روايات

رواية غوثهم الفصل السابع والتسعون 97 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السابع والتسعون 97 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السابع والتسعون

رواية غوثهم البارت السابع والتسعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة السابعة والتسعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني عشر_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
“وإذا نظرتَ إلى السماءِ مُناجِيًا
ورجوتَ ربَّكَ أن يُحقّقَ مأملَكْ
فرأيتَ ما لم ترتجيهِ مع الدعا
وظننتَ أنّ الحُزن أطفأ مِشعلَكْ
لا تجزَعنَّ من الحياةِ وضيقِها
حاشاهُ رحمن السما أن يخذُلكْ
ولو اطَّلعتَ على الغيوبِ ولُطفِها
لعلِمتَ أنَّ الخيرَ فيمَ اختار لكْ”
_”مقتبس”
__________________________________
لن أعتذر عما سأقول..
لكن هذا العالم قاسي ممتليء بالأوغاد، والجميع هنا يسيرون خلف بعضهم كما القطيع في الغاب، رأسهم فارغة وعقولهم مُنطفأة وكأن الأرض أضحت ملكًا لهم، فلم يكلف أحدهم نفسه عناء البحث عن الحقيقة؛ عداي أنا..
فأنا دومًا استثنائي عن الجميع، أعرف ما يُساير شخصي، ويُرضي قلبي ويملأ عيني، أعرف جيدًا من أنا، ومن هُم ومن بين الجميع أُحبكِ أنتِ، لا غيرك ولا حتى إحداهن من قبلكِ، أنتِ وفقط شبيهة القلب، وطارفة العين، أنتِ من لا يوجد شبيه لكِ ولا حتى نعلم مداراتك تذهب بنا إلى أين..
لكن ما أعرفه أن الجميع أصحاب عقولٍ من قسوتها تحتاج لضربها، وأنتِ وحدكِ من وجدنا المواساة والنجاة في حُبها، كما أستقرينا من بعد شتاتنا ووجدنا الأُلفة في دربها، ومن جديد دعيني أخبر العالم، أنني أكثرهم حظًا فأنني رُزقت حُبها وتركت لكم ساحات القتال لكي أهنأ بقربها.
<“لم نسير حسب إرادتكم، من الأساس من أنتم؟”>
صاحب الإرادة الحُرة لم يقبل أن يكون كما اللُعبة في أيد الأغبياء، بل يسير خلف صوته وفقط ووفقًا لإرادته القوية، أما هؤلاء الذين يشبهون عرائس الماريونت فآخر ما يتم صنعه بعد عملهم أن تُصفق لهم الكفوف وهي تراهم بعين الوصف والإعتبار مُجرد لُعبة وليس إلا، أما هُنا، فلا مكانٍ لإرادة غير أرادتنا، ولا صوتٌ يعلو على صوتنا، نحن أرضٌ تجذب الناس إليها، والجميع أضحى يعرف عننا..
علم “إسماعيل” أن شقيقه بلغ التعب عليه أشده لذا أوقف القيادة وترك السيارة ثم أقترب من الفتاة المُلقاة أرضًا يتفحصها بخطى متمهلة وما إن رفع كفه يزيح خصلاتها ليكشف عن وجهها وجدها تمسك ذراعه بقوةٍ ثم هاجمته فجأةً بشراسةٍ مُقاتلة حتى أنتبه “إيـهاب” لما يحدث وراقب شقيقه ورغمًا عنه ضحك ساخرًا ثم ترك السيارة وجلس على مقدمتها وهو يستمع لشقيقه الذي قاوم تلك الشقراء وكبل حركاتها وهتف بأنفاسٍ متقطعة:
_وليه الغباء يا مُـزة؟.
قاومته من جديد ودفعته بعيدًا عنها تحت أنظار “إيـهاب” الساخرة وكأن ما يشاهده هي مسرحية يعلمها جيدًا لذا أقترب خطوة واحدة ثم سحب شقيقه يوقفه خلفه، أما عن تلك الشقراء فهي ضربة واحدة من كفهِ جعلتها تسقط أرضًا فيما هتف هو بنفاذ صبرٍ ساخرًا:
_جامدة بس غبية.
ألقى الجملة وألتفت لشقيقه وقبل أن يتحدث وجد مجموعة سيارات تقترب منهما وكأنها حربٌ أُعلنت عليهما وفي هذه اللحظة أمتن هو لألم رأسهِ الذي جعله يرحل مع شقيقه ليقفا سويًا هُنا في إنتظار حربٍ شارفت على البدء، وهاهي تُقرع طبول الحرب، حرب الخصوم فيها لم يتواجد في قاموسهم الشرف، ولا تُعرف عنهم النزاهة، وقد فهم “إيـهاب” أن هذا ماهو إلا فخًا صُنعَ لهما سويًا، وبالطبع فهم من تسبب في ذلك لذا تلقائيًا حرك ذراعه للخلف يمسك شقيقه ويتصدر مقدمة المعركة مثل الرادع الذي يحمي حوائط القصر الملكي..
حينها نزلوا عدة رجال من السيارة يترأسهم ذاك المزعوم باسم عضو مجلس الشعب ووقف أمام الآخر يتشدق بنزقٍ:
_مش معقول “عمهم” بنفسه؟ الليلة كانت معمولة لأخوك لوحده، بس بصراحة منور وكالعادة بوظت الليلة.
ابتسم “إيـهاب” بزاوية فمهِ وتحدث بسخريةٍ تهكمية وهو يشدد مسكة ذراعهِ لشقيقه يتأكد من حمايته من أي غدرٍ قد يطوله:
_معلش جت على الضيق، بس مش قديم الحوار دا؟ كل ما تحتاج تسيطر واحد ترميله واحدة على الطريق وتهدده إنه يسمع كلامك يا يتبلغ عنه؟ جدد شوية، متبقاش حمار وكمان خايب مع بعض.
حسنًا هو يعرف كيف يفرض هيمنته على الجميع، يعرف كيف يدير الحوار دون أن يستطع غريمه أخذ ما يريده منه، ولذا أقترب منـه الآخر أكثر وهتف صراحةً بدون حتى تورية لمقصد كلماته:
_بص يا ابن الناس، بلاش تقف قصاد حد أنتَ متأكد إنك مش قده، وكلنا مش قده، متبقاش أنتَ غبي وتضيع من إيدك فرصة زي الشهد، مش هتخسر أي حاجة بالعكس هتكسب كتير أوي، أخوك عنده اللي مش عند حد، ربنا رزقه بكنز وهو دافنه وقافل عليه، عارف لو منك؟ أعمل زي أبوك، كان ناصح وعرف يكسب دهب من ورا أخوك.
من جديد هناك جرحٌ يتوسط القلب وكأن حياته ناقمة عليه وعلى راحته، كلما حاول تناسي ما يُعاني منه عاد الماضي يتجسد في هيئة عصابة مثل هذه تود التحكم به، هكذا فكر “إسماعيل” الذي وقف خلف شقيقه فيما تصدى “إيـهاب” لهم يتولى مهمة الدفاع لأجل شقيقه هاتفًا بنبرةٍ محتدة:
_وأنا أخويا مش للتجارة، ورسالتك وصلت إنك تقدر تقرب منه في أي وقت، بس وربنا اللي خلق الخلق كلهم، في ساعتها راسك هتكون تحت رجلي وبدوس عليها، أنتَ واللي معاك، واللي حصل دا أنا هعتبره موقف خايب طلع من عيل هلهولة ميعرفش الأصول، ومش هرد عليه، علشان ردي أكبر منك أنتَ وعيلتك كلها.
تواجده في هذه اللحظة هو ما أدى إلى تدمير المُخطط بأكملهِ، وبالطبع أكثر من ذلك ستصبح حربًا على شيءٍ مبهمٍ فالأفضل إنسحاب أحد الطرفين ويُفضل أن يكون إنسحاب الخصم الضعيف، لذا تحرك الآخر برجالهِ نحو سياراته، لكن قبل أن ينطق أشار على الفتاة وهتف بنزقٍ:
_على فكرة البت دي كانت عاوزة توصلكم، معاكم أهـيه.
رمى حديثه وركب السيارة بعد إفساد مخططاته وما كان يترتب على ذلك لكن ظهور المُلقب بـ “عمهم” تسبب في إفساد كل شيءٍ يطول شقيقه، فيما نظر كلاهما للآخر يُمعنان ويرهفان حواسهما لجملته في نفس لحظة تحرك الآخر يترك لهم ساحة القتال، وقد زفر “إيـهاب” بقوةٍ يُخرج أنفاسه المكتومة بغضبٍ والتفت لشقيقه الذي ظهر اليأس على ملامحهِ وما إن تلاقت النظرات القوية بالأخرى الشاكية ضمه “إيـهاب” بأحد ذراعيه ومسح على ظهره بالآخر وهتف بنبرةٍ مبحوحة بسبب تباين مشاعره مابين القلق والضيق:
_أنا معاك متخافش، في ضهرك علطول.
أغمض “إسـماعيل” جفونه وضم شقيقه هو الآخر وكأنه ملاذه الآمن وهتف بنبرةٍ ضائعة كحالهِ المُشتت تمامًا:
_ودا اللي مطمني إنك معايا.
ابتسم “إيـهاب” ثم عاد للخلف يُناظر وجه شقيقه ثم تحدث بمزاحٍ يُلطف الأجواء بعدما مسح على ظهره:
_مش قولتلك دوسها؟ مبتسمعش كلامي ليه؟.
ضحك “إسـماعيل” يائسًا وكذلك شاركه شقيقه الضحكات حتى أنفكا عن بعضهما وأقترب “إيـهاب” من السيارةِ مُجددًا بينما “إسـماعيل” أمعن نظره في وجه الفتاة المُلقاة أرضًا ثم سأله من جديد نفس السؤال:
_هنعمل إيه في الجثة؟.
التفت له شقيقه بنفاذ صبرٍ يعطيه نفس الجواب:
_ما قولتلك دوسها، عامل حوار ليه؟.
من جديد يفقده أعصابه بلامبالاته حتى زفر “إسـماعيل” حانقًا باستياءٍ ونظر للفتاةِ وهو يفكر فيما يفعله معها، وقد أنقسم لشطرين كلًا منهما يطلب منه شيئًا مُغاير للآخر، حيث الأول أخبره أن يتركها حتى لا يطوله منًا ولا أذى منها، والثاني أنساق خلف حِمية الشهامة يخبره أن السوء قد يُلاحقها إذا تركها هُنا وسط الطريق، وقد أتى “إيـهاب” يقف بمحاذاته ليسأله شقيقه بعينيهِ، فأعطاه تلك المرة الجواب حاسمًا بعدما أشعل سيجارته:
_لفها لفة هدايا وهاتها لأخوك “مُـحي” الواد شقيان طول الليل وبيذاكر.
ومن جديد يضحك شقيقه بنفس اليأس ليشاركه هو الآخر الضحكات وكأن المصائب لهما غدت أمرًا إعتياديًا وسَهُلَّ عليهما التعامل معها والعيش فيها، تلك المصائب التي دون سببٍ معلومٍ لكنها أضحت فرضًا عليهم جميعًا والهدف فقط هو التمسك بهويةٍ صاحبها لازال حيًا.
__________________________________
<“لا يستحق فرصة من أنصاع خلف القطيع”>
بعض المواقف تُفرض على المرء، فينتج عنها التصرفات الإجبارية التي قد يكون رافضًا الإنسياق خلف فعلها، كما أن هناك بعض العلاقات تُفرض على الإنسان ويصعب عليه التخلص منه، لطالما كان الأصل في سجية الإنسان أن يكون عطوفًا، فينتج عن ذلك مالم يقو هو على تجاوزه…
خرجت “نـور” من بيت “نَـعيم” بعد وصول المكالمة الهاتفية لها من رفيقتها القديمة، وقد خرجت بعد جدالٍ مع “سـمارة” التي رفضت أمر رحيلها ونصحتها بتهكمٍ:
_طب أمشي على مهلك تكون عربية شالتها ولا حاجة.
تركتها “نـور” آسفةً ورحلت من البيت مسرعةً نحو المكان الذي أخبرتها به صديقتها الباكية بإنهيارٍ حاد وقادت سيارتها بقلقٍ دُبَّ في أوصالها وكأن العشرة والأيام بينهما هي التي تتحكم في ردود فعلها، نعم قد يغضب “سـراج” ويثور عليها خاصةً أنها رحلت دون إخباره بعدما آكد عليها أن تنتظره، وبين خوفها من رد فعله وبين قلقها على الأخرى وقعت أسيرة في شتات أمرها حتى وصلت لأحد أماكن الاستراحات العامة على الطريق ودلفت المكان بخطواتٍ واسعة فوجدتها جالسةً بمفردها وأثر البكاء باديًا عليها، فأقتربت منها تجاورها في الجلوس وهي تسألها بلهفةٍ:
_مالك يا “شـهد”؟ ووشك أصفر كدا ليه؟.
أرتمت عليها الأخرىٰ تحتضنها باكيةً ثم هتفت بعدما ظهرت دموعها وسالت على وجنتيها بغزارةٍ:
_أنا حامل في شهرين، كنت خايفة دا يحصل، أنا كدا حياتي بتدمر يا “نـور” مستحيل حاجة تتصلح بوجود الطفل دا.
لم تفهم الأخرى منها شيئًا فابتعدت عنها تحاوط كتفها بأحد كفيها وسألتها بإهتمامٍ أعرب عن حيرتها في أمرها:
_إزاي يا “شـهد”؟ فيه واحدة تزعل إنها حامل؟ كل البنات بتفرح لما ربنا يكرمها برزق زي دا وبتحس إن مهمتها في الحياة بتكمل، بعدين مش يمكن يكون دا فرصة جديدة حياتك تتصلح بيها؟.
توقفت الأخرى عن البكاء ومسحت عبراتها وهي تقول بإصرارٍ ضارٍ وكأنها حسمت أمرها للنهاية:
_بالعكس، دا هيكون وسيلة جديدة أضعف بيها، الطفل دا هيكون سبب في تغيير كل حاجة للأوحش، أنا اللي غبية علشان أتسرعت، طفل جاي غلطة مش هسيبه يبوظ حياتي.
طالعتها “نـور” بحيرةٍ بعدما أنفرجت شفتاها عن بعضها بذهولٍ تقرأ تعابير الأخرى الذابلة ثم سألتها بتعجبٍ السؤال ذاته الذي جال بخاطرها وهي في طريقها إليها:
_هو إزاي حملتي وأنتِ قولتي إنكم بقالكم فترة على خلافات بينكم، بعدين هو أنتِ أصلًا بتاخدي حبوب منع الحمل؟.
داهمتها بُغتةً بأسألَتِها فيما نكست الأخرى رأسها للأسفل ثم هتفت بصوتٍ مُختنقٍ تُقر بما فعلت:
_من أول الجواز باخد حبوب منع الحمل، وللأسف مرة وسط خلافتنا نسيت الدوا وبطلت أخده، و”نـادر” أخر فترة كان مش مستقر وبيشرب كتير و…
توقفت عن الحديث حينما علمت أن الباقي خصوصياتها هي وزوجها وتركت حديثها مفتوحًا لتفهمه الأخرى التي ألتقطته دون التدخل في أي تفاصيلٍ أو مُزايدات، فهتفت بنبرةٍ هادئة بعض الشيء تظهر عليها الحكمة:
_أيًا كان اللي حصل، خلاص دي فرصة جديدة وربنا كرمك بيها، متنسيش إن “نـادر” لسه الحادثة مأثرة عليه، ولسه تعبان نفسيًا، يعني الخبر دا في وقته ليكم أنتوا الاتنين وأكيد هيفرح بيه، يبقى على الأقل تفرحي إن فيه حاجة هتساعده يتجاوز محنته دي وتبقى دافع ليه إنه يقوم من تاني.
كانت تحدثها بكلماتٍ داعمة لعل الأخرى عقلها يستجيب، فيما شردت الأخرىٰ فيما أصابها من تخبطٍ وتوترٍ وأنقلبت حياتها رأسًا على عقبٍ بهذا الخبر الذي أتى كما دخول الإعصار يقتلع الأشجار من جذورها ويَذهب بهدوئها ويُحكم الحصار عليها مُضيقًا عليها الخِناق وماحيًا الحرية من طريقها.
__________________________________
<“كنا ولا زِلنا معكم أنتم منا ونحن منكم”>
ليست كل المُفاجآت سيئة وليست كل الخيارات مُهلكة، فبالعض منها يشبه الرحمة من بعد عذابٍ، والبعض الآخر شفاء من بعد ألمٍ، ربما يجزع المرء من أيام عمره وكثرة صبره، لكنه بالطبع لم يعلم ما حُيْزَ لأجلهِ..
رحل “نَـعيم” بكلا ابنيه من بيت “العـطار” بعدما قضى تقريبًا نصف اليوم معهم ومع زوجة ابنه، كان حاله غريبًا يشبه حال الراحة التي يحصل عليها المرء في عطلة نهاية الأسبوع من بعد تعبٍ بلغ عليه أشده، ثم يعود لبيته ويتحمم وينعم بالراحةِ فوق فراشه في ملاذه الآمن، وهاهو من بعد عنائه حصل على الراحةِ أخيرًا مع الجزء الغائب من أصله المكتمل، لكن قبل رحيله ترك لهم حرية التفكير في مطلبهِ المُفاجيء الذي صدم الجميع..
فرغ البيت من الجميع وجلست “آيـات” في حديقة البيت شاردةً في مطلب حماها وتذكرت كيف رغم قوته وشموخه ظهر التوسل في نظراته وكأنه آخر آماله في الحياة، وتردد صوته ساحبًا صورته معه ليتواجدا نصب عينيها حينما تذكرت حديثه قائلًا:
_أنا ليا طلب منكم ومش عاوز أكتر من كدا، خلال شهر بس إن شاء الله يتم فرح “آيـات” و”تَـيام” ملهوش لازمة التطويل طالما عارفين بعض واللي كان معطل الدنيا خلاص، اللي تطلبوه يحضر لحد عندكم، وتختار اللي هي عاوزاه وأنا عيني ليكم، بس أنا مجهزله دور في بيتي ومتشطب وجاهز، وإن شاء الله ييجوا يسكنوا عندي في بيتهم، إن شاء الله حتى ييجوا آخر كل أسبوع، أنا راضي بأي حاجة، وتيجوا تنوروا المكان وتشوفوه، اللي تأمروا بيه أنا عيني ليكم.
كان حديثه عبارة عن كتلة أندفعت في وجوههم شتت حالهم وعلى رأسهم “تَـيام” الذي عجز عن الرد وعن المناقشة، ثم رفع عينيه يتوسلها بنظراتهِ لكي تُسعفه وكأنه بذلك يستجديها، لكنها لم تختلف عنه شتاتًا، بل حركت رأسها وكتفيها كأنها تخبره أنها لم تفهم ما يتوجب عليها فعله، وقد لاحظ ذلك شقيقاها ونظرا لبعضهما البعض، فتدخل “نَـعيم” يقضي على الصراع القائم بينهم وبين أنفسهم بقولهِ المتزن:
_أنا مفرضتش رأيي ولا بتحكم، أنا بس بقترح، أظن كلكم عارفين ظروفنا وإيـه اللي حصل، والعمر فات منه الكتير خلاص مبقاش فاضل قد اللي راح، عاوز بس ألحق أعيش مع ابني شوية وأشوفه فرحان مع اللي هو عاوزها قدام عيني يمكن دا يبرد نار قلبي شوية.
وقتذاك كلماته كانت كفيلة بشرح ما يود إخراجه من قلبهِ، أراد أن يخبرهم عما يجيش به صدره وعن النيران المُضرمة بداخل قلبه، أراد أن يخبرهم عن حاجته الشديدة لقضاء أصغر اللحظات مع صغيره، لكنه دومًا يتعامل برقيٍ، لذا ترك لهم فرصة للتفكير وترك القرار في يد “آيـات” نظرًا لأنها صاحبة الحياة المُقدمة، ولم يعلم أنه بذلك أثقل كاهلها أكثر ورفع مقدار شتاتها حتى تجلس شاردةً في هذه اللحظة وكأنها لم تخرج من قوقعة مقابلته.
أتت لها “نِـهال” تجلس بقربها وهي تضع الشاي لهما سويًا ومنها تتحدث معها في هذا الشأن الذي يبدو أنه أزادها شتاتًا فجذبتها الأخرى من قوقعة شرودها قائلة بتروٍ:
_لسه برضه محتارة؟ من ساعة ما مشيوا وأنتِ مسهمة.
أنتبهت لها “آيـات” وتنهدت بثقلٍ ثم رفعت ذراعيها تمسح على وجهها مرورًا بخصلاتها ثم ناظرتها وهتفت بصوتٍ مُشتتٍ:
_مش عارفة يا “نِـهال” أنا اتفاجئت وحسيت إن دي مسئولية جديدة عليا، بصراحة أنا حاسة بيه وعارفة إن مشاعره ملغبطة وبايظة ونفسه يقرب من “تَـيام” بس في نفس الوقت إحنا كنا مجهزين الشقة اللي هنا، والأهم إني معرفش المكان هناك عامل إزاي، ومش عاوزة أكون أنا زي الشوكة في الزور ليهم، فهمتي؟.
أومأت الأخرى بتفهمٍ وكأنها تؤكد لها فهمها لمشاعرها المُشتتة ثم أضافت من جديد بلهفةٍ كمن عثر فقيده:
_أستني، أنتِ ممكن تروحي تشوفي المكان ومعاكم فرصة أهو تفرشوا المكان مع بعض وتختاري اللي عاوزاه ودا حقك، أنتِ عروسة وليكِ الحق تختاري مكانك اللي يريحك، بس دي ممكن تكون فرصة لجوزك يقرب أكتر من باباه، والحواجز بينهم تتشال، بصي الأفضل صلي استخارة وربنا يكرمك ويراضيكِ.
حركت رأسها موافقةً فيما صدح صوت جرس البيت فتحركت “نِـهال” تفتحه للطارق بعدما تممت على غطاء رأسها فوجدت “تَـيام” أمامها وقد سألها بأدبٍ غاضضًا بصره عنها:
_”آيـات” صاحية؟ كلمتها بس مردتش عليا.
اشارت بدورها نحو الداخل وهي تهتف بنبرةٍ هادئة:
_آه موجودة، هي بس حاطة موبايلها جوة يشحن، أتفضل.
حرك رأسه موافقًا ثم دلف لها خلف “نِـهال” التي أرشدته إلى الداخل وما إن وصل ورفع عينيه يُلاقيها وجد نفسه يبتسم لها حينما رآها لأول مرةٍ بملابس بيتية رياضية باللون الوردي الذي لائم بشرتها البيضاء، ثم خصلاتها المتروكة بحرية تطاير مع نسمات الهواء، وقلبه المُتيم هنا يصرخ مُطالبًا بحقهِ كاملًا فيها، بينما هي انتفضت بخجلٍ تبحث عن أي شيءٍ تخفي به نفسها وكأنها لم تعتاد الأمر بعد، أو ترفض المبدأ ككلٍ، وقد تركتهما الأخرى معًا فتحدث يسألها حائرًا:
_مش هتقوليلي أقعد؟ أنتِ مالك مكسوفة كدا ليه؟.
رفعت رأسها له وحركت كتفيها فابتسم هو رغمًا عنه ثم سحب مقعدًا وجلس عليه وأشار لها بصمتٍ ثم جلست هي الأخرىٰ مقابلةً له فسألها هو بصورةٍ مُباشرة:
_هتعملي إيه؟ موافقة على الكلام اللي اتقال هنا؟.
رفعت عينيها الحائرتين له وحركت رأسها نفيًا بالسلب وكأنها تُزيد حيرته فزفر هو بِعمقٍ ثم هتف بنبرةٍ جامدة وقد خانه التعبير أثناء التحدث وكأن أعصابه ماهي إلا عُقدًا وأنفرطت حباته:
_يعني إيـه طيب؟ المفروض أعمل إيـه وأراضي مين؟ أيه اللي أنا بقيت فيه دا؟ “آيـات” علشان خاطري متصعبيش الموضوع عليا، أنا جايلك علشان تساعديني آخد القرار، ومش عاوزك تعملي حاجة غصب عنك ومش عاوز أزعل حد مني.
لاحظت هي إنفعاله وطريقته المُشتتة فاقتربت منه بمقعدها تسأله بإهتمامٍ وقد عرف كفها طريقه إلى كتف الآخر يتلمسه وكأنها حمامة سلامٍ بيضاء تعود لعُشِها وتقف على كتف مُدربها:
_مالك يا “تَـيام” وإيـه اللي حصل مخليك متعصب كدا ودي مش عادتك، بعدين يوم ما تتعصب على حد هتتعصب عليا أنا؟ عمومًا أنا مسامحة بس مالك؟.
تنهد بقوةٍ يخرج همومه من جوفهِ ثم هتف بتيهِ حقيقي يخبرها بحاله الضائع وكأنه فقد أهم جزءٍ منه ليضحى من بعدها كما الجسد الرخو فوق الموج يتخبط في الصخور:
_أنا تعبان وضايع من نفسي ومش لاقيني في اللي بيقولوا عليه دا، أنا كنت بسيط أوي وأحلامي هادية واللي كان نفسي فيه بسيط زي أي حد، كل دا أتقلب فوق دماغي، أنا كان حلمي أعيش معاكِ في الشقة اللي عيشت بجهزها وأحوش ليها من تعبي، كل دا أتغير ومبقيتش قادر أتقبل الجديد، هو وحقه إنه يفرح بابنه، وهي حقها تتمسك بالعيل اللي ضيعت عليه سنين عمرها علشان متكبرش لوحدها، وأنتِ زيك زي أي عروسة حقك تعيشي في المكان اللي يريحك، أنا بقى أراضي كل دول وأراضيني إزاي؟ أعمل إيه علشان ماحسش إني لعبة في إيديهم كلهم.
فهمت هي حالته وقدرت مشاعره بل بادرت بقربها منه ووضعت رأسه على كتفها تمسح بنعومةٍ على خصلاته ورأسه ثم هتفت بنبرةٍ متباينة بين الشتات والتوتر بسبب قربه منها:
_يمكن دلوقتي بس عرفت ليه أنتَ بالذات اللي ربنا خلى قلبي يرتاحله، ومش بس كدا أفتكر إني من صغري برتاحلك بس عمري ما فكرت فيك غير إنك مجرد شخص قريب مننا وبس، علشان أكون معاك في سكتك، فكرتني بواحدة من العرب زمان اسمها بنت الشاطيء لما رفضت ناس كتير ووافقت أخيرًا على واحد من اللي أتقدموا ليها ولما سألوها ليه دا بالذات قالت ليهم “وجدته تائهًا ورأيتني طريقه” وأنا برضه شايفة نفسي طريقك، يمكن تكون تايه الفترة دي بس أنا معاك، ودعايا مرافقك قبلي، سلم أمرك لربنا ثم عليا.
حقًا صدق من قال أن قرب الأحبِةِ شفاءٍ، فقد برع في الوصف خاصةً لأصحاب القلوب المُعذبةِ مثل هذا، وهي خير من يشفي ويعطف، لقد حسبها في السابق داءًا أصاب قلبه ليعلم بعدها أنها الشفاء الذي يُعالج جرحه، لذا أغمض عينيهِ وتركها تمسح على كتفهِ وهي تتلو له آيات الذِكر الحكيم الذي طمئن قلبه وكأنها تخبره خفاءًا أن الزوجة الصالحة مثلها هي رزقٌ كتبه الله له، ليتذوق النعيم المُعجل في الدنيا.
__________________________________
<“عودة الغائب تشبه عودة الأعياد للدار”>
كانت الساعة شارفت على العاشرة مساءً..
حينها كان “يـوسف” يجلس على الطاولة في شقة خالهِ بجوار البقية يتناول الطعام الكثير الذي أُعِدَّ خصيصًا له، كل أنواع طعامه المُفضلة وضعت على الطاولة وللأسف كان أثر النوم باديًا عليه بعدما عاد من النيابة صباحًا وحاول التحدث مع زوجته لكنها أغلقت المكالمة في وجهه دون ردٍ منها حتى فهم هو أنها لن تقبل بتلك السهولة أن تتعامل معه كما كان سابقًا، لذا جلس وسط الجميع بجوار “عُـدي” تحديدًا الذي سعد بعودته وكذلك “ضُـحى” التي شاكسته بقولها تمازحه:
_نورت يا غالي، كانوا منكدين علينا في غيابك ودي أول مرة نشوف الوليمة دي، ولا كأنك شهر رمضان وهليت علينا، ياكش تعقل بقى وتبطل هطل في أيامك دي.
تحول حديثها إلى الضُجرِ حتى ضحك الجالسون عليه فيما توعد هو لها بنظراتهِ ثم هتف من بين أسنانه بغيظٍ منها:
_صبرك عليا، آكل وأفوقلك وهظبُطك.
لوحت له بكفها وهتفت بحنقٍ تخبره بما حدث وتسبب فيه بغيابهِ مما أدى إلى تعطيل خطبتها:
_ياعم أقعد بقى، الخطوبة أتأجلت بسببك والحاجة بقت نار والدهب هيصدي من الركنة، أقول إيـه؟ حسبي الله ونعم الوكيل، جت موجة غلاء أسعار رمتني على جدور رقبتي.
ضحك رغمًا عنه وأمسك قطعة من طعامه المفضل يدخلها فمه ثم أبتلعها وهتف بلامبالاةٍ يراضيها لما تسبب فيه من إفسادٍ لفرحتها:
_حاضر، خطوبتك بموجة أسعارها كلها عليا أنا، بكل حاجة نفسك فيها وشوفي المكان اللي هتعملي فيه فين وأنا شايل الليلة، مرضية؟ سيبيني أطفح اللقمة وقومي شوفي خطيبك، كلي دماغه هو وسيبي دماغنا في حالها.
ضحك البقية عليهما وهي ترسل له قبلة هوائية جعلته يفعل المثل بملامح ساخرة ماططًا شفتيه بضجرٍ زائفٍ بينما “قـمر” فقامت بملء الصحن الخاص به ووضعته أمامه وهي تشير له بتناول الطعام حتى ابتسم هو لها ثم سألها بنبرةٍ خافتة وهي تجلس بجواره على الطرف الآخر:
_مش زعلانة مني خلاص؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تضحك له فأمسك هو الطعام يضعه في فمها كما كان يفعل في صغرهِ معها بينما هي ألتقطته من بين أنامله بشفتيها ضاحكةً وهو يشاركها طعامه المفضل كما سبق وأخبرها أن لغة الحب الخاصة به تأتي من المشاركة في الطعام مع من يحبهم، وما إن لاحظ نظرات البقية له فعل المثل مع الجميع وناولهم الطعام بيده حتى “عُـدي” الذي مازحه وقلد طريقة الفتيات قائلًا:
_يوه يا راجل مش قصادهم، استني يتقفل علينا باب واحد.
أرتفع صوت الضحكات عاليًا وخاصةً من “يـوسف” الذي وضع الطعام في فم الآخر ثم عاد يجلس بجوار شقيقته ليعود المزاح بينهم من جديد بعودته وينعم هو بدفء العائلة وسطهم وكأن الضجيج الخاص بهم هو ما يحبه هو، وكأن كلا الضجيجين يقفا في وجه بعضهما بالمرصاد وهذا ما يرتاح هو به كلما أرتفع صوته.
في الأعلى جلست “عـهد” تبحث دفترها في غرفتها ثم بقية الشقة وما إن فشلت في العثور عليه تذكرت كيف بطلتهِ عليها بعثر كومة ثباتها، ومن المؤكد نسته هناك لذا زفرت بقوةٍ ثم تحركت من غرفتها مُجددًا لتصطدم بأمها التي تأوهت ثم سألتها بتعجبٍ من عنف حركتها:
_أنتِ هطلة يا بت؟ بتجري كدا ليه؟.
توقفت “عـهد” تلتقط أنفاسها ثم طالعت وجه أمها التي ضحكت لها رغمًا عنها ثم هتفت بخبثٍ:
_طبعًا هو هنا، وأكيد شغل البرجلة والتوتر بتاعك هيظهر، المهم خلي بالك من نفسك وبالراحة مشي أمورك، مش أنا اللي هقولك يعني، أظن كلنا شوفنا حالتك في غيابه، يلا ومتتأخريش.
حسنًا لقد أساءت الظنون فيها وهذا ما جعل الأخرىٰ تهتف بكبرياءٍ ورأسٍ مرفوعٍ كما المُهرة الشامخة التي لم تقبل الإنحناء حتى ولو لمن أضحى خيالًا لها:
_أنا مش طالعة علشانه أصلًا، فيه حاجة بتاعتي نسيتها فوق وهطلع أجيبها، ومش هتأخر، هنزل بسرعة أصلًا.
ألقت الحديث تزامنًا مع تحركها نحو الأعلى فيما تابعت الأخرى تحركها بحسرةٍ ثم تنهدت مطولًا وعادت لما كانت تفعله في بيتها، أما الأخرى فصعدت آملةً في إيجاد مبتغاها وأن يكون الآخر أحتفظ بجزءٍ من الأمانة وترك ما لم يخصه، لكن كل ظنونها ضُرِبَت بعرض الحائط فور رؤيتها للطاولة فارغة منه فزفرت بقوةٍ وخشت أن يقرأ ما دونته فيه لأجله وحده وفقط.
جلست على الأريكة بشرودٍ وتذكرت كيف قضت الأيام بدونه وتوقفت عن علاجها النفسي، كما تكالبت عليها عائلتها من جديد شامتين فيها، وكذلك استغلت والدة “سـعد” الظروف في إرسال التهديدات لها، الجميع أستغل أمر غيابه عنها لتصبح كما الذبيحة أمام مجموعة رجال مسلحين والجميع يسعى لوضع السكين عند نحرها، هكذا كانت تعيش صباحًا، أما أمسًا فكانت الكوابيس كل ليلةٍ تزداد قسوتها ويرتفع مقدار خوفها، لتصبح هي الضحية في كلا الوقتين..
أغمضت عينيها ثم وقفت تشتم الهواء الدافيء مع نسمات الليل الممتزجة برائحة الورد والزرع الأخضر الموضوع بالمكان ثم بدأت تغني كعادتها في هذا المكان الذي أعتبرته هي مملكتها المفضلة، وللأسف دومًا تختار الكلمات التي تعبر عن حالها وكأنها تجد طريقة أخرى للشكوى غير الحديث الفارغ:
_أنا لو حبيبك ماكنتش يوم تسيبني..
إزاي بتقول نصيبك وهان عليك تبيعني؟
أنا لو حبيبك ماكنتش يوم تسيبني
إزاي بتقول نصيبك وهان عليك تبيعني؟
بتقولي الحنين، طب فين الحنين؟
بعد غيابك بعدما قلبك ظلمني.
ترقرق الدمع في عينيها وتوقفت عن الغناء تتنفس بحدةٍ حتى لا تنقطع أنفاسها وهي تجهش في البكاء فيما وقف هو خلفها يستمع لصوت أنفاسها وهي تحاول التماسك، لكن عطره وصل إليها فأغمضت هي جفونها سريعًا واستعادت رابطة جأشها فوجدته يقترب منها حتى وقف خلفها شبه مُلتصقٍ بها ثم رفع ذراعيه يطوق كتفيها وهو يقول بنبرةٍ رخيمة دافئة:
_وهو أنا برضه هسيبك غير لو كان فيه حاجة أكبر مني؟ دا أنا مسكت فيكِ وأنتِ غريبة عني ويدوبك مجرد بنت خوفت عليها، تفتكري بعدما ربنا كرمني بيكِ هسيبك وأمشي وأنا راضي؟ أنا لو بمشياني آذيتك قيراط، بوجودي كنت هآذيكِ ٢٤ قيراط، علشان خاطري متزعليش.
في الحقيقة هي في أشد الحاجة لعناقهِ كي يؤكد لها أن كل ما مر عليها في غيابه لن يدوم وسيتلاشى بظهورهِ كما السراب، تود الإرتماء بين ذراعيه وتحتمي منه فيه هو، تود أن تشكوه لنفسه التي دومًا وأبدًا تُنصفها، أرادت الصراخ في وجههِ الذي أشتاقت لملامحهِ كثيرًا، والكثير من التناقضات تنازعت بداخلها وهي ورقةٍ في مهب الريح تخشى الاستسلام لعواصف الخريف، لذا أبتعدت عنه بعدما أقتبست جزءًا من شجاعتها بسببه وهتفت بنبرةٍ محتدة:
_وأنا مش بمزاجك، وزعلانة وزعلي منك كبير ومش هقدر أتكلم وأنا قلبي شايل منك، ومش هقدر أصفالك وأنسى إنك أديتني ضهرك ومشيت من غير ما تكلف خاطرك حتى وتقول إنك ماشي، كل يوم كنت بفضل واقفة مستنياك وأقول هييجي أكيد هييجي، بعدها بقيت زي عيلة مراهقة كل شوية تبص على التليفون يمكن فيه رسالة تطمني أو مكالمة منك، شهر كامل مش سائل في حد، وعاوزني مزعلش؟ أنسى، علشان مش بالسهولة هعدي اللي حصل كأنه محصلش ولحد ما أصفالك بقى مش عاوزاك تظهر قدامي، ولا تحب نفضها سيرة خالص؟ على الأقل لما تمشي ميبقاش حد ورا ضهرك متعشم فيك.
توسعت عيناه وتثبتت حركة بؤبؤيه عند استماعه لتهديدها فيما تركت هي المُحيط له وعادت من جديد لشقتها قبل أن تفعلها وتعلن شوقها له، أرادت أن تقوم بإصلاح ما أفسدته عائلته، أرادت أن تكون هي جيشه لكن يتوجب عليها أن تتقن أستخدام الأسلحة المتاحة لديها، بينما هو فقد شعر بالضيق والحزن لأجلها، نعم هو رحل في ظروفٍ غامضة لكنها من المؤكد مجرد فتاةٍ تغلب عليها عاطفتها وتنصت لصوت عقلها بدلًا عن صوت قلبها، وقد نزل للأسفل خلف زوجته التي دلقت شقتها وأغلقت الباب خلفها بعنفٍ.
__________________________________
<“لقد فعلنا ما توجب علينا فعله”>
أثناء عودة الأثنين إلى بيت “نَـعيم” خرجت الفتاة من غيبوبتها القصيرة وتأوهت بعنفٍ تمسك رأسها حتى انتبه لها الاثنان وقد قرر “إيـهاب” أن يستوجبها حتى أقرت هي وأخبرته كل شيءٍ أنها مجرد فتاة مأجورة أتت لكي تنصب فخًا لشقيقه لكن تواجده يبدو أنه أفسد مخططاتهم جميعًا، لذا قرر أن يفك حصارها ويسحب شباكه من حولها بالطبع بعدما هددها من فكرة الإقتراب من شقيقه وهي فكرة ممنوعة حتى أن تجول بالعقول.
وصلا سويًا إلى البيت وقد استعاد “إيـهاب” قوته وثباته على عكس شقيقه الذي رغمًا عنه أصابه التشتت وما إن وصلا معًا حينها وجدا “سـراج” يحاول التحدث مع خطيبته التي رحلت بدون أن تخبره حتى والآن لم تعطيه جوابًا يريح قلبه، وقد لاذ “إسماعيل” بالفرار إلى غرفته لكي يتحدث مع “ضـحى” لعله بذلك يصرف تعبه بعيدًا عنه.
أقترب “إيـهاب” من الآخر وسأله بتعجبٍ:
_ياعم مالك؟ تلاقيها بتعمل حاجة موتر نفسك ليه؟.
رفع “سراج” رأسه نحو الآخر وهتف بضيقٍ:
_بقلق لما بعرف إنها مع الزفتة دي يا “إيـهاب” عمري ما أرتاحتلها واللي زاد وغطى اللي عملته مع “يـوسف” واحدة رمت اللي كان بيحبها ومستعد يموت علشانها، يبقى عادي تضر صاحبتها وتأذيها، أنا قولتلها تقطع معاها خالص، بتروح ليها ليه؟.
تفهم “إيـهاب” مشاعر الآخر وكأنه يرى نفسه فيه لذا نصحه أن يتريث في رد فعلهِ ثم طلب منه أن يتركها الليلة بمفردها ثم يحاول معها غدًا حتى تكون وصلت الأمور إلى الاستقرار، وعليه ولج “سراج” غرفته يتسطح بجوار ابنة شقيقته الغافية ثم ضمها بين ذراعيه مستسلمًا للنوم أخيرًا خاصةً وهناك طاقة غضبٍ تحاول التحكم فيه فقرر إخمادها بالنومِ.
وصل “إيـهاب” إلى الداخل ووجد زوجته تجلس في إنتظاره بجوار “نَـعيم” فاقترب هو منهما يلقي التحية عليهما ثم جاورها في الجلوس ودارت عدة أحاديث بينه وبين “نَـعيم” الذي استفسر عن سير العمل والشئون الخاصة به الداخلية الخارجية ثم قرر أن يخلد للنوم ويتركهما معًا، فانتظر “إيـهاب” تحركه ثم ضم زوجته له تستقر برأسها فوق صدره وكأنه يطمئن نفسه أن ما رآه منذ قليل من خطرٍ لن يَطُل أحبته وقد سألته هي بإهتمامٍ:
_مالك يا سي “إيـهاب”؟ فيه حاجة مضايقاك؟.
حرك رأسه نفيًا ثم ثم مسد على رأسها وهتف بنبرةٍ رخيمة حتى لا ينتابها القلق:
_لأ يا “سمارة” متقلقيش، أنا زي الفل المهم أنتِ واللي في بطنك دا، أبوس إيدك تسمعي الكلام وتاكلي لحد ما الشهر التالت دا يعدي والعيل يثبت، أنا مش عاوز أخسره ولا أخسرك، دا أنا بعد الأيام علشان أشوفه، بتسمع الكلام ولا لأ يا عمنا؟.
ضحكت رغمًا عنها وحركت رأسها موافقةً فيما حرك هو كفه تلقائيًا نحو بطنها يمسد عليها بحنوٍ بالغٍ بتهورٍ منه، لكنه أراد أن يشعر بهذا الصغير الذي يستقر برحم زوجته، نعم هو مجرد نُضفة صغيرة لكن الفطرة الداخلية تحركه وتنطق بحبهِ قبل أن يراه حتى، لذا لثم جبينها ثم نطق بنبرةٍ رخيمة وعميقة:
_ربنا يباركلي فيكِ وفيه وييجي بالسلامة.
ضحكت له “سمارة” بخجلٍ فطري فيما تحرك هو ثم أمسك كفها وتحرك بها نحو شقته بعدما لاحظ إقتراب موعد إبرتها الطبية وموعد تناول الطعام الخاص بها، لذا أنسحب بها لتتلقى هي منه الرعاية التامة التي أشرف عليها بنفسهِ، لقد شارف على فعل هذا الروتين تقريبًا لمدة أسبوعين منذ معرفته خبر حملها ومتابعته مع الطبيبة النسائية التي أخبرته بضرورة الإهتمام بطعامها والحرص على تناول بعض الفيتامينات والخضروات نظرًا لإنخافض الحديد بجسدها وإصابتها بأنيميا شديدة، وقرر هو أن يتولى مسئولية رعايتها بنفسهِ، مقررًا بذلك التغاضي عما حدث اليوم، لكنه أتخذ القرار وبدأ في رد الفعل وظل فقط في إنتظار معاونه المخلص “ميكي” الذي أرسل له نبذة من مبتغاه جعلته يبتسم بخبثٍ ثم عاد لتركيزه مع زوجته.
في الأسفل بداخل غرفة “إسـماعيل” أخرج هاتفه يطلب رقمها حتى جاوبته هي وتواصلت معه فزفر هو بقوةٍ ثم تحدث بصورةٍ مباشرة يخبرها بما يحمله في قلبه من مشاحنات سلبية خاصةً بعد مرور تلك الليلة عليه:
_أنا مخنوق يا “ضُـحى” وحاسس إني متضايق وتعبان، مش عارف ليه جاي أقولك كدا بس أنا برتاح لما بعرفك أنتِ، تفتكري أنا ممكن في يوم أكون شخص طبيعي من غير مشاكل وأعيش حياتي عادي، ممكن دا يحصل ولا اللعنة اللي عليا مش هتتفك؟ خايف أكون سبب آذى لحد وأولهم أنتِ.
أعتدلت هي على فراشها بسرعةٍ وتخلت عن نومها ثم هتفت بثباتٍ تُشدد من أزرهِ وتقوي عزيمته كما كانت دومًا نورًا من بعد الليل وضحى من بعد العتمة:
_أنا معرفش حصل إيه خلاك تزعل كدا، بس أنا مش عاوزاك تيأس من حاجة بالعكس، عاوزاك تعدي وتتخطى وتقف زي ما أنتَ، يعني على حسب كلامك إنك الأول كنت علطول مكتئب ولوحدك وعلطول بتشوف حاجات غريبة وتمسع أصوات، حاليًا أنتَ بقيت متحكم في نفسك، يعني دا إنجاز ليك أنتَ، وإذا كان على الأذيٰ أنتَ مبتأذيش حد يا “إسـماعيل” أنتَ كان ليك ظروف غريبة كتر خيرك عديتها، مالكش دعوة بيا، لو أنتَ ملبوس أنا بنت مجانين ومطرقعة، والعلاقة دي أنا همشيها، أتطمن وحط في بطنك بطيخ فرعوني.
ضحك رغمًا عنه يائسًا ومسح وجهه بكفهِ الحُر وقد أمتن حقًا لحظه الذي جمعه بها وجعلها هي تحديدًا من تصبح قرينة حياته لذا تمدد على الفراش وظل يتحدث معها حتى وصل إلى ذروة راحتهِ وتناسى ما مر به من خلال فقط التحدث معها وهي تشاركه تفاصيل يومها وعملها ونجاحها وفشلها والعديد الذي جعله مُحلقًا فوق سماءٍ عالية معها فوق السحاب الصيفية في بداية الربيع يشاهدان تفتح الزهور معًا.
__________________________________
<“كل الهزائم شاركت في تشييدي”>
في صبيحة اليوم الموالي..
وقف “يـوسف” في شرفة شقته يتحدث في الهاتف مع صديقه الذي يطلب رقمه منذ عودته إلى القاهرة وقد هتف هو يسترضيه قائلًا:
_ياعم جاي خلاص والله، تتربى في عزك، هاجيب “أيـوب” ونيجي حاضر، بصراحة الفتىة بتاعتكم متتنسيش يا “ياسين” جاي وأهو أفك شوية من اللي حصلي، دا أنا فيه قطر داس على حياتي، بس حوار مراتي دا مش ضامن، هي أساسًا مش طايقة تشوف وشي، ودا حقها، فلو قالت لأ، يبقى خلاص، بس أكيد هجيب “قـمر”.
رد عليه الآخر بنفاذ صبرٍ من طريقة تفكيره:
_ماهو أنتَ لو تفكر شوية هتعرف إن مصلحة ليك تجيبها معاك، أهو تتعرف على البنات هنا وتتكلم معاهم وتغير جو، خلي أختك تقنعها، ومتقلقش أنا هظبطك، عندك شك في كدا؟.
نفى الآخر ذلك ثم ودعه وأغلق المكالمة الهاتفية وظل في شرفته يتمتع بلحظات الصباح الأولى حتى لاحظها تخرج من البناية صباحًا وهي ترتدي ثياب الخروج وحقيبة ظهرها فعقد مابين حاجبيه وأخرج هاتفه من جيبه ثانيةً يطلب رقمها مرة وإثنان وثلاث حتى جاوبته في الرابعة بعدما خرجت من الشارع نهائيًا ليسألها هو مندفعًا:
_سيادتك رايحة فين على الصبح؟ خلاص بقيت مش مالي عينك وهتمشي بمزاجك؟ أنتِ رايحة فين كدا ومقولتيش ليه؟.
كتمت ضحكتها الشامتة كونها أجادت إثارة غيظه وحنقه ثم تلبست وشاح اللامبالاةِ وهي تجاوبه بقولها التهكمي:
_رايحة الشغل، وقبل ما تسأل تاني، أنا بقالي ٣ أسابيع في الشغل والحمدلله حياتي مستقرة جدًا، وأكيد مش هقعد غلبانة وأغني طفيت الشمع رميت الورد يا حبيبي، لأ أنا فوقت وأتعلمت حاجات كتير أوي ليك الفضل فيها، أهمها أن الإنسان لازم يكون عنده أرادة متخليهوش يعتمد على حد، سلام بقى علشان هعدي الطريق.
في الحقيقة يبدو أن رحيله كان قاسيًا عليها لأقصى درجة حتى فشلت هي في تحملها، يبدو أنه أخطأ في حقها لدرجةٍ جعلته يتقبل كل تصرفاتها مُرحبًا بها حتى عندما أغلقت هاتفها في وجهه وقد ألقى هاتفه على الطاولة ثم أرتمى على طرف الفراش وسحب دفترها ليقرأ ما دونته فيه وقد بدأ من آخر صفحاته تحديدًا حينما تركت القلم ولاحظ كم كانت ضائعة وهي تشكوه لنفسهِ وتصفه بما لم يجرؤ هو على تكذيبه، والأدهى أنها قارنت نفسها بالمطربة “وردة” حينما تركت حفلها وركضت تحتضن زوجها عند عودته من بعد غياب شهرٍ كاملٍ، حينها أدرك أن الخطأ لا يُغتفر وأن تلك البريئة عميقة العينين تحتاج لبعض المجهود منه حتى وإن كان بالإعتراف على نفسهِ.
نزلت “قـمر” صباحًا تأتي بطلبات المنزل وقد قصدت أن تمر من مكان عمل “أيـوب” الذي أخبرها أنه في محل عمله وما إن طلت عليه ترك هو مقعده ووقف يسألها بمرحٍ يقصد ممازحتها:
_دا قمر إيه اللي بيطلع بالنهار دا؟.
ضحكت له بوجهِ مُشرقٍ ثم هتفت بخجلٍ فطري طغى عليها حينما زحفت الحُمرة إلى وجنتيها من جملته صاحبة المعنيين:
_أنا جاية أقولك شكرًا إنك طول الشهر اللي فات كنت متحملني ومتحمل سُكاتي وزعلي، وكمان حاولت كتير لحد ما طمنتنا عليه، مش كل الناس بتتحمل غيرها في الأوقات الصعبة وساعات بيلوموهم، بس أنتَ مش كدا، علشان كدا أنا جيت أقولها ليك إنك تستاهل كل خير، وبرضه يا بخت ناسك بيك.
أقترب المسافة الفاصلة بينهما مبتسم الوجه ثم هتف بنبرةٍ دافئة ورخيمة وهو يُثبت عينيه عليها وعلى ملامحها:
_ماهو أنا ربنا كرمني ومديني طاقة أساعد بيها الكل، هبخل عليكِ وأنتِ أعز عليا من نفسي يعني؟ بعدين لو ناسي مُبختين فأنا ربنا رزقني قد رزقهم أضعاف، رزق حلو كدا واسمه “قـمر” عارفاه؟.
سألها بمشاكسةٍ جعلتها تضحك على طريقته ثم رفعت علبة الطعام تناولها له وهي تقول بنبرةٍ لازال فيها أثر ضحكاتها بسبب جملته:
_طب يا سيدي، علشان تعرف إن القمر بتاعك مش ناسيك دا فطارك، فطير بالجبنة واللحمة، ومعاهم عصير، متتأخرش بليل بقى وأنا هقنع “عـهد” زي ما طلبت مني، بس سؤال هما ناس طيبين يعني؟ ولا ممكن يتضايقوا مننا؟ علشان منفرضش نفسنا عليهم.
ابتسم هو لها بسمة عذبة كما أحتل الصفاء ملامحه لكنه وبكل آسفٍ وقع أسيرًا عن إهتمامها به وبطعامهِ لكن ما إن ذكرت هي اسمه انتبه لها وتنهد لبرهةٍ ثم عاد لسيرة سؤالها له يُطمئنها بقولهِ:
_متقلقيش، “ياسين” طيب وابن حلال أوي وطول عمره سمعته زي الجنيه الدهب، أعتبريه زيي، وأكيد يعني ناسه شبهه، متقلقيش لو لقيتك متضايقة هفهم وهنمشي علطول، تمام كدا؟ إحنا مش هنتأخر أصلًا هي يدوبك نص ساعة نعمل الواجب علشان العشرة اللي بينا.
أومأت موافقةً ثم ودعته ورحلت من المكان فيما وقف هو على أعتاب المحل يتتبع أثرها بعينيهِ حتى ولجت للشارع الثاني فعاد هو للداخل وهو يفكر في طريقة تعامله مع “يـوسف” وكأنه لم ينس اللقاء الأخير بينهما حينما ضربه الآخر ثم تركه ورحل دون أن يهتم به أو بتواجدهِ.
__________________________________
<“كيف حالكم، لقد أشتقنا لكم”>
حتى وإن تفرقت بنا كل سُبل الوصال
وحكمت كل الدروب علينا بالغياب،
حتمًا بعض الكلمات سوف تجمع بيننا
حتى وإن كان مقصدها هو العِتاب.
في المساء وتحديدًا اليوم جمعت الطرقات بينهم من جديد ليصبح الأربعة مع بعضهم بنفس المكان المتفق عليه، ربما صدفة أو لربما قصدوها لتعود المياه من جديد لمجاريها الأساسية، وقد توقفت السيارة التي تولىٰ “أيـوب” قيادتها أمام البيت الذي تمت دعوتهم إلى قدومهِ من أهلهِ، وحينها أخرج “يـوسف” رأسه من نافذة السيارة يتابع الأضواء الذهبية التي زينت البيت من أعلاه لمنتصفه تقريبًا، فيما نزلت الفتيات من السيارة وكلتاهما تقف بجوار زوجها لُيشير إليهم “أيـوب” نحو البيت بقولهِ الهاديء:
_هو دا البيت، مش عارف نطلع علطول ولا نقف؟
كان يسأل بحيرةٍ من موقفهم فاندفعت “قـمر” تسأله بلهفةٍ حماسية تنافي قلقها صباحًا:
_طب ما حد فيكم يتصل كدا، أنا لو مطلعتش دلوقتي هموت من الحماس، أتصل يا “أيـوب”.
كانت “عـهد” حينها صامتة وشاردة تود العودة والاختلاء بنفسها من جديد بعدما تم إجبارها للقدوم إلى هنا بإلحاحٍ من “قـمر” فيما وقف “يوسف” يُتابعها بعينيهِ، وأراد أن يبدأ معها الحديث وأراد أن يُطمئنها لكنها أصرت على الوقوع في عالمٍ أخر ترفض الخروج منه، تود أن تختفي عن الجميع لكن الأقدار شاءت لها أن تكون هنا معهم حيث المكان الغريب عنها والرجل الغريب عن قلبها كما تزعم.
وقبل أن يُتمم “أيـوب” المكالمة نزل الداعي يرحب بهم بقولهِ الذي ملئته الحفاوة والترحيب الودي بضيوفهِ:
_والله البيت نور والعقيقة كملت بيكم، كويس إنكم جيتوا.
حرك كلًا من “أيـوب” و “يـوسف” رأسيهما نحو المتحدث وقد تقدم منه “أيـوب” أولًا بقولهِ الودود يبارك له بعدما عانقه:
_مُـبارك يا حبيبي، ربنا يجعلها ذرية صالحة ويقدرك على تربيتها، ينفع منجيش لـ “ياسين” حبيبنا ؟.
ابتسم له “ياسين” ثم نظر لـ “يـوسف” الذي تحرك له هو الأخر يحتضنه وهو يقول بنبرةٍ أتضح بها الحزن والتيه وكأنه في حاجةٍ لحكمة صديقه:
_ألف مبروك يا غالي، ربنا يفرحك بيها.
ربت الأخر على ظهرهِ ثم طالع وجهه بعدما ابتعد عنه فوجده يحاول الهرب من النظر إليه وكذلك أتضح على “أيـوب” أن الأمور بينهما لم تكن على ما يُرام، لذا أرشدهم للطابق الأول حيث جلوس العائلة بأكملها إحتفالًا بعقيقة المولودة الصغيرة، وقد كانت العائلة بأكملها تنتظرهم بفروغ الصبر وخاصةً الفتيات.
وحينها أمسكت “عـهد” كف “قـمر” تضغط عليه بخوفٍ من المكان الممتليء حتى ابتسمت الأخرى لها وقالت بنبرةٍ هادئة أقرب للهمسِ:
_متخافيش شكلهم ناس طيبة، استني نشوف مامة البنوتة.
انتبهت والدة الفتاة “خديجة” لتلك الواقفتين على أعتاب الباب في انتظار أزواجهما وحينها تركت الصغيرة على يد والدتها واقتربت تنطق اسميهما وهي تشير على كلتيهما وتُخمن بقولها أثناء ترحيب الرجال ببعضهم:
_هعرفكم أنا، أنتِ “قـمر” صح ؟ أما أنتِ يا هادية أوي شكلك “عـهد”؟ يا رب أبقى صح، علشان شكلي هيبقى وحش.
أكدت لها “قـمر” حينما هزت رأسها مومئةً بإيجابٍ وحينها قامت “خديجة” بالترحيب بهما وتولت مهمة التعريف لباقي أفراد العائلة، ومن بعدها دلف كلٌ من “أيـوب” و يجاوره “يـوسف” الذي ابتسم عند رؤيته للترحيب بهما لينطق “ولـيد” خال الصغيرة بقولهِ:
_أظن كدا ننزل بالفتة بقى، الرجالة وصلت أهو، ألحقونا قبل ما نضرب بعض أنا و “يـوسف” بلاش فضايح أول مرة تتكرر تاني.
ألقى حديثه وهو يناظر الآخر فيما هتف “يوسف” بسخريةٍ تهكمية ردًا عليهِ بنفس الطريقة:
_ماهو لو فضلت مؤدب أنا مش هاجي جنبك، بس نجيب منين أدب؟ الجركن خِلص خلاص واللي أتربى أتربى.
كان يرمقه بإزدراءٍ من أعلى لأسفل مما جعل “وليد” يهتف ببرودٍ يثير أعصابه به كما المعتاد بينهما:
_والله أنتَ أدرىٰ، أكيد احتاجت شوية أدب روحت قبلي للجِركن لقيته فضي، أصل الرباية عندك بعافية.
ضحك “يـوسف” رغمًا عنه وكذلك البقية من تلك المحادثة التي أتسم طرفاها بالقوة البلاغية في الرد بالحُجةِ والمنطق، حتى تحركت “قـمر” تجاور “خديجة” وهي تسألها بحماسٍ مشيرةً برأسها نحو الصغيرة:
_هي اسمها إيه ؟.
هتفت “خديجة” بوجهٍ مُبتسمٍ تجاوبها:
_اسمها “نَـغم”.
ظهر التأثر على وجه “قـمر” وكأن الاسم لاقى إعجابها وحُبها وقد قرأت الأخرى نظراتها فقامت برفع الصغيرة على ذراعيها حتى ابتسمت “قـمر” بحماسٍ وحركت رأسها لزوجها الذي اقترب منها يجاورها في وقفتها فقالت هي بتأثرٍ شديد من ملمس الصغيرة على كفيها:
_حلوة أوي ربنا يبارك فيها، شوفت زي الملايكة إزاي؟ اسمها حلو أوي يا “أيـوب”.
أمعن نظره في ملامح الصغيرة حتى رفع “ياسين” صوته بنبرةٍ هادئة رغم ارتفاع وتيرتها:
_امسكها كدا وادعي ربنا يباركلي فيها، ولا هتقولي مبلمسش بنات؟ مالكش حجة.
أبتسم وحملها “أيـوب” على ذراعيهِ ثم لثم جبينها وتحدث في أذنها بنبرةٍ هادئة يدعو لها أن تكون خير الذُرية لوالديها، بينما “خـديجة” لاحظت صمت الأخرى فتحركت تجاورها وهي تقول بمزاحٍ:
_جرى إيه يا “عـهد”؟ هما جايبينك غصب ولا إيه ؟.
أنتبهت لها “عـهد” وابتسمت بتوترٍ وحركت رأسها نفيًا ثم هتفت بنبرةٍ مهتزة الوتيرة تُبريء نفسها هذه التهمة:
_لأ خالص، أنا متوترة شوية بس علشان أول مرة، ألف مبروك ربنا يبارك فيها وتشوفيها أحسن واحدة في الدنيا كلها.
قامت حينها “قـمر” بأخذ الصغيرة ثم اقتربت من شقيقها الذي وقف يتابعهما بعينيه وحينما وقفت أمامه أشارت نحو زوجته تحثه على التحرك وحينها تحرك يقف أمام زوجته ومن تجاورها وقال بنبرةٍ هادئة:
_ألف مبروك يا مدام “خـديجة” معلش معرفناش نيجي قبل كدا بس كان فيه ظروف صعبة شوية، لكن “عـهد” من بدري كانت عاوزة تيجي تبارك.
تحدث بلباقةٍ يرفع الحرج عن زوجتهِ فيما اقتربت “قـمر” تجلس بينهما ثم وضعت الصغيرة على يد “عـهد” التي ابتسمت رغمًا عنها وأخفضت فمها تقبل رأسها وحينها تحدث “ولـيد” بسخريةٍ للأخر يشاكسه:
_ما تمسك البت ولا مش عاوز؟.
التفت له “يوسف” يقول بتوترٍ اتضح عليه فور جملة الأخر وقد أخرج الحديث بصدقٍ دون إخفاءٍ:
_بصراحة، بخاف.
ألقى الجملة متوترًا فيما من ارتفع صوت الضحكات عليه حتى “عـهد” تحولت بسمتها إلى ضحكة خافتة جعلت “قـمر” تسحبه ثم أجلسته بجوار زوجته من الطرف الآخر وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_حد يخاف من الملايكة؟.
حرك كتفيه بتوترٍ وقلة حيلة كأنه لا يعلم السبب فيما قامت “خديجة” بسؤالهما بسخريةٍ ضاحكة:
_أومال هتعملوا إيه لما ربنا يراضيكم؟ الأستاذة متوترة وحضرتك بتخاف؟ نيجي نربيهم إحنا طيب طالما خايفين؟.
ضحك البقية عليها فيما نظرا هما لبعضهما من مجرد الفكرة ككلٍ، فهل سيأتي اليوم الذي يحمل فيه أبنائه منها هي؟، الفكرة بذاتها جعلت البسمة تظهر على وجهيهما رغمًا عن حزنها منه وشوقه لها، فمد يديه يحاوط يديها وهي تحمل الصغيرة ثم هتف ردًا على الأخرى بجملةٍ تحمل كل المعاني التي يقصدها وكأنه يوجها للأخرى:
_محدش بيخاف من الملايكة، صح يا “عـهد”؟.
حركت رأسها موافقةً له توافقه في الحديث، وهاهي تجمعهما الكلمات من جديد وآن الوقت أن يسمح للعينينِ بالتلاقي حتى ابتسمت هي بعينيها اللامعتين له ولثمت جبين الصغيرة فيما ظل هو تاركًا كفيه يتحركا مع كفيها بانسيابيةٍ وهو يتمسك بالصغيرة معها، وفي هذه اللحظة أراد أن يقفز من فرحته وأراد أن يثرثر بالكلمات حتى وجدها تقول بنبرةٍ خافتة تقصد توجيه الحديث له بعدما تركت قوقعة صمتها:
_عسولة أوي، بص شكلها ؟.
لم يصدق أنها توجه الحديث له بهذا الهدوء وحينها وزع نظراته بينها وبين الصغيرة ثم هتف بنبرةٍ خافتة لكن السعادة اتضحت بها حينما قال يمازحها:
_أنا معرفش غير عسولة واحدة.
سألته بعينيها بعدما رفعتهما نحوه حتى وجدته يقول بلامبالاةٍ لها لكنها كاذبة تتنافى مع جملته السابقة:
_البت “قـمر” أختي، عسولة أوي.
ضحكت رغمًا عنها ضحكة مكتومة حينما أتت جملته مشابهة لجملةٍ قديمة في موقفٍ يشابه ذلك فيما لاحظ “أيـوب” حديثهما سويًا فابتسم حينما تلاقت نظراته بنظرات زوجته التي طالعته بامتنانٍ تشكره على محاولاتهِ في جمع الشمل بين الأثنين، فحتمًا من جديد يُكتب اللقاء ينعم فيه كل مشتاقٍ من بعد الفراق.
__________________________________
<“رُبما تراها أنتَ نقمةً، وغيرك يراها رحمةً”>
كانت “شـهد” في المشفى تزور زوجها زيارتها المعتادة وتابعت مع طبيب الآشعة كشفه على زوجها ومتابعة حالته الصحية وقد أخبرها أن إصابة قدمه قد تطول فترة معالجتها وحينها أصابتها حالة تخبط جعلتها تصمت عن خبر حملها وإخبار أي فردٍ من أفراد العائلة، وقد مرت هي في الرواق الرخامي الفارغ شاردة الذهن مسروقة البال حتى مرت من أمام غرفة العيادة النسائية، فوقفت تسحب نفسًا عميقًا ثم ولجت الغرفة تطلب من الطبيبة المتواجدة بهذا الصرح الاستثماري، وما إن ولجت الغرفة ورآت الطبيبة وقفت أمامها تسألها بنبرةٍ ضائعة:
_لو سمحتي أنا حامل في شهرين، وعاوزة أجهض الجنين.
ألقت الجملة على الطبيبة بصوتٍ مقتولٍ دون أن تعي لحجم جريمتها الكُبرى في حق نفسٍ بريئة وكأن أزهاق روحٍ صغيرة مثل هذه أسهل ما تفعله لكي تنعم بما تريد، وقد طالعتها الطبيبة بريبةٍ فيما أضافت هي بثباتٍ واهٍ حينما قرأت تعابير وجهها المُضطربة:
_هتاخدي اللي عاوزاه، بس تخليني أنزله.
يبدو أن الشيطان زين لها عملها وسهل عليها الطُرق لكي تقع في هذا الفعل بكل سهولةٍ، ومن يعلم لعلها فرصة أخيرة لها تتراجع جُرمها وما ترتكبه، وربما هي تصر بكامل قواها، وبين هذا وذاك هي تقنط من رحمة الخالق وترفض الهبة التي يتمناها غيرها، حيث تراها نقمة في حين أن هناك من يتمنى الحصول على هذه النعمة.
__________________________________
<“كل من يريد لكَ السوء، عامله بكل سوء”>
كان “إسـماعيل” في مقر عمله يتابع المكان من الخارج وفي يده سيجارًا ينفث هواها خارج رئتيهِ وقد أنتظر صديق طفولته “مُـنذر” ومعه “مُـحي” بعدما طلب منهم القدوم لكي يقضون اليوم مع بعضهم، لكن فجأة ساد المكان شجارٌ عنيفٌ بقرب مكانه من الجهة الرملية الفارغة المُطلة على سفح الأهرامات قبل قدومهما ولاحظه هو فترك سيجارته ودهسها بقدمه ثم أقترب من موضع الشجار القريب من مكانه وتلك المرة قبل أن يندفع نحوهم نزلت عصا غليظة فوق رأسهِ تمنع حركته حتى أرتخى جسده كُليًا وقبل أن يلتفت أو يلفظ مستغيثًا وجد من يُكمم فمهِ والآخر يضربه بنفس العصا على رُكبتيه ليخر راكعًا وهو يأنِ بصوتٍ مكتومٍ..
هذا الطير الحُر، والخيل الجامع، أضحى عاجزًا عن رفع جناحه، وأقل من الركض في ساحة المعركة، وكأن السباق لم ينتظره حتى يتجهز، شاب حر يتم القضاء على حريته، من خلال تكبيل كلا ذراعيه، وتكميم فمه عن المطالبة بالحُرية، ثم إغماض جفنيه لكي لا يُبصر شعاع النور، وفي النهاية الحُجة القوية أنه طيرٌ يود الحُرية.
____________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى