رواية غوثهم الفصل الخامس والسبعون 75 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الخامس والسبعون
رواية غوثهم البارت الخامس والسبعون
رواية غوثهم الحلقة الخامسة والسبعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخامس والسبعون”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
لقد جيئت إليكَ كأني بدوني أنا
أغيثني يا مُغيث فالعدو كان أنا..
فاض الدمعُ من المُقلتينِ
والقلب بكىٰ من فرط العَنا..
إلهي تقبلني بجوارك هُنا.
حتى ولو صاحب الذنب أنا ..
_”غَـــوثْ”
__________________________________
لقد تغربتُ كثيرًا في الحياة..
وكنتُ شخصًا لم تقارنه سوىٰ المآساة،
فلا وجدتُ وطنًا يحويني ولا وجدت يومًا النجاة..
كنت أسيرُ كل يومٍ أتمنى أن يُرافقني الممات،
لكن عند وجودك حيَّا القلبُ من جديد وحدثت المُعجزات،
فلا كانت تألفني يومًا الحياة…
ولا طوال عمري وجدتُ فيها النجاة..
ولقد سئمت بها كل شيء ولم أفقه عن العالم حولي
أي شيء، لتظهري أنتِ وتصبحين في عيني العالم بأقمارهِ بمدارتهِ بكل مافيه من شيء…
<“إتحاد القوة مع النقاء، كُتِب لهما اللقاء”>
تحرك “سـامي” من غرفة المكتب بعدما غرق في التفكير مرارًا ومرارًا بنفس اللحظة التي استمع بها لصوت الجلبة بالخارج، ليخرج أخيرًا على صوت جر الحقائب وقد تحرك حينها نحو الأعلى ليفتح غرفة “يـوسف” ووجده بداخلها !! ومن هذا الذي يجلس معه؟ حرك رأسه نحوهما بتعجبٍ ليبتسم “يـوسف” بتهكمٍ وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_مش قولنا ١٠٠ مرة نخبط على الباب؟.
تبدلت ملامح “سامي” للإرتباك بكل خوفٍ فيما تحرك الأخر نحوهِ وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة وللحق لم تكن الضحكة صافية كما أعتاد بل كانت أخرى:
_نسيت أعرفك بنفسي، أنا “أيوب عبدالقادر بكر العطار”
أوعي تكون ناسيني علشان هزعل أوي زي ما أنتَ زعلتيني قبل كدا.
في قديم الزمان قيلت حكمة عظيمة مفداها:
“يَـومٌ لكَ ويَـومٌ عَليكَ” وها نحن نرى من كان منتصرًا بالأمس يهزم اليوم في عقر داره أمام ابنا غريميه؟ مقابلة ساحقة لروحهِ ودَّ على أثرها أن تنشق الأرض وتبتلعه بداخلها أهون عليه من موقفٍ مثل هذا يقف فيه أمام النسختين المُصغرتين من غريميه، وقد تحرك بؤبؤاه بتشتتٍ جعل “يوسف” يترك نقطة وقوفه وينتقل لأخرى مجاورًا من خلالها “أيـوب” تزامنًا مع قولهِ مُتهكمًا:
_القطة بلعت لسان أمك ولا إيـه؟.
حرك “سامي” عينيه الزائغتين من جديد نحوهما هما الإثنين معًا لا يصدق عينيه ولا حتى يستوعب الاسم الذي نُطِقَ أمامه، بينما “أيــوب” ظل مُمعنًا بنظراتهِ في عينيهِ يُطلق فيهما سهامًا بالكاد قتلته محله صريعًا، لم ينس هذه النظرات طوال العمر المنصرم عليه..
لم ولن ينس نظرات خاطفه الذي ذهب إليه زيارةً في مرقده المُخيف، نعم فالخاطف حينها كان “سـامي” الذي أراد الانتقام من “عبدالقادر” في صغيرهِ..
هنا تحدث “أيــوب” بملامح مُخيفة رافقها الوجه القاتم وهو ينطق بنبرةٍ تهكمية يحاول بها إخفاء غضبه:
_أعذره، أصل مخضوض برضه، ابن الراوي ومعاه ابن العطار في قلب بيته في نص الليل، تفتكر دا شيء هين يعني؟ إلا قولي بصحيح هو أنتَ مش متفاجيء إني هنا عندك؟ غريبة السرطان مموتنيش يعني…
كان يشمله بنظراتهِ أثناء التحدث من الأعلى للأسفل وهو يرمقه بسخطٍ حادٍ وقد أنهى حديثه بعدما بتره بدون تكملة ليتفرس ملامحه بشراسةٍ ثم أضاف مُعدلًا على حديثه:
_آه صح، دا بيت مراتي وأخو مراتي عندكوا عشا هنا؟.
كتم “يـوسف” ضحكته وابتلع تشفيه بداخل جوفه فيما وقف “سامي” مذعورًا أمامهما بخوفٍ قتله في محلهِ وهو أمامهما، ويُكاد يُجزم أنه لو رآهما في أحد كوابيسه ما كان يرى الوضع بهذه الخطورة، الوضع أصعب مما تتحمله نفسه الجبانة الضعيفة، وكاد أن يركض صارخًا وهو يرى النظرة القاتمة هذه في عينيهما..
في نفس اللحظة أقترب منه “أيـوب” يقطع المسافة الفاصلة بينهما وهتف من بين أسنانه بنبرةٍ جامدة:
_ اتفضل بقى علشان دي لحظة عائلية، ولا تحب تنورنا؟.
هنا تدخل “يـوسف” يهتف بسخريةٍ امتزجت بتشفيه في ملامح الأخر الذي بدا عليه الوجوم والضيق والذُعر أيضًا:
_لأ يا عم هو حلو عليه كدا، أنا بقول يِـريح.
حرك “أيـوب” رأسه موافقًا ثم أمسك مرفق “سامي” يدفعه للأمام بخفةٍ وهو يقول بمرحٍ خبيثٍ:
_أنا بقول كدا برضه، يروح يريح شوية.
أنهى جملته وأخرجه لخارج الغرفة ثم صفع الباب خلفه حتى أجفل جسد “سامي” من عنف الصوت وقد أرتجف جسده حتى سارت القشعريرة به مثل لمس الكهرباء، حرك رأسه نفيًا وقد زاغ بصره وهو يفكر كيف يرى الإثنين معًا في عقر داره بهذا التوقيت؟ صدمة تملك رهبة قاتمة فاق أثرها قدرة العقل على التحمل.
في الداخل زفر “أيـوب” مُطولًا ثم نظر للآخر الذي ابتسم باستمتاعٍ لذيذ وهو يرى أثر خطته وحيلته تنطوي على الأخر وقد رد له صفعة الصباح بعشر أمثالها وقد أرتمى على الأريكة المجاورة لباب الغرفة وأشار للأخر قائلًا:
_تعالى أقعد بقى لحد ما عم “فيصل” يجيب الحواوشي بعدها آخد حاجتي المهمة وأمشي من هنا علشان مش طايق نفسي، ولا طايق أبوهم أصلًا.
جلس “أيـوب” بجواره وسأله بنبرةٍ هادئة:
_قولي بس هنعمل إيه تاني؟ فاضل حاجة تاني؟.
حرك رأسه موافقًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا هاخد بس حاجات مهمة من هنا والعَجلة بتاعة أبويا الله يرحمه، وبعدها نتحرك علشان مأخركش أكتر من كدا، أنا أصلًا متكيف أوي أوي بمنظره كدا، وخوفه منك أكتر بكتير من خوفه مني، أنا اتفاجئت أصلًا باللي حصل منك، إيه السبب اللي يخليه يخطفك؟ وإيه عداوته مع أبوك؟.
حرك كتفيه بحيرةٍ واضحة وهو يؤكد له عدم معرفته بالأمر بينما الأخر قبل أن يستأنف استفساراته انتبه لصوت باب الغرفة فتحرك من محلهِ نحو الباب وفتحه ليجد أمامه “فيصل” الذي مد يديه بالطعام له وقال بنبرةٍ ودودة:
_الأكل أهو يا باشمهندس، ألف هنا وشفا.
أخذه منه “يوسف” بعدما رد عليه وعرض عليه المشاركة معهما لكن الأخر رفض وتركهما برفقة بعضهما ورحل من البيت نحو الخارج، فيما جلس “يـوسف” ووضع الطعام أمامه وأمام “أيـوب” الذي بدأ يتناول الطعام معه بصمتٍ..
__________________________________
<“خدعوك فقالوا أن ما تراه وهمًا”>
حينما يبرع العدو في تقديم وجبة الانتقام..
يجعل جوارحك بأكملها تستلذ الانتظار خوفًا من الوصول للنقطة الحاسمة خوفًا من القادم وخوفًا من عدوٍ مجهولة حجم قوته..
وصل “سامي” لغرفتهِ بحالة مُزرية، الأمر أصعب ما يتصور هو، كل لحظة تمر عليه مع “يـوسف” على قيد الحياة تقتل فيه شيئًا دون أن ينتبه هو له، الأمر بات في غاية الصعوبة عليه وعلى نفسه الضعيفة، حاول أن يجاهد نفسه لكي يبدو طبيعيًا لكن هيهات !! كيف له أن يحصل على الهدوء والأرض أسفل منه تميد به من فرط الخوف؟؟.
لم يقف مكانه بل أخرج هاتفه يحاول التواصل مع “ماكسيم” بسرعةٍ كُبرىٰ، يحاول أن يستنجد به أو يغيثه في التفكير وما إن توقفت رأسه تمامًا عن التفكير ترك الهاتف على الأريكة بعنفٍ بالغٍ ثم تحرك من الغرفة بنفس العنف الذي أوقظ زوجته من النوم وهي تتبعه بنظراتها الناعسة لكنها لم تهتم بأمرهِ وظلت محلها بدون حِراك..
خرج من غرفته نحو غرفة “عاصم” الذي نام منذ وقتٍ طويلٍ عليه كعادة طباعه المُلتزمة التي لا تعرف الإهمال في حياتها، وقد تحرك “سامي” نحو غرفة الأخر يطرق بابها بكل عنفٍ حتى أوقظ من بداخل الغرفة وانتفض “عاصم” من محلهِ بلهفةٍ قلقة وفتح الباب يسأله بنبرةٍ جهورية جمعت بين أثر النوم والنعاس:
_فيه إيه يا “سامي” !! أنتَ اتجننت؟
هتف بنبرةٍ عالية يصرخ في وجهه:
_أنا بالوضع دا هتجنن يا “عاصم” عارف مين هنا؟ “يـوسف” ومعاه “أيـوب” ابن “عبدالقادر” دلوقتي، تقدر تقولي إزاي متجننش؟.
تبدلت ملامح “عاصم” بشدة وكأن النوم لم يعرف أثرًا لملامحهِ وهو يطالع الأخر بذهولٍ غريبٍ وهتف بنبرةٍ مُشتتة كما حال ثباته:
_بتقول مين؟ مين دا اللي هنا؟.
لم يجاوبه ولم يناقشه بل سحبه معه إلى حيث غرفة الأخر وفتح الباب بدون مقدمات ليقع بصر “عاصم” عليهما سويًا في الغرفة يتناولا الطعام معًا بكل برود قاتل، فيما رفع “يـوسف” عينيه نحو “أيـوب” وهو يهتف بسخريةٍ:
_مش قولتلك دي عيلة سفلة؟.
ترك “أيـوب” ما يمسكه في يديه وحرك رأسه نحو الأخر الذي رمقه بنظرةٍ حادة قاتلة وكأنه يستبين ملامحه أو يستنبط ماهيتها الأساسية فيما أقترب منه “أيـوب” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_هو، أنا ابنه الصغير، على ما أظن إنك المفروض عمي؟.
ترك جملته مفتوحة بوضع الاستفسار ليقول الأخر منفعلًا بغيظٍ تفاقم عن السابق وهو يصرخ قائلًا:
_أنتَ اتجننت ولا إيه ؟ وبتعمل هنا إيه؟.
تدخل “يـوسف” يهتف بنفس البرود الممتزج بالوقاحة التي لم تعرف الحياء أو الخشية:
_دا على أساس إني كيس جوافة؟ ولا واقفين في أوضة نوم أمـك؟ واقف معايا في بيتي وأوضتي، خير؟؟.
حرك “عاصم” رأسه نحو “يـوسف” يسأله بنبرةٍ هادرة:
_وأنتَ بتعمل إيه هنا الساعة دي؟.
ابتسم بنفس المراوغة وهتف يلاعبه بقوله:
_أســأل أمــك.
حينها رفع “عاصم” كفيه يمسح وجهه وهتف بنبرةٍ هادئة حاول تغليف الثبات عليها حتى لا يفقد أعصابه:
_أنا من رأيي إن أي هبل هتعمله مش حلو علشانك، ورقك لسه معايا وأظن دي وحشة في حقك أوي يا سيادة الباشمهندس، أظن يعني علشان أمك وأختك ومنظرك قدام مراتك، فلم الدنيا أحسنلك..
زادت القتامة في ملامح “يـوسف” وضغط على فكيه بعنفٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة يحاول هو الأخر أن يتصف بالبرود:
_الورق دا تبله وتشرب مايته على الريق، وساعتها لما حد يسألني هقول على اللي حصل، وحتى الورق اللي معاك ملهوش لازمة أصلًا، ولا أقولك؟ كويس إنك فكرتني علشان كنت ناسي بصراحة.
أقترب يقف أمام عمه وهو يقول بنبرةٍ هادئة تمامًا وكأنه يستلذ بما ينطق:
_القانون هيقف في صفي بما إن المريض النفسي مش عايه حرج أو حتى يؤخذ بأفعاله، فلما أجيب أجلك أو حتى أفرسك أو أقل حاجة أمسك أي حاجة أديك بيها فوق راسك، محدش هيلوم عليا، فخليه معاك علشان أنتَ اللي هتحتاجه يا عمو.
التفت “عاصم” يوليه ظهره قبل أن يرتفع الضغط في دمائه أكثر من ذلك لكن صوت “يـوسف” أوقفه بقوله حينما حذره قائلًا:
_لأخر مرة !! اللي حصل دا لو اتكرر هوريك شغل الجنان بحق، وأبقى روح السجن لصاحبك اسأله حصل إيه للي عصبني، أظن أنتَ جربت قبل كدا، يلا خد ابن الرقاصة في إيدك وريحوا شوية، اللي جاي عاوز صحة منكم..
خرج الإثنان معًا فيما زفر بقوةٍ وطالع “أيـوب” الذي هتف بنبرةٍ هادئة لم يفارقها التشتت بقدر الثبات:
_ربنا يرحمنا برحمته الواسعة، أظن كدا مبقاش ينفع إن حد فينا يسيب التاني لوحده، أنا في ضهرك.
ابتسم له “يـوسف” وهتف بنبرةٍ هادئة بشوشة:
_مش عاوز غير كدا منك.
تحرك “عاصم” نحو مكتبه بعد خروجه من غرفة الأخر وهو يحاول التفكير في حلٍ لكل المصائب التي تنزل على رأسهِ جمعًا دون أن تكون فُرادة؟؟ كان يلحقه “سامي” الذي حاول أن يتحدث لكن الحروف كانت تُعصيه وكأن ما ينطقه كارثة بكل المقاييس، قبل أن يهتف من جديد أوقفه “عاصم” بقولهِ:
_خلاص يا “سامي” !! مش عاوز كلمة واحدة، خليني أشوف حل في المصايب دي، يارتني كنت موتته من أول لحظة عاش فيها، دا لو اتساب كدا من غير ماحد يقفله هيبقى زي الأسد اللي خرج من القفص، لو الأمور متحلتش بالعقل هتبقى كارثة فوق دماغنا.
هنا تحدث “سامي” منفعلًا بأعصابٍ مهزوزة ومتوترة لم ترأف بصاحبها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_من الأول قولتلك فيه مليون حل، بس ساعتها قلبك رق ومرضيتش تعمل كدا، ولما عرفت إني حاولت بهدلت الدنيا، قولتلك دا حله إنك تخلص منه قبل ما يكبر هو ويخلص على الكل، بس نقول إيه بقى؟.
هنا صرخ “عاصم” بنبرةٍ عالية وقد فقد زمام التحكم في الأمور وهو يقول بصراخٍ:
_يعني إيه ؟ كنت عاوزني أقتل عيل صغير؟ ماشي أنا عارف إن كرهي ليه ملوش حدود بس هقتل طفل؟.
تدخل “سامي” يهتف بنبرةٍ ضاحكة يثير استفزازه بقوله:
_دا على أساس إنك حفظته تحت جناحك؟ ولا كنت في ضهره؟ مين قالك إنك مقتلتوش؟ أنتَ قتلته مليون مرة بعمايلك يا “عـاصم” وبطريقتك معاه وهو شايف القسوة دي كلها، علشان كدا لما لقيته بدأ يتعلم في الدنيا وراح السمان أنا قولتلك إنه زي التور محدش هيقدر عليه.
طالعه “عاصم” بعينين زائغتين وتثبتت حركة بؤبؤيه فيما تركه الأخر محله وقد ترك الأثر لحديثه في نفس الأخر وهو يعلم جيدًا كيفية الضغط عليه بحديثه السام ويعلم جيدًا كيف يتلاعب به مثل عروس الماريونت بين يديه..
_________________________________
<“لا تقلق على صغارك، لقد تربوا وسط الرجال”>
نفسها حالة القلق لم تنفك عنهما..
“قـمر” تزداد خوفًا و “عـهد” تزداد إضطرابًا، وكلتاهما تخشى اللحظات المارة أكثر من السابق، كانت “قـمر” تجلس على الفراش تستند عليه بنصف جسدها ثم هتفت بنبرةٍ ازداد فيها التوتر:
_تفتكري ممكن يكونوا مع بعض يا “عـهد” !!
وجهت سؤالها للأخرى تنتشلها من شرودها وقد هتفت بنبرةٍ حائرة يخالطها الضيق بعدما أغمضت جفونها لوهلةٍ وفتحتهم بتروٍ:
_مش عارفة يا “قـمر” ومش عارفة هو راح فين من الصبح لا بيرد ولا أتصل حتى كأن مفيش ناس في حياته !! طب بلاش أنا، مامته طيب يطمنها عليه حتى، حالته امبارح كانت صعبة، كان زي الطفل قدامي وهو بيقولي إيه اللي مخوفه، والصبح يصحى معرفش حاجة عنه؟..
ازداد توتر الأخرى ولم تعرف بما تجاريها في الحديث أو بما تنطق أساسًا، كل شيءٍ كان غريبًا وهي لم تفهم ما يدور حولها، حتى زوجها لم يُجيب على المكالمات ولم يفتح هاتفه من الأساس لذا زفرت بقوةٍ وأخرجت الهاتف من سترتها الشتوية وضغطت على رقم “آيـات” لعل وعسى أن تكون هي على دراية بما يفعله أخوها…
تواصلت معها الأخرى عن طريق الجواب على المكالمة الهاتفية وهي تسألها عن أحوالها وأحوال الجميع لتقطع “قـمر” ذلك مستفسرة بخوفٍ:
_بقولك إيه في الخباثة كدا متعرفيش “أيـوب” فين؟ ولو عندك “يـوسف” معاه؟ معلش يا “آيـات” بس هما بقالهم كتير مش ظاهرين ومحدش شافهم.
تعجبت “آيـات” من الحديث ولم تعلم بما تجاوبها وهي في غرفتها منذ عدة ساعات لذا هتفت بنبرةٍ هادئة تحاول من خلالها طمئنة الأخرى:
_بصي والله أنا من بعد صلاة العشا في أوضتي ولسه صاحية أصلي قيام الليل، بس هطلع أشوفهم كدا وأطمنك متقلقيش يا حبيبي، عن إذنك.
أغلقت معها الهاتف وخرجت من غرفتها تمر في البيت تستكشفه وتستنبط تواجد شقيقها فوجدته فارغًا منه، لذا مرت على الحديقة فوجدت بها والدها برفقة “أيـهم” وأسرته الصغيرة، وحينها آثرت عدم لفت انتباههم لغياب الأخر وعادت لغرفتها تتواصل معها من جديد وهي تقول بنبرةٍ هادئة حتى لا تثير خوفها من جديد:
_بصي هو مش في البيت، ممكن يكون برة في المسجد أو في الجيم اللي في الحارة هو ساعات كتير بيروح بليل ولو أخوكِ مش موجود ممكن يكون معاه هناك، متقلقيش خير إن شاء الله يا “قـمر”.
حاولت الأخرى التمسك بحبل الإطمئنان وهي تقبض عليه بقبضة الكلمات التي تلقتها من “آيـات” وقد أغلقت الهاتف معها وهي تحاول إخفاء توترها ثم حركت رأسها أسفًا وهي تنفي لـ “عـهد” وجودهما ليحضر القلق مكانهما من جديد.
ببيت “العطار”..
في الحديقة تحديدًا جلس “عبدالقادر” مع الأسرة الصغيرة التي بدت عليها السعادة خاصةً بحديث “إيـاد” عن أمه وعن تنظيمها لوقته ودراسته وكيفية الاعتناء به وكيف أصبح يرى نفسه محور الإهتمام في عينيها..
استمع له الثلاثة بحبٍ حتى انتبهت له والدته التي هتفت بنبرةٍ ضاحكة وهي تعلم أثر الحديث عليه:
_طب يؤسفني أقولك إنك لازم تنام علشان كدا كتير أوي، يلا سلم على جدو وبابا ولما تيجي بكرة تعالى براحتك سلم عليهم وأقعد معاهم زي ما أنتَ عاوز، يلا.
سألها حينها باهتمامٍ جعله يندفع في قوله مستفسرًا:
_هتنيميني أنتِ ؟ وتفضلي في حضني؟.
ابتسمت له وحركت رأسها موافقةً توميء له ثم تحركت من محلها وهي تأخذه معها بعدما جعلته يودع جده ووالده، بينما الأخر تابع التحرك بعينيه ثم نظر لابنه الشارد الذي يبدو عليه القلق وحينها قرر أن يبادر بسؤاله المُفاجيء:
_مالك يا أبو “إيـاد”؟!.
انتبه “أيـهم” لوالده وهتف بنبرةٍ هادئة يخبره بكل صدقٍ:
_بصراحة، مخنوق أوي حاسس إني متضايق.
حرك “عبدالقادر” رأسه مستفسرًا بقلقٍ نطقته عيناه مما جعل الأخر يخبره بما حدث وبزيارة “أمـاني” له وبحديثها عن زوجته وكيف شعر بالضيق والحزن من مجرد مواجهة عابرة مثل هذه وما أن أنهى حديثه هتف بنبرةٍ ضائعة وكأنه يعبر عن آسفه:
_متضايق من نفسي أوي يا بابا، أوي وحاسس إني كنت عيل هايف وقع ضحية لواحدة حرباية، ماهو مش معقول أكون أهبل أوي كدا، يا بابا أنا حاسس إني بشوفها لأول مرة، واحدة زي دي جبروت، إزاي بس حسيت ناحيتها بحاجة؟.
فهم “عبدالقادر” صدمة ابنه في طليقته وفي إمرأةٍ كان يظنها شريكة حياته وعمره بأكملهِ، وقد رأى التشتت والأسف والندم في عينيه، كل الملامح التي تدل على حزنه ارتسمت ببراعةٍ على قسمات وجهها وقد بدل نبرته لأخرى حنونة تعبر عن سؤال رفيقٍ وليس أبًا:
_طب أرفع عينك في عيني وقولي مالك يا عِـز أبوك.
هذا اللقب تحديدًا كان الهدف المُصاب حينما أصبحت الكلمة على هيئة كرةٍ دلفت مرماها الذي كان عبارة عن القلب الذي فرح وهلل بإصابة الهدف، وقد رآها “عبدالقادر” في عينيه فسأله من جديد بملامح أكثر انبساطًا:
_ها !! مالك أنا سامعك أهو ودي فرصة.
أطلق “أيـهم” زفيرًا قويًا وهتف بنبرةٍ حزينة لأجل نفسه:
_حاسس إني ندمان، حاسس إني عاوز أعتذر لابني على سوء اختياري وعلى اللي عملته فيه لما خليت دي أمه، حاسس إني كنت عيل فعلًا ومسمعتش كلامك وافتكرتك عاوز تتحكم فيا، أنا كل ما افتكر أني كنت سايب البيت علشان اتجوزها بحزن على نفسي، ودلوقتي حزني أتحول لابني، ابني اللي بقى مُجبر يتعامل أنه كبير كفاية وأنه يقبل بوجود ست تانية في حياته ومجبر يفهم إن أمه طبعها قاسي، صدقني أنا كل ما أبص في وش “نـهال” بحس إني عاوز أتأسف ليها، وبعدين أرجع وأقول إن هي معايا ومع ابنها، بس مش قادر أسامح نفسي على هبلي.
سحب “عبدالقادر” نفسًا عميقًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة يزيل عن ابنه من خلاها تعبه وضيقه:
_سامح نفسك علشان تقدر تفوق للي معاك، لو فضلت تلوم في نفسك على اللي عدى كله واللي كان لازم تعمله برضه هترجع بعدها تلوم نفسك على حاجات كان لازم تعملها وأنتَ ضيعت الوقت منك، براحتك أزعل وأغضب كمان بس صدقني أنتَ معاك دلوقتي حاجة زي صندوق الدهب، فوق لنفسك قبل ما يتسرق منك، عوض نفسك وعوض مراتك وعوض ابنك اللي الفرحة بقت مش سيعاه، ولو على اللي فات أنا هريحك وأقولك إيه اللي حصل ساعتها.
كان يقصد بحديثه الإشارة إلى حالة ابنه ومشاعرها حينذاك وقد استحوذ على نظراتهِ وهو يقول بنبرةٍ هادئة مفسرًا ما سبق وأشار إليه:
_ساعتها أنتَ كنت شاب زي أي شاب، قبلها كانت أمك توفت وأنتَ غصب عنك اتحولت من أخ كبير لأم بتدي مشاعر احتواء لأخواتك ودا علشان أنا كنت بركز في الشغل، لما هي ظهرت عرفت تهتم بيك كراجل ولفتت انتباهك، لحد ما علقتك بيها ولما أخوك عارضك إن علاقتك بيها غلط ساعتها رجولتك منعتك إنك تعمل حاجة غلط، يعني برضه مفيش لوم عليك إنك كنت راجل مسئول، هي استغلت دا وعرفت إزاي تخليك محتاج ليها، وأنتَ علشان متحرمش نفسك من وجودها قررت إنك تاخد كل حاجة جد، فهمت؟.
هز “أيـهم” رأسه موافقًا وقد فهم حديث والده واستشعر الوقوف في صفهِ والدفاع عنه ابنه، فيما ربت الأخر على كفه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا طول عمري بقول أني قوي علشان أنتَ معايا، بحس إنك أب ليا أنا كمان، بشم نفسي لما بلاقيك فرحان، فرح نفسك يا واد وفرح مراتك وابنك، وأوعى تديها حتى مكان لو في راسك لما تفكر فيها، أطردها من حياتك كلها.
حرك رأسه موافقًا ثم لثم كف والده وهتف بعدها بنبرةٍ أقرب للاختناق وهو يمنع نفسه من إظهار مشاعره:
_ربنا يباركلي فيك.
مسح على رأسهِ ثم سأله بلهفةٍ حينما انتبه لتوهِ:
_الواد أخوك فين؟ قالي هيتأخر بس مش للدرجة دي.
عقد “أيـهم” حاجبيه وعاد للخلف بحركةٍ تلقائيةٍ تزامنًا مع سؤالهِ مستنكرًا وبشدة:
_هو مش نايم !! يعني دا كله “أيـوب” برة؟.
هنا تحديدًا بدا القلق عليهما وللأسف نفس الخيال عصف بذهنيهما وهو إحتمالية إعتقاله من جديد لذا تحرك “أيـهم” بلهفةٍ من مقعده وخلفه والده الذي سقط قلبه محله من الخوف على ابنه.
في مكانٍ أخر قام “يوسف” بوضع دراجة والده فوق سيارته بعدما عقد عليها الحِبال المتينة فيما وضع “أيـوب” بقية الأشياء في حقيبة السيارة الخلفية بعنايةٍ تجهزًا لرحيلهما من هُنا، وللحق لأول مرة يكره مكانًا بهذه الطريقة مثلما كره تواجده ببيت عائلة “الراوي”.
أنهى “يـوسف” ما يفعله في نفس لحظة إنتهاء “أيـوب” الذي نفض كفيه مع بعضهما لإزالة الغبار العالق بهما وهو يقول بتعجبٍ طغى على سؤاله:
_هي إيه الحاجات المهمة اللي تخليك تيجي هنا تاخدها وتعرض نفسك للضيق بمجرد وقوفك قصاد الناس دي، دا أنا جيبت أخري ليك سلف والله.
ابتسم “يـوسف” بقلة حيلة وهتف بنبرةٍ هادئة يسترسل في حديثه بكل راحةٍ:
_دي حاجات كانت بتاعتي وأنا صغير هنا، حاجات قديمة بتاعة بابا على كام صورة لعيلتي وأنا صغير والعَجلة دي بتاعة بابا، أخر حاجة لحقت أخدها من الدنيا، وكتب قديمة شويتين “عـهد” كانت قالت إنها بتحبـ…
توقف عن التكملة بإحراجٍ وحمحم بقوةٍ يُعدل حديثه بقولهِ:
_كتب قديمة شوية ومجلدات غاليين عليا، قولت آخدهم بيتي أحسن بما أني بحب حاجتي أوي ومبحبش حد يقرب من الغالي عليا.
فهم “أيـوب” سبب إحراجه وابتسم له وهو يفتح باب السيارة وهو يقول بمزاحٍ لم ينفك عنه الخبث:
_طب أفتح العربية يلا يا أبو كتب، تعبتني معاك طول اليوم وخلاص جيبت أخر ما أخر عندي، كان عليا بإيه منك.
فتح “يـوسف” السيارة وجاوره وهو يقول بنبرةٍ هادئة وصادقة بكل حروفها بعدما ولجا الإثنان داخل السيارة:
_عارف؟ طول عمري بكره أدخل هنا وبخاف كمان، علشان كل مرة بضطر أسمع أني عيل يتيم ملهوش حد، بس دي أول مرة أجي هنا مش خايف وحاسس إني متأمن، تقريبًا كدا علشان أنتَ معايا؟؟.
كان يسأله بتشككٍ ولم يخبره بها صراحةً مما جعل “أيـوب” يرفع حاجبه وهو يسأله بنبرةٍ جامدة:
_تقريبا !! يعني مش أكيد؟ ياريتني كنت سيبتك ليهم.
ضحك “يـوسف” ثم قام بتدوير سيارته ليتحرك بها بعدما زفر “أيـوب” بيأسٍ منه ووضع رأسه على النافذة يهرب من يومٍ كانت ترافقه الصِعاب..
بعد مرور مايقرب الساعة..
أوقف “يـوسف” السيارة أمام البناية وترجل منها هو والأخر الذي لاحظ قدوم والده وشقيقه معه وقد أقترب منهما “عبدالقادر” يسألهما بانفعالٍ بعدما بحث عنهما وفشل في إيجادهما:
_أنتَ اتجننت منك ليه؟ طب ردوا على الزفت اللي معاكم طمنونا ولا قولوا روحتوا فين بدل ما راسنا تجيب وتودي.
وقف الإثنان أمامه مثل الصغار الذين قاموا بأعمال الشغب في اليوم الدراسي وقد وقف أمامهما والدهما يؤنبهما على فعلهِ، فيما أكمل الأخر تأنيبه لهما ولم ينتظر منهما التبرير بل أخذ أنتظر تنزيل “يـوسف” لأشيائه من السيارة وأشار لابنه البِكري بقولهِ:
_”أيـهم” شيل معاه الحاجة دي لحد ما نشوف أخرتها معاهم، عيال صغيرة كل شوية يوقعوا قلب الواحد.
كاد “أيـوب” أن يتحدث لكن والده قاطعه بنبرةٍ جامدة وهو يقول:
_أنتَ تخرس خالص ماسمعش صوتك، عارف ليه؟ علشان ١٠٠ مرة أقولك متقلقنيش عليك ومتخلينيش أخاف كل شوية، بس إزاي ؟ لازم نكابر، كنت فين لحد الساعة ٣ منك ليه؟ ومفيش تليفون تردوا عليه؟..
هنا تحدث “يـوسف” بلهفةٍ وعلى عُجالةٍ يحاول من خلالها طمئنة الأخر:
_بص !!عندي أنا كل دا، بس والله ابنك ملهوش ذنب أنا اللي فضلت اتعبه معايا ولففته وروحت جيبت حاجات مهمة وهو كتر خيره مسابنيش، عديها علشاني أنا.
حرك “عبدالقادر” عينيه نحو الأخر الذي تصنع البراءة في إبعاد التهم عنه وقد فهم الأخر عليه وتحدث بخبثٍ:
_أنا لو هعديها هعديها علشان خاطر “مصطفى” مش علشان حد فيكم، ويلا خلصونا بقى من دوشتكم دي، وأنتَ يا “أيـهم” ساعد البيه يطلع حاجته وهات البيه التاني في إيدك.
تحرك “عبدالقادر” بعدما رمقهما بنظرة ازدراءٍ يقلل من شأنهما وقد رحل تمامًا فيما بدأ “أيـهم” يعاون “يـوسف” ومعهما “أيـوب” حتى انتهوا معًا لكن “أيـوب” لاحظ نظرة زوجته له وهي تطالعه بعتابٍ وقد تركته دون أي كلمةٍ تُذكر وأغلقت بابها في وجهه ووجه شقيقها الذي هتف بنبرةٍ خافتة للآخر ولم تنفك السخرية عن حديثهِ بقولهِ:
_أنا لو منك !! أرمي عليها يمين الطلاق.
رمقه “أيـوب” بنظرةٍ جامدة تطلق سهامًا حادة ونزل خلف شقيقه بينما “يـوسف” فتح باب الشقة ودلف لغرفته مباشرةً وهو يبحث بعينيه عن البقية لكن الأضواء المغلقة أكدت له أنه أتى في الوقت المتأخر لذا قرر أن يستسلم لسلطان النوم، في الحقيقة الأمر قد يبدو مبالغًا فيه لكن في ظروف مثل ظروفهما الأمر في غاية الخطورة، وخاصةً أن الخطر بدأ يفتح الأبواب في وجوههم بمجرد كشف الحقائق.
__________________________________
<“دعنا نحاول لأخذ الخطوة فقط”>
في اليوم التالي..
بعد ظهور شمس الظهيرة ومرور ساعات الصباح الأولى كانت هذه الفتاة تجلس أمام الحاسوب الخاص بها وهي تتابع عملها في البحث عن الاضطرابات النفسية وكيفية التعامل معها، كانت تكتسب خبرة من نوعٍ أخر بهذه الطريقة مما جعل شقيقها يخرج من غرفته بعدما ارتدى ثيابه وهتف بنبرةٍ هادئة يوجه الحديث إليها:
_أنا نازل يا “فُـلة” عاوزة حاجة؟.
وصلها صوت شقيقها وهي ترتشف مشروب “النسكافيه” الخاص بها صباحًا وقد تركته وتركت محلها وهي تقول بلهفةٍ:
_رايح المستشفى صح؟ خدني معاك.
حينها رفع ذراعه يشير لها على ساعة معصمه لكي يخبرها عن التوقيت وهتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء برغم من عُجالة كلماته:
_بصي الساعة كام؟ مستحيل استنى أكتر من كدا، بعدين أنتِ قولتي وراكِ حاجات مهمة، خلصيها وهنبقى نروح المستشفى، وجهزي نفسك علشان ماما و”حبيبة” و “تمارا” راجعين كمان أسبوعين.
شهقت تلقائيًا وارتسمت على ملامحها السعادة وسألته بحماسٍ بالغٍ:
_بجد !! طب ماما قالتلك إيه؟.
هتف بنبرةٍ هادئة بعدما لمح سعادتها:
_قالتلي إن “تمارا” خلصت الامتحانات وإن هي خلصت ورقها وورق “حبيبة” وجايين خلاص هنا بما إنك صاحبة فكرة الاستقرار هنا وهشوف “حبيبة” كمان أنقلها ورقها في جامعة هنا بحيث تكمل شغلها من غير سفر تاني.
بدلت ملامحها إلى الخبث وقالت بنبرةٍ ضاحكة وهي تضربه بكتفها في كتفهِ:
_وحشتك “حبيبة” ؟ أيوة ياعم مراتك محدش هيتكلم.
ضحك رغمًا عنه وهتف بنبرةٍ هادئة وصادقة حينما خفق قلبه شوقًا لأجل زوجته البعيدة عنه:
_طبعًا وحشتني أوي هي وبنتي كمان، أنا ماصدقت يقتنعوا إنهم يرجعوا مصر تاني ونستقر هنا، حياة التنطيط دي مش نافعة خالص، من حقي كراجل أبقى مع عيلتي، وهي برضه حقها تنجح بس بيتنا ليه حق علينا، علشان كدا وافقت إنها تكمل شغلها في مصر وبدأت فعليًا.
ابتسمت له شقيقته وقالت بنبرةٍ هادئة وهي تُعدل من وضع ياقة قميصه:
_ربنا يسعدكم ويفرحكم بـ “تمارا”، قولي بقى “عـهد” هتيجي إمتى علشان أبدأ دوري كدكتورة في مجال الطب النفسي ؟ أنا متحمسة أوي أوي وخايفة انطفي.
نظر في ساعته من جديد ثم لثم جبينها ورحل من أمامها قبل أن تبدأ في الأسئلة التي لم تنتهي وما إن رحل هو ظهر الإصرار المرح في عينيها وهي تقول بنبرةٍ حيوية:
_ماشي، والله لأعالجها وأخليه يشكرني كمان.
عادت تجلس محلها وهي تتابع الفيديوهات التابعة لمواقع عالمية خاصة بالطب النفسي عن حالات كثيرة وعديدة تتابعها هي لتكتسب خبرة فوق خبرتها وقد حركها شغفها لهذا المجال بكل تفاصيله وكأنها ورثت حبه عن والدها.
__________________________________
<“لم نفهم ما يتوجب علينا فعله فكيف نفعله”>
بعض الأحاديث تنقل المرء فوق السحاب…
والبعض الآخر يواري جسده أسفل التُراب، الأمر كله في عدة كلمات تفعل كل شيء وهي بكل شيء، هناك كلمات تقتل صاحبها وهناك كلمات تُحييه من جديد وكذلك كان “إسماعيل” الذي جلس في مكتب عمله حائرًا وهو يفكر في حديثها عن أخبار والديها بحقيقته، لم يفهم السبب ولم يقتنع بما تفوهت وقد أخرج هاتفه يطلب رقمها وما إن جاوبت على المكالمة هتف هو بنبرةٍ مُذبذبة:
_بصي أنا مش هسمع كلامك علشان أنا مفهتمش قصدك، بس أنا من حقي أكون شخص صريح واتعامل مع اللي قصادي بكل صراحة، أنا مش هقدر أتقبل أني أكون كداب، أنا متربيتش على كدا يا “ضحى”، إذا كنتي عاوزة تخبي حاجة عن أهلك يبقى الحاجة دي متخصنيش أنا..
لاحظت هي هجومه الشديد في التحدث واندفاعه وبما إنها صاحبة خصال عنيدة تحدثت بنبرةٍ جامدة:
_أنتَ بتزعقلي ليه؟ أنا كل اللي طلبته منك إنك تخلي فيه شوية خصوصية بينا إحنا، ميهمنيش رأي حد تاني، طالما أنا عارفة كل حاجة يبقى خلاص، وطالما أنتَ عاوزني أنا يبقى مالكش دعوة بحد تاني، هنعيده تاني بقى؟.
زفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ متعبة بعدما شعر بمدى ثقل هذه المهمة على كاهلهِ:
_يابنت الناس أفهميني، أنا دلوقتي ببدأ الحياة اللي المفروض تكون كلها استقرار وهدوء، لما أروح أكدب على أبوكِ وأهلك رأيهم فيا هيكون إيه؟ هيقولوا كدب علشان يوصلها، دا غير إني مش مقتنع إني أخبي أصلًا.
نظرت “ضُـحى” حولها حتى وجدت رفيقتها بالعمل تشير نحو المديرة التي في طريقها لهم، فهتفت بنبرةٍ متسرعة أخرجت كلماتها على عُجالة:
_طب عن إذنك يا “إسماعيل” المديرة جاية، سلام.
أغلقت الهاتف دون إنتظار الرد منه ليزداد هو حيرةً فوق حيرته ويكره نفسه واللحظة التي أراد أن يُعذب قلبه بهذه الطريقة، من قال أن الحب ترافقه الراحة؟ يبدو أنه كان مُخطئًا فمن المؤكد أن الحب لم تنفك عنه الحيرة..
خرج من مكتبه يتوجه نحو “سـراج” الذي كان يجلس في عمله وقد جلس أمامه وهو يتحدث في الهاتف مع حبيبته التي تسببت في غضبه لكي يهتف بنبرةٍ عالية:
_هو أنا مش قولت لأ يا “نـور” !! كلام أمي دا مش بيتسمع ليه؟ قولتي هروح أشوفها قولتلك لأ، مبحبهاش، محدش فينا بيطيقها، علشان لو مش واخدة بالك دي مدية “يـوسف” بالمشرط في مشاعره، مالها ومالك؟.
هتفت بنبرةٍ حائرة وهي تقول بقلة حيلة:
_يا “سراج” أنا مالي، قالتلي هعدي عليكِ ننزل نجيب حاجات وأنا أكيد مش طفلة يعني هقولها أسأل حد، وبابا وافق أصلًا، أنتَ معترض ليه بقى؟ صحيح رجالة عاوزة العين الحمرا.
رفعت هي بحديثها مقدار غضبه ليصيح بتهكمٍ لم يلق يومًا بهيئته أو بملامحه الشقراء التي تشبه ملامح أصحاب الجنسية الأجنبية:
_بقولك إيه ؟ بلا عين العين الحمرا بلا العين السخنة، أخرك الأيام دي معاها وبعد كدا مفيش علاقة بينك وبين “شـهد” تاني يا “نـور” علشان مش هقبل إن مراتي اللي بحبها وبحب نضافة قلبها إنها في يوم تتقارن بحد زي دي، وأظن أنتِ عارفة إني بحب برائتك وبحب إن قلبك زي ماهو.
خفق قلبها بسعادةٍ إثر حديثه الهاديء الذي تبدل كُليًا وهتفت تستفسر منه بنبرةٍ ضاحكة تخللها الحماس الشديد لاستماع بقية الكلمات:
_دا بجد ؟.
زفر “سـراج” مطولًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
_آه بجد يا “نـور”، أظن مش محتاجة أقولك إني لسه بحب طيبة قلبك وبحب إنك متمسكة بروح الطفلة اللي جواكِ، وعارفة كويس أوي إني بعتبرك زي “جـودي” عندي، يبقى علشان خاطري تسمعي كلامي وتقدري خوفي عليكِ وعلى منظرك قدام الناس.
سعدت هي بشدة من حديثهِ وقررت أن تسترضيه بقولها الهاديء الذي يشبه رقتها حينما هتفت:
_طب بص، علشان شكلي ميبقاش وحش يعني هو النهاردة بس علشان اتفقنا وبعدها إن شاء الله مش هروح تاني والله غير لما اسألك، إيه رأيك بقى؟.
بقلة حيلة وافق على ما طلبت وأذعن لها في نهاية الأمر فهو لازال متمسكًا بها ويخشى خسارتها من جديد، يخشى الفراق الذي فاجئهما في السابق وقد ضحك “إسـماعيل” عليه بسخريةٍ وهتف له بتهكمٍ:
_شوف إزاي ؟ وأنا اللي كنت جاي اسألك يا خبرة؟ اتوكس.
عقد “سـراج” مابين حاجبيه لوهلةٍ وقد انبسطت ملامحه وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما أدرك مقصد حديث الأخر:
_آه، فهمتك، بص يابني في حالتنا دي بنوافق زي العيال الصغيرة علشان كلمة حلوة تودينا وأختها تجيبنا تاني، المهم يعني إن الأمور تفضل تحت السيطرة، بعدين خلص وروح أتقدم علشان الحج قالي “إسماعيل” الأول بعدين أنا هروح علشان أنا ناوي اتجوز علطول، أخلص بقى.
هز رأسه مومئًا له بقلة حيلة ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_حاضر بس أنتَ قول يا رب، أنا مش فاهم حاجة خالص، وحاسس إني مضروب على راسي من فوق، مرة أحس نفسي طاير في سابع سما ومرة أحس نفسي تحت الأرض، كل كلمة بتتقال غصب عني بحللها وأفكر فيها، أنا كدا مش مرتاح.
فهم “سـراج” سبب حديثه وتشتته لذا هتف بنبرةٍ هادئة:
_الأحسن إنك تريح نفسك وتكبر دماغك علشان لو فضلت علطول مركز هتنكد على نفسك، ساعات كلام بيخرج عفوي من غير قصد بس الإنسان بيشغل نفسه بيه لدرجة تخليه يتعب زيادة عن اللزوم، أنا عاوزك تسيب نفسك للحب يحركك ويتحكم فيك يا “إسماعيل” علشان تقدر ترتاح.
هز رأسه مومئًا له ثم بدأ يتحدث معه في شئون العمل وعقله ينبئه بخطورة ماهو مقدم عليه، لكن هناك ندٌ يقف أمامه يخبره بجمال ماهو ذاهب إليه وبين هذا وذاك تقع الروح في الفخ المنصوب وهو الحيرة التي تنشأ بين الإثنين، فإذا كنا نجهل ما يتوجب علينا فعله، كيف إذًا نفعله؟
__________________________________
<“في بحور عيونها أختار قلبي أن يغوص فيغرق”>
استيقظ صباحًا يهرب من الجميع وقد ذهب إلى الكافيه الخاص به، ذهب إلى المكان الأحب إلى قلبه يجلس فيه هربًا من أسرته وزوجته التي لم تجاوب على مكالماته وكأنها ترد له مافعله معها أمسًا، وقد ظل محله جالسًا باسترخاءٍ وهو يراجع أحداث الأمس..
(بالأمس بعد خروجه من عيادة “جواد”)
خرج من العيادة النفسية بأعصابٍ أقل توترًا وأكثر ثباتًا وقد فهم حديث الأخر جيدًا، لكن الجزء الذي نثر الفرحة بداخله مثلما يتم نثر البذور في الأرض الصالحة هو الجزء الخاص بعلاج “عـهد” وتلك المهمة التي كانت تثقل كاهله ويبدو أنها لم تنم بالأمس لأن والدتها لم تستدعيه لزيارتها ليلًا، خرج من هناك وتوجه إلى جــنة “الــراوي” يحاول فيها إخراج غضبه بصورةٍ أخرى مستترة خلف الموهبة النادرة..
وقف في المكان يبحث عن الحوائط الفارغة وقد وجد الأخيرة التي تقابل صورة “عـهد”، حينها كانت فارغة من أي رسومات أو حتى عبارات كما يكتب هو، لذا بحث بعينيه عن الأدوات التي يمكن أن يتسخدمها وحينما وجد مبتغاه، ابتسم ثم خلع سترته وقميصه ثم ارتدى ثيابًا أخرىٰ قديمة بعض الشيء حتى يتحرك بحريته، وقد وضع هاتفه في السماعات الموجودة بالمكان وقام بتشغيل واحدة من أغنياته المفضلة وبدأت كلماتها بالتزامن مع بداية عمله:
_كيف بتخليني أحس بهيك شعور..
إحساس مستحيل في البال يكون..
بتتنبأي بحالتي اليوم، بتتحكمي بمين أكون..
كيف بتزرعي أثارك في روحي عززتي أحترامك لذاتي..
_امتلكتي أجزائي بالكامل..
امتلكتيني بكامل أجزائي..
بيحكوا إني في الكلام مش أي كلام
لما الجَلم ينزف شِعر..جمهوري يغني هالكلام..
كلهم بصوت جلبي أنا، يحكولك الحاصل كما
يصرخ وطن باسم الشهيد..
حتى الفضاء يسمع غناه…
أغمض عينيه حينها يتوصل للفكرة التي يتوجب عليه تنفيذها، غريبٌ مثله يحتاج لوطنٍ يحتويه وهو في أشد الحاجة لهذا الوطن لذا ترك نفسه للموهبة تحركه لعلها تخمد نيران غضبه وقد صعد على الدرج الخشبي الذي صنعه لنفسه ثم وقف عليه وبدأ في رسم عيون “عـهد” !!
بدأ يتحرك بخفةٍ وهو يرسم عينيها بعدما راقبها من حافظ هاتفه ولم يتوقع أن يسعد بهذا الفعل وكأن بصورةٍ أصح يدخل أراضي وطنه عبر رسمةٍ وضعها في دفترهِ يعبر من خلالها عن شوقهِ لوطنه الحبيب، لذا بدأ يتحرك بانسيابية شديدة والصوت خلفه يزداد ارتفاعًا بكلماتٍ أخرى:
_بنزل النجوم من السما..
وأحطها تحت عيونك، وتشوفي الناس
وأكون أنا أول واحد مِن يشوفك..
لما بثواني أتلاشىٰ والروح في جلبي بطاشة
الكل صار يتعلم من صبري
والناس بتتأثر من عاشج من شاشة..
_أنتِ أغنيتي كتبتك غنيني..
صرختك من وجع موالِ يداويني
انسيني بأحلامك هناك وغفيني..
استمر فيما يفعل وقد بدل طاقة الغضب بداخلهِ لطاقةٍ أخرى تمامًا جعلته يتحرك بكل جوارحه في فعل ما يحب لأجل من يحب وهو يبدل طاقة الغضب بطاقةٍ أخرىٰ يُكللها الحُب، استمر دون أن ينتبه للوقت وما إن أنهى رسمة أعينها السوداء بلمعتها الساحرة وقام بإظهار مُقلتيها اللؤلؤتين وقام بتلوينها وحينها كتب أسفلها بالخط العربي أحد أبيات الشِعر الخاصة بـ “نزار قباني” حينما غرق في عيني إحداهن:
“تاهتْ عُيوني في بُحورِ عُيونِها
واختارَ قلبي أن يغوصَ فيغرقا
أوَّاهُ من رمشٍ أحاطَ بعينها
سهمٌ توغَّلَ في الوريدِ فمزَّقا”
كتبها أسفل رسمة عينيها وعاد للخلف يطالعها مُبتسمًا بزهوٍ لما صنعت يداه، للحق هو يغرق في عينيها بكامل قواه العقلية، يستسلم لتيهه بها ويسعد لكون وطنه بداخلها، يجد الراحة من عبء الحياة في عيونها، دومًا تحاوطه بين جفونها وتُضلل عليه برموشها وهو الغريب الذي تاه وتاهت منه السُبل، ابتسم مُجددًا ثم أمسك فرشة الكتابة يكتب بها بنفس الخط جملة أخرى في آخر الحائط:
_كُل العيون غُربة، وعيونها هيَّ وَطن.
ابتسم مُجددًا ثم أخرج هاتفه يلتقط به صورة الحائط والعبارات التي كتبها أسفلها، كان حينها مثل الطفل الصغير الذي ينتظر إطراء والده على ما فعله، وحينها بالتزامن مع تصويره وانتهائه مما فعل صدح صوت هاتفه برقم “أيـوب” الذي قرر أن يطمئن عليه خشيةً من تهوره…
حينها رد عليه وهاتفه وتم التواصل معه وقد اجتمعا سويًا في صالة الرياضة الخاصة بحارة “العطار” بعدما عاد “يـوسف” من جنة “الراوي” ودلف لهذه الصالة ووجد “أيـوب” في انتظاره وما إن رآه رحب به بمزاحٍ جعل “يـوسف” يضحك معه ثم أخبره بما حدث صباحًا في الشركة.
حينها استمع له “أيـوب” بذهولٍ سيطر عليه ودهشةً تمكنت منه ورجفة غريبة صارت في جسدهِ وهو يفكر كيف له أن يفعل ذلك في رفيقه وحينها سأله بنبرةٍ جامدة:
_أنتَ إزاي تعمل كدا يا “يـوسف” !! معنى كلامك إنه كان ممكن يقتلك بجد ؟ لحظة تهور منك على لحظة غضب حركتكم انتوا الاتنين؟ طب مفكرتش إنه ممكن يعملها بجد؟.
هتف بنبرةٍ ضائعة يخبره بمدى سذاجة عقله:
_معرفش بقى يا “أيـوب” هي أول مرة يعني؟ ما حاول يحبسني قبل كدا وحاول يسمني وحاول يرميني في ١٠٠ مصيبة وحاول يكهربني، بس المرة دي كانت بِـ غل أوي، أنا حاولت أبعد الشيطان عن طريقي بس مش قادر..
حينها سأله “أيـوب” بتعجبٍ من حديثه:
_حاول يسمك !! أعوذ بالله، إيه الناس دي؟ شكله عامل إزاي دا اللي قلبه قلب جبروت كدا؟ مسخ دا ولا شيطان؟.
_لا ابن رقاصة.
هتفها “يـوسف” بسخريةٍ ردًا عليه ثم أخرج هاتفه على صورة “سامي” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة، وحينها كانت الضحكة مغلوبة على أمرها وليس سعادةً وقتها:
_أنا مخلي صورته معايا علشان من ضمن أهدافي أني أجيب أجله على أيدي، يا أنا يا هو والشاطر فينا اللي يحضر عزا التاني، وواثق إني أنا اللي هجيب أجله الأول.
انتبه “أيـوب” حينها للصورة الموضوعة نصب عينيه ورفرف بأهدابهِ في إنكارٍ واضحٍ لهوية الشخص، لكن حينها العقل لم يكذب على صاحبه وجعله يخطف الهاتف من كف الأخر وهو يسأله بنبرةٍ جامدة:
_هو دا !! دا اللي عمل فيك كدا ؟؟.
حرك “يـوسف” رأسه مومئًا له بتعجبٍ من حالته ليقول “أيـوب” بنبرةٍ ضائعة بعدما تعرف عليه وازدرد لُعابه الذي نتج عنه جفاف حلقه تزامنًا مع ارتفاع وتيرة أنفاسه:
_إزاي ؟؟ دا هو دا اللي خطفني قبل كدا ؟ ودا نفسه اللي جه ضربني وأنا في محجر الرخام وقبلها جه المستشفى مرة وفرح فيا، أنا مش بنساه، الشخص دا بالذات أنا عمري ما نسيت ملامحه، دا !! طب إزاي ؟؟.
حينها سيطرت عليهما لحظة ذهولٍ جعلت “يـوسف” يعقد ملامحه المقتضبة وطالعه بدهشةٍ جلية في نظراته وسرعان ماتم التواصل بين نظراتهما معًا لتبدأ أولى الخطوات في تحدي القوة مع النقاء، وقد جمع حينها بينهما اللقاء.
(عودة إلى هذه اللحظة)
خرج “يـوسف” من شروده باستمتاعٍ ثم فتح هاتفه يحاول التواصل معها لكنها أيضًا لم تجاوب على مكالماته فأرسل لها رسالة صوتية يعاتبها بقوله:
_طب أنا حيوان، دا معناه إنك زيي؟ ردي.
فتحت الرسالة واستمعت لها مما جعله يبتسم ويبقى في انتظارها حتى تجاوب على رسالته لكنها أيضًا لم تفعل لتؤكد له أنه لن يستطع بهذه الطريقة مصالحتها، فقام هو بإرسال صور الحائط والجُمل التي كتبها أسفل الصورة التي رسمها هو بيديه وانتظر حتى هاتفته بلهفةٍ وبدون أية مقدمات أو دباغات سألته باندفاعٍ:
_هي دي عيوني أنا؟ أنتَ اللي رسمتها؟.
هتف بنبرةٍ هادئة يخبرها بكل صدقٍ وقد استشعر لتوهِ مدى شوقه لصوتها:
_آه يا “عـهد” أنا، كنت مخنوق ومتضايق وحاسس إني مش مرتاح وأنا ساكت كدا، كان نفسي أخد رد فعل عنيف أخرج بيه الطاقة اللي جوايا بس لو دا كان حصل كان زماني في السجن أو في مستشفى المجانين، علشان كدا رسمت عيونك، دي تاني حاجة تخليني مهووس بسها بعد اسم “قـمر” أختي ولو عليا هخلي الاتنين قصادي علطول.
رغمًا عنها وعن أنف كبريائها ابتسمت بحالة شجنٍ خاصة وسكتت عن الحديث مما جعله يسألها بنبرةٍ هادئة:
_دا اسمه إيه طيب؟ قولي أي حاجة.
حينها تذكرت ضيقها منه وهتفت بنبرةٍ جامدة وكأنها تستغل فرصة سؤالها لصالحها هي:
_اسمه إنك تسكت خالص مش عاوزة اسمعك، متفتكرش إنك هتضحك عليا كدا، أنا أصلًا متخلفة علشان كلمتك، بس قلبي مُهزأ علشان مقدرش يقسى عليك حتى وأنتَ بتتجاهله، لو كانت ظروف عادية كنا عدينها، بس أنتَ مش ملاحظ إننا في ظروف صعبة، عيلتك عرفوا بكل حاجة، لو دا مش لافت نظرك أحب أقولك إنهم غدارين وعينهم مفيهاش أمان.
رفع كفه يسمح وجهه ثم نطق بنبرةٍ ضائعة يخبرها بما يفكر هو به:
_الأمان دا أنا بعرفه بس لما أبصلك يا “عـهد”، متستنيش تشوفيه في عيون تانيين علشان كل العيون غُربة، والعيون اللي كلها غُربة مش هتلاقي فيها الأمان، فأكيد هما مش عيون أمان، ومع ذلك أتطمني أنا خلاص مش ناوي أعمل حاجة فيها تهور، كفاية انكوا معايا.
حينها زفرت بقوةٍ ثم هتفت بنبرةٍ هادئة تحاول تصديق كلماته الكاذبة وهي تعلم أنه يكذب عليها:
_ياريت، ياريت يا “يـوسف” علشان ترتاح ونرتاح معاك.
أغلقت الهاتف فيما ألقى هو هاتفه ثم قرر أن تمر عدة ساعات أخرى ويذهب إلى أمه يصالحها بعدما رمقته صباحًا بسخطٍ، هو من الأساس يخشى رد فعلها لكنها ما إن أدركت ذهابه إليهم غضبت منه أكثر بسبب تهوره وعليه الآن أن يذهب ليرضيها.
__________________________________
<“من لم يملك الشيء لن يشعر بخطورة فقدانه”>
أحيانًا تهدي الحياة بعض الطرقات للمرء حتى يغير مساراته الخاطئة التي يدور بها، وقد تجبره في بعض الأحيان على مسالك أخرى لن يجور السير في غيرها، وبين هذا وذاك يتعلم المرء من كل التجارب المارة عليه، وهاهي تحاول تخطي الماضي والمضي قدمًا نحو المستقبل…
أنهت “نِـهال” الشرح بداخل الفصل الدراسي للصغار ثم انتبهت لصوت الجرس الذي دلَّ على إنتهاء وقتها وحينها حملت أشيائها وحقيبة يدها وتجهزت للرحيل نحو غرفة المُعلمين لتجد هناك إمرأة في انتظارها وللأسف هي تعرفها جيدًا، والأدهى أن النظرات جميعها توجهت نحو الأمرأتين ورافق هذه النظرات بعض الهمسات المختلسة من بين الشفتين لتنطق “نِـهال” بنبرةٍ جامدة لغريمتها بقولها:
_أظن يعني الكلام مش هينفع هنا..
أوقفت حديثها ترمق زميلاتها بنظرةٍ قوية ثم أشارت حيث الخارج وهي تقول بنبرةٍ آلية رغم هدوئها:
_اتفضلي معايا برة..
مرت ثواني قليلة نتج عنها وقف الاثنتين بالخارج معًا وقد سألتها الأخرى بتأهبٍ واضحٍ أعرب عن مدى استثقالها لهذه الزيارة الغير مُرحب بها:
_خير؟ مع إني أشك إن ممكن ييجي من وراكِ خير.
هتفت الأخرى بنبرةٍ ألبستها وشاح الانكسار وهي تقول:
_طبعًا حقك تكرهيني كدا، ما أنا الأم اللي باعت ضناها وهما أكيد فهموكي كدا، بس محدش قالك إني كنت بتذل هناك عندهم، علطول رافعين مناخيرهم في السما وشايفين نفسهم ومتحكمين في كل اللي حواليهم، كنت عايشة معاهم في سجن، ممنوع أعمل أي حاجة غير بحساب حتى لو أغنية شغلتها في شقتي وصوتها علي، وبعدها لما بدأت اشتكي وأتكلم كانوا بيهددوني بابني، واللي زيي غلبانة، هقف قدام عيلة “العطار” يعني؟ ساعتها بدأوا ييجوا عليا أكتر، وخصوصًا لما “أيـوب” دخل المعتقل أول مرة وغصب عني قولتلهم أنه ضيع مستقبل ابني، ساعتها هانوني وافتروا عليا، وأنا من كتر ما تعبت معاهم مشيت، وقولت أبني يتربى معاهم في عز أبوه أحسن من الفقر معايا..
بكت بعد حديثها وهي تستعطفها بذلك لكن الأخرى ظلت محافظة على ملامحها الجامدة ونظرتها المقتضبة وهي تقول بنبرةٍ جامدة أكثر من سابقتها:
_والمفروض إني أصدقك؟ صدقيني أنا مبعرفش أثق في حد غير اللي بشوفه بعيني من تصرفاته، وبما أني عيشت معاهم وجربت الوجود معاهم في مكان واحد أحب أقولك إنك أكيد فهماهم غلط أو معرفتيش تتصرفي بطبيعتك معاهم، لأني واثقة إنهم أنضف ناس في الدنيا كلها.
ألقت حديثها دفعةً واحدة وكادت أن تتحرك لكن الأخرى أوقفتها وهي تقول بنبرةٍ سريعة وكأنها رتبت الحديث في عقلها:
_حتى لو قولتلك أنهم أجبروني أسيب البيت وابني؟ كل كلامهم إن أخويا هيبوظه وإنه مش شبههم ولما أبنهم راح المعتقل أجبروني أسكت، ومش بس كدا، أنا عارفة كمان إنه اتجوزك أم لابنه بس مش أكتر، يعني زيك زي “وداد” تنفذي طلبات ابنه، هو قالي كدا وقالي إنه كاره الستات كلها من بعدي، وكمان قالي إنك مطلقة ومبتخلفيش، علشان كدا صمم يتجوزك لأنه عارف إنك محرومة من نعمة الأمومة وهتقدري تديها لابنه، وأكيد أبوه اللي جبره على كدا.
حينها اتسعت عينا “نِـهال” بذهولٍ وتجمدت محلها، فالحديث لم يكن مجرد كلمات عابرة فحسب، بل هي خناجر طعنت أنوثتها وقتلت كبريائها وأطاحت بشموخها، لينتج عن كل ذلك إمرأة مهزومة أرضًا في ميدان المعركة، بينما الأخرى تأكدت من إتمام مهمتها وكادت أن ترحل لكن “نِـهال” أوقفتها حينما سألته بعبراتٍ مسترسلة خلف بعضها وقد بدأ صدرها يعلو ويهبط:
_هو…هو “أيــهم” اللي قالك كدا.
حركت الأخرى رأسها بأسفٍ وردت عليها بحزنٍ ألبسته وشاح الشفقة:
_وهو يعني أنا هعرف الحاجة الخاصة زي دي منين؟ روحت استسمحه أشوف ابني قالي إنه هيذلني وإني مش قد المقام أكون في بيتهم، وكمان قالي على إنك مطلقة وإنك هتعوضي ابنه عني لمجرد إن أهلك مرتاحين مش زيي.
نزلت دموع “نِـهال” أكثر وهي تراقب تحرك الأخرى التي ادعت نفس الانكسار ونكست رأسها للأسفل، بينما الأخرى ظل الحديث يدور برأسها وصداه يتردد في سمعها وقد حسمت أمرها وتحركت من المكان نحو الخارج ومن الأساس كانت تمسك اشيائها على ذراعها، لذا ركضت نحو الخارج على بيت والدها مباشرةً دون أن تتوجه إلى بيتها وأثناء طريقها بعدما ركبت سيارة الأجرة أخرجت الهاتف تطلب رقم “أيـوب” الذي جاوبها على الفور فوجدها تطلب منه بنبرةٍ مختنقة إثر البكاء الذي كتمته هي:
_معلش يا “أيـوب” أنا آسفة أني كلمتك دلوقتي، بس “إيـاد” قدامه نص ساعة ويخرج من المدرسة، ممكن تروح تجيبه علشان بابا بس تعب شوية وهروح أتطمن عليه؟.
انتبه هو لصوتها فسألها باهتمامٍ:
_طب المهم أنتِ كويسة؟ لو محتاجة حاجة عرفينا، ياريت متنسيش إننا عيلتك، ووالدك زي والدي تؤمريني بحاجة؟ أو أقولك أجي وأخده نروح للدكتور بيه طيب؟.
هتفت حينها بلهفةٍ تستوقفه بقولها:
_لأ، لأ متتعبش نفسك هو راح وبقى كويس، أنا بس هروح أتطمن عليه، عن إذنك وأبقى طمني على “إيـاد” لو سمحت.
تعجب هو من طريقة تحدثها ومن حالتها ومن صوتها لكنه آثر السكوت تمامًا وتحرك من محلهِ يتجه نحو مدرسة الصغير لكي يأتِ به إلى البيت وحينما حاول التواصل مع زوجته ردت عليه هي بصوتٍ أقرب لعتاب الصغار:
_عمال تتصل من الصبح وأنا مش عاوزة أرد، دا معناه أني زعلانة، لو سمحت خليك بعيد عني خُلقي ضيق النهاردة.
رد عليها هو بنبرةٍ هادئة يراوغها بقولهِ:
_استني بقى خليكِ جدعة، أنا رايح دلوقتي أجيب الواد “إيـاد” من المدرسة والطريق طويل وأنا ماشي على رجلي خليكِ وكلميني بدل ما أمشي أكلم نفسي، يرضيكِ؟.
هتفت تؤكد حديثه بقولها الذي تغير في المنتصف وتبدل إلى حديثٍ أخر أكثر عاطفةً:
_آه يرضيني، علشان تبقى تختفي كويس وتسيبني قلقانة عليك، أنا فضلت أفكر في حاجات كلها صعبة أوي أهمها إنك اتقبض عليك، وخوفت دا يكون حصل تاني، صدقني والله كان غصب عني أني أخاف عليك، أنا مهووسة بالخوف على اللي بحبهم، من ساعة اللي حصل زمان، كنتوا فين كل دا؟.
زفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_بصي !! أنا مش هقدر أقولك لأن أخوكِ آمني عليها، بس هو لو عاوز هيقولك أو ممكن يكون قال لوالدتك، سيبك بقى من كل دا، أنتِ وحشتيني.
تضرج وجهها بحمرة الخجل من الكلمة وسكتت عن الحديث ليسألها هو بتهكمٍ:
_إيه؟ مفيش أي حاجة خالص؟ لعلمك بقى ؟! بتاعتي أنا أحسن مليون مرة بتاعة الواد ابن عمتك اللي…أستغفر الله العظيم يا رب كنت هجيب في سيرته، أقولك ؟ روحي شوفي حالك وسيبيني في حالي..
أغلق معها المكالمة ثم وضع الهاتف في جيبه واستأنف سيره نحو المدرسة التي يوجد بداخلها ابن شقيقه لكن هذه المرة على الأقل تحدثت معه بعد إضرابها عن الرد عليه وقد ابتسم رغمًا عنه على عتابها الرقيق الذي لم تنفك عنه الطيبة المعروفة في قلبها ولا البراءة الموجودة في طباعها.
__________________________________
<أنتَ مَن أُحِب، وأفعل لأجلكَ ما تُحب”>
في البناية الخاصة بشقته عاد من العمل مُبكرًا..
لم يفهم كيف أخذ هذه الخطوة المتهورة لكنه أخذها أخيرًا وذهب إلى شقته وقد أطمئن حينما وجد زوجته نائمة في هذا التوقيت ليبدأ هو في تجهيز ما خطط له..
بدأ العمل فيما تحب هي وتطلبه منه منذ خروجه من السجن لكن الأعمال التي وقعت على عاتقه جعلته يرفض هذا الطلب أو للحق هو تصنع الانشغال ولم يقبل أن يفعلها، لكنه حينما وجدها تبكي بين ذراعيه وظلت طوال الليل تخبره بمدى أهميته، استشعر جمود قلبه نحوها وتذكر أكثر الرجال الذين يكرههم هو طوال حياته…
أنهى عمل الطعام المفضل لديها وبدأت هي تستشعر وجود شخصٍ في المكان وخرجت من غرفتها بعدما غسلت وجهها لتجد “إيـهاب” بداخل المطبخ يقوم بعمل الطعام ؟؟ هل لازالت نائمة أم أن الأمر فقط مجرد خيالات وهمية نسجها العقل تهوينًا عليها؟ كانت مندهشة وسألته بنبرةٍ أكثر إندهاشًا:
_أنتَ بتعمل إيه عندك يا أخويا؟ مصحتينش ليه؟.
التفت لها يبتسم بعينيه واستند بكفيهِ على الطاولة الرخامية وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_ماهو دا المطلوب إنك تكوني نايمة، عملتلك الكبدة اللي بتحبيها من أيدي وعملتك الطحينة كمان وجيبت عيش فينو علشان خاطرك، أظن أنا كدا راجل مجدع صح؟.
رفرفت بأهدابها وفرغ فاهها وهي تُجزم أنها لازالت نائمة لكنه خطفها من محل وقوفها نحو الداخل و أخذ لُقمة صغيرة يُطعمها في فمها وهو يسألها بتعجبٍ من صمتها:
_قول أي حاجة يا عمنا، أنا بقالي سنين معملتش أكل، يلا.
لوكت الطعام في فمها وتذوقته ثم ابتلعته وقالت بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسمت له بوجهها المشرق:
_يا أخويا زي العسل تسلم إيدك، أنا بحبها من إيدك أوي.
أمسك رأسها بين كفيه وطبع قبلة فوق جبينها وهتف بنبرةٍ هادئة كأنه يعتذر لها من جديد عن فعلهِ:
_ألف هنا على قلبك يا عمنا، المهم إنك تبقى راضية.
وضعت رأسها على صدره تقتبس من تواجده الأمان ثم هتفت بنبرةٍ هادئة وهي تُشبك ذراعيها خلف ظهره:
_والله راضية، طول ما أنا معاك هنا وفي حمايتك من الدنيا كلها راضية عنك، وعلطول بدعي ربنا يبارك فيك وتفضل ليا كل ناسي في الدنيا، يا أخويا دا من غُلبي بقولك أخويا.
رفع كفه يمسح على رأسها ويبعد خصلاتها السوداء عن وجهها وقال بنبرةٍ ضاحكة:
_أهو أخويا دي اللي موديانا في داهية، وبعدها عين الست “تحية” اللي كل ما تشوفني تقر عليا، جربي كدا تقوليلي أمي يمكن ربك يكرم.
ضحكت بصوتٍ عالٍ جعله يضحك هو الأخر ثم جلسا سويًا يتناولا الطعام معًا وهو يُطعمها في فمها مثل الطفلة الصغيرة وكأنه يرى نفسها في صغره حينما كان والده يُثير غضب أمه وهو يجلس بجوارها يطعمها ويطعم شقيقه وقد انتبه للهاتف الذي وصلته رسالة مهمة لتوهِ جعلته يخرجه من جيب بنطاله ليجد فحوى الرسالة قاتلًا له حينما نص بداخلها:
_ما تقولنا كدا يا “عمهم” أخوك هيعمل إيه لما يعرف إنك أنتَ اللي قتلت أبوك ومخبي؟!.
برقت عيناه للخارج بصدمةٍ وتجمد محله وقد حقًا قتل من جديد بهذه الرسالة، لم يظنها قريبة بهذا الحد ولم يظن أن مجرد كلمات تشكلت بجوار بعضها تتحكم في مصيره، وأي مصيرٍ هذا، فهو مصير شابٍ قتل أبيه..
______________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)