روايات

رواية غوثهم الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء الرابع والعشرون

رواية غوثهم البارت الرابع والعشرون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الرابعة والعشرون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الرابع والعشرون”
“يــا صـبـر أيـوب”
__________________
‏”أُناجيكَ ولستُ بِبطنِ الحوتِ لكنني
في جوفِ اللّيلِ أُصارعُ وحشةَ أيّامِي
لا إلهَ إلا أنتَ دُلّنَي، مالي سِواكَ
جفَّ حبري ووَضعتُ اليومَ أقلامي”
_مُقتبس.
____________________________
ربما أكون أنا الغريب وقد يكون وصفي في الدنيا الوحيد، وعلى الرغم من هذا سيظل قلبي يشعر بالامتنان لكِ ولعينيكِ تلك التي أضحت وطنًا لي وأنا الشريد، فَـمعكِ لم أكن غريبًا بل وجدتُني أنا، معك رأيت قول “الرافعي” مُتجليًا في حروفه “قد يجمع الله شمل الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا يلتقيان” وها أنا شاء قدري الإجتماع بكِ، فدعيني أسألكِ من بعد غُربتي وفك كُربتي “كيف حالكِ يا أنا”؟ فلم أكن بليغًا في وصف مكانتك بقلبي سوى بوصفكِ “أنا” حتى أن القلب نفسه أشار لقلبك مُناديًا بقوله:
“أنا هنا لأجلكَ أنتَ يا أنا…فكيف حالك أنتَ وأنتَ معي أنا”.
<“حقٌ مكتوب…..ودورٌ ملعوب”>
لاذ “إيهاب” بالفرار أخيرًا ليذهب إلى وجهةٍ محددة كان يصارع نفسه لأجل الذهاب إلى هُناك بعدما علم الطريق وذهب إليه، لذا كان يحاول الذهاب إلى هناك بأقصى سرعةٍ ممكنة جعلته يشق الطريق أسفله شقًا، حتى أوقف السيارة عند جسرٍ مائي يتوجب عليه عبوره لكي يتجه إلى بيتٍ يُطلق عليه “العوامة” باللغة الدارجة، لذا نزل من سيارته وعبر الجسر حتى وقف أمام بابٍ خشبي تُغطيه إضاءة تكميلية باللون البرتقالي، ابتسم بسخريةٍ على تطور الحال ثم طرق الباب بهدوء حتى فُتح له الباب وطلت منه فتاةٌ ما إن رأته ارتمت عليه تحتضنه وهي تقول بلهفةٍ:
_وحشتني أوي يا “إيهاب”.
رفع ذراعيه يطوقها بهما وهو يقول بشوقٍ هو الأخر:
_وأنتِ وحشتيني أوي يا “تهاني”.
شددت عناقها له تطوق عنقه بكلا ذراعيها ثم ابتعدت عنه بسرعةٍ كُبرى وهي تقول بلهفةٍ:
_كل دا علشان تجيلي؟؟ موحشتكش ؟؟
أبتسم لها وهو يقول بقلة حيلة:
_وهو أنا إيه اللي جابني هنا غير إنك وحشتيني، أنتِ اللي فارقتي وقولتي عِدولي.
أغلقت الباب بحماسٍ شديد وتمسكت بذراعه وهي تقول بنبرةٍ أعربت عن ضجرها وأظهرت التناقض بسبب فرحتها بتواجده أمامها:
_يا أخويا أنتَ اللي لازقلي جنب البت المصدية بتاعتك، تسيب العِز دا كله وتروح للمقشفة دي برضه ؟؟.
كانت تشير إلى نفسها بحديثها فتنهد هو مُطولًا بثقلٍ وهتف بنزقٍ وهو يتجه نحو الأريكة يجلس عليها بعدما ابتعد عنها:
_ما تَفُكك بقى من السيرة دي، جاي أريح دماغي شوية من الصداع هتقرفيني أنتِ كمان بقى ؟؟.
لاحظت أنه يشير إليها في الحديث مُضيفًا الأخرى بصيغة الغائب لذا اقتربت تجلس بجواره تسأله بتشفٍ به:
_خير؟؟ هي العروسة مش مهنياك ولا إيه ؟؟
جاوبها بإيجازٍ بعدما أخرج علبة سجائره وأخرج منها واحدة يضعها بين شفتيه:
_لأ، وشكلي كدا هرجعها تاني لأهلها، حلو أوي كدا عليها وخدت اللي عاوزه، أكتر من كدا مش سِكتي.
ظهرت الفرحة على ملامحها وابتسمت بسعادةٍ جعلتها تندفع بسؤالها في وجهه:
_بجد يا عمهم ؟؟ يعني كلامي طلع صح أهو وطلعت مالكش دية تربط نفسك بواحدة وبيت، كان لازم الحج يحبكها يعني ويجبرك تقطع مع كل اللي تعرفهم قبلها ؟؟.
حرك كتفيه وهتف بحنقٍ هو الأخر:
_هي اللي طلبت منه كدا، المهم أني رجعتلك تاني.
مالت عليه تضع رأسها على كتفه وهي تقول بعدما تنهدت بولهٍ ورفعت كفها تضعه على كتفه الأخر:
_اتمرمط من غيرك يا “إيهاب” بس على مين، جمدت قلبي في وش الدنيا واللي داسلي على طرف دوست على رقبته، هو أنا هسيب حاجة تضيع مني برضه، حتى أنتَ جيتلي أهو، كنت عارفة إنك هتزهق منها بسرعة، بت بتاعة مشاكل وبكرة تترمي في الشارع زيي بالظبط.
فور إنتهاء جملتها رفعت عينيها نحوه وهي تبتسم له بسعادةٍ حتى تغدقه بحديثها المعسول وهي توصفه وتوصف حبها له، وقبل أن تفعل هذا وجدت يشدد مسكته على خصلاتها الصفراء فتأوهت هي بصوتٍ مكتومٍ جعله يُزيد من مسكته لهذه الخصلات وهتف من بين أسنانه وهو يرى تألمها أسفل يده المُحكمة عليها:
_الشارع دا بروح أمك اللي أنتِ وأشكالك تعرفيه، إنما هي فوقك وفوق صنفك كله، لو جيبتي سيرتها تاني أنا هرميكي في الشارع بجد، والمرة دي وسط كلاب السِكك اللي زي “فتحي” كدا علشان تعرفي مقامك كويس.
تألمت أكثر وتململت في جلستها تحاول افلات نفسها من قبضته فيما ضغط هو أكثر وهزها في يده بعدما أطلق سُبابًا لاذعًا جعلها تغضب عليه وهي تهتف بنبرةٍ عالية:
_هو أنتَ جايلي هنا علشان المحروسة بتاعتك؟؟ بتشتغلني أنا ؟؟ أومال كلمتني ليه وعرفتني إنك جاي؟؟ جاي هنا علشانها هي المقشفة دي ؟؟خلاص هتحسب نفسها علينا ست.
كانت تصرخ في وجهه مما جعله يمد كفه الأخر يحاوط عنقها ونطق بنبرةٍ جامدة أعربت عن غضبه المشتعل بصدره منها ومن أفعالها:
_المقفشة دي تبقى أمك أنتِ، إنما مراتي متتحطش في مقارنة معاكِ أصلًا، عارفة ليه ؟؟ علشان هي ست الستات كلهم، متتساواش بيكِ ولا بصنفك كله، انطقي بابت أنتِ اللي مسلطة “فتحي” عليها ؟؟ وأنتِ برضه اللي خلتيه يحطلي الشنطة في العربية ؟؟ انطقي بدل ما انطقك أنا !!.
هزها في يده بعنفٍ جعل الخوف يتشعب إلى كافة خلايا جسدها وأدق ذراته حتى هتفت ببكاءٍ من شدة الألم وفرط الخوف:
_آه….بس والله كل دا علشانك أنتَ، كنت خايفة عليك وأنتَ معاها، أنا فضلت أربع سنين أحب فيك وهي جت تاخد على الجاهز، قولتلي إنك مبتتجوزش ومرضيتش حتى تعبرني، وحتة بت زي دي تاخد كله على الجاهز وأنا اطردت من البيت بعد الخدمة والقرف دا كله ؟؟
رد عليها هو بوقاحةٍ دون أن يراعي أي حدود للمشاعر أو حتى يراعي أنوثتها التي تعمد جرحها:
_وهو أنتِ عاوزانا نرحب بيكِ وسطنا إزاي وأنتِ عاملة زي البضاعة البايرة ؟؟ عمالة ترمي شباكك هنا وهنا، مرة عليا ومرة على أخويا ومرة “يوسف” حتى الحج نفسه، من أول يوم فهمناكِ كلنا، بس سبناكي تاكلي عيش، إنما هتيجي على اللي مني، كدا أنا أدوس عليكِ تحت رجلي، فــاهمة؟؟؟
هدر في وجهها مُنفعلًا بصراخٍ أجفل جسدها على أثره، فيما تركها هو ثم هتف بنبرةٍ جامدة:
_أخر تحذير ليكي قبل ما أفوقلك لو فكرتي تقربي من مراتي تاني ولا تحطي نفسك في مقارنة معاها أنا بنفسي هدوس عليكي وأخليها هي تحط رقبتك تحت رجليها، فاهمة؟؟ وحاولي تنضفي زيها شوية.
انتفضت من محلها تسأله بهلعٍ تحاول محو ظنونها:
_أنتَ حبيتها بجد ولا إيه ؟؟ فين كلامك إنك مش بتاع الكلام دا؟؟.
تنهد مُطولًا وهتف بصدقٍ:
_أنا لو ماكنتش حبيتها من أول ما شوفتها مكانتش فرقت معايا أصلًا أني أحميها وأدافع عنها، هي الوحيدة في الدنيا دي اللي عرفت تدخل قلبي بعدما قفلته على حب أمي وأخويا، علشان كدا اللي هيفكر يقرب منها ولا حتى يرفع عينه فيها أنا هطلع روحه في إيدي، أحمدي ربنا بس أني جيتلك هنا علشان لو فكرتي تلعبي بديلك قسمًا بربي هخلص منك حق السنين كلها واللي فات هتدفعي تمنه أضعاف.
التفت يوليها ظهره فوجده تصرخ بهيسترية:
_في ستين داهية، بكرة أخليك ترجعلي هنا تاني.
أبتسم بسخريةٍ والتفت لها برأسه يقول بوقاحةٍ:
_في مثل كدا واحد قالهولي في السجن، قالي اكرف للكارف يجي لحد عندك زاحف، وأظن أنا كارفك من بدري، يعني معروف مين اللي بيرجع من تاني زاحف يا “تهاني” بعدين زعلانة أوي كدا علشان قولتلك مليش في الحرام، يا شيخة اتكسفي على دمك شوية، بس هقول إيه ؟؟ تربية عوالم.
فتح الباب وخرج منه بعدما رأى أثر حديثه على ملامحها وقد نجح في اذلالها كما كانت تفعل مع زوجته، لذا تعمد اهانتها والضغط على جرح أنوثتها قبل أن يبدأ في ثأره لزوجته ولنفسه على سنوات عمره الضائعة بسببها كان أثرها حرمانه من قُربها وروحه معها.
___________________________
<“وُلِدَ في الفجر من رحم الظلام، ظهر الأمل بين الآلام”>
بداية جديدة عهد نفسه بها كما كان يفعل دومًا، قرر أن يتحرك من مكانه لعله يجد ما يُزيح عنه ألامه، لم يفهم حتى الآن متى تفاقمت كل هذه المشاعر بداخله، ألم تكن مجرد لقاءات عابرة كما يجمعك يومك بالعديد من الأشخاص، لما هي لم تكن عابرةً مثل البقية؟؟ لم ينسى نظرتها له، امتنانها وتقديرها له، فرحتها بشقيقها وحبها له البائن في نظراتها، إن كان القلب سابقًا يخشى الهوىٰ فعندها وحدها هوىٰ.
كان “أيوب” يسير بسيارته في الطريق مُتجهًا نحو قرية صغيرة على أطراف البلدة النائية زهيدة الخدمات والرفاهيات، مكانٌ متواضع لكنه الأقرب إلى قلبه، جعل الله هذا المكان سببًا في تعافيه أكثر من مرّة، هنا عاد له صوته بعد وفاة والدته وهنا تلقى العلاج النفسي بعد اختطافه، وهنا تلقىٰ الدواء لعلاجه من المرض وهنا تعافى بعد الاعتقال الأول وهنا تأقلم بعد الاعتقال الثاني، هنا “أيوب” وهنا تعلم كيف يصبر كما صبر “أيوب”.
لاحظ الطريق المظلم من حوله والسكون الغريب الذي غمره ففتح المذياع بسيارته خاصةً بعدما أغلق هاتفه تمامًا كعادته حينما يأتِ إلى هنا، كانت النشرة الإخبارية مُذاعة عبر إحدى محطات الراديو فلم ينتبه كثيرًا لما يُقال حتى توقفت النشرة الإخبارية وأتى بعدها كلمات أغنية صدح صوتها عاليًا مما جعله يطالع المذياع بسيارته بتعجبٍ وهم بإغلاقها إلا أنه لاحظ أنها صوتٌ فقط بدون موسيقى وكأن أحد الأشخاص يُغني بمفرده، لم يُحجم فضوله وتركها قبل أن يغلقها حتى استمع للكلمات وظهرت دهشته وكأن هناك مؤامرة تستهدفه بعينيه خاصةً مع ارتفاع صوت المُغني قائلًا:
_جرحونا برمش عين يا عين وكلامهم مَسِنا، سألونا إحنا مين قدمنا نفسنا، نحنا اللي القمر يا قمر معرفش يذلنا، الناس طلعوا القمر وقمرنا نزلنا.
شرد للحظةٍ عابرة يتذكر لقاءها معه خاصةً حينما سألته عن اسمه وهتف بعدها معرفًا نفسه ليأتيه أغرب ردٍ على الإطلاق منها وهي تقول:
_”كدا أنا عرفتك، الأسطى “أيوب” بتاع القُلل”.
ضحك رغمًا عنه حينما تذكر هذا اللقاء وأغلق المذياع وهو يهتف بيأسٍ:
_أستغفرك ربي وأتوب إليك، يا صبر “أيوب”.
استمر في سيره داخل القرية الملقاة على أطراف البلدة حتى أن الوصول إليها في غاية الصعوبة، لازال يتعجب كيف في هذا الوقت لم تصلها الخدمات ولم يهتم أحد المسئولين بها، هل لأن أهلها التزموا الصمت عن حقوقهم أم أن هناك ما يجعلهم في حاجةٍ للتشبث بما هم عليه؟؟.
أوقف السيارة أمام البيت القديم الموجود بوسط القرية وسط العديد من البيوت التي تماثله لكنه أكثرهم تألقًا وهذا لأجل اهتمام “أيوب” به من بعد وفاة والدته، نزل من السيارة وفتح حقيبتها يحمل أمتعته بيديه معًا، ثم أغلقها جيدًا واقترب من الباب يفتحه، ابتسم بصفاءٍ وهو يتذكر عبارةً قرأها إحدى المرات على زجاجة مياه مفداها هو
“صوت التكة أمان” هكذا فكر وهو يفتح البيت، فصوت المفتاح بداخل المِجرى جعله يشعر بالأمان وكأنه طفلٌ يهرب من بشاعة العالم خارجًا بين ذراعي والدته.
دلف البيت يقول بنبرةٍ خافتة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم إني أسألك خير المولج، وخير المخرج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا.
دلف البيت بعدما ذكر دعاء دخول المنزل بخطواتٍ هادئة ثم عاد يتمم على إغلاق سيارته وأغلق الباب مُلتفتًا للداخل يطالع البيت بشوقٍ بالغٍ وهو يتذكر صوت والدته قائلةً بنبرةٍ هادئة ذات مرةٍ جمعتهما سويًا:
_البيت دا روحي كلها يا “أيوب” مهما عيشت وشوفت حتى لو دخلت مليون قصر واسع وكبير، هيفضل دا أقربهم ليا، هنا أنا اتولدت وكبرت وعيشت حياتي كلها هنا، المكان دا طيب وعزيز على القلب، عاوزاك تخلي بالك البيت دا، تحطه في عينك، دا اللي باقيلي من بعد أهلي، ريحة الغاليين كلهم فيه، عاوزاك أنتَ وأخواتك تعتبروه مهرب ليكم، كل ما حد فيكم يتعب ييجي هنا يريح نفسه من العالم اللي برة دي، الناس برة بقت صعب أوي ولسه يابني، ربنا يحفظك ويبعد عنك شر الإنس والجن.
تنهد مُطولًا وهتف بنبرةٍ هادئة وكأنه يرد عليها:
_ربنا يرحمك يا “رقة” ويجمعني بيكِ في جنته.
بعد مرور بعض الوقت أخرج ثيابه وتحمم ثم قام بفرد سجادة الصلاة وقرر أن يقوم الليل قبل موعد الفجر بعدما صارع شيطانه الذي أخبره بأهمية الراحة والخلود إلى النوم لكنه قرر أن يقضي ليله بين يدي خالقه، مذكرًا نفسه بالآية الكريمة:
قال تعالى:
_”واللذين يبيتون لربّهم سُجدًا وقِياما، واللذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إن عذابها كان غراما”
تحمم وتوضأ وارتدى ثيابه ثم وقف على سجادة الصلاة يبدأ في علاج روحه كما اعتاد، يستثمر وقته وحياته بين يدي الخالق جل وعلا، هنا حيث السكينة والطمأنينة والسكون، حتى لو ركعتين في جوف الليل تسكنان آلام روحه بل تمحوها للأبد، هنا حيث السقوط بين يدي الخالق والذي يُعد أكثر شموخًا لنفسه وعزتها.
_________________________________
<“لم أكن بمهارة اللاعبين….لكن المباراة بدأت”>
جلس “نَـعيم” في فناء البيت على المقعد الموجود بها ينتظر موعد آذان الفجر فوجد “إيهاب” يقترب منه بسيارته ثم نزل منها يسأله بتعجبٍ من جلوسه بهذه الطريقة:
_قاعد كدا ليه يا حج ؟؟ حصل حاجة ولا إيه ؟؟
رفع عينيه نحوه يسأله بثباتٍ لا ينفك عن شخصيته:
_كنت فين كل دا يا “إيهاب” وسايب مراتك لوحدها؟؟.
جلس بجواره وهتف بلامبالاةٍ وكأن الأمر في غاية الطبيعة:
_كنت عند “تهاني”، كدا كدا هتعرف لوحدك يبقى أعرفك أنا بقى، مرضي كدا يا عمنا ؟؟.
سأله بإيجازٍ وكأنه سبق وتوقع هذا الجواب:
_روحتلها ليه ؟؟ حنيت ؟؟
انتبه له “إيهاب” وقد عقد ما بين حاجبيه وهو يرمقه بذهولٍ وهتف مُستفسرًا:
_حنيت ؟؟ لإيه بالظبط يا حج ؟؟
أخرج “نَـعيم” زفيرًا قويًا وهتف مفسرًا بدهاءٍ وهو يطالعه:
_لحياتك القديمة، عمهم اللي كل الستات تتمنى بس نظرة منه واللي كل الستات كانت بترسم عليه لبناتها، لو فاكر إنك هتعرف ترجع تاني زي الأول سلطان زمانك تبقى غلطان، علشان أنا واخد منك عهد وخيرتك بينها وبين صنف الحريم كله ولا نسيت ؟؟!.
تهدل كتفاه وارتخت أعصابه وهو يقول بنبرةٍ رخيمة يعبر بصدقٍ يكاد يكون ظهر للمرةِ الأولىٰ:
_حقك تقلق عليها علشان هي بنتك اللي أنتَ مطلوب منك حمايتها، بس عاوزك برضه تطمن إن كلمتي سيف على رقبتي عمري ما أرجع فيها، “سمارة” عندي بكل ستات الدنيا، مفيش ست غيرها تملا عيني، مفيش واحدة في الدنيا دي كلها تستاهل أني أفكر فيها حتى ودي خلتني مفكرش غير فيها، أقسملك بالله بحبها وحبها دا هو اللي صبرني على الهم دا اللي شوفته، أنا كنت هناك بجيب حقها بعد اللي حصل وقولتلك عليه.
أبتسم “نَـعيم” براحةٍ بعد استماعه لحديث “إيهاب” عن زوجته ثم ربت على ركبته وهو يقول بنبرةٍ هادئة أقرب في وصفها إلى حكمة أبٍ:
_بص يابني الراجل يعيبه حاجات كتير أوي أوي، سيبك من جيبه وفلوسه دا كلام ناس جعانة، الراجل بيتعرف من حمايته لمراته والأمان اللي بتحسه معاه في بيته، أنا لما خيرتك وخليتك اختارت بينها وبين الباقي كنت عارف إنك هتلتزم بكلمتك، هقولهالك تاني البت دي مكسورة الجناح ملهاش حد، الدنيا دوقتها كتير، شوية حنية وكلمتين حلوين قادرين يفرحوها، مجرد ما لقيتك بتحميها وهي خلاص شافتك أب ليها، ربنا يحرسكم لبعض ويهديك عليها.
أبتسم له “إيهاب” ثم مال على كفه يُقبله ثم رفع عينيه نحوه يقول بتأثرٍ وهتف كلمةً أثارت مشاعر الأخر حتى أدمعت عيناه بحبٍ شديد:
_ربنا يباركلنا فيك يا أبويا، وتفضل الدنيا كلها منورة بحسك فيها، طلباتك أوامر وأنا عليا التنفيذ، تؤمرني بحاجة تانية؟؟
حرك رأسه موافقًا وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_آه، تيجي توصلني الجامع الفجر قرب، هتصلي الفجر امتى أنتَ ؟؟.
فرك خصلات رأسه وقال بخجلٍ من نفسه:
_بصليه صبح والله، بس بقالي فترة بصلي علشان “سمارة” بتشجعني أصلي، ربنا يهدينا إن شاء الله.
ربت على كفه مُستحسنًا ثم وقف معه حتى يذهب للمسجد فوجد “إيهاب” يقول بسخريةٍ:
_بعدين أنتَ ماسك فيا وسايب “مـوهـي” ؟؟ الواد عليه عفريت بالنسوان، طعمه يا حج يمكن يخف شوية.
ضحك “نَـعيم” بصوتٍ عالٍ وهتف بقلة حيلة:
_جينات عمه المهببة بقى نعمل إيه، ربنا يهديه أنا تعبت منه ومن عمايله، بس أرجع وأقول أهو قصاد عيني معملش حاجة غلط، يخلص بس جامعته وافتحله صيدلية يتلم فيها.
بعد مرور بعض الوقت عاد “إيهاب” إلى شقته بعد تأدية الفرض في المسجد وقد أعتراه شعورٌ بالذنب تجاه زوجته خاصةً حينما وجدها تضع رأسها على طاولة السُفرة وامامها أطباق الطعام فهم على الفور أنها كانت في انتظاره، حينها أغلق بابه ثم اقترب منها يهتف اسمها بنبرةٍ هامسة وهو يقول:
_”سمارة” !! اصحي أنا جيت أهو.
تململت في وضعها المرهق لعضلات جسدها، فأخفض هو نفسه يجلس على إحدى رُكبتيه ثم مد أنامله يرفع خصلاتها عن عينيها وهو يهمس باسمها حتى رفعت رأسها تطالعه بعينين ناعستين حتى استطاعت أخيرًا فتح جفنيها وهتفت تسأله بنبرةٍ غطاها النعاس:
_كل دا يا سي “إيـهاب” ؟؟ استنيتك كتير يا أخويا.
أخرج زفيرًا قويًا وهتف بنفس النبرة الهادئة:
_أنتِ عارفة بكرة يوم مهم ولازم كل حاجة تجهز، المهم أنتِ كلتي ولا فضلتي مستنية ؟؟.
حركت كتفيها وهتفت بإحباطٍ عاد لها من جديد:
_معرفتش يا أخويا أكل لوحدي، نمت هنا بعدما كلمتك وأنتَ مرديتش عليا كتير زهقت وأنتَ قافل عليا كل حاجة كدا.
ربت على رأسها وقال معتذرًا بدون وعيٍ منه:
_حقك عليا بس كان غصب عني.
نظرت له بلهفةٍ وهتفت بصوتٍ مستنكرٍ تردد خلفه كلمته:
_حقك عليا ؟؟ يا أخويا لا حق ولا حاجة مش مستاهلة يعني، بس إيه دا يعني ؟؟ عمهم بيعتذرلي ؟؟.
اتسعت ابتسامته وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_سِــرك بــاتع على القلب والعين.
ضحكت هي الأخرى بفرحةٍ واخفضت رأسها للأسفل تحاول كتم تلك الضحكة الخجولة وهي تشعر بارتفاع ضربات قلبها بسبب فرحتها بحديثه، لذا اعتدل هو واقفًا ثم تحرك من جوارها حتى عقدت مابين حاجبيها لتجده يعود لها من جديد ثم جلس بجوارها على المقعد الأخر ووضع ما يمسكه في يده ثم فتح الأدوات وأمسك القطنة الطبية يمسح عنقها وهو يعاتبها بقوله:
_ما قولتلك طهريها وحطي مرهم علشان الجرح يلم، يا عمنا أنا ورايا هم متلتل هتحطي همك كمان فوق همي؟.
ضحكت بسعادةٍ بالغة وضغطت على كفيها معًا مما جعله يرفع رأسه يطالعها بتعجبٍ وقد زاد تعجبه من ضحكتها هذه فسألها بحيرةٍ طغت على نبرته:
_بتضحكي على إيه ؟؟ أنا بزغزك ؟؟
هتفت بنبرةٍ حماسية وهي تخبره عن سبب فرحتها بما يفعله:
_فرحانة يا سـي “إيـهـاب” يا أخويا ربنا يحفظك ليا، عمر ماحد خد باله مني، مابالك بقى بعمهم بنفسه بيعمل كدا علشاني؟؟.
أبتسم بصفاءٍ وترك ما في يده وهو يسألها بسخريةٍ:
_هما كانوا بيجلدوكي ولا إيه؟؟.
هتفت بحزنٍ ووجهٍ متهجم بعدما تذكرت ما حاربت لأجل نسيانه:
_أنتَ بتقول فيها يعني؟؟ دي كانت بتمسك الحِزام تقطعه على جسمي لحد ما يزرق ويحمر محدش كان بينجدني منها غير الجيران، وساعات أجري منها في الشارع مرجعش غير أخر الليل، منها لله أشوف فيها ٩٠ يوم وكل يوم فيهم أصعب من التاني.
تنهد “إيـهاب” بثقلٍ وهتف بنبرةٍ موجوعة لأجل وجعها وهي تطالعه بانكسارٍ وعينين دامعتين وقد قربها منه يحتضنها لعلها تشعر بالأمان في قربه:
_حقك عليا والله، أنا برضه مشوفتش أيام حلوة غير مع أمي بس قبل ما تموت وترتاح، بس باجي عندك أنتِ وبنسى كل حاجة، ممكن معرفش أنسيكي اللي فات، بس اوعدك أني أحاول أخلي اللي جاي حلو، سيبك من الدنيا كلها وخليكِ مع عمهم، هترتاحي.
تنهدت بعمقٍ ثم رفعت كفيها تتضرع بقولها:
_روح ربنا يحفظك ويخليك ليا يا رب، هو أنا اتنصفت في الدنيا دي غير لما بقيت معاك ؟؟.
اتسعت ابتسامته هو الأخر ولثم جبينها ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا بقى بقيت غاويكِ وراضي باللي يرضيكي.
شهقت بفرحةٍ أعربت عن دهشتها بحديثه لتجده هو تلك المرة ضمها إليه يشدد تلك الضمة ونظر أمامه بشرودٍ وهتف بنبرةٍ هادئة بها الكثير من الإصرار:
_أهي ضحكتك دي هي اللي مصبراني، ربنا يديمها عليكِ وليا.
_______________________________
<“سطعت الشمس من جديد، متى تشرقين أنتِ؟”>
في الصباح وبعدما أشرقت الشمس من جديد خرج “عبدالقادر” من غرفته لكي يذهب إلى عمله فوجد “آيات” تقترب منه وهي تقول بتعجبٍ من تأخر شقيقها الصغير حتى الآن:
_بابا هو فين “أيوب” كل دا ؟؟ هو خرج من غير فطار؟؟
تنهد “عبدالقادر” بضجرٍ وهتف موجزًا حتى لا يأخذ الحديث صدى أكبر من اللازم:
_”أيوب” سافر بيت جدك الله يرحمه.
تفاجئت هي بقول والدها لذا اختصرت المسافة الفاصلة بينهما في خطواتٍ واسعة وهي تسأله بتعجبٍ:
_ليه يا بابا ؟؟ هيروح هناك ويفضل لوحده؟؟ دا إحنا ما بنصدق يفضل وسطنا هنا من غير ما يمشي.
وضع ذراعه على كتفها يقول بنبرةٍ هادئة:
_خليته يروح يرتاح شوية، يمكن هو يكون تعب من القلق اللي هنا و ظهور “يوسف” اللي طلع مرة واحدة دا مخليه متلغبط، المهم هو كلمني الصبح وقالي أنه خرج لحد الجامع وهيفطر برة.
حركت رأسها باستسلامٍ وقالت بنبرةٍ أظهرت مدى حزنها:
_الإمام “علي بن أبي طالب” قال لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلة سالكيه، “أيوب” مشي في طريق الحق علشان قرر يقرب الأخوات من بعض، يبقى إن شاء الله ربنا هيعوضه، بعدين هما لو لفوا الدنيا كلها هيلاقوا زي أخويا فين ؟؟.
حاولت إضافة المرح لحديثها وهي تسأل والدها مما جعله يضحك لها ثم قال يجاريها هو الأخر:
_مش عارف هيلاقوا زيه فين، أنا نفسي دوخت على واحد زيه كدا احطه عند البوابة هنا.
ابتسمت هي باتساعٍ فضمها له “عبدالقادر” ثم ربت على ظهرها وقبل جبينها حتى وصلهما صوته من خلفهما يقول بضجرٍ:
_هو أنا محدش بيعبرني هنا ليه؟؟ مش عاجبكم طيب؟؟.
التفت “عبدالقادر” نحو مصدر الصوت فوجد “أيـهم” يحمل “إياد” على كتفيه وقد نزل الدرجات المتبقية وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_محدش بيحضني غير الواد “أيوب” هروحله يحضني.
هتفت “آيات” توقفه بقولها الحزين:
_بس هو مشي للأسف، مش هنا.
سألها بتعجبٍ بعد حديثها:
_راح يحضن حد غيري ولا إيه ؟؟.
حركت رأسها نفيًا فسأل هو بثباتٍ:
_أومال راح فين ؟؟ هو مشي بجد ؟؟
أخبرته “آيات” عن رحيله فتنهد هو بضجرٍ ثم هتف بنفاذ صبرٍ وضيقٍ لأجل أخيه:
_وهو يعني هيترفض ليه ؟؟ المكسب ليهم في وجود “أيوب” معاهم ولو “يوسف” دا رفض يبقى حمار، أخويا مفيش منه وأي حد يتمناه، مش عارف زعل نفسه ليه؟؟
تحدث “عبدالقادر” بلهجةٍ ثابتة لا تقبل النقاش:
_حصل اللي حصل خلاص وهو سافر يرتاح، لما يظبط نفسه ويستقر نفسيًا هيرجع تاني، وبصراحة بقى أنا فرحان أنه مشي على هناك، علشان واثق أنه هيرجعلي بخير.
تدخل “إياد” يقول بحماسٍ:
_هو كان هيفوق في حالة واحدة بس لو خدني معاه.
رفع “أيهم” رأسه له يقول بسخريةٍ:
_آه علشان كدا يفوق البلد كلها معاه، بس يا حبيبي.
أبتسم لهما “عبدالقادر” ثم نظر لابنته وقال بنبرةٍ هادئة:
_النهاردة الجمعة، “تَـيام” هيجيلك تتكلموا سوا، أظن أنا واثق فيكِ وفيه هتتقابلوا هنا علشان قولتله مفيش خروج برة البيت، وهو موافق، ماشي ؟؟
حركت رأسها موافقةً بخجلٍ جعله يبتسم لها ثم نطق من جديد مرغمًا على التحدث:
_اقعدوا افطروا يلا قبل ما ننشغل، اقعدوا.
التفوا حول المائدة يتناولون الطعام وكلٌ منهم كما يُقال يبكي على ليلاه، لكن هنا الحزن لأجل رحيل “أيوب” الذي يعد وجوده في البيت كما النور لبلدةٍ تعاني من غياهب الظلام.
_______________________________
<“لست وحدي ….. فهي بقلبي”>
جلس “أيوب” أمام قبر والدته وجديه، كان يتلو القرآن بصوته العذب ثم أنهى القراءة وجلس على إحدى ركبتيه يهتف بعدما تنفس بعمقٍ ورسم إبتسامة هادئة على شفتيه:
_وحشتيني يا “رقة” وحشني صوتك ورقتك وحنيتك، النا طلعت مش زي ما كنت فاكر، طلعت أصعب، مبيرحموش، الطيب اللي عاش وسطهم داسوه وكملوا عادي، واللي وقف ياخد حقه بقوا جبروت وغاوي قلق ومشاكل، واللي دفن نفسه جوة الحيط الحيط وقع عليه وكشف ضعفه، مسابونيش في حالي وأنا واللي سايب الدنيا كلها وماشي فيها زاهد، حتى الزاهد دا مرحموهوش وعاوزينه زيهم مسخ، تفتكري أنا هقدر أكمل ولا نفسي قصير ؟؟ أنا والله مش بتاع مشاكل بس هما مصممين يعادوني، وابنك قلبه أضعف من أنه يأذي حد.
نزلت دموعه وهو يتذكر ما مر به وكيف تجرع كؤوس القسوة قصرًا وإجبارًا، في كل مرّةٍ كان يصمت ويسكت ويبكي بينه وبين نفسه وأمام الجميع يقف بصمودٍ وشموخٍ لم يحني رأسه سوى لخالقه حتى أن إزهاق روحه كان أمرًا محتومًا، لكن كالعادة كرمه الله بفرصةٍ أخرى، تنهد بعمقٍ وهتف لنفسه بصوتٍ عالٍ يذكرها بأمر خالقه وتدابيره:
_النار لم تحرق إبراهيم، والسكين لم تذبح إسماعيل، والبحر لم يغرق موسى، والحوت لم يأكل يونس
فقط كل ما علينا أن نثق بالله ونردد قوله تعالى:
( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ).
تنهد بعمقٍ ثم أبتسم من جديد ونطق بنبرةٍ خافتة:
_الحمد لله على كل ما يُكتب لنا، فاللهم أني وكلتك فأعني على نفسي ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
_________________________________
<يظنوننا فئران بالمصيدة لكننا خيول في ميدان المعارك>
وقف “يوسف” يشرف على المكان والترتيبات بنفسه وفي الداخل “إيهاب” كان يقوم بنفس الدور هو الأخر مُتممًا على كافة شيءٍ، بينما “إسماعيل” تمم على نقل الخيول وحمايتها، كان العمل على قدمٍ وساقٍ من الجميع عدا “مُـحي” الذي وقف مع فتاةٍ تضحك معه بصوتٍ عالٍ بعدما استطاع بطريقته المعتادة جذب أنظارها نحوه، حتى انتبه له “يوسف” فاقترب من “إيهاب” يسأله بحيرةٍ:
_بقولك إيه يا عمهم ؟؟ البت دي مش كانت مش طايقة حد من شوية وعمالة تنفخ وتزعق في الموبايل، حصل إيه؟؟.
أرجع “إيهاب” رأسه للخلف يطالع الوضع الذي يتحدث عنه الأخر ثم أبتسم بزاوية فمه وهتف بسخريةٍ:
_لأ عادي، “محي” شاقطها مش أكتر.
ضحك “يوسف” بسخريةٍ وقال بيأسٍ منه:
_الواد مُريب يخربيته، بس اللي مُريب أكتر إزاي هما بيعبروه، الواد عنده استراتيجيات تجيبله جيش حريم كامل.
قبل أن يرد عليه “إيهاب” دلفت “سمارة” نحوهما بحماسٍ بعدما نزلت من سيارة “نَـعيم” الذي سار خلفها، فيما نطق زوجها بنبرةٍ جامدة فور رؤيته لها:
_إيه اللي جابك هنا ؟؟ معرفتنيش ليه إنك جاية؟؟.
هتفت بخوفٍ وتلجلجٍ منه:
_والله جيت مع الحج، قولتله وهو وافق.
رفع حاجبيه وهَمَّ بالنطق من جديد فوجد “نَـعيم” يوقفه بقوله:
_إيه يا “إيهاب” ؟؟ خلاص مش مالي عينك ؟؟ هسيبها إزاي في البيت لوحدها والرجالة كلها هتيجي هنا؟؟.
هتف “إيهاب” بحرجٍ منه ومبرئًا لنفسه:
_العفو يا حج، أنا كدا كدا كنت هروح أغير هدومي وأجيبها معايا، ماكنتش هسيبها لوحدها يعني، بس دلوقتي هركز إزاي معاها؟؟.
هتف “نَـعيم” بخبثٍ وهو ينظر لهما سويًا:
_مالكش دعوة، أنا هنا وهخلي بالي منها، شوف شغلك ولما تيجي مروح خدها معاك، وأنا هفضل هنا كدا كدا جهزت من بدري.
هتف “يوسف” بعدما نظر في ساعة معصمه:
_طب أنا ممكن أروح حارة العطار أغير هدومي وأجيب شاحني بدل ما أنا بتذل هنا كل شوية، وبالمرة اتطمن على أمي وأختي.
تدخلت “سمارة” تقول باندفاعٍ بدون تعقل:
_بالله عليك يا أستاذ “يوسف” هات أختك تبقى معايا هنا، أنا معرفش حد خالص ومفيش ستات هنا غير ست “تحية” ودي السوق بالنسبة ليها خروجة، هاتها معاك وعرفني عليها.
نظر لها باهتمامٍ ثم ابتسم بحماسٍ وقال بلهفةٍ:
_تصدقي أنتِ صح ؟؟ حاضر هجيبهالك وتاخدوا بونس بعض هنا وبالمرة أجيب البت “ضحى”.
شهقت بفرحةٍ وسألته بغير تصديق وكأنها لم تتوقع موافقته:
_بجد ؟؟ يعني موافق ؟؟
حرك رأسه لها بإيماءةٍ جعلتها تبتسم بفرحةٍ أكثر وقد زادت فرحتها حينما قال “إيـهاب” بثباتٍ:
_كدا كدا هيجيبها علشان “إسماعيل” يشوف عروسته عاوز أفرح بالواد.
تحدث “يوسف” بجمودٍ يؤد به خيالاته:
_دا عند الست أمك، أختي محدش هيقرب منها هو أنا بلاقيها بعد كل دا علشان أفرط فيها؟؟.
رفرف “إيهاب” بأهدابه وقد تدخل “نَـعيم” يهتف بسخريةٍ:
_”مصطفى الراوي” لو كان سمعك كان وأدك أنتَ، دا من أول ما ربنا رزقه بيها وكل تفكيره أنه يشوفها بالفستان الأبيض.
توجه له “يوسف” بنظراته يقول بجمودٍ:
_وأنا برضه بفكر في الأبيض بس للي يقرب من أختي.
دفعه “إيهاب” في كتفه بانفعالٍ وهو يقول:
_خلاص ياعم، متقرفش اللي جابونا داهية تاخدكم سوا، أنا يعني مستغني عن الواد اللي حيلتي، خليها تبور جنبك.
ضحك “يوسف” رغمًا عنه وكذلك البقية حتى نطق هو بحماسٍ تخلله بمجرد فكرة تواجدها معه:
_طب أنا هروح دلوقتي حارة العطار وبعدها أجيب “قمر” مش هتأخر ولو فيه حاجة كلموني وأنا هظبطهالكم.
تحرك من المكان بسرعةٍ بعدما حصل على موافقتهم، وظل الثلاثة واقفين وقد لاحظ “إيهاب” وقوف “نَـعيم” بينه وبين زوجته، فسأله بخبثٍ:
_بقولك إيه يا حج، تحب تطلع تطمن على الخيل؟؟.
فهم “نَـعيم” سبب حديثه لذا أمسك كف “سمارة” وقال بدهاءٍ أشعل غيظ الأخر:
_لأ هطلع وأخد “سمارة” معايا علشان تركز في شغلك يا “عمهم”، يلا يا بابا بص قدامك بقى.
رحل بها نحو الخارج وهي تطالعه بعدما ادارات رأسها نحوه ليقول “إيهاب” بغيظٍ منهما:
_ماشي، وربنا المعبود لأعمل شهر عسل بس أخلص المدعكة دي، ساعتها ابقى وريني أخرك يا حج.
_______________________________
<الفرص الذهبية تأتي مرة واحدة، والذكي صاحب الهدف>
جلس “أيهم” بجوار “بيشوي” في محل عمل الأول الذي لاحظ تهجم وجه رفيقه وضجره منذ الصباح لذا هتف بنبرةٍ جامدة:
_يابني ؟؟ مالك ما أنتَ كويس امبارح وماشي زي الفل.
أخرج “بيشوي” زفيرًا وهتف بقلة حيلة:
_مخنوق ياعم، كل شوية تتعقد تتعقد لحد ما قفلت عليا، كان ويل من أبوها دلوقتي هي، لا عارف اكلمها بأي صفة ولا هو راضي يوافق، أنا عمال أكبر وهي عمالة تستنى، أخرتها إيه؟؟ خلاص كدا فاض بيا وهي كمان فاض بيها.
رفع كفه يربت على كتف رفيقه وهو يطمئنه بقوله:
_ياض بتفضل تضيق كدا علشان تفرج مرة واحدة علينا، فكرك يعني فيه حاجة بتيجي بالساهل ؟؟ لازم شوية كركبة وكلكعة، اصبر شوية لحدما ربك يكرم بالحل، اتطمن.
حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة ثم نطق بضجرٍ بعدما تذكر:
_صحيح، مدرس الإنجليزي اللي قولتلي عليه أجيبه للعيال ربنا كرمه من وسع.
سأله “أيـهم” بتعجبٍ من حديثه:
_جاله إعارة ولا إيه ؟؟.
حرك رأسه نفيًا ثم هتف بإيجازٍ:
_مات، المستر طلع ميت من شهر.
ضحك “أيهم” رغمًا عنه وقد ضحك الأخر أيضًا وكلاهما يخالط ضحكاته اليأس حتى وصلهما صوتٌ يقول بخجلٍ:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
انتبه كلاهما لصاحبة الصوت التي لم تكن سوى “نهال” فوقف “أيهم” يقول مرحبًا بها:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، نورتي.
حركت رأسها وهتفت بوجهٍ مبتسمٍ:
_دا نور حضراتكم، أنا جاية علشان أوصل فلوس الدفعة التانية، للأسف الحج مش هناك.
وقف “بيشوي” يقول باستئذانٍ منهما:
_طب عن اذنكم هروح أشوف مستر إنجليزي بدل اللي مات دا.
ضحك “أيهم” فيما نطقت هي بحزنٍ:
_لاحول ولا قوة إلا بالله، حضرتك عاوزه لمين؟؟
هتف “أيهم” مصغرًا من حجم الأمور بقوله:
_متشغيليش بالك، كنا هنجيب مدرس انجليزي لـ “إياد” ومعاه “ابانوب” و “كاتي” ولاد أخت “بيشوي” بس للأسف بقى ربنا يرحمه.
هتفت هي باندفاعٍ تعرض عليهما قولها:
_أنا ممكن اذاكرلهم، أنا مدرسة إنجليزي على فكرة.
نظر كلاهما للأخر بتعجبٍ فيما عقد “أيهم” حاجبيه وسألها ببلاهةٌ غلفتها الحيرة:
_إزاي ؟؟ مش حضرتك ماسكة شغل والدك؟؟
حركت رأسها موافقةً وهتفت بتفسيرٍ له:
_أيوا بس شغلي الأساسي مُدرسة انجليزي، أنا بساعد بابا بس مش أكتر علشان هو تعب فترة اضطريت أكمل مكانه، المهم لو حابين أنا موجودة.
دلف “إياد” في هذه اللحظة وفور رؤيته لها شهق بفرحةٍ وركض نحوها يقول بحماسٍ شديد:
_طنط “نهال” عاملة إيه؟؟
التفتت له بلهفةٍ هي الأخرى وكأنه صغيرها ثم أقتربت منه تحتضنه وهي تقول بفرحةٍ غريبة فور اقترابها منه:
_حبيب قلبي وحشتني أوي، طمني عليك؟؟
حرك رأسه موافقًا وهو يضحك، فسأله “أيهم” بنبرةٍ ضاحكة:
_بقولك إيه يابن المحظوظ، إيه رأيك تاخد درس انجليزي مع طنط “نهال” ؟؟ المستر اللي قولتلك عليه ربنا كتبله الراحة قبل ما يشوفك.
اتسعت عينا الصغير وسألها بدهشةٍ:
_بجد ؟؟ هتديني الدرس ؟؟ ومعايا “أبانوب” و “كاتي”؟
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له وكأنها مُجبرة على الإذعان له والخضوع لما يريده، فكيف ترفض مطلبه وهي كل ما تريده أن تبقى بجواره بعدما تمنت من الله يرزقها بطفلٍ مثله لكن الله لم يرد لها، حتى احتسبت هي أمرها وأجرها عند الخالق، خرجت من شرودها بعينين دامعتين ثم سألته بصوتٍ مبحوحٍ:
_قولي بس أنتَ جايب فيه كام ؟؟.
هتف بفرحةٍ يخالطها الفخر والاعتزاز:
_جايب فيه ٣٥ الحمد لله.
سألته بلطفٍ:
_حلو ٣٥ من ٤٠ ؟؟
علق عليها مُعدلًا بلهفةٍ:
_لأ، ٣٥ من ٦٠.
سعل “أيهم” بشدة من فرط إحراجه مما جعل “بيشوي” يضربه على ظهره عدة مراتٍ وقد لاحظت “نهال” مايحدث لذا كتمت ضحكتها ثم قالت من جديد بنفس اللطف:
_ولا يهمك اللي فات مات خلاص، إن شاء الله هظبط المواعيد ونبدأ قبل الدراسة ما تبدأ، موافق؟؟
حرك رأسه موافقًا بحماسٍ جعلها تبعثر خصلاته ثم اعتدلت في وقفتها تقول بوجهٍ مبتسمٍ:
_كدا الكلام على شُغلين، إن شاء الله نظبط الدنيا سوا وأنا هبدأ معاهم بعد اذنكم طبعًا، لو موافقين.
هتف “بيشوي” بلهفةٍ:
_لو ؟؟ أنتِ نجدة لينا والله، ألف شكر.
أيده “أيهم” بقوله موافقًا وهو يطالعها بامتنانٍ:
_ربنا يسهلها عليكِ زي ما سهلتي علينا الدنيا، شكرًا.
حركت رأسها موافقةً وهتفت وهي تقرب الصغير منها:
_كفاية بس أني هكون مع “إياد” دي أحسن من مليون كلمة شكر في حقي.
انتبه “أيهم” لما تفوهت به وأمعن نظره في تمسكها بصغيره الذي وقف بجوارها يضحك معها وهي تداعب خصلاته، ليفكر هو كيف لها أن تجعله هكذا معها وتتمسك به وتلتمس قربه في الوقت ذاته الذي تتهرب والدته من مسئوليتها تجاهه؟؟ هي أمامه مثال حي لمقولة فاقد الشيء أحق من يُعطيه لأنه أكثر الناس درايةً بشعور الحاجةِ إليه.
__________________________________
<“الحلم حقيقة والخيال واقع”>
جلست “آيات” بخجلٍ تفرك كلا كفيها في بعضهما و “تَـيام” يجلس مقابلًا لها في يده ورقة وقلم يقرأ ويدون أمام الخانة المطلوب الجواب عندها، وبين الحين والأخر يفرك خصلات رأسه بتوترٍ كما لو أنه بداخل لجنة اختبارات حتى أنهى ما يفعله ومد يده لها بالورقة وهو يقول بسخريةٍ:
_اتفضلي يا ميس “آيات” ابقي حُطيلي نجمة بقى.
وأدت بسمتها وسحبت منه الورقة ثم قلبتها على ظهرها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_دا مش امتحان يا “تَـيام” دا زي اتفاق ما بيننا كدا، إحنا هنأسس بيت لينا سوا نكمل فيه العمر اللي جاي علينا، البيت دا لازم نأسسه صح، وعلشان نأسسه صح لازم يكون أساسه الدين وأوامر ربنا والإلتزام بفروضه، دا المهم عندي مش مهم عفش ولا جهاز ولا حتى فلوس، المهم عندي إننا سوا نبني بيت يحبه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، مفيش بيت واحد خالي من المشاكل لو أجزم أهله بكدا حتى لو أقاموا الليل طوال عمرهم وصاموا الدهر أبدًا، لكن فيه بيوت مليانة مودة ورحمة بين الزوجين تخليهم يعدوا المشاكل دي لو حضرت بينهم، الجواز مش لعبة ولا حتى مجرد التقاء عابر بين اتنين أو حتى علاقة بتتم بين الزوجين، الجواز أكبر من كدا بكتير، ووسط كل المشاكل اللي حوالينا إحنا بقينا ناسيين هدفه نفسه، علشان كدا لازم قبل أي حاجة، نبدأ صح علشان نكمل صح.
سألها “تَـيام” باهتمامٍ جليٍ وكله انصاتّ لها:
_إزاي؟؟ دليني وأنا سامعك أهو.
تنهدت مطولًا وهتفت بثباتٍ وتقريرٍ:
_الخطوبة شرعية، يعني مفيش مكالمات غير بحدود ومقابلة أسبوعية زي دي وحد هيكون موجود، مفيش أي كلام عن المشاعر أو أي غزل طول ما مفيش بينا أي رابط شرعي، صدقني أنا مش معقدة بس والله عاوزة البركة تملا بيتنا من غير ما يحصل حاجة تبوظ حياتنا، دا كل اللي أنا طلباه، موافق يا “تَـيام” ؟؟.
تنهد مُطولًا ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_موافق يا “آيـات” بس عندي سؤال مهم ينفع؟
حركت رأسها موافقةً وهي تنظر له بكامل تركيزها، فسألها هو بوجهٍ أحمر حتى أصبح قاتمًا في محاولةٍ منه لكتم ضحكته:
_بعد كتب الكتاب علاقتنا هترحرح شوية؟؟.
ضحكت رغمًا عنها بصوتٍ بدأ في الارتفاع وهو أيضًا ضحك معها لكنها كتمت هذا الصوت ووضعت كفها على فمها ليقول هو بينه وبين نفسه بنبرةٍ خافتة أقرب للهمس:
_لو كان حلم أنتِ خلتيه حقيقة، ولو كان في خيالي أنتِ خلتيه واقع.
__________________________________
<“تلقينا العديد من الصفعات وحصلنا على القمر”>
وقفت “غالية” تطالع ملامح ابنتها التي وقفت تتوسلها بنظراتها حتى تذهب مع أخيها إلى الحفل، بينما هو وقف بترقبٍ حتى تنهدت”غالية” باستسلامٍ وقالت:
_ماشي خدها بس لو اتأخرتوا أنا هيبقى ليا رد عليه فعل تاني، أنا بخاف أصلًا من غيابكم، مش ناقصة توتر واعصابي تبوظ.
قفزت “قمر” عدة مرات وهي تصرخ بحماسٍ ثم أقتربت من والدتها تقبل وجنتها ثم ركضت نحو غرفتها، بينما “يوسف” سأل والدته بلهفةٍ بعد تحرك شقيقته:
_موافقة بجد ؟؟ والله هحطها في عيني، مش عاوزك تخافي
رفعت كفها تحاوط صفحة وجهه وهي تقول بتأثرٍ:
_عاوزاكم تخلوا بالكم من نفسكم، ترجعلي معاها، زي ما هتخلي بالك منها تخلي بالك من نفسك أنتَ كمان يا حبيب عيوني.
لمعت عيناه بتأثرٍ وارتمى عليها يحتضنها وهو يقول بنبرةٍ مبحوحة:
_هرجعلك والله هرجعلك والمرة دي مش هسيبك غير وأنتِ ملزماني زي ضِلي، مش عاوز غير إنك تستنيني لحد ما أرجعلك.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له ثم رفعت ذراعيها تربت على ظهره حتى صدح صوت جرس الباب فتحرك “يوسف” يفتح الباب وفور فتحه وجد “علاء” أمامه مما جعل عينيه تتسع بشررٍ ازداد عنده حينما هتف “علاء” بنبرةٍ هادئة وأدبٍ يخالف طبعه:
_مساء الخير ممكن كلمتين؟؟.
نظر له “يوسف” بتأهبٍ كمن ينتظر ساعة الصفر ليعلن هجومه حتى هتف الأخر بما أشعل نيران صدره:
_أنا عرفت إنك أخو “قمر” وعلشان كدا جاي طالب القُرب منك فيها.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى