضعت جبينها تلصقه على وجنة أمها اليُسرىٰ وهي تقول بنبرةٍ شبه ضاحكة:
_قولتلك أكيد هيرجع، شوفتي بقى؟.
رفعت الأخرى ذراعيها تمسح على رأس ابنتها وخصلاتها البُنية الطويلة المفرودة ثم كررت الشكر والحمد للخالق سرًا وعلنيةً بقلبها قبل لسانها وكأن البيت أضاء أخيرًا بعودته.
__________________________________
<“أين أنتَ منذ زمنٍ؟ لقد شارفنا على إعتياد غيابك”>
في صبيحة اليوم الموالي..
تحديدًا قبل الثامنةِ صباحًا بدقائق تحركت سيارة الأجرة من أمام بناية “عـهد” وهي بداخلها تتوجه إلى مقر النيابة حيث موعد جلسة استكمال التحقيق مع المدعو “سـعد” خاصةً بعد فشل محاولة إخراجة بإتهام أخرٍ غيره، وقد تحركت بمفردها دون أن تطلب من أحدٍ ذلك، لكن “عبدالقادر” أرسل “أيـهم” و “بيشوي” يسبقونها إلى هناك حتى لا تعترض هي على هذا مُنصاعة لصوت حميتها القوية..
وقد وصلت “عـهد” إلى هناك وقبل أن تترجل من السيارة قد دفعت حساب التنقل ثم نزلت من السيارة تلتقط أنفاسها وهي تحاول تنظيمها قبل مواجهةٍ صعبة عليها لكنها تأمل في إجتيازها، وقد ربحت المنافسة مع ذاتها وولجت المكان بخطىٰ وئيدة مُترددة، المكان الذي اسمته هي
“خَـلاط الشـعب” حيث المجرم مع البريء، والجاني قُبالة المجني عليه، مكانٌ يدخله المرء مُقاتلًا لأجل التحصل على حقوقه من بين أنياب أسودٍ جائعة، وقفت أمام مكتب وكيل النيابة في إنتظار مصير حقها.
في الخارج بجوار مقهى شعبية قديمة يجاورها عربة شعبية تقوم بصنع الطعام الرسمي والروتيني لعامة الشعب حيث “الـفول والفـلافل” وهناك جلس “أيـهم” برفقة “بيـشوي” يتناولان الفطور سويًا ومعهما “چـورچ” زوج شقيقة الثاني ومحامي “عـهد” وفي هذه اللحظة زفر “بـيشوي” حانقًا وهتف بنبرةٍ محتدة بعض الشيء لرفيقه المتبلد:
_يابني خلصنا!! يلا خلينا نتنيل ندخل.
أبتلع “أيـهم” الطعام الذي يلوكه في فمهِ ورد عليه بنفس التبلد اللامتناهي مُضيفًا له بعض اللامبالاة:
_أنتَ مستعجل ليه مش فاهمك؟ ليه محسسني إنها ليلة فرحك على بنت “جابر”؟ فوق يا حبيبي إحنا داخلين نيابة، ولا علشان خلصت طفح هتصدعنا، أركن ياض.
زفر”بـيشوي” حانقًا ثم وقف يسحب مفاتيحه وهاتفه مُتعجلًا كإشارةٍ منه بقرار الرحيل فيما أمسكه “أيـهَم” يمنع تحركه بعدما أنهى تناول طعامه ثم هتف بضجرٍ مصطنعٍ وكأنما أفسد الآخر عليه متعته:
_قايم، قايم خلاص سديت نفسي داهية في معرفتك.
أنهى جملته حينما وقف وترك ورقة مالية بالحساب وقد وقف أمامهما “چـورچ” الذي ابتسم عليهما ساخرًا وكأنه يرافق طفلين صغرين لم تنفك المشاكسات في حضرتهما سويًا ثم بعدها توجه الثلاثة نحو الداخل في إنتظار قدوم وكيل النيابة.
في الداخل كانت “عـهد” تقف كورقةٍ في مهب الريح تخشىٰ قدوم فصل الخريف خوفًا من هشاشتها وتصدع جذورها التي لم تكن ثابتةً من الأساس، فهي مجرد فتاة ضعيفة ترسم قوة كاذبة تحتمي خلفها من البشر وقلوبهم، تحاوط نفسها بكلا ذراعيها وتستمر في العد شفهيًا كما أوصتها “فُـلة” حينما استشارتها في هذا الأمر وجاوبتها الأخرى أن تلتزم على العد شفهيًا والتسبيح بذكر الله، وقد ألتزمت هي بتلك النصيحة حتى دُبَّ الخوف في قلبها بظهور والدة “سـعد” أمامها ترمقها بسهام عينيها القاتلتين بنظرةٍ حادة، وقد ابتلعت “عـهد” لُعابها مُبتلعة معه الغِصة التي توقفت في حلقها فيما أقتربت منها الأخرى تقف أمامها مُباشرةً وهي تُهددها صراحةً بقولها:
_مش هسيبك وهاخد حق ابني منك، قدامك فرصة أخيرة أهو تغيري أقوالك وتعترفي على الواد التاني، أكسبي نفسك قبل ما أحطك في دماغي، وأنا هضمنلك إن ابني مش هيقرب منك تاني، هتاخدي حريتك علطول.
حسنًا هي من تبدأ حرب المناوشات فعليها أن تتحمل النتيجة، خاصةً إذا كانت نابعةً من قلبٍ مكلومٍ وأحزانه ترتص فوق بعضها مثل الرُكام، وقد تصدت لها الأخرى بقولها:
_أعلى مافي خيلك أركبيه، أنا مبغيرش كلامي ولا بتنازل عن حقي، أنا واقفة زي ما أنا آخد حقي وحق سنين عمري اللي فاتت منه، وإذا كنتِ فاكرة إنك بكلامك بتخليني كدا أخاف، فأنتِ غلطانة يا ست، علشان كلامك وراني قد إيه أنتِ ضعيفة، وأنا في مركز قوة، رَّيحي بقى على جنب.
هتفت جُملتها ثم عادت تلتصق على الحائط بظهرها وهي تَشُد أزر جسدها الضعيف بكلا ذراعيها معًا لكن ظهور “سـعد” هو مالم تتوقع أثره عليها، حيث ظهر مجرورًا من يده المُكبلة بأحد الأصفاد الحديدية المساورة لرسغهِ وكفه الآخر كان حُرًا وهو يسير مع أحد أفراد الشرطة وحينها زالت القشرة الأساسية من فوقها لتكشف عن سطحٍ متصدعٍ وخاصةً وهو يرمقها بنظراتهِ الحادة وكأن المراد من نظراته هو قتلها ثأرًا لنفسه، فيما فتشت هي عن قوتها وتصديها لكن كل شيءٍ يبدو كأنه ذهب هباءًا حيث وقف في مواجهتها بينما والدته ركضت نحوه تحتضنه متجاهلة عن عمدٍ نظرة فرد الشرطةِ لها فيما رفع هو ذراعه الحُر يمسح على ظهر أمـه، لكن عيناه لازالت مُثبتة على وجه “عـهد” التي تهجم وجهها في حضرته وقد جاورته أمـه تضع في يد الحارس ورقة مالية تغمز له بها ليتناولها الآخر راضيًا ومتغاضيًا.
حاولت “عـهد” الهروب من حضرة الآخر ونظراته المصوبة نحوها وما إن اتخذت قرارها وأوشكت على اتخاذ الخطوة الأولىٰ وصلها صوت جلادها يتشدق بتهكمٍ:
_أومال فين سبع البرومبة بتاعك؟ قولتلك مش هيطول معاكِ وآخرتك تترمي لما يوصل للي عاوزه منك، كان ممكن تقوليلي إن سكتك كتب كتاب كان زماننا وصلنا لوضع أحسن من دا بكتير، وبرضه أنا لسه مستني، أنا مش قليل الأصل.
هتف جملته الأخيرة وهو يشملها بعينيهِ بنفسها النظرة الوضيعة المُشتهية لها، نفسها النظرة التي تجعلها ناقمةً على نفسها وملامحها وجسدها الذي وصل بسببهم حدَّ الهوس، فيما رفعت هي عينيها له وقبل أن ترد وجدت نفسها تُدفع للخلف وظهر جسدٌ يحول بينها وبين الآخر كما رفع ذراعه يحاوطها خلف ظهره بحمايةٍ كانت في أشد الحاجةِ إليها تزامنًا مع نطقهِ بنفس الأسلوب الفظ المعتاد منه:
_أنتَ فعلًا مش قليل الأصل، علشان اللي زيك مالوش أصلًا أي أصل، أنتَ عِـرة، وأهو سَبع البُرمبة كله قدامك يا حيلة أمـك، كلمني أنا وخليك راجل، بس مترجعش تزعل وخليك فاكر إن أنتَ اللي بدأت.
هتف “يـوسف” حديثه تزامنًا مع إقترابه أكثر من غريمه ولازال كفه يحاوطها خلفه وهي تقف مشدوهة في حالة تيهٍ تحاول التفرقة مابين الحقيقة والخيال وقد تحدث “سـعد” ينتشلها من حيرتها هاتفًا بلهجةٍ باردة يقصد بها جره لساحتهِ:
_بقولك إيـه؟ كدا كدا أنا خسران، وبرة زي جوة، خلي بالك منها بقى علشان اللي معرفتش أعمله وأنا برة، هعمله وأنا جوة برضه عادي، فخلي بالك أكتر يا “يـوسف”.
كان تهديدًا صريحًا خرج من بين شفتيه ليكون كما السكين المغروز بقلب “عـهد” التي قبضت على قميص “يـوسف”، بينما “يـوسف” نفسه فقدت صمت أذناه وتوقفت عيناه وظل التهديد يتردد على سمعهِ ليكون رد فعله هو الأعنف حينما رفع ذراعه بُغتةً يقبض على عُنق “سـعد” يهتف من بين أسنانه بغلٍ دفينٍ:
_ اللي أعرفه في العادي إن اللي بيعمل مبيقولش، بس أنا بعمل الأول وبقول في ساعتها يا حيلتها.
أنهى جملته بضربةٍ من رأسهِ لرأس الآخر الذي ترنح برأسهِ للخلف وسادت بعدها لحظات الهرج بالمكان وصرخات أم غريمه ترتفع عاليًا في نواحٍ منها وهي ترفع صوتها راثيةً حال ابنها المغدور _من وجهة نظرها بالطبع_ إثر هجوم الآخر عليه:
_منك لله يا مفتري، من ساعة ما ظهرت جاي عليه وعلى حقه، روح ربنا ينتقم منك وينصرك يا بني عليهم، أعوذ بالله شياطين؟؟ ربنا يحفظك من مكرهم.
كل ذلك كانت “عـهد” تقف خلف حصنها تتشبث به دون أن تظهر أي رد فعل حتى لحظة هجومه تبدل حالها وهي تسحبه بعيدًا عن أذى الآخر ورجال الشرطة خوفًا عليه فيما ركض له “أيـهم” والبقية يفصلون بينهما لتمر لحظة هدوء من بعد الضجيج إلا من الهمسات المتناقلة وقد عاد “يـوسف” لهدوئه وظل يتنفس بحدةٍ عنيفة وهو يضغط بكفهِ على كفها وهي تقف خلفه ثم التفت لها بعينيه يقابل عينيها ولأول مرة يرى نفسه ضائعًا وتائهًا في نظراتها، لحظة غريبة مرت عليهما وكأن المكان خلا من الجميع عداهما معًا، هي نظراتها خائفة، ومعاتبة ومشتاقة، وهو حزين وضعيف ومتوسل.
__________________________________
<“الغريبُ أنكِ غريبةٌ، وفي الوقت ذاته تقربيني”>
“لا تلوم الخريف على سقوط أحبتك
إن كانوا هم في أساس الأمر من ورقٍ”
كان “مُـنذر” يجلس في غرفته بالمشفى يتذكر هذه المقولة مقارنةً بحال “محمود” الذي يبدو أنه أغلق على نفسهِ خلف سياجٍ وهمية جعلته في منفى بعيدًا عن العالم، حالته النفسية غريبة وكأن هناك من تفنن في تدمير حياته، أضحىٰ غريبًا ومُهملًا ثم ضعيفًا، ثم بعدها مقتولًا وما بقىٰ منه هو الحُطام فقط، وقد مر شهرٌ كامل الأيام على محاولات “مُـنذر” لكنه لم يعتد الفشل، لذا بحث عن الطريقة الثانية التي من خلالها هينفجر البركان المتراكم داخل الآخر حتى أن نيرانه المتأججة أضحت تتحكم به.
وصل الغرفة صباحًا وراقب المكان بعينيهِ وممشطًا الغرفة بعدستيه بحثًا عن الآخر الذي أنزوى بنفسه على الفراش، وقد قام هو بتعليق الصورتين على الحائط بحركةٍ يسيرة حيث قد سبق وأعد لهذه اللحظة جيدًا، ثم عاد للخلف يقوم بضبط أنفاسه وهتف بنبرةٍ هادئة:
_”محمود” ينفع المرة دي بس ترد عليا؟.
حرك الآخر رأسه نفيًا كما الطفل الصغير المُحتج على أوامر والده، بينما الآخر لم ييأس بل حاول مُجددًا حتى وصلته النتيجة المرادة من خلال ترك “محمود” فراشه وكاد أن ينقض على “مُـنذر” لكن صورة طليقته المعلقة هي من أوقفت رد فعله الهمجي وأبدلته وكأنما تلبسه شخصٌ جديدٌ، وحينها وجد نفسه يسير مُنصاعًا نحو الصورة ووقف في مواجهتها مُباشرةً يُمعن نظراته في عينيها، بينما “مُـنذر” فراقب الآخر وتصرفاته ليجده التفت يسأله بخوفٍ منها ومن تواجدها:
_هي بتعمل هنا إيـه؟ جاية تحرق قلبي تاني؟.
كانت نبرته مُنكسرة وحزينة بينما الآخر حرك كتفيه بقصد الكذب عليه ثم هتف بثباتٍ يحثه على التكملة:
_قولها اللي عاوز تقوله، أحرق قلبها أنتَ.
التفت “محمود” بعد حصوله على الجواب ثم رفع رأسهِ لها يراقب ملامحها لتصيب رأسه خيالات وميضية كمن فقد الذاكرة وأضحت في حالة العودة، ومعها أصوات ضحكاتها بين أحضانه وصوت مُناداتها عليه ليصبح الأمر أكبر من قدرته على الإحتمال فصرخ بكلمةٍ واحدة وهو يضرب الصورة بعدما داهمته الذكريات:
_لــيـه!! ليه أنتِ بالذات؟؟ لـــيه؟؟.
تعالى صوت صرخاته في الغرفة تحت نظرات “مُـنذر” الذي علم أن هذه هي بداية الوصول للطريق المُراد وعليه قرر أن يقف مُتابعًا بصمتٍ تاركًا له حُرية التعبير، فوجده يعاتبها بحديثهِ الذي خرج متألمًا:
_أنا محبيتش حد قدك، سيبت كل الدنيا دي وعيشت ليكِ ولفرحتك، مبقيتش عارف أفرح غير لما أفرحك، ليه تصدقيه وترميني؟ ليه مبقيتيش على يوم حلو بيننا؟ لــيه؟ مــا تـردي عليا لـــيه؟؟؟.
صرخ بكلماته وظل يضرب على الحائط فوق صورتها ينتظر منها الجواب المستحيل فيما أقترب منه “مُـنذر” يسحبه نحو الفراش ثم مسد على ظهرهِ ومرنهُ على حركة التنفس حينما لاحظ توقفها بينما الآخر بكى لمرتهِ الأولى يعلن أنهياره أخيرًا مثل الطفل الصغير الذي عاش طوال سنينه القليلة يتعرض للعقاب، بينما “مُـنذر” فتوقع شيئًا هكذا وبناءًا عليه قام بحقنه دون أن يلاحظه الآخر بخفة يدٍ لم يملكها غيره، ثم سطح جسد الآخر فوق الفراش وزفر بقوةٍ وهو يعلم أن بقية الخطوات تزداد صعوبة وألمًا لذا عليه أن يكون حريصًا.
خرج “مُـنذر” من الغرفة ثم كتب التقرير الخاص بحالة المريض ووضعه بجوار باب غرفته ثم أملى أوامره للممرض الذي يتولى مهمة الرعاية به، وعليه قرر أن يأخذ قسطًا من الراحة قبل البدء في العمل الإشرافي، وقد خرج صوب الحديقة الفارغة يجلس بها ثم أخرج سيجارًا يشعله بعيدًا عن الأعين وفتح هاتفه ليجد رسالة من عمهِ يعاتبه فيها، وقد قرر هو أن يتجاهل الرد عليها حتى يذهب بنفسه له ويسترضيه.
في الخلف تحديدًا في مكانٍ يشبه “الڤراندة” حيث كان واسعًا مكونًا من أعمدة رُخامية عاجية اللون ثم مقاعد كبيرة وكأنه بهو إنتظار، فيما كان السور المحاوط له من خامة طينية بيضاء، وبابه زجاجي كبير الحجم، وقد جلست “فُـلة” برفقة “تـمارا” ابنة شقيقها صاحبة الستة أعوام من عمرها، وقد شعرت الأخرى بالضجر فسألتها بسخطٍ:
_بابي شكله هيتأخر؟ أنا زهقت خلاص.
أقتربت منها الأخرى تحملها بين ذراعيها وهي تُقلد طريقتها الطفولية ثم أكملت بحديثٍ لم يتوافق مع عقل الطفلة:
_أنا زهقت خلاص؟ حد يكون قاعد معايا ويزهق؟ بعدين يا هبلة أنا بأهلك للمستقبل، بكرة تعرفي قيمة المكان دا وإن مصيرنا كلنا نيجي هنا، عاوزاكِ تتعودي علشان هتقابلي مرضى كتير وبيخلوا الناس الطيبة تيجي هنا، بأهلك علشان تعرفي تتعاملي، بكرة تقدري قيمتي.
لم تفهم الصغيرة مقصد عمتها فيما فكرت الأخرى لوهلةٍ في حلٍ تسترضي به الصغيرة قبل أن تبكي وتخشى غياب أسرتها حيث ذهب والدها مع أمه وزوجته لإنهاء إجراءات العمل، وعليه فتحت هاتفها ثم أشارت للصغيرة بكلا كفيها لتتمسك بهما ثم بدأت رحلة المرح الخاصة بهما حيث تمسك كلتاهما بكفي الأخرى وتدور وهي تغني بصوتٍ عالٍ:
_ابن الجيران اللي هنا قصادي
مش عارفة بس أعمله أنا إيـه، عمال يصفر كدا وينادي وفي أي حتة يا ناس بلاقيه…
إكمن حبه في القلب نار، واقف قصادي طول النهار.
تهادى إلى أذنيه صوتٌ غريبٌ عليه في المكان وكأنه تدرب خصيصًا لفهم كل ما هو على غير المعتاد وقد توجه نحو مصدر الصوت يبحث بعينيهِ عن سبب الضجيج وقد وقف في البهو الفارغ يراقب بعينيه تلك الغريبة التي تتراقص مع فتاةٍ صغيرة وتدور معها وهي تغني وتضحك بملء فاهها وكأنها طفلة هي الأخرى نالت إذن الحُرية والتجول في شوارع المدينة عشية العيد، وقد وصل إليه صوتها الضاحك مع الصغيرة وهي تقوم بتمثيل حركات الأغنية:
_علطول يا بابا، يا بابا باصص عليا، عليا..
ياما بالمراية شاغلني زغلل عينيا، عينيا..
ومفيش ياعيني ياعيني حاجة بأيديا، إيديا
غير إني أحبه وأسهر لحبه.
وقف يراقبها بعينيهِ ليجد نفسه يبتسم رويدًا رويدًا والبسمة الصافية تأخذ محلها فوق شفتيه دون أن يعي لذلك وعلى نفس الغِرار فعلت عيناه، حيث بدتا مبتسمتين وهو يراقبها، هذه التي يبدو أنها أتت من عالمٍ موازٍ للبشر، حيث الحرية والطاقة والشمس والربيع والدفء، في حين أن سائر الكون يسير خلف الظلام والوحدة والغيوم الممتلئة وقسوة الشتاء، وهي؟! هي الغريبة التي ناقضت كل البشر وأثارت فضوله نحو عالمٍ كان غائبًا عنه، ولم ولن يُجازف بالدخول إليه، لطالما كان ألم المجهول جُرحه أسهل من ألمٍ أصبحنا نعلمه ونعلم مدى تأثيره بنا.
وقف يذكر نفسه بهذا الحديث وقرر أن يهرب من حضرة روحها المرحة التي كبلته مكانه دون أي تدخل منها، وقد ترك المكان وعاد يجلس بمفردهِ منزويًا كما أعتاد دومًا وقرر أن يصرف فكره عنها ويعود إلى “محمود” الذي بطريقةٍ ما غير متعارف عليها، يشبهه كثيرًا.
__________________________________
<“أنا وأنتَ لسنا بغريبين، من الأساس لم نكن أثنين”>
بعد مرور ساعات قليلة أنتهى خلالها التحقيق مع “سعد” ومطابقة الأقوال ببعضها مع سابقها واستجوابه بشأن الصور التي قام بتزييفها، والغريب هو أمر إعترافه للمرةِ الثانية بجرمه المُرتكب من قبلهِ، وقد صدر أمر النيابة أخيرًا بصدور المحضر وتوجيه القضية لمحكمة الجنايات لصدور الحكم فيها، كانت لحظة إنتصارٍ مشئومة وغريبة والمرء ينتصر هذا الإنتصار الحزين على نفسه، هذا الشعور الذي تقف فيه الضحية في مواجهة جلادها لترى ينل ويتلقف مما صنعت يداه.
بعدها رحل “أيـهم” مع رفيقيه بعدما أصر “يـوسف” على زوجته أن ترحل معه وبالرغم من رفضها للفكرة وأن تتساهل معه بتلك السرعة لكنها خشيت تهوره أمام الجميع خاصةً أن حاله لم يكن الأفضل بل، ملئه الغضب وساوره الضيق مُحكمًا عليه الخِناق، لذا ركبت بجواره صامتةً حتى النظر له بخلت عليه به وما كان أمامه إلا أن ينطق بنبرةٍ ظنها هادئة لكنها خانته وخرجت مندفعة:
_أنا ماكنش قصدي أتعصب علشان تركبي، ولا حتى أخوفك، أنا أكيد خايف عليكِ تمشي لوحدك في الطريق خصوصًا لو اليوم صعب كدا، ثم إنك جيتي إزاي؟.
حركت رأسها نحوه تسأله بعينيها لما يرفع صوته بتلك الطريقة لكنه حرك رأسه في إنتظار رد فعلها ليجدها أشاحت بعينيها بعيدًا عن عينيه وزفرت بقوةٍ تستغفر ربها في سرها في محاولةٍ منها للتماسك، فعلم أنها ترفض حتى محادثته والنظر إليه متذكرًا ذلك البيت الذي قرأه عن لسان “ابن الزيات” وكأنه يذكره بحديث عينيها الغير منطوق:
“وإنِّي لَألقَاهَا فيَنطِقُ طَرْفُهَا
لِطَرْفِي بِمَا يَخفَى، وإنْ لمْ تَكلَّمِ
وتَبْخَلُ عَنِّي بِالسَّلَامِ وعَينُهَا
تُشِيرُ بِهِ نَحوِي، وإنْ لَمْ تُسَلِّمِ”
زفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ أهدأ عن سابقتها يكسر بها الصمت المُمل المُطبق عليهما:
_”عـهد” أنا مش أناني ومش عاوز أقلل من ضيقك مني، بس والله أنا ليا أسبابي ومعملتش كدا فراغ مني، الوضع ساعتها كان متأزم، وأنا في اللحظات دي بخرب الدنيا كلها، ساعات الإنسحاب بيلحق النار قبل ما تطول الكل، لو تديني فرصة بس أنا هفهمك كل حاجة.
لاحظت هي الصراع الناشيء في كلماته وتردده وحينها تنهدت بقلة حيلة ثم هتفت بنبرةٍ مقتضبة تحاول من خلالها عدم الاستماع لقلبها الخائن الذي طالبها بالإستماع إليه:
_وأنا متهمتكش بحاجة ولا عاتبتك، أنا ساكتة وياريت تسكت أنتَ كمان دماغي صدعت، وركز في طريقك خلينا نوصل بسرعة.
أندفعت في حديثها ثم وضعت رأسها على النافذة الزجاجية تهرب من الرغبة المُلحة بداخلها وهي تطلب منها الصراخ في وجهه ومعاتبته وإخباره كيف عانت في رحيلهِ، كيف بحثت عنه كل ليلةٍ تراودها بها الكوابيس القاتلة، أرادت إخباره كيف كانت تنتظر منه العودة بلهبٍ مشتعلٍ أخمده الوقت ليتحول إلى إنتظار مكالمة هاتفية فقط يُطمئنها عليه، ليتبخر الأمل وتنتظر منه فقط سماع أي خبرٍ يُطمئن قلبها.
أما هو فهو يعلم أن موقفها يختلف عن موقف أمه وعن حال شقيقته، وذلك لأن مكانته لديها تختلف عن البقية، لكنه أيضًا فعل ما فعله لأجلها حتى لا تخسره للأبد، لحظة واحدة هي الفيصل بينه وبين إخبارها الحقيقة لكنه خشى أن تكرهه بهذا الفعل، لذا كف عن التحدث هو الآخر لاعنًا نفسه وحظه وعائلته المزعومة التي تقوم حياتها على تدمير حياته.
وصل بالسيارة إلى حارة “العطار”
ووجدها تترجل من السيارة هربًا من البقاء معه فيما تابعها هو بعينيهِ تاركًا لها حقها في التنفيس عن ضيقها وغضبها منه وقد ترجل هو من السيارةِ فوجد “أيـوب” أمامه يتوجه إلى المسجد وهنا أتت اللحظة الأغرب وهي لقاءهما معًا، حيث التفاجؤ من جهة “أيـوب” و القوة الكاذبة من جهة “يوسف” ليطوف اللقاء الأخير بينهما في ذاكرتهما وأول من قطع الصمت كان “أيـوب” الذي هاتفه بإقتضابٍ:
_كويس إنك رجعت، حمدًا لله على سلامتك.
هتف جملته ثم تجاوزه تمامًا مما أدى إلى تعجب “يـوسف” الذي تابعه وهو ينسحب من أمامه وكأنه أتى أرضٍ لم يرغبه أهلها، وفي الحقيقة هو وصل لأشد تعبه ويحتاج للراحة قبل أن يتوجه إلى بيت “نَـعيم” ويقضي يومه هناك، وقد صعد إلى الأعلى ومع خروجه من المصعد وجد “أسماء” تحتضنه وهي ترحب به بحفاوةٍ شديدة وقد استسلم هو لها وابتسم رغمًا عنه فوجدها تبتعد عنه وهي تقول بلهفةٍ:
_نورت بيتك، رغم إنك ندل وفيك عرق ندالة من عمك “عاصم” بس الطبع غالب وأكيد أصل “مصطفى” ظهر فيك، بقولك إيه ريح شوية ونام وهتصحى تلاقي أحلى ورق عنب وفراخ محشية وكل الصواني اللي بتحبها، هو إحنا عندنا أعز منك؟.
ضحك لها وكأنه يعود من جديد الفتى المُدلل في هذه العائلةِ ثم لثم جبينها وشكرها وتحرك نحو شقتهم ليجد شقيقته أمام المرآة الكبيرة تقوم بتمشيط خصلاتها فتذكر الخطاب المتروك منه لهم وأقترب منها يقف خلفها وهتف مبتسمًا:
_خوفت أرجع ألاقيكي عملتيها وقصتيه.
ضحكت له في المرآة ثم رفعت ذراعها تناوله فرشاة الشعر ولازالت توليه ظهرها فابتسم هو لها ثم سحب الفرشاة من كفها وبدأ في تمشيط خصلاتها يتذكر طفولته حينما ولدت وكيف أثارت خصلاتها فضوله ونالت إعجابه، فقد قضى كل طفولته يهتم بهذه الصغيرة وكل ما يخصها، أما هي فترقرق الدمع في عينيها لمجرد إحتوائه لها بكل ذلك الدفء ثم التفتت له تطالع وجهه لتتأكد أنه من جديد هنا، وقد فهم هو سبب نظراتها وقرأ تعابير وجهها فأضاف بنبرةٍ هادئة:
_ هنا، أنا هنا وإن شاء الله مش هسافر ولا همشي تاني، أعتبريه كان ظرف استثنائي وخلاص راح لحاله، أو شغل ضروري أضطريت أوافق عليه قبل ما أخسر الشغل خالص، بس أنا عشمان إنك تفهميني وتسمعيني، أنا لما سافرت كان غصب عني ومش بإرادتي ولما وصلت هناك معرفش إزاي خدت القرار دا، أنا ساعتها كل حاجة كانت ضدي حتى أنا نفسي، ممكن متزعليش مني؟.
هتف بجملته الأخيرة كأنه يسترضيها فيما تحولت ملامحها إلى الحنين له وهتفت بلهفةٍ:
_كنت زعلانة وناوية على زعلي كتير، بس لما شوفتك قدامي مقدرتش أمسك نفسي، كأني ما صدقت ألاقيك، مقدرش أزعل منك على فكرة، أنا بحبك وبخاف عليك كأنك ابني الصغير والله، علطول ببقى عاوزاك قدام عيني وتقف قصادي وماشوفش حد بيزعلك، يبقى إزاي أزعل منك؟.
حسنًا هو وُفِقَ حينما أختارها الجُرم الصغير والكويكب الآمن والقمر المؤنس والرفيق الأول والفتاة الأولى في حياتهِ لذا لم يدخر جُهدًا في إظهار حبه لها حينما ضمها بين ذراعيهِ ومسح على خصلاتها برفقٍ مُمنيًا نفسه بلحظاتٍ هادئة برفقتها.
__________________________________
<“ليس الوجع في الأيام الأولىٰ، بل هو يسكن للأبد”>
الوجع المقترن بسكينٍ حاد تنهش في الروح وتفتك بالمرء وقوته ما هما إلا صورة أخرى من وحشٍ يساور المرء في أضعف لحظاته، وهنا يجلس أحدهم في حالة مُزرية شارف خلالها على دخول فترة إكتئابٍ حاد حيث المشفى الإستثماري، وقد أنهى الطبيب فحص “نـادر” الكُلي واستكشاف حواسه وكفاءة عملها، ثم هتف بنبرةٍ عملية يغلب عليها الطابع الدبلوماسي وكأنه أكتسب الخبرة من عملهِ:
_تمام كدا يا سيادة القبطان، إن شاء الله فترة بسيطة وتعدي كل حاجة، هي كدمات بس محتاجة رعاية وإهتمام وبلاش حركة كتير علشان ميحصلش مُضاعفات، وياريت أي إنفعال أو غضب بلاش منهم، بالنسبة للآشعة تمام هي بس القدم اليسرى محتاجة فترة أطول في الجبس، وبعدها ممكن نلجأ للعلاج الطبيعي، ألف سلامة على حضرتك.
أومأ موافقًا بصمتٍ وتابع بعينيهِ إنسحاب الطبيب من المكان ثم عاد يطالع أمـه الجالسة في ركنٍ بعيدٍ عنه تقرأ في كتاب الله، وكأن الإمتنان أضحىٰ مرسومًا على وجهها، فزفر هو بقوةٍ وأرجع رأسه للخلف فوجد زوجته تدلف له وهي تطالعه بوجهٍ باهتٍ جعله يُمعن نظراته في وجهها حينما أعاد رأسه يطالع من دلف الغرفة وقد وقفت هي بقربه تهاتفه بنبرةٍ غلفها الحزن:
_أنا سألت الدكتور وطمني عليك، كلها حاجات بسيطة ونخرج من هنا خالص.
حرك رأسه موافقًا بصمتٍ فيما طالعت هي ساعة معصمها ثم استأذنت منه في الرحيل لكي تتابع العمل المتراكم فوق بعضهِ ثم تعود إليه من جديد، وحينها شعر بخيبة الأمل من جديدٍ كونها تفضل كل الأشياء المادية على مشاعرهِ، لذا تنهد بثقلٍ وكأن أوجاعه النفسية فاقت أوجاعه الجسدية فوجد أمه تقترب منه وهي تحاوط كفه بكفها ثم هتفت بنبرةٍ طغت عليها العاطفة:
_مالك يا حبيبي؟ مش الدكتور طمنَّا عليك؟.
حرك رأسه موافقًا وكأنه أصبح يعتمد هذا الرد على الجميع حتى مسحت على خصلاتهِ وشطر وجههِ فوجدته يهتف بنبرةٍ مُحشرجة:
_ممكن أشرب مياه؟.
أومأت هي له بلهفةٍ ثم أتت له بالمياه فيما أرتشف هو مافي الكوب بأكملهِ ثم سحب حافظة نقوده وأخرج منها الصورة التي كان يخفيها خلف بطاقاته الإئتمانية، وكانت الصورة له برفقة خاله “مصطفى” قبل وفاته بعدة أشهر وحينها ترقرق الدمع في عينيهِ حينما تذكر الموقف الذي يحفظه بداخلهِ له
(منذ عدة سنوات كثيرة)
في بيت “مصطفى”…
هذا البيت القديم الكلاسيكي الذي شابه التُحفة الفنية بكل مافيه، كان “نـادر” في البيت يقضي اليوم برفقة أسرة خاله يلعب ويلهو مع “يـوسف” حتى تشاجر معه الآخر ومنعه من الإقتراب من شقيقته التي بكت بسببهِ، وقد ذهب “نـادر” إلى خاله يشكو له صغيره فنادىٰ عليه والده حتى حضر إليه الآخر يحمل شقيقته بين ذراعيه متخذ وضع الهجوم:
_أنا معملتش حاجة هو اللي لعب بغباء وخلاها تعيط، وأنا قولتله مش هيلعب معانا علشان لعبه غبي، أنا مش بحبها تعيط، زي ما أنتَ مش بتخلي عمتو “فاتن” تعيط.
ابتسم له “مصطفى” رغمًا عنه ثم أخذ الصغيرة من على ذراعيهِ لتتشبث هي به ضاحكةً فيما هتف هو بنبرةٍ هادئة اصطبغت بالحكمةِ:
_شوف بقى أنت وهو، أنا بزعل لما ألاقي واحد فيكم زعلان من التاني علشان أنتوا أخوات، مالكوش غير بعض، لو واحد فيكم حصله حاجة التاني يسنده ويمسك أيده، “قـمر” أخت ليكم أنتوا الأتنين، وأنتَ يا “يـوسف” عارف إنك بتحبها أوي لدرجة إنك بتغير عليها مني، بس مينفعش تزعل أخوك منك، وهي كمان لما تلاقيك بتعمل حاجة هتكبر وتعمل زيها، يبقى تكبر وتلاقيك بتحب أخوك، وعرفه بهدوء إن دي صغيرة ليها تعامل تاني، أتفقنا؟.
أومأ له “يـوسف” ضاحكًا فيما هاتف “مصطفى” الصغير الثاني بنفس الحكمةِ:
_وأنتَ يا “نـادر” أنا عاوزك تكون أخ ليه، تقف في ضهره وهو يقف في ضهرك متخليش حد أو أي حاجة تفرق بينكم، لأن الإنسان مننا لازم يلاقي حد في ضهره يقويه ويساعده، وأنتَ أنا سايبلك “يـوسف” وعاوزك تكون معاه برضه، ووعد هو مستحيل يخلىٰ بيك، يلا أحضنوا بعض وسيبولي البت دي أحضنها أنا.
بادر “يـوسف” بإحتضان الآخر مبتسم الوجه فيما ابتسم “نـادر” له هو الآخر شاعرًا بسعادةٍ بالغة كونه يلقى هنا الإهتمام والحب على عكس بيته الممتليء بالصوت العال وعنف والده في بعض الأحيان وبث الكراهية بداخلهِ حقدًا على خاله وأسرته التي يحبها هو ويعشق كل أفرادها.
(عودة إلى هذه اللحظة)
خرج من شروده على وخز الدموع في عينيهِ والقشعريرة التي سارت بجسدهِ كونه شعر بالذنب لما أقترفت يداه في حق خاله وابنه، وكأنه تعمد أن يفعل العكس في كل ما أملاه عليه، وحينها تمنى أن يموت حقًا ويقابل خاله، لكن هناك سؤال لاح في أفقه يذكره بالكارثة الكُبرى هل لحظةٍ مثل هذه استعد لها؟ هذا الذي شارف على لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يخرج من ملهى ليلي!! ها هو وجعٌ جديدٌ يُضاف إليه ليتمكن منه اليأس أكثر.
__________________________________
<“رحلة قصيرة للحياة مع من أعطونا الحياة”>
بعد مرور عدة ساعات أخرى تحديدًا وسط النهار وقف “أيـوب” في بيتهِ يُتمم على الغرفة الخاصة بالجلوس حيث اسقبال ضيوفهم فيها بعد قليل، ثم وضع حُلوان الاستقبال على الطاولةِ فوجد كفًا صغيرًا يحاول خطف قطعة منهم فأمسك ذلك الكف وضغط على شفته السُفلى يهتف بغيظٍ منه:
_ياض أنتَ بتموت في الحرام؟ ما تاخد من جوة.
ضحك “إيـاد” رغمًا عنه هاتفًا بمزاحٍ يشاكسه به:
_والله الحاجات دي طول ماهي مسروقة بتكون أحلىٰ، لو بمزاجي مش بتكون حلوة، واحدة بس مش عاوز حاجة تاني، دا أنا زي ابنك يعني.
تركه “أيـوب” يفعل ما يريد فيما خطف الصغير قطعتين ثم ركض من المكانِ نحو الخارج وقد دلفت “نِـهال” للآخر تسأله بإهتمامٍ:
_أجهز الأكل ولا لسه؟ خايفة نتأخر.
أنتبه لها وهتف بنبرةٍ هادئة يُعطيها الموافقة الأكيدة:
_لو مش هنتعبك جهزي، هو عامةً “تَـيام” قالي مش هيتأخروا وأخوه شوية وهييجي ومعاه الحج، جهزي.
ابتسمت له وتحركت من أمامه فيما ترك هو الغرفة وتوجه للخارج ينتظر قدوم “نَـعيم” وأبنائه وقد جاوره والده ثم ومعهما “إيـاد” بينما في الداخل أثناء إنشغال “نِـهال” بما تفعل بعد خروج “وداد” لأداء فريضة الصلاة شعرت به يأتي من خلفها وقبل أن يبدأ مشاكساته معها التفتت تحذره بالملعقة وهي تلوح بها:
_بص أنا متوترة ومبعرفش أنشغل عن حاجة أنا بعملها، سيبني أركز وخليني في حالي لحد ما أخلص.
أقترب منها أكثر بطولهِ الفاره يفرض هيمنته عليها وهتف بنفس المراوغةِ يشاكسها:
_طب مش عيب تنشغلي عني؟ أنا جعان.
تنهدت هي بقلة حيلة ثم أمسكت قطعة من المعكرونة ووضعتها بداخل فـمهِ فأمسك هو كفها أثناء تناوله الطعام فضحكت هي رغمًا عنها يائسةً من أفعاله المتصابية وقد دلفت شقيقته وما إن رآتهما شهقت بخجلٍ منهما حتى ألتفت هو لها يسألها بتهكمٍ:
_لأ دي بتأكلني مش وخداني في حضنها، عاوزة إيه؟.
كانت “نهال” تركت ما تمسكه فيما أقتربت منهما تبعده عن زوجته وهي ترمقه باستخفافٍ جعله يتوعد لها بنظراتهِ ثم هتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_طب ورب الكعبة صبرك عليا، ليلتك تخلص وحماكِ يمشي وهرنك علقة؟ علشان تحربقي كويس، يا حقودة.
ضربته “آيـات” في كتفه وقبل أن يقترب منها وجد زوجته تقف أمامه بالمرصاد وهي تدافع عن شقيقته ورفيقتها الجديدة بقولها:
_بقولك إيه؟ إيـاك تقرب منها، روح شوف حالك وخلينا نشوف حالنا، يلا ربنا يكرمك يا سيدي، أتفضل بقى.
في الخارج وقفت سيارة “نَـعيم” التي تولى قيادتها “مُـحي” وبجواره جلس شقيقه وفي الخلف والدهما يرتدي حلة رمادية داكنة اللون، ثم نزلوا من السيارة تباعًا ليرحب بهم “عبدالقادر” الذي فرح لأجل رؤيتهم معًا، ثم فعل أبنائه نفس الشيء بعدما جاورهما “أيـهم” وابنه معه.
وبعد تبادل الترحاب بينهم جلسوا جميعًا في غرفة الجلوس المُخصصة لذلك، وتلك هي المرة الأولى التي جلسوا فيها سويًا بصفة رسمية وودية نشأت عن علاقة نسبٍ بينهما وقد جلس “تَـيام” يبحث عنها بعينيهِ وكأنه طفلٌ صغيرٌ ذهب إلى مدرسته وظل يفتش عن رفيقه المفضل وسط غُربته، وهو نفس الإحساس لديه حينما بحث عن من ينتمي إليها هنا، وقد منت عليها هي بظهورها تحمل في يدها العصير للجميع، كانت ترتدي فستانًا باللون الأزرق البترولي والحجاب باللون البيج فوقه يتلائم مع رقة ملامحها وتلقائيًا وجد نفسه يبتسم بظهورها وهي تخفي عينيها عنه وعن الجميع بخجلٍ طغى عليها.
وضعت ما تمسكه بكفيها ثم ألقت التحية بنبرةٍ خافتة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كان يتابعها “نَـعيم” بعينيهِ ولم يمنع نفسه من الفخر الذي ظهر على ملامحه برؤيته لها، أو بالأحرىٰ اختيار ابنه لمثل هذه الجوهرة الثمينة، لذا وقف أمامها وهتف بنبرةٍ لم ينفك عنها الإعجاب الصريح بما ترى عيناه:
_بسم الله ما شاء الله، دي أول مرة أشوفك فيها، وشكله الواد دا خبيث مش زي ما باين عليه إنه طيب، طلع سارق كنز غالي ليه لوحده، ربنا يبارك فيكِ ويحفظك، طبعًا عارفة أنا مين صح؟.
أومأت موافقةً له وهي تبتسم بخجلٍ بعدما استمعت لإطرائه عليها فيما تولى هو مهمة التعريف من جديد يعرفها بنفسهِ وبابنه الآخر:
_دا يا ستي “مُـحي” ابني الصغير وأخوكِ الصغير برضه، وأنا “نَـعيم الحُصري” حماكِ ووالد “تَـيام” ابني الكبير، إنما أنتِ بقى فبنتي الكبيرة اللي كنت بتمناها من ربنا بعد إذن الحج “عبدالقادر” طبعًا، مع إني مقدر إنهم يخافوا عليكِ ويحبوكِ بزيادة، أنا لو عندي بنت زيك كدا هستخسرها في ضي العين.
توسعت بسمتها أكثر وأخيرًا رفعت وجهها الذي داهمته الحُمرة وهتفت بنبرةٍ هادئة تعبر عن مدى عمق أخلاقها:
_أنا شرف ليا أتعرف على حضرتك، وزي ما حضرتك قولت أنا بنتك ودا شيء يشرفني ويسعدني كمان، والحمدلله ربنا كرمنا كلنا بفرصة تانية علشان العيلة دي تاخد فرصة كلها مع بعضها، حضرتك نورت البيت وحضرتك يا أستاذ “مُـحي” أتشرفت بمعرفتك.
صُدِمَ “مُـحي” من حديثها وطريقتها ولولا أخلاقها الظاهرة عليها لكان ظنها تسخر منه لكنه سرعان ما ذكر نفسه أنها شقيقة “أيـوب” ومن المؤكد أن أخلاقها ستكون مُطابقة لأخلاقه، بينما “تَـيام” فنظراته وحدها تكفي وهو يفخر بها ويزهو في نفسه لإختياره لها ومن ثم جلست على المقعد المجاور له وهي تبتسم بخجلٍ لاحظه “أيـوب” الذي صدح صوت هاتفه برقم أحد أصدقائه القُدامى فأنصرف بتركيزه عن البقية لكي يجاوب على مكالمته بعدما استأذن منهم.
__________________________________
<“نحن أحبتك المقربون أشتقنا لكَ”>
كانت “سمارة” تجلس في فناء البيت الرملي برفقة “نـور” التي أصبحت تأتي لها في كل يومٍ تقريبًا تجلس برفقتها وتهتم بنظامها الغذائي وطعامها بما أنها متخصصة في علم النباتات والأعشاب، بينما الأخرى فالوضع بأكملهِ كان جديدًا عليها حيث الرعاية والإهتمام المبالغ فيهما من قبل الجميع منذ معرفتها خبر حملها.
وقد جلست معهما “جـودي” وهي تتناول الحلوى الخاصة بها حتى هتفت “نـور” تستفسر منها صحتها بقولها:
_ها أخبارك إيـه؟ بتشربي البنجر ولا لأ؟.
أمتعض وجه “سـمارة” على الفور وهتفت بحنقٍ:
_ياختي أسكتي بقى، بشربه كل شوية على الريق وقبل ما أنام وفي العصير كمان، وكأنهم ما صدقوا كلهم سمعوا كلامك، أوعي تكوني بتجربي فيا، مش هسامحك.
ضحكت “نـور” لها بملء شدقها فيما صدح صوت هاتفها برقم “شـهد” فأضطرت للجواب عليها لتجد الأخرىٰ تهتف بنبرةٍ شبه باكية:
_الحقيني يا “نـور” أنا طلعت حامل في شهرين.
في مكانٍ آخرٍ تحديدًا على الطريق…
كان “إسماعيل” يقود سيارته نحو البيت وقد جاوره شقيقه “إيـهاب” الذي أغمض عينيه بسبب الصداع الذي داهمه وظل بفرك بكلا إصبعيه جبينه حتى صدح صوت شقيقه يتحدث بنبرةٍ ملهوفة خائفة:
_إلحق يا “إيـهاب” فيه واحدة مرمية على الطريق.
فتح الآخر عينيه مفرقًا مابين جفونه وهو ينظر من المرآة على ما يتحدث عنه شقيقه وقد رآى بالفعل فتاة ملقاة على الطريق فتشدق بسخريةٍ:
_دوسها.
ألقى الكلمة بغير مبالاةٍ جعلت شقيقه يُحملق النظر فيه بعينين مُتسعتين على رد فعله الغريب، فيما أضاف هو مفسرًا:
_اسمع مني ودوسها، آخر مرة قولتلي فيه واحدة على الطريق لبست فيها وبقت مراتي، خلاص يا حبيبي قلبي مفيهوش مكان تاني، ولا حتى بيتي، توكل على الله ودوسها.
علم “إسماعيل” أن شقيقه بلغ التعب عليه أشده لذا أوقف القيادة وترك السيارة ثم أقترب منها يتفحصها بخطى متمهلة وما إن رفع كفه يزيح خصلاتها ليكشف عن وجهها وجدها تمسك ذراعه بقوةٍ ثم هاجمته فجأةً حتى أنتبه “إيـهاب” لما يحدث وراقب شقيقه ورغمًا عنه ضحك ساخرًا ثم ترك السيارة وجلس على مقدمتها وهو يستمع لشقيقه الذي قاوم تلك الشقراء وكبل حركاتها وهتف بأنفاسٍ متقطعة:
_وليه الغباء يا مُـزة؟.
قاومته من جديد ودفعته بعيدًا عنها تحت أنظار “إيـهاب” الساخرة وكأن ما يشاهده هي مسرحية يعلمها جيدًا لذا أقترب خطوة واحدة ثم سحب شقيقه يوقفه خلفه، أما عن تلك الشقراء فهي ضربة واحدة منه كفهِ جعلتها تسقط أرضًا فيما هتف هو بنفاذ صبرٍ ساخرًا:
_جامدة بس غبية.
ألقى الجملة وألتفت لشقيقه وقبل أن يتحدث وجد مجموعة سيارات تقترب منهما وكأنها حربٌ أُعلنت عليهما وفي هذه اللحظة أمتن هو لألم رأسهِ الذي جعله يرحل مع شقيقه ليقفا سويًا هُنا في إنتظار حربٍ شارفت على البدء، وهاهي تُقرع طبول الحرب.
____________________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)
حلوة
حلوه