رواية غوثهم الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء الحادي والعشرون
رواية غوثهم البارت الحادي والعشرون
رواية غوثهم الحلقة الحادية والعشرون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد وعشرون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
أقُومُ بالليّل والأسّحارُ سَاهيةٌ
أدّعُو وهَمّسُ دعائي.. بالدُموُع نَدى
بنُورِ وَجهِكَ إني عَائدٌ وجلُ..
ومن يعد بك لن يَشّقى إلى الأبدِ..
_النقشبندي.
_________________________
كانت تُنافي العالم في كل وصفه وصفاته، كل العالم يظهر بوجه السراب وهي وحدها الحقيقة، كل العالم كاذبين وهي وحدها الصادقة، كل العالم مُخادعين وهي وحدها الثابتة، كلهم بوجه الباطل وهي الحق، هي وحدها من تملك القوة والأثر، كل الأناس عابرين أما هي فاستوطنت القلب، هي وحدها من هدأ ضجيج رأسي بقربها هي وحدها فقط لأنها؛ هي.
_هي “قـمر” اللي تخصني ؟؟
هتفها “يوسف” مُستفسرًا بنبرةٍ جامدة أعربت عن شرٍ قادمٍ فلم يجد “أيوب” بُدًا من الكذب لذا حرك رأسه موافقًا وعيناه تلمع بإصرارٍ لم يقو “يوسف” على تكذيبه، ليصلهما صوت “علاء” مستنكرًا بقوله:
_تخصك أنتَ كمان !! الله… واضح إن الشيخ مزعل ناس كتير.
انتبه له كلاهما، فهتف “يوسف” بشرٍ وصدره يعلو ويهبط من فرط التأهب الذي استعد به جسده وتشددت به أعصابه عند سماعه ماسبق:
_وأنا ميهونش عليا زعلك يا ريس.
قال جملته ثم رفع كفيه يهبط بهما على وجه “علاء” فابتسم “أيوب” ساخرًا وهتف بنزقٍ يخالف فرحته في الأخر:
_ليه بس كدا يا “يوسف” ؟؟!
أجفل جسد “علاء” من صفعتي “يوسف” له والذي على الرغم من عدم رؤيته لها من قبل إلا أن تلك النزعة الرجولية نُشِبَت بداخله على الفور كما تنشب النيران وسط المواد القابلة للاشتعال، وأي اشتعالٍ هذا !! شقيقته تُذكر أمامه بسوءٍ وهو يتوجب عليه أن يصمت أو حتى يتحلى بالصبر؟!.
تحدث بصوتٍ هادر يعبر عن جَمَّ غضبه الذي أخذ يتفاقم وهو يمسك تلابيب “علاء” الذي بدا مذعورًا أمامه فالفارق بينهما واضحًا للعيانِ:
_مدوراها !! أختي أنا مدوراها يا ابن ******، أختي اللي أشرف منك ومن عيلتك ومن أمك يا عِـرة … مدوراها؟؟ اللي مدوراها دي تبقى أمـ…..
أوقفه “أيوب” قبل أن يتطاول أكثر من ذلك ويذكر أم الأخر بسوءٍ وقد حال بينهما قائلًا بثباتٍ:
_كله إلا سيرة الأم !! هو عندك أعمل ما بدالك فيه، بس نذكر أمهات حد بسوء أو نغلط في شرف حد، مش حمل كدا.
كان التحدي سائدًا بينهما من خلال النظرات الثاقبة ولازال “علاء” أسيرًا بين قبضتيه يطالعهما بخوفٍ وهلعٍ افصحته نظراته وهو يزدرد لُعابه خائفًا منهما، حتى قام “يوسف” بالضغط على فكيه وهتف بنبرةٍ جامدة وهو يدفع “أيوب” على الضفة الأخرى لمكانهم:
_ طـــب رَيـح أنتَ.
وقف “أيوب” يرمقه بترقبٍ وكأنه ينتظر منه القادم أو لربما يدرس خطواته ليجد “يوسف” يقترب بوجهه من “علاء” قائلًا بحدةٍ طفقت في موته مذعورًا بسبب نظراته هذه:
_لو مقولتليش علاقتك بيها إيه في دقيقة واحدة….الدقيقة اللي بعدها أنا هقرأ عليك الفاتحة، تعرف أختي منين ؟؟
رد عليه بنبرةٍ مهتزة بعدما حرك رأسه نحو “أيوب” يخطف نظرة عابرة ثم استقر ببصره على وجه “يوسف” هاتفًا بخوفٍ:
_أنا…أنا كنت خاطب بنت خالها اللي اسمها “ضُحى” بس هي رسمت عليا وخدت رقمي وحصل حوار بينا ولما خافت تتكشف راحت عملت الدور دا كله وفضحتني قصادهم وطلعت أنا ابن ستين *** قدامهم وهي الملاك علشان خاطر حطت عينها على الشيخ.
كان يكذب ويتمادى في كذبه لعله ينجو بنفسه لكنه لم يضع في الحسبان أن بحركته هذه ازداد الخطر عليه حينما اندفع “أيوب” بنفس النزعة الرجولية التي نُشِبَت بالأخر، لكن تلك المرة لإمرأةٍ تخصه وتخص قلبه، فلم يُكبح جماح غضبه حينما اقترب من “علاء” وضغط على عنقه بشدة حتى أوشك على لفظ أنفاسه الأخيرة ينطق من بين أسنانه بغضبٍ مشحون:
_هي برضه اللي رسمت عليك ولا أنتَ اللي مش راجل وعينك واخدة على البصبصة ؟؟ هي برضه اللي اتهجمت عليك في الطريق تحاول تهددك وهي برضه اللي كانت عملالك تسجيلات بصوتك وصور علشان تفضحك ؟؟ وهي برضه اللي كانت بترسم عليك ؟؟ فكر تلبخ بكلامك عنها تاني علشان المرة الجاية هلبخ وشك.
وقف “يوسف” بحيرةٍ يوزع أنظاره بينهما وخصيصًا اندفاع “أيوب” في الدفاع عن شقيقته؛ تبدو الأمور وكأنها لغزٌ صعب الحَل، لكنه يثق في شقيقته وفي والدته وفي خاله….عند ذكر خاله تذكر أمره وكأنه سقط من عقله تمامًا، لذا اندفع يمسك مرفق “علاء” هاتفًا في وجهه بقسوةٍ:
_ولا !! خالي”فضل” عايش ؟؟ يعني أمي مع خالي ؟؟
نظر له “علاء” بحيرةٍ فحتى الآن لم يفهم علاقته بهم، وقبل أن ينطق “يوسف” من جديد يهينه ويسبه بسبابٍ لاذعٍ دلف “بيشوي” محل “أيوب” يسأل بجمودٍ برع في رسمه:
_فيه إيه ؟؟ الواد دا بيعمل هنا إيه يا “أيوب” ؟؟
انتبهوا له، فاقترب منهم “بيشوي” يقبض عليه منهما واقترب منه يقول بشرٍ حقيقي تجسد أمامه حينما تذكر فعل هذا الوضيع سابقًا:
_أنتَ يالا مش ربنا نجدك مننا واكتفينا لحد كدا ؟؟ راجع تفرك هنا ليه من تاني ؟؟ لو حابب إنك تستعرض نفسك، فيلا بينا وكدا كدا تليفونك بكل حاجة فيه أنا عامل منه نسخة تانية في أيدي، تحب بقى نزيع ونوري الناس تربيتك الناقصة دا لو هي موجودة أصلًا وتبقى فضيحة لأهلك معاك ؟؟ ولا تتلم وتمشي من سُكات خالص وكأنك ميت، وعلينا ندعيلك بالرحمة، قولت إيه ؟؟.
قام “علاء” بتوزيع أنظاره بينهم، فبدا وكأنه ضبعٌ في غابة أسود وهو فقط أتى أمامهم يثير استفزازهم بأسنانه ليتفاجأ بنفسه وقع في عرينهم ينهشون فيه بمخالبهم، ولو حُسِبَ الأمر بالعقل يظل الضبع ضبعًا؛ وهم ملوك الغابة، لذا رأى أن الإنسحاب من براثنهم أنسب حلٍ وأن من ظن بهم الضعف، هم ملوك القوة، لذا حرك رأسه موافقًا وهتف بخوفٍ أخرج حروفه مُهترئة كما قطعة قماش بالية:
_هـ….همشي…خلاص همشي، أنا ابن **** أني جيت هنا، تولع “قمر” على “ضحى” على اليوم اللي شوفتهم فيه.
اقترب “يوسف” منه ينطق من بين أسنانه بغيظٍ من تطاوله في التحدث عنهما لكن مروره لم يكن هينًا بل أخذ زجاجة فخارية واقترب منه يكسرها فوق رأسه ورافق حركته هذه قوله:
_الولعة دي اللي هتمسك فيك وفي اللي خلفوك.
تأوه “علاء” وظهرت الدماء فوق رأسه فاقترب منه “بيشوي” ينطق بخبثٍ من بين أسنانه حتى خرجت نبرته أقرب للهمس:
_دي أقل حاجة عنده، تخيل لو سيبته عليك؟؟.
اتسعت عينا “علاء” فابتسم له الأخر ولفَ ذراعه حول عنقه يقول بنبرةٍ لم تُظهر سوى الخبث:
_يلا قدامي خليني أربيك وأعمل اللي بابا فشل فيه.
تحرك “بيشوي” به من المكان فاندفع “يوسف” يخنق “أيوب” بكلا كفيه وهز جسده بعنفٍ وهو يقول بتهديدٍ وقد فقد السيطرة على احتواء غضبه المتفاقم عن ذي قبل حتى هُيء له أن ارتكاب جريمة في هذا التوقيت أسهل الاشياء مثل النفس العابر للرئة، لذا هتف:
_ورحمة أبويا لو ما ريحتني من اللي أنا فيه لأكون مريحك أنا من الدنيا كلها، وشكلك ابن حلال وطيب والجنة مكتوبالك، أمـــي وأخــتي فــيـــن ؟؟؟
صرخ بصوته في وجه “أيوب” الذي رفع رأسه وهتف ببرودٍ وكأنه يتشاور معه في الحديث:
_أولًا حرام تحلف بحاجة غير لفظ الجلالة علشان دي عبادة لربنا، ثانيًا أختك وأمك في الحفظ والصون معايا، بس مستنيك تكون مستعد تقابلهم، علشان من الأخر كدا أنا وأنتَ عارفين إنك مش قد المقابلة دي.
ارتخت قبضتاه عن عنق “أيوب” وبدأ الذهول يعلن نفسه على ملامحه المندهشة باستنكارٍ، حتى أنه لم يقو على تكذيب “أيوب” فلازال أضعف من مقابلةٍ تكاد تقتل المتبقي منه، بينما “أيوب” ما إن رأى هذا الرضوخ عليه، استخدم سياسة الطرق على الحديد الساخن بقوله:
_صدقني أنتَ متعرفش عنهم أي حاجة، لو عندك استعداد وهما كمان عندهم استعداد أنا بكرة هخليك تشوفهم وتعرف مكانهم.
هتف “يوسف” بتأكيدٍ وإصرارٍ يقطع سُبل الحديث على الأخر:
_بكرة !! بكرة هشوف أمي وأختي، لو بكرة عدى من غير ما أكون واقف قصادهم، أنا هكسر الحارة على دماغ أبوكم كلكم، وبلاش طريقك ييجي على طريقي علشان شكلك ابن ناس مشوفتش شقا في الدنيا دي.
أبتسم “أيوب” رغمًا عنه وسرعان ماتحولت بسمته هذه لضحكةٍ ساخرة جعلت الأخر يطالعه بتعجبٍ وهو يحرك رأسه مستنكرًا ضحكته في موقفٍ لا يليق به حتى الهدوء، فنطق “أيوب” بعدما أوقف الضحكات يسخر من حاله:
_تصدق حلوة، فعلًا أنا مشوفتش شقا في الدنيا دي، كنت بشوف خيبتي بس، يابا الله يكرمك اركن على جنب مش طالبة هي.
لاحظ “يوسف” تهكمه المرير فابتعد عنه بقدرٍ كافي وهو يشعر بصراخ روحه وكأن “يوسف” الصغير أعلن عن نفسه بداخله أنه لازال حيًا يتتوق إلى عناق والدته فصرخ بنبرةٍ عالية ومال بجسده يحمل الزير الفُخاري الموضوع أسفل قدميه وقبل أن يُلقيه أرضًا لعل بذلك يُطفيء نيرانه المشتعلة بداخل صدره وامتدت في جميع أوردته أوقفه “أيوب” صارخًا بقوله مُندفعًا:
_عـــنــدك !! إلا دا، إيـــاك !!
هتف بهذا يحذره وقد توقف “يوسف” عن فعله ورفع حاجبيه ولازال ذراعاه مرفوعين وبينهما الزير، لذا تسائل بشرٍ لمعت به عيناه:
_إيـه ؟؟ خـايف عليه أوي كدا !!.
حرك “أيوب” رأسه موافقًا يؤكد هذا ولكن هناك حيرة لوحت في أفقه وهو يرى بسمة الأخر تزداد اتساعًا عقبها برميهِ الزير من يديه أرضًا ليتهشم بالكامل وكأن أطرافه تنغرس بقلب “أيـوب” كمدًا وحزنًا على صناعة يده، فيما دفع هو الطاولة بقدمه ورحل من المحل ليرفع “أيوب” صوته عاليًا ليوقف “يوسف” عن استئناف تحركه:
_يا عيلة مجانين !! دي وراثة عندكم يعني !! طب يمين بالله لأقبل العوض منكم، وكله من المهر بتاع أختك.
هتفها بصراحةٍ وقد شعر بالضيق يستولى عليه، فالتفت له “يوسف” برأسه يقول ببسمةٍ ساخرة:
_دا لما تشوف سلسلة ضهرك إن شاء الله تبقى تنول أختي، “قـمـر” بعيدة عنك أوي، علشان ببساطة هي مش هتفضل هنا، وخلي بالك أنا هريح شوية وأقابلك علشان لازم أفهم كل حاجة الليلة، وبكرة أختي هتكون معايا.
رحل من المكان فورًا بينما “أيـوب” زفر بقوةٍ وابتسم بخبثٍ حينما تأكد أنه لازال يمسك زمام الأمور بيديه وحتى الآن تقع تحت سيطرته، تنهد بعمقٍ ثم اخفض جسده يجلس على عقبيه وبادر بلملمة الهشيم الفُخاري وهو يتنهد بعمقٍ ويستغفر مولاه لعل.الشيطان الغاضب يرحل عنه قبل أن يُخيم على صدره ويجعله ناقمًا على عكس عادته.
_________________________________
<“ما خشيته بالأمس….أصبح هو أماني اليوم”>
في منطقة “نزلة السمان”
كانت “سمارة” تجلس على الفراش بجسدٍ مُثقل بالهموم تشعر بالوهن في جميع أنحاء جسدها، لكن ليس ألمًا، إنما بسبب الرجفة الحادة التي ضربت بكامل جسدها بالأمس، وبسبب الليلة العصيبة التي مرت عليها، تنهدت بعمقٍ ورفعت أناملها الطويلة تتبع أثر الجرح في عنقها، ثم زفرت بيأسٍ وهي تفكر فيه، أين هو منذ الصباح؟؟ استيقظت دون أن تراه وجلست هنا بدونه، وناولتها “تحية” فطورها وكأنها لا تهمه ؟؟ نعم هو جامد المشاعر قليل التعبير، لكن هل يُعقل أنه يغضب منها هي ؟؟.
جالت الأفكار بذهنها كثيرًا تعصف به وكل مرةٍ تخشى من جديد أن يكون كَرِهَ وجودها المقترن بالمصائب أينما حلت خطاها، ومازاد من خوفها هي تلك الجملة التي طفقت تظهر في سمعها وكانت تترد في سمعها منذ طفولتها بنبرةٍ تحمل الشر واللؤم معها:
_”منها لله أمك كانت وش بومة خلفت غُراب أسود، هتفضلي وش نحس طول عمرك وقدمك قدم فقر، وأنا هربيكي يا بنت “صَبحة”.
كان هذا قول زوجة أبيها المعتاد لها وهي توبخها وتُهين أمها ثم تُعقب ذلك بالاقتراب منها تحمل نعلها المُهتريء في يدها تنهال عليها بالضرب في أنحاء جسدها والأخرى تصرخ بألمٍ على طفولةٍ مُحتلة وحقوقٍ مُغتصبة ممن لا يملك الحق في حقها.
تنهدت بعمقٍ وهي تشعر بالعبرات الساخنة تُبلل وجنتيها وهناك أسلاكٌ شائكة توسطت حلقها، ولدت في ظروفٍ عسيرة غير ميسرة، بعدها توفت والدتها لتعيش بصحبة أبيها واضطر هو أسفًا للزواج بجارته القاسية التي نصبت شباكها عليه وأجادت الإيقاع بفريسةٍ مثله سهلة الصيد حينما اتكأت بلؤمها على وتر الفتاة اليتيمة التي تحتاج للرعاية، ومنها تم الزواج لتعيش فتاته تلك أصعب أيام حياتها وهو أيضًا حتى لقى حتفه ومات في أوائل مراهقة ابنته.
بكت “سمارة” بحرقةٍ وهي تتذكر وحدتها وفراق أحبتها وتركها لبيتها بسبب أفعال “فتحي” حينما تعمد الإحتكاك بها عن عمد أكثر من مرة جعلتها في بعض الأحيان تنام فوق خزانتها حتى لا يستطع الوصول لها.
سيل جارف من الذكريات مر بذهنها وهي بمفردها حتى وصلها عطره مع دخوله الشقة ومنها إلى غرفتها وقد توقع أنها نائمة ولم يتوقع أبدًا أنها مستيقظة بل وتحارب على جبهة الذكريات، ولج الغرفة ليطمئن عليها فتفاجأ بها تجلس على الفراش وهي تبكي، لذا اقترب منها بلهفةٍ يقول:
_”سمارة” !! أنتِ صحيتي ؟؟ طمنيني عاملة إيه ؟
رفعت عينيها الباكيتين له بعتابٍ ثم اخفضت رأسها من جديد ولم تنطق بحرفٍ واحدٍ فاقترب منها هو يرفع وجهها له تزامنًا مع سؤاله بنبرةٍ جامدة:
_بت !! مالك أنتِ كويسة ؟؟.
حركت رأسها نفيًا واجهشت في بكاءٍ مرير جعله يبدل سبيل التحدث معها بأخرٍ أكثر لينًا عن سابقه فزفر بقوةٍ وسألها بنبرةٍ هادئة:
_طب إيه السبب …حد تاني زعلك؟؟.
هتفت من بين دموعها وهي تشفق على نفسها:
_كل الدنيا، ياريتني كنت موت وخلصت.
فهم سبب حزنها فرفع وجهها له من جديد بعدما نكست رأسها للأسفل تهرب منه، فتنهد بعمقٍ ثم حرك ابهاميه يُزيل الدموع العالقة بأهدابها وهتف بنبرةٍ رخيمة يعلم مدى تأثيرها عليها حينما يحدثها بها:
_طب لو موتي ؟؟ إيه الحل يعني؟؟ بلاش… هتسيبي حبيبك كدا لوحده ؟؟ هيبقى أمي وأنتِ يعني يا “سمارة” ؟؟ كتير عليا كل دا، بعدين هو لو موتك أنا كنت هسمي عليه يعني؟؟ كان زمان روحه مفارقة قبل روحك، اخزي الشيطان وبلاش كلامك دا.
سألته بنبرةٍ باكية وكأنها لم تسمعه وكأن ما يشغل عقلها الآن هو غيابه عنها:
_أنتَ كنت فين ؟؟ هونت عليك تسيبني؟؟ كنت عاوزة اصحى الاقيك موجود هنا، سيبتني ليه يا “إيهاب” ؟؟
هتف هو بلهفةٍ يُبدد ظنونها تجاهه:
_ومين قالك إني سيبتك؟؟ ومين قالك إنك هونتي عليا ؟؟ والله ما سيبتك طول الليل ولا لحظة حتى، وطول الليل نايمة في حضني ومبعدتيش عني وأنا عمال اطبطب عليكي، مش ذنبي إنك محستيش بكل دا.
تنهدت بعمقٍ وقد خمدت نيران ثورتها المُشتعلة قائلة:
_طب ونزلت ليه الصبح ؟؟
كانت تريد منه بعض الحنان بقوله أو حتى أفعاله، ففهم هو عليها من خلال نظرتها لذا تنهد هو بعمقٍ ثم جلس بجوارها يقول بنبرةٍ هادئة بعدما رسم الابتسامة على ملامحه:
_نزلت أجيب حقك، نزلت علشان أشوف هذل الكلب دا إزاي بعدما فكر بس فيكِ، لو بأيدي أنا كنت هخلص عليه امبارح ونزلت فعلًا بسلاحي، بس الحج بقى منعني، وفيه حاجة تانية حصلت خلت أيدي تترعش ومكملش اللي كنت هعمله.
نظرت له بتساؤلٍ وقد طَلَّ الفضول من نظراتها لتجده يسبل عينيه نحوها هاتفًا بنبرةٍ رخيمة:
_أنتِ، لو فيه حاجة واحدة خلتني أوقف اللي بعمله هو أني افتكرتك وافتكرت إنك من غيري هتتعبي، محدش عارف عنك أي حاجة زيي، محدش عارف إيه اللي بيخوفك و إيه اللي بيطمنك زيي، من يوم ما وقفت قدام الكل وقولت إنك في حمايتي، وأنا اقسمت إنك تكوني بنتي قبل ما تكوني مراتي، طب مسألتيش نفسك الدكتور محطش ليكي محاليل ليه؟؟
سألها بفطنةٍ وكأنه يشير إلى عقلها الغائب، لتنظر هي نحو كفها الخالي من تلك الإبرة الغبية اللعينة التي تنغرس بالوريد، ثم رفعت عينيها نحوه من جديد بفضولٍ تفاقم عن سابقه لتأتيها الإجابة منه حينما احتضن كفها بين كفيه يضغط عليه قائلًا بنبرةٍ حاول جعلها طبيعية:
_علشان كنت واقف امبارح جنب الدكتور وهو بيكشف عليكِ ومسبتكيش ولما لقيته عاوز يحطلك الكانيولا الهباب دي، أنا وقفته وقولتله أني هأكلك وأشربك، علشان عارف إنك بتخافي منهم بسبب اللي ما تتسمى مرات أبوكِ، ولو مش واخدة بالك أنا اللي أشرفت على الفطار بنفسي، وعملتلك عصير برتقان بالعسل، بس كان لازم أنزل أشوف حقك وأملي عيني منه وهو مذلول قدامي.
نزلت دموعها بفرحةٍ وكأنه قر أعينها وانفرجت شفتاها ببمسةٍ صافية تَكنُ له كل الامتنان والشكر ليبتسم هو لها ثم اقترب منها يقبل وجنتها بسرعةٍ وهو يقول بمراوغةٍ:
_سلامتك يا عمنا، قومي يابت كدا خليكي زي المُهر الأصيل، مفيش حاجة تخليه يضعف أبدًا، فين بقى اللي علمتهولك وفين نصايحي؟؟ حتة سكينة على رقبتك تعمل كدا فيكِ ؟؟!
تنهدت بعمقٍ ومسحت وجهها وقررت العودة إلى طبيعتها بقولها مندفعة:
_يا أخويا أهدا الله لا يسيئك، واحد حاطط سكينة على رقبتي هفتكر إيه ولا إيه أنا ؟؟.
لكزها في كتفها هاتفًا بضجرٍ:
_تضربيه بكوعك في بطنه، برجلك في أي حتة، أعملي أي حاجة بدل فصالك مع الولية أم “جنى” اللي جابك ورا دا.
هتفت بنفس الاندفاع تُثنيه عن حديثه:
_يا أخويا هو أنا بروسلي ؟؟ بعدين الكلام سهل، دا أنا جسمي كله اتشل وعقلي وقف ومفتكرش غير حاجة واحدة يرددها وهي “إيــهاب”.
ابتسم لها وقرر أن يفاجئها حينما تنهد مُطولًا ثم رفع كفيه يخلع سلساله الموضوع بعنقه يحمل شكل مدية صغيرة ثم فتح تلك المدية أمامها وأخرج منها ورقة طواها بيديه لتصبح بحجم المدية وخبئها بداخلها.
عقدت “سمارة” مابين حاجبيها وهي تتابعه يقوم بفتح الورقة ثم وضعها نصب عينيها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_دا الجواب اللي كتبتيه بخط إيدك ليا وأنا جوة السجن، دي أول حاجة تكتبيها لوحدك بعدما علمتك، كان عامل زي القشاية ليا، هون عليا حرقة السجن ومراره، كل شوية أطلعه واقراه وأرجع تاني اقراه، لحد ما بقيت حافظه زي اسمي، حتى حافظ الحروف اللي إيدك غلطت فيها.
رفعت عينيها الباكيتين له وهي تسأله بلهفةٍ:
_هو مضاعش منك !! لسه معاك من أربع سنين ؟؟
حرك رأسه موافقًا وأضاف مؤكدًا أهميته له:
_كان عندي أعز من روحي، كنت بنام وأصحى وأنا مأمن عليه ولما خوفت الزمن يهلك الورقة دي زي أي حاجة بتتهلك خدت السلسلة دي من واد جوة السجن أخوه جابهاله، والصراحة مخادش حقها بس خد البرشام اللي كان مخبيه جواها.
ابتسمت له من بين دموعها فقام هو بطي الورقة مرة أخرى وأعادها من جديد لمكانها بجوار قلبه ثم اقترب منها يهتف بمشاكسىةٍ:
_هي مكانها جنب قلبي وأنتِ بقى تعالي في حضني.
ضمها إليه يقربها منه وهي تضحك بسعادةٍ وكأنه بدلها بأخرى غير التي رآها عند دخوله الغرفة، أما هي فقررت الهروب من العالم لعالمٍ أخر اختصرت فيه دنياها بعدة حروفٍ كان مفداها هو “إيـهاب” الملاذ الآمن لها إن لم يكن هو الأمان بذاته.
__________________________________
<“لذة الهروب…أقوى من انتصار الحروب”>
الجملة التي ألقيت على سمع “يوسف” ذات مرةٍ من زميله المُدعى “فريجة” في غرفة الزنزانة الواصل من العمر خمسين سنة، حينما مر على محبسه معه أكثر من ثلاثة أشهر وهو هنا في غرفة الحجز وسط عددٍ لا بأس به من المجرمين، لازال يتذكر حِنكة الرجلِ وهو يقول بحكمةٍ أعطتها له الدنيا بمصائبها وتلى هذه الجملة بقوله:
_ياما ناس فردوا نفسهم في وش الدنيا زيك كدا، آخرها كان إيه غير قهرتهم هما؟ اسمع مني الهربان…كسبان نفسه، حتى لو خسر الحرب كلها.
تردد الحديث على سمعه من جديد لأول مرة يتذوق صدق العبارة حينما فر هاربًا من أمام “أيوب” الذي كشفه أمام نفسه، فهو لازال يخشىٰ لقاءه بوالدته، لقاءً ربما يكون له محتومًا لكن الألم به محكومًا.
عبر من أمام بوابة البيت ومقابلًا لمحل “سعد” لكنه لم يجلس كعادته يتتبع النساء بنظراته الحقيرة بل جلس أخرٌ يتتبع “يوسف” بنظراتٍ مُتفرسة جعلت الأخر يضيق جفنيه، حتى اقترب منه “شكري” يهتف بنبرةٍ مُرحبة _لكنها منافقة_ فهو يكره تواجده هنا:
_منور حارة العطار يا باشا، أنتَ الغريب اللي بيقولوا عليه؟
أبتسم “يوسف” بسخريةٍ عند ذكر هذا اللقب فقال الأخر بنفس التهليل المُرحب بحفاوةٍ:
_بس الله ينور يا باشا، من أول وجودك في الحارة وأنتَ عامل ضجة، اللهم صل على النبي يعني ولا “محمد صلاح”.
فهم “يوسف” عليه وفهم طبيعته أنه يأمن شره فقط لا غير خاصةً بعدما علم أنه من تسبب في رسم تعابير جديدة على وجه “سعد” لذا رفع كفه يضغط به على كتف “شكري” هاتفًا بنبرةٍ جامدة:
_نَـعـيش ونـعمل ضَـجة…وتـعـيـشوا وتـستـحملوا الرَجة.
اتسعت عينا “شُكري” وبدا الزعر واضحًا عليه فيما تحرك “يوسف” من أمامه وولج البيت ليقول “شكري” بعد مغادرته يرثي حال صديقه:
_تعيش وتاخد غيرها يا “سعد” يا أخويا.
فوق سطح البيت كعادتها وقفت تتابع زرعها و ورودها الصغيرة التي بدأت في النضج وهي تفكر هل تتشابه مع هذه الزهور في أي شيءٍ ؟؟ أم أنها مجرد أشواكٍ تأذي من يقترب منها؟؟ تنهدت بعمقٍ ثم التفتت للوح الخشبي المُعلق بواسطتها وقد استخدمته كما “سبورة الشرح” لشقيقتها واقتربت تمسك القلم تدون به بخط يدها:
“كان ياما كان…كان ياما كان”.
تنهدت “عـهد” بعمقٍ وهي تتذكر كلمات الأغنية من جديد ثم نزلت من المكان لتبقى الجُملة كما هي مكتوبة بخط يدها لتنزل هي شقتها من جديد قبل الذهاب إلى عملها.
صعد “يوسف” الشقة بجسدٍ متهالك وكأن الهموم تجثو على كتفيه وتثير غيظه ليتحرك بخطواتٍ واسعة يهتف بنبرةٍ عالية يرفع صوته قائلًا:
_”فــاتـن”….”فــاتــن”….يا “عــمتو” !!
كان يبحث عنها مناديًا عليها رافعًا صوته لكنه لم يجدها، وللحظةٍ سقط قلبه خوفًا أن يكون هناك مكروهٌ أصابها، أو لربما صعدت فوق السطح تنفس عن نفسها في الهواء، لذا أسرع بخطواته نحو السطح يبحث عنها بعينيه في كامل أرجاءه بعدما آمل في الحصول عليها، ليقع بصره على اللوح الخشبي المُعلق وتلك الجملة التي توسطته ليتنهد بعمقٍ واقترب يقرأها مرة واثنان وثلاثة.
فهم على الفور أنها هي من كتبت هذه الجُملة وكأنها تقف له بالمرصاد أمام ثباته، تلك المشاكسة التي تجعل ذكرياته تهجم عليه وتحاربه بضراوةٍ، حينها أمسك القلم ودون أسفل عبارتها وكأنه يرد عليها بحديثٍ يوجعه:
_زارنا الزمان سرق منَّا فرحتنا…والراحة والأمان.
حرك رأسه يُمنةً ويسرىٰ يراقب اللوح ثم أطلق زفيرًا قويًا وتحرك من محله وقد عاد لسمعه حديث عمته قائلة حينما هاتفها بالأمس:
_أنا عند أم “عَـهد” جارتنا.
وصل لشقة “عـهد” يضرب جرسها بنفاذ صبرٍ حتى فتحت الباب له تعنفه بقولها:
_بالراحة….بالراحة.
تنفس بعمقٍ وهتف بإيجازٍ:
_هي فين ؟؟.
عقدت ملامحها باستنكارٍ فهتف هو بضجرٍ:
_عمتي، عمتي فين.
حركت رأسها بتفهمٍ وهتفت بنبرةٍ هادئة:
_جوة، أكيد مبعناش أعضائها يعني.
أتت عمته في تلك اللحظة تقول بلهفةٍ عند رؤيتها له من خلف “عهد”:
_حبيبي، أنتَ جيت؟؟.
حرك رأسه موافقًا فاقتربت منه تعانقه كترحيبٍ به ليقف هو صامدًا لكن رؤيته للاستنكار على وجه “عـهد” جعله يرفع ذراعيه يطوقها بهما وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_آه الحمد لله، يلا بقى.
التفتت برأسها تشكر “عهد” بقولها:
_ألف شكر يا “عـهد”، اشكريلي ماما وقوليلها أني هنزل بقى علشان “يوسف” جه هنا.
ردت عليها الأخرى بلهفةٍ:
_لا شكر على واجب والله قعدة حضرتك حلوة أوي، طب خليكي معانا نتغدى سوا طيب.
جاوبتها “فاتن” بوجهٍ مبتسمٍ وهي تشير برأسها نحوه:
_ألف هنا بقى، هنزل معاه علشان مش هعرف اسيبه.
وقف هو بينهما وقد لاحظ مدى التقارب الذي أصبح بينهما، لذا التفت لعمته يقول بوجهٍ مبتسمٍ محاولًا التحدث بلطفٍ معها:
_طب انزلي أنتِ الشقة وأنا هاجي وراكي.
حركت رأسها موافقةً فيما انتظر هو تحركها ثم التفت مرةً أخرى يقول بنبرةٍ هادئة يشكرها على استقبالها لعمته:
_ألف شكر يا “عسولة” وجودها هنا طمني، نردهالك في الفرح إن شاء الله.
ردت عليه بنبرةٍ عادية تقلل من صغر الأمور:
_لا شكر على واجب، قعدتها جميلة وهي طيبة أوي، ربنا يخليهالك بتحبك جدًا وفضلت طول الليل قلقانة عليك.
حرك رأسه موافقًا وأوشك على التحرك لكي ينزل لها فأوقفته بلهفةٍ تقول:
_ممكن لو هتنزل تاني تخليها تطلع أو تسيبها معانا، بدل ما تقعد لوحدها، بصراحة الإنسان وهو لوحده بيتعب أوي أنا عن نفسي بخاف من الهدوء المريب دا.
رفع حاجبيه مستنكرًا وسألها بنبرةٍ قصدها جامدة يشير بذلك إلى حديثها السابق معه يوم أن رأها أسفل البناية:
_الله ؟؟ وأنا مالي أصلًا؟؟ بتقوليلي ليه ؟؟
اتسعت عيناها ورفرفرت بأهدابها السوداء الكثيفة ثم تنحنحت بحرجٍ منه ليتحرك هو من المكان تاركها خلفه تنصهر خجلًا وقد فهمت أنها تسببت في احراجه لذا هتفت توبخ نفسها بقولها:
_كان لازم يعني أحرجه كدا؟؟ مش كفاية موقفه مع الزفت.
زفرت بقوةٍ وقد تملك منها اليأس بعدما تسببت في احراجه بعد موقفه الشهم معها حينما أنقذها من براثن “سعد” الذي يشابه الثعالب في مكرها وفي كل مرةٍ يُبريء نفسه براءة الذئب من دم بن “يعقوب”.
__________________________________
< “في الأمس كان حُلمًا…واليوم أضحىٰ أملًا” >
هكذا فكرت “قمر” الجالسة في غرفتها أن كل ما ظنته خيالًا أضحىٰ يلامس واقعها ليلونه لها كما تتلون الحياة في فصل الربيع، هل قد حان ربيعها ؟ لم لا؟ لقد عاشت السالف من عمرها خريفًا تعاصفه الرياح القوية وقد سبق وسقطت أوراق الشجر لتأتي قسوة الخريف تزيد من خشونة هذه الأوراق، وهي عمرها بأكمله ضعيفة وحزينة، سلب منها الكثير وهي تتعامل بطبيعتها، لكنها لم تنسى أنها حُرمت من بيتها ومن حقها والأهم من توأم روحها، “يوسف” ذلك الحبيب البعيد، غائب عن العين… مقارن القلب…لم يفارقها ولم تنساه، لم تنسى أنها تخرج الصدقات لأجل عودته لها، ولن تنسى أنها التزمت في صلاتها لكي يحق لها بالمطالبة في عودته.
تنهدت بعمقٍ حينما شعرت بوخز الدموع في عينيها وهي تتذكر حديث “أيوب” عن شقيقها، هو صادق ولم يكذب وهذا ما عُرِفَ عنه، هل أمر إيصالها بشقيقها أصبح يتضمن بعض الوقت الزهيد لكي تقابل روحها الغائبة عنها؟؟ على كلٍ هناك أمر في غاية الأهمية وهو “أيـوب” هل هو بنفسه الذي تمنته يومًا ؟؟.
قفزت من فراشها سريعًا وأخرجت من الكومود المجاور للفراش صورة شقيقها بجوار والديها وهو يحضتنها مُحكم الحصار عليها يضحك بانتصارٍ لكونها معه هو، قارنت دموعها حديثها وهي تقول بشوقٍ له:
_يا رب تكون موجود وفاكرني، أنا حبيتك من الكلام بس، لو كنت معايا أكيد حاجات كتير كانت هتتغير، عارف، امبارح كانت أول مرة يا “يوسف” أحس أني عاوزة أفرح، “أيوب” اللي حكيتلك عنه كتير جالي، ومستنياك تجيلي أنتَ كمان، ساعتها هفرح بجد، ماما قالتلي إنها قبل كدا هزرت معاك وقالتلك أني لما أكبر هتجوز وأنتَ كسرت اللعبة بتاعتي علشان محدش ياخدني منك، تعالى بس وأنا هسيب الدنيا كلها علشانك.
لقد اعتادت على التحدث معه وقص كافة تفاصيلها له والسبب في ذلك هي “غالية” التي لم تقبل بفكرة نسيانه، كيف تنسى أول ما رأه القلب؟؟ هو أول من شعرت معه بأمومتها وهو أول من دق القلب له بمشاعر مختلفة وهو الوحيد الذي زُرِعَ في أحشائها، كانت يوميًا تسرد عليها تفاصيله وشقاوته ومرحه ولعبه وخفة ظله منذ صغره، قامت بزرع حبه بداخل فتاتها التي عاشت على ذكراه لم تعرف عنه سوى صورة جماعية مع أسرتها وحروف اسمه وتفاصيل أخرى.
تنهدت “قمر” ثم أخرجت دفترها تكتب له الخطاب اليومي في تلخيص أسبوعٍ حافل بالذكر للعديد من الانتصارات أهمها هما الاثنان معًا “يوسف” و “أيوب”، فهل ستعطيها الحياة كليهما وترأف بها بعدما عاشت تتمنى فقط مجاورتهما.
__________________________________
<“يـالـيـت العـالم كما عناق أمي”>
جلس “أيوب” بغرفته مُختليًا بنفسه بعد مقابلته مع “يوسف” لقد كشفه لنفسه ورأى الضعف في نظراته، على الرغم من تتوقه لمقابلة أمه إلا أنه لازال يخشى تلك المقابلة، يخشى أن تكون نسته وتخطته وعاشت حياتها بدونه، أراد “أيوب” أن يجمعه بها ويُطمئنه وأراد أن يقرنه بشقيقته “قمر” تلك التي تتوق لرؤياه، ابتسم “أيوب” وهو يفكر أن الأمر يحتاج فقط لعدة ساعات لكي يُجمع شملهم حتى وإن كانت نتيجة ذلك تركه لـ “قمر” والابتعاد عنها، لكنه لن يقبل باستغلال هذه المشاعر النقية في الحصول على مبتغاه هو، يعلم أن “يوسف” دوائه في عناق أمه، و آهٍ من هذا العناق، ياليت كل العالم مثله، لقد كان جنته في أرض الدنيا، فكيف بالجنة نفسها؟.
ابتسم عند مرور طيفها أمامه فتنهد بولهٍ وقال:
_آه منها “قـمـر”…. وهي قـمـر.
وصله طرقات على باب غرفته تلاه دخول شقيقه “أيهم” للغرفة ومعه “آيات” بوجهٍ مبتسمٍ، فابتسم هو بسخريةٍ وسألهما عن عدم تواجد الأخر:
_طب بما أني هيتفتح معايا تحقيق، فين كونان بتاع العيلة؟
هتفت “آيات” بلهفةٍ وهي تجلس بجواره:
_سربته، خليته يروح عند بابا.
رفع حاجبيه مستنكرًا فجلس “أيهم” مقابلًا لهما يسأله باهتمامٍ جليٍ بعد علمه بما حدث من “بيشوي”:
_إيه اللي حصل النهاردة ؟؟ وازاي “يوسف” سكت و مطلبش يشوف أمه ؟؟ أنا قولت هيهد الدنيا علينا.
زفر “أيوب” بيأسٍ لكنه قرر التحدث معهما لعله يزيح الهموم المثقلة فوق صدره:
_”يوسف” خايف منهم، خايف يكونوا نسيوه وعاشوا من غيره، وهو أضعف من أنه يستحمل حاجة زي دي، و عزة نفسه منعته يقول حاجة زي دي، فهمتها من عينيه كل مرة يسأل عنهم، قريتها كل يوم في نظراته عاوز يسأل هما عايشين ازاي، فاكرينه، مفتقدينه، كان لازم اتأكد بنفسي علشان أخليه يشوف بنفسه.
هتف “أيهم” مُستفسرًا بنبرةٍ مُقررة أكثر من كونها متسائلة:
_علشان كدا قررت تقابل “قـمر” ؟؟ كنت بتتأكد إنها عارفة أخوها مش نسياه صح؟؟ يعني مش استغلال منك للموقف.
هتف “أيوب” بلهفةٍ يزيل التهمة الموجهة إليه:
_أقسم بالله ما حصل، أنا مستحيل استغل مشاعر زي دي علشان أخد حاجة أنا عاوزها حتى لو روحي فيها، أنا بس كنت بتأكد إنها فعلًا محتاجاه، اللي جاي بعد كدا نصيب ومكتوب، أنا دوري إن أخلي الغايب يرجع، وبكدا أبقى أديت هدفي وبقيت زي الغوث لغريق مش لاقي عون، بس ربنا كبير، “يوسف” و “قمر” لازم يكونوا سوا علشان ضميري يرتاح.
لمعت العبرات في عيني شقيقته وسألته بنبرةٍ مختنقة:
_طب وفرحتنا بيك ؟؟ أنا بعد لليوم دا من زمان، يعني كدا ممكن برجوع أخوها ليها اللي بينكم ميكملش ؟؟.
حرك كتفيه بحيرةٍ وأطلق زفيرًا قويًا عقبه بقوله مشوشًا:
_مش عارف…والله العظيم مش عارف.
لاحظ “أيهم” حيرته وضعف حيلته، لذا اقترب منه وكأنه أبٌ يشجع صغيره على المضي قدمًا بقوله:
_ولحد ما تعرف مفيش حاجة في إيدك غير إنك تخليهم سوا وبعدها بقى تخلع نفسك لحد ما ياخد عليهم بعدها تتقدم زي أي عريس، أظن واحد غيرك كان ضمنها لنفسه بعدها فكر في حوار عيلتها دا، بس أنتَ مش كدا، وبعدين يا أخويا شاور بس على أي واحدة وهتلاقيها عندك.
قال آخر حديثه بمزاحٍ وهو يلكزه في كتفه ليضحك “أيوب” رغمًا عنه ثم قال بقلة حيلة وقد لمعت عيناه بإصرارٍ:
_حتى لو شاورت على مليون واحدة، بس القلب شاور عليها هي.
ابتسم “أيهم” بحماسٍ وهتف بذهولٍ مرح:
_اللهم صل على النبي !! إيه اللي وداني بتسمعه دا ؟؟ أخويا الزاهد العابد المتنسك، قلبه بيشاور؟؟ يسطا أنا كنت فاكر قلبك صوابعه مقطوعة.
ضحكت “أيات” بصوتٍ عالٍ على مرح شقيقها، لتجد “أيوب” يرد بتهكمٍ عليه:
_ليه إن شاء الله ؟؟ معدوم الإحساس ؟؟ مش إنسان عندي مشاعر وبحس ؟؟ مش راجل وأكيد عاوز واحدة تكمل معايا حياتي ؟؟ هعيش كدا هباءً.
رد عليه “أيهم” بسخريةٍ:
_اقسملك بالله العشرة مع “أماني” كرهتني في الصنف كله، واضح كدا إن الصنف دا مفيهوش حد عدل غير “رِقـة” الله يرحمها، الباقي كله دهب عيرة.
هتفت “آيات” بلهفةٍ تدافع عن نفسها من فكر أخيها:
_أنا أهو طيبة والله، وهكون زوجة صالحة إن شاء الله.
لوى “أيهم” فمه بتهكمٍ وردد خلفها بسخريةٍ:
_ياختي بس خليكِ زوجة الأول ونشوف فاسدة وصالحة دا بعدين، اتنيلي على عينك.
لكزته في مرفقه ليقوم هو بامساك كفها يلويه ثم شرع في مشاكستها لينتهي بها الأمر بين ذراعيه وهو يربت على ذراعها بمنابت شعرها و “أيوب” يراقبهما مبتسمًا فيبدو أنهما غارقان في عالمهما المرح وهو هنا وحده يُجاهد لكي يبدو ثابتًا.
__________________________________
<“لا مَـفر من المواجهة، فالغد قادم”>
فكر “يوسف” بالعبارة السابقة بقلقٍ، حيث هناك خوف دخيل انتشر في أوردته مثل السُم يحاول التوغل له بأنهم تناسوه تمامًا، كيف يقبل بهذه الحقيقة؟ كلما اقتربت المواجهة زاد الخوف، يخشى الكلام ويخشى البوح لكن عيناه نطقت بكل شيءٍ حتى استطاع “أيوب” أن يقرأ ما بهما بوضوحٍ.
أطلق زفيرًا قويًا عند استماعه لطرقات عمته فوق باب غرفته فقام بجسدٍ مُنهك يفتح الباب ليجدها أمامه تقول بنبرةٍ خافتة:
_مش يلا علشان تاكل ؟؟ أنا مستنياك تيجي من بدري.
تنهد مُطولًا بثقلٍ وهتف بإيجازٍ يرفض عرضها:
_مش جعان.
رفعت حاجبيها من بذهولٍ من الجمود الذي عاد له يُخيم على علاقتها به، وتهدل كتفاها بخيبة أملٍ لاحظها هو فزفر من جديد؛ حيث أن أخر ما قد تتحمله طاقته هي الجدال معها أو مراضتها، لذا هتف بثباتٍ:
_أنتِ جعانة؟؟
رفعت عينيها نحوه تحرك رأسها موافقةً ليتنهد هو مُرغمًا على هذا وقال مُستسلمًا لها:
_طب حضري الأكل علشان هاكل وورايا مشوار مهم.
انفرجت اساريرها على الفور وتحركت بلهفةٍ من أمامه تقوم بتجهيز الغداء، بينما هو تذكر مقابلته مع المدعو “أيوب”، لاح بذهنه ذِكر “فضل” فاقترب من المطبخ بلهفةٍ يضرب الأرض بقدمه حتى وقف على أعتاب المطبخ وضبط وتيرة أنفاسه وهتف بنبرةٍ خرجت جامدة وقاسية:
_هو خالي “فضل” فين ؟؟ معني الكلام اللي أمك قالته ليا إن خالي عايش ومتخلاش عني زي ما فهمتوني، صح ؟؟
تجمدت يداها وهي ترفع الغطاء عن الوعاء وسرعان ما ظهرت الدموع في مقلتيها فهاهو يُنبش في الماضي من جديد، بينما هو لاحظ ارتجاف جسدها وحركة كتفيها بعصبيةٍ بعدما تشنجت عضلاتهما، فقرر الرأفة بها لذا اقترب منها يقوم بتحريك جسدها حتى قابلته لينطق هو بنبرةٍ هادئة على عكس عادته البربرية:
_أنا مش بلومك ومش بتهمك بحاجة، بس عرفيني، خالي متخلاش عني صح؟؟ يعني مش زي ما “عاصم” قال إنه مش هيقدر عليا وأنه سابني، معنى كل اللي فات إن خالي فضل مع أمي ومسبهاش، وممكن يكون دور عليا صح؟؟
نزلت دموعها وهي تحرك رأسها موافقةً وهتفت بلهفةٍ باكية تحاول استرضاءه بقولها باكيةً هي الأخرى:
_صدقني والله العظيم لما جيت أقولك هددوني أنهم هيرموك في ملجأ وتتربى بعيد عني، وفعلًا جابوا ناس البيت علشان يتبنوك، وكان على عيني دا يحصل، فضلت معاك وأنتَ قصاد عيني، أهون عليا من خروجك برة حضني، حاولت بكل طاقتي علشانك وكل مرة اتضرب واتهان بس كل مرة بسكت علشانك أنتَ، خالك مسابكش ومسابش أمك، محدش كان وحش غيرنا إحنا.
هتفتها باكيةً وهي تخفض رأسها للأسفل فتنهد بعمقٍ وهتف بجسدٍ يرتجف من فرط الوجع الذي أخذ يضرب بجسده، لذا أعلن عن ضعفه أمامها يقول بنبرةٍ مُحشرجة:
_ياريتك كنتي سبتيني اتربى في ملجأ أو حتى أخرج بعيد عنك، يمكن كنت عرفت أحافظ على أي حاجة من “يوسف”، “يوسف” اللي مات واتدفن وسطكم وفضل منه بواقي إنسان وبيفرفر بحلاوة روح.
لم تجد حديثًا يناسب حزنه فقط سوى عناقٍ خطفته به وجعلت رأسه تتوسد صدرها ليشعر بدقات قلبها تتفاقم وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_حقك على عيني يا نور عيني، والله العظيم ما كان عندي غيرك أنتَ أفكر فيه، أنا كنت ضايعة بينك وبين “نادر”، أنا بحبك أوي أوي فوق ما تتخيل.
تشبث بها وهي أمامه تُعد القناة الأخيرة للعبور إلى الضفة الأخرى لكي يستطع المجابهة هناك قبل أن يتفتت ما تبقى منه في مقابلةٍ تسحق الباقي من روحه، لكن هل يُعقل يا “يوسف” !! تترك والدتك وشقيقتك هربًا من الخوف ؟؟ تترك عالمك الخاص للغرباء وتظن أنك تحمي نفسك؟؟ علمت أن هناك دنيا أخرى لكَ وحقك وحدك وتريد تركها ؟؟ أي غباءٍ تتصف به أنتَ ؟؟ حتى وإن نسوك وعاشوا بدونك، عُد لهم…لطالما كُتِبَت عليكَ الغُربة ولطالما تم وصفك بالغريب، فلتعود لوطنك مرةً أخرىٰ وتحتمي به.
هكذا فكر وهو بين ذراعيها تضمه وتحميه كما تحمي الأم صغيرها، وهي تحبه بدون مقابل، يكفيه أنها تركت ابنها لأجله هو واختارته في الوقت الذي سئم هو من نفسه.
عاد من جديد لطبيعته بعدما خرج من قوقعة تفكيره قائلًا بنبرةٍ لا تعلم إن كانت مرحة أم أنه قصدها هكذا:
_طب إيه طيب ؟؟ الأحضان دي مبتأكلش عيش، هناكل ولا هنحلي بالبوس بعد كدا ؟؟
رفرفت بأهدابها بصدمةٍ من مدى وقاحته وسألته حينما حركت رأسها نحوه تسأله بذهولٍ:
_”يوسف” !! أنتَ قليل الأدب كدا لمين ؟؟
ابتسم ساخرًا وحرك رأسه تستقر على كتفها وهتف بمشاكسىة طفلٍ صغير يمازح والدته:
_ابــقــي اســـألي أمــــك.
ضحكت هي رغمًا عنها وضحك هو الأخر بقلة حيلة حينما استطاعت بقوة حنانها وعطفها عليه أن تخمد نيران ثورته الهائجة في صدره وقلبه، بينما هو فقرر مواجهة “أيوب” وفهم طبيعة الأمور منه قبل الالتقاء غدًا.
__________________________________
<” هم من تركوني….وأنا هنا الثائر”>
جلست “شاهي” بجوار حقيبة ملابسها بعدما قامت بتجهيز كافة الاشياء لتعود إلى شقتها من جديد برفقة زوجها، صدح صوت هاتفها برقم والدها فسحبته تجاوب على الهاتف بمللٍ وهي تنطق:
_نعم يا بابا، خير ؟؟
رد عليها بجمودٍ يحاول التحدث معها في أمورها:
_ياريت يا “شاهي” تركزي في حياتك شوية مع جوزك، “نادر” يستحق إنك تكوني معاه وإنك تأزريه، والدته مش موجودة و والده هو كمان مش مركز معاه، ملوش غيرك.
تنهدت بعمقٍ وهتفت بنبرةٍ محتدة:
_بابا !! من فضلك أنا بسمع كلامك في كل حاجة، بس أنا تعبت خلاص، مش دا “يوسف” اللي مكانش معاه حاجة؟؟ مش دا “يوسف” اللي كان مش عارف حتى يناسب مستوانا؟؟ نسيت ساعتها إن شغله حلو وإنه عنده اللي يقدر يخليني مبسوطة؟؟ دلوقتي بقى عاوزني أركز مع “نادر” ؟؟ طب أحب أقولك بقى إن “يوسف” بقى ليه هنا زي “نادر” وأكتر كمان، عاوز حاجة تانية؟؟.
تنهد “زاهي” بضجرٍ وهتف بنبرةٍ هادئة:
_”شاهي” !! جوازك من “يوسف” كان مستحيل، حياته مفيهاش استقرار وصعب أوي أنه يفتح بيت ويشيل مسئولية، إنما “نادر” حالة تانية، وعلى ما أظن اللي كان عندك لـ “يوسف” دا مجرد افتنان بشاب كل البنات عينها عليه، كان حاجة جديدة تخليكي تنبهري بيه وبأسلوبه وحياته ومغامراته، إنما تعيشي معاه في بيت كان صعب، يمكن غلطي أني سيبتك في علاقتك معاه، بس أنا صلحت الغلط دا بجوازك من “نادر”.
تنهدت هي مُطولًا وزفرت بيأسٍ عقبته بقولها وكأنها ترد على حديث نفسها:
_”يوسف” كان اختيار القلب، و “نادر” اختيار العقل، وأنا عقلي كسب على قلبي، بس لازم أركز مع “نادر”، عن إذنك يا بابا، سلملي على ماما.
أغلقت الهاتف معه ثم خرجت من الغرفة تبحث عن زوجها بعينيها حتى وجدته يقف في الرواق فاقتربت منه تضع كفها على كتفه قائلة بنبرةٍ هادئة:
_واقف كدا ليه؟؟.
انتبه لها بملامح وجه مشدودة ارتخت فور وقوع بصره عليها ليتنهد بعمقٍ وهتف بنبرةٍ مختنقة:
_ماما وحشتني أوي يا “شهد”.
ارتفع حاجباها بذهولٍ واقتربت منه تطوق عنقه بيدها وهي تقول بتأثرٍ:
_هي أكيد كويسة، بس الفترة اللي فاتت كانت صعبة أوي عليها، وعلى كل البيت، صدقني هي محتاجة بس أنها تريح أعصابها شوية.
تشبث بها وسألها بضياعٍ:
_هي ليه كل مرة تختاره هو؟؟ أنا اللي ابنها، مش هو.
فهمت هي أنه يتحدث عن “يوسف” لذا ربتت على ظهره بكفيها معًا وكأنه طفلٌ صغير يتوجب عليها مراعاته، لا تدري لماذا لكن مشاعرها تجاهه حقيقية، خضع القلب لهذا ونسى ذاك !! أم أنها تتناسى لكي تمضي قدمًا في حياتها؟ لحين تجد الجواب، يكفيها التواجد بقربه وهو بين ذراعيها هكذا.
__________________________________
<“المـوعـد هُـنا والحِـسـاب غـدًا”>
وصلت هذه العبارة لـ “يوسف” عبر هاتفه وهو يتناول طعامه مع عمته صاحبة الوجه المبتسم ببشاشةٍ، وقد رافق هذه الجملة خريطة سير إلكترونية عبر موقع “GPS” من رقم “أيوب”، فتناول طعامه سريعًا وأخبر عمته بخروجه ونزوله من البيت، ثم فتح الموقع يتتبع السير حيث الإشارة وقد وصل إلى المكان الذي أشبه بنادي رياضي وجهته باللون الأسود القاتم ويصاحبه إضاءة خافتة، دلف ببسالةٍ فوجد “أيوب” ينتظره بالداخل في صالة الاستقبال يجلس بملابس رياضية حيث طقم باللون الأسود عبارة عن سترة سوداء رياضية وكذلك البنطال القطني بنفس اللون.
ابتسم له وقال بسخريةٍ:
_أنتَ متأكد إنك إمام مسجد ؟؟ شاكك فيك بصراحة.
رفع كفيه مُستسلمًا وهو يقول بمزاحٍ:
_متعتمدش على شكلي علشان أنا كتير أوي في بعض.
حرك “يوسف” رأسه موافقًا فاقترب منه “أيوب” يشير له نحو الداخل بدون كلمةٍ واحدة فسار معه “يوسف” للداخل برأسٍ مرفوع وكأنه يقبل كل عروضه عليه حتى وجد نفسه في مكانٍ غريبٍ عليه يشبه حلبة الملاكمة؟؟ نعم هو هكذا.
غرفة سوداء بإضاءة عالية بالرغم من قوة الضوء إلا أن سلطة اللون الأسود طغت على المكان ومازادته إلا هيبة وفخامة، جلس “أيوب” على المقعد الجلدي الموضوع وأشار لـ “يوسف” الذي وقف مُدهوشًا بما يراه نصب عينيه، ليتحدث “أيوب” بنبرةٍ هادئة:
_تعالى بس أقعد معايا، نتكلم ونقوم ناخد جولة هنا.
سأله “يوسف” باهتمامٍ جليٍ:
_ليك فيها ؟؟.
ابتسم الأخر وجاوبه بشموخٍ:
_أساسها…أنا اللي بدرب هنا.
جاوره “يوسف” في الجلوس وسأله بُغتتةً:
_أمي وأختي فين ؟؟ وإيه حكاية الجدع اللي كان هنا ولو سمحت راعي مشاعري وإني مضغوط.
تنهد “أيوب” مُطولًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
_أمك وأختك في حارة جنبنا اسمها حارة “الطيب” الحارة دي تبعنا برضه بس كبيرها صاحب أبويا، قاعدين في بيتنا هناك بس خالك نفسه عزيزة رفض كل دا، وبقى بيدفع قسط البيت و والورشة، الجدع اللي كان هنا، قليل الأصل بتاع بنات وربنا يسهله مش هجيب سيرته، بس حاول يرسم على أختك وهي رفضت وخافت على أختها، المهم إن الموضوع كبر وبقى بيحاول يضايقها ويتعرض ليها، شوفته مرة وضربته وهي بعدها طلبت أني أوقفه عند حده علشان خايفة على خالها وابنه، بس هما في أمان.
سأله “يوسف” بنبرةٍ منكسرة يعبر بها عن خوفه من أفكاره الغريبة تجاه مشاعرهم نحوه:
_لسه فاكرني ؟؟.
هتف “أيوب” بلهفةٍ يُطمئنه:
_محدش فيهم عرف ينساك أصلًا، الأمل اللي هما عايشين عليه رجوعك ليهم يا “يوسف”.
انتبه له “يوسف” وضربات قلبه تتعالى في سرعتها لا يصدق ولن يصدق، لذا حرك رأسه يهرب من نظرات “أيوب” المتفرسة له، ثم عاد لجموده مُتغاضيًا عن والدته وشقيقته:
_إيه حكايتك مع أختي ؟؟ عاوز منها إيه؟؟
تنهد “أيوب” مطولًا وهتف بصراحةٍ:
_عاوزها.
رفع “يوسف” حاجبيه مستنكرًا بسخريةٍ جعلت “أيوب” يتحرك من موضعه وارتدى قفازات يده هاتفًا بنبرةٍ هادئة:
_يلا يا “يوسف”.
وقف أمامه “يوسف” بعدما تحرك له داخل الحلبة بنظرات تعبر عن التحدي بينهما فيبدو أن “يوسف” رفض الموضوع قبل بدايته و “أيوب” يُصر عليها فلمن الفوز، فكلاهما كُتب عليه المعاناة بطريقةٍ تختلف عن الأخرى، المعاناة التي ذاقها كلٌ منهما قتلت فيهما شيئًا يصعب احيائه من جديد، ثمة بعض المحطات لكي تتخطاها يفرض عليك قتل شيئٍ بداخلك لتموت معه كل الأشياء الأخرى وإن وددت التمسك بروحها حيَّة، وقف أمامه بثقةٍ كعادته لا متناهية تناسب مع ابن “الراوي” فيما ضيق الأخر جفنيه ينتظر منه البداية مكورًا قبضة يده اليسرى وابتسم بزاوية فمه ينطق باستخافٍ:
_يلا….مش أنتَ ابن الراوي ؟؟ وريني.
المكان المظلم حولهما، حلبة المصارعة التي يقفان بها، الإضاءة الخافتة الموجهة عليهما جعلته يزداد شموخًا وهو يقول بنفس الاستخفاف:
_أنتَ قولتها بنفسك، أنا ابن الراوي، يعني أخرتك معروفة يا “أيوب” أنتَ راجل بتاع ربنا بلاش السكة دي.
زادت ثقة “أيوب” حينما لاحظ استخفاف الأخر به لذا هتف بثقةٍ لم يتوقعها الأخر:
_و الغباء بذاته إنك تستخف من واحد أنتَ متعرفش عنه حاجة، بس هعتبرك تايه في العنوان.
خلع “يوسف” سترته القطنية السوداء ليبقى عاري الجذع ثم اتخذ وضع الملاكمة على أهبة الاستعداد لمواجهة “أيوب” بنظراتٍ مُتفرسة ليبتسم “أيوب” ثم خلع سترته هو الأخر ليتضح التقارب الجسدي بينهما من حيث القوة، ثم حرك رأسه يمنةً ويسرى ونطق بنبرةٍ تهكمية:
_اللي ليك عندي لو خرجت من هنا سليم؛ هتاخده.
زادت ثقة “يوسف” وهو يقول بشموخٍ:
_اطلع من هنا حي على رجلك وابقى شوف اللي ليا واللي ليك يا شيخنا.
النظرات المشابهة للسهام المنبعثة بينهما، التحدي السافر الذي يسكن روحهما وكأنهما يودان الفتك ببعضهما، نظراتٌ مُغلفة بعدة أشياءٍ يصعب فهمها، الأمر يشبه الثلج والنيران بجوار بعضهما وأنتَ تقف في انتظار النصر سيحالف أيٍ منهما، فهل ستستطيع النيران التغلب على الثلج وبرودته، أم أن برودة الثلج ستطفيء تلك النيران وتخمدها ؟؟
بدأ “يوسف” الاقتراب من “أيوب” يحاول لكمه في وجهه لكن “أيوب” بمهارته تفاداها وأخفض نفسه للأسفل يخلع قفازاته وهتف ساخرًا:
_شكلك واخدها غشامة يا ابن “الراوي”.
لهث “يوسف” واقترب منه يباغته بلكمةٍ على وجهه ردها له “أيوب” في معدته حتى تأوه بنبرةٍ مكتومة ليقوم “أيوب” بإمساك ذراعه وقبل أن يلويه للخلف كان فلت “يوسف” بجسده منه وشتت حركته ليسقط كلاهما مع الأخر.
اعتدل “أيوب” أولًا ورفع قبضته يضرب “يوسف” في وجهه والآخر ينتظره بهدوءٍ دون أن يبدي أي ردٍ لفعله حتى تفاجأ بـ “أيوب” يبسط كفه له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_قوم علشان تريح لسه وراك بكرة يوم صعب.
تنهد “يوسف” فهو لم يكن بحالٍ يسمح لأي مجهودٍ فقط اعتدل وسأله من جديد بنبرةٍ قوية:
_بكرة !! أكيد هشوفهم صح ؟؟
حرك رأسه موافقًا وهتف بصدقٍ:
_أقسملك بالله بكرة هتكون في حضن أمك.
حرك رأسه موافقًا وهو يتابع الألم المرسوم على ملامح “أيوب” ولايدري لماذا اعتراه الفضول تجاه نظرته هذه ليخرجه من حالته هذه صوت هاتفه الذي علا بالمكان برقم “مادلين” فرد عليها بنبرةٍ هادئة:
_إيه يا “مادلين” ؟؟ فيه حاجة ؟؟
ردت عليه بنبرةٍ خافتة:
_آه، عرفت إن “سامي” عاوز بكرة “نادر” ينزل الشركة وياخد مكتبه الكبير، قولت أعرفك بس علشان أكيد بقى يهمك اللي بيحصل، مش دا حقك؟؟
ابتسم ساخرًا وسألها بتعجبٍ:
_مش غريب يعني كلامك دا؟؟ مش المفروض إن دا جوزك ودي فلوسه ؟؟ فين جو مرات العم الحرباية بقى؟؟
ضحكت رغمًا عنها من سخرية حديثه وقالت بنبرةٍ ضاحكة:
_يا سيدي اعتبرني بعمل كدا علشان تاخد أنتَ كل حاجة وبعدها أخلص عليك وأهرب بعدها، ها رضيت كدا ؟؟
أبتسم هو الأخر وهتف مُستخفًا بها:
_هتحتاجي أكتر من عمرك بكتير علشان تخلصي عليا، يلا سلام وألف شكر يا ستي، ليكي عندي عزومة حلوة.
أغلق معها الهاتف فوجد “أيوب” يرتدي سترته بعدما جفف جسده بالمنشفة الموضوعة ليرتدي “يوسف” ملابسه هو الأخر بعدما التقط سترته، ونطق بنبرةٍ هادئة:
_ورايا مشوار بكرة مهم، هروحه بعدها نروح مشوارنا، بس لو فكرت تلعب بديلك أنا هزعلك يا غالي.
تحرك بعد إلقاء حديثه دفعةً واحدة ليحرك “أيوب” رأسه موافقًا ونطق من خلفه بسخريةٍ:
_لأ وعلى إيه، خليني ضامن رضاك.
__________________________________
<“أحببنا من أحب غيرنا، وغيرنا أحب حبه لنا”>
جلست “مهرائيل” تتابع صحفاتها الإلكترونية تتنقل بين كل تطبيقٍ والأخر وتجول في هذا وتخرج من ذاك وتعود لذلك، مللٌ…. أصابها مللٌ، تخطت الكثير من أعوام عمرها بدون أي إنجازٍ يذكر، لما هي دومًا هكذا ؟؟ تنهد بضجرٍ وألقت هاتفها على الفراش ليصلها صوت شقيقتها تقول في الهاتف بنبرةٍ عالية:
_هو إيه اللي مفيش نزول دا ؟؟ هنزل مع صحابي الكنيسة شوية ونرجع تاني، مالك يا “روماني” ؟؟ إيه التحكمات دي؟
زفرت “مهرائيل” من جديد بضجرٍ واقتربت منها تقف أمامها تضم ذراعيها أمام قفصها الصدري ورفعت حاجبها تعلن عن تأهبها للقادم، حتى تحدثت “مارينا” بتوترٍ تغلق المكالمة ووضعت الهاتف بجوارها ليصلها حديث شقيقتها بقولها:
_أنا خلاص فاض بيا، الواد دا مستفز لأبعد الحدود، مال أهله بيكي وبنزولك ؟؟ هو شايفنا إيه بالظبط؟؟ مش ماليين عينه؟؟.
هتفت “مارينا” بتلجلجٍ تحاول الدفاع عنه:
_يا “مهرائيل” هو أكيد غيران عليا، علشان هو مش هيعرف ينزل النهاردة وعنده مشوار شغل، مش قلة ثقة فيا أنا، صدقيني أنتِ بتظلميه كدا.
هتفت “مهرائيل” بنفاذ صبرٍ:
_يا أمي وهو ماله؟؟ بصفته إيه يتحكم أصلًا، حتة عيل زي دا عامل نفسه راجل عليكي؟؟ المفروض تكوني قوية إلإرادة عن كدا معاه، يغور في ستين داهية بس ميخلكيش تضيعي نفسك في البيت علشان هو عاوز يعيش دور أكبر منه.
نظرت لها شقيقتها بضياعٍ فهتفت الأخرى بنفس الأسلوب القاسي:
_متبصليش كدا، هو عيل، فين حياته وفين شغله وفين مستقبله دا أصلًا؟؟ حب الجامعة دا مراهقة بس أكبر شوية، عيل فرحان بنفسه وبفلوس بيضيعها في الخروجات ورابط بنت الناس معاه، لا هو بيتعلم علشان يستاهلها ولا هو بيشتغل علشان تكون ليه، مفيش راجل بيدرس ينفع يخطب من غير ما يكون عنده أساسيات تفتح بيت، ودا لو فتح علبة تونة لوحده صدقيني هزغرطله، عندك أهو أقرب مثال “بيشوي” معاه فلوس وكتير وعنده شقة واتنين ومحل وشريك في واحد، بس لسه بيحاول علشاني وعلشان يقدر يطلبني، كل دا مش فارق معايا، بس اللي فارق معايا أنه عمره ماحاول يهيني أو يتحكم فيا، رغم إن الكل عارف بموضوعنا، بس هو راجل بجد، إنما سي زفت دا بقى ؟؟ عيل صغير فرحان بالموبايل و بعربية باباه و بلبسه اللي شوية بنات حسسوه بأهميته، أنتِ تستحقي حد أفضل.
تركتها بعد حديثها لحيرتها وتخبطها الواضح، “مارينا” صاحبة الواحد وعشرون عامًا، تلك المتهورة الصغيرة التي تخالف صفات شقيقتها، فتاة جميلة بملامح رقيقة وعينين باللون العسلي جسدها صغير تمتاز بقدرٍ هائل من الرشاقة وخفة الظل، مرحة بطبعها ودودة، لكنها متهورة.
فكيف تخبر شقيقتها أنها فقط تحاول الاندماج مع “روماني” لتتناسى شخصًا غيره؟؟ كيف تخبرها أن هناك يشغل قلبها لكنه لا يبالي بها، أو بالأحرىٰ يبالي بزميلته المُعيدة الشقراء صاحبة الأعين الفيروزية التي تلازمه دومًا بل لمحت عن أمر اقترانهما ببعضهما عن قريب، لذا عاقبت القلب بغيره حتى لا يستطع النظر لمن لا ينظرون له في يومٍ.
ألقت جسدها على الفراش تتنهد عدة مراتٍ قبل أن تنفجر باكيةً تُرثي حالها وحال قلبها، وقد أخذت قرارها أن يتوب القلب عن ذنب الحب، فيكفيها ما شاهدته من كليهما.
__________________________________
<“الماضي يعود..والحاضر يتهدد..والمستقبل ؟؟”>
جلس “إيهاب” يستند بظهره على ظهر الفراش الخشبي و”سمارة” تتوسد صدره برأسها تنام بهدوءٍ بينما هو احتواها بذراعيه ورفع أحد كفيه يحركه في منابت رأسها والكف الأخر يربت على ذراعها المكشوف، تنهد بعمقٍ وهو يتذكر النيران التي نُشبت بداخله عندما تقابل مع “فتحي” بعد الجلسة، فعاد من جديد لجموده وهو يتذكر حديثه.
[في الصباح بعدما رُفعت الجلسة]
انسحب “إيهاب” من أمام الجميع يدخل الغرفة المُلقى بها “فتحي” قبل أن يغادر مع كبار منطقته بأمرٍ من “نَـعيم”، لاحظه “فتحي” فعاد تلقائيًا للوراء بخوفٍ منه ليقترب منه يقبض على سترته ثم مد كفه في جيب بنطاله يخرج منه مدية “فتحي” وابتسم ساخرًا وهو يفتحها قائلًا بنزقٍ يقلل منه:
_سوستة ؟؟ أهيه السوستة دي من يوم طلعت وخلت عيال هلاهيل زيك ليهم لازمة، كلوا حسب نفسه معلم علشان مسك مطوة بزرار خايب، لكن….
أوقف حديثه يرميها من كفه بخفةٍ ثم أخرج مديته يفتحها بحرافيةٍ شديدة وهو يقول بنبرةٍ هادرة وقد لمعت عيناه بشرٍ:
_لكن بقى القرن !! دي أصول المعلمة بحق، صوتها لوحده طرب، يوم ما تفتحها كدا وتكتها تعزف موال في ودنك، ولا لما تقف في صفك وتعلم على اللي مزعلك وترجع تاخدها في حضنك تاني، أصيلة زي المُهرة العربية.
لاحظ “فتحي” الشر المُرسل من سهام عينيه فحاول ازدراد لُعابه الذي جف حلقه تمامًا فزاد الأخر من قوة قبضته يهتف من بين أسنانه وقد وضع المدية على عنقه:
_مين يالا اللي بيساعدك؟؟ الغباء اللي قدامي دا كله ميتصرفش كدا من دماغه، وربنا المعبود لو فكرت تكدب عليا لأكون جايب كرشك في أيدي وأبقى المرة دي استاهل الحبسة بقى.
اختنق “فتحي” وهتف بنبرةٍ تكاد تخرج من حلقه لتصل للأخر:
_البت “تهاني” هي اللي مسلطاني.
اتسعت عيناه وتجمدت أطرافه وردد بدهشةٍ:
_”تهاني” !!
حرك رأسه موافقًا وأضاف بوهنٍ وقد بدا ألم كتفه يعزف على أوتار الوجع من جديد:
_آه…هي اللي قالتلي إن “سمارة” هنا خدت مكانها وأنها لو زحتها من جنبك هتكون ليا وترجع هي تاني لحقها.
أظلمت عيناه بشرٍ وسأله بتقريرٍ:
_وهي اللي خليتك تبعتها الشقة إياها لما كنت هموتها في أيدي قبل كدا صح ؟؟.
حرك رأسه موافقًا فلم يتمالك “إيهاب” نفسه من الغضب وهتف يسبهم بكلامٍ بذيء وألفاظٍ خارجة ومن بعدها هتف بغضبٍ:
_يا ولاد ******، دا أنا هساوي وش اللي جابوكم بالأرض، قابل مني اللي جاي وخليك فاكر إننا على ميعادنا بس أفوق الأول من تعب مراتي، واخد بالك مراتي وأم عيالي إن شاء الله قريب.
دفعه من يده بعدما ترك له أثرًا فوق عنقه يطابق ذاك المتوسط لعنق زوجته لكن هذا أصعب، ها هو يخرج الأسد من قفصه بعدما قرر الإلتزام بالهدوء لكنه كما سبق وقال أنها دنيا، كلما رأته يتكأ فوق فراش الربيع حملته لتلقيه في أرض الخراب.
خرج من شروده عليها يرتجف جسدها وكأنها ترى كابوسًا فالتفت لها يربت على وجنتها وأطلق زفيرًا قويًا وقال بقلة حيلة:
_طب غُلب الدنيا ومقدور عليه، غُلبك أنتِ ليا أعمل فيه إيه؟
ضمها إليه من جديد بعدما فكر في كيفية الأخذ بالثأر لنفسه وقبلها هي منهم جميعًا، لقد أصبحت زوجته أخيرًا بعد معاناةٍ فهل سيقبل للدنيا أن تفرقهم من جديد أم أنه سيقف بالمرصاد لكل من يحاول النظر لها بجواره.
__________________________________
<“الهروب وسيلة نجاة أم سبيلٌ أخر للمعاناة؟”>
جلس على المكتب هنا باسترخاءٍ بعد ليلةٍ خاصمه بها النوم يفكر في صباحٍ ربما يعيد بنايته من جديد أو يهدمه كُليًا ويصبح فُتاتًا، كان يرتدي حِلة سوداء اللون واسفلها القميص أيضًا باللون الأسود، كعادته يحب نفسه ووسامته وغروره، كل ما يخصه وكل ما يملكه هو، يقع تحت سلطة قلبه.
وصله صوت طرقاتٌ فوق باب مكتبه فأذن “يوسف” بالدخول حتى دلفت “رهف” ترتدي حلة نسائية عملية باللون الزيتوني وفوقها الحجاب باللون البيج، والحذاء ذو الكعب العالي بلون الحجاب نفسه، وارتدي نظارة طبية كبيرة الحجم مستديرة الشكل باللون الأسود وقالت برسميةٍ غير معهودة منها معه:
_صباح الخير يا فندم !! حضرتك جاهز؟؟
رفع حاجبيه مستنكرًا وهتف مُستخفًا بهيئتها:
_إيه الجو دا ؟؟ مالك واخدة الموضوع جد كدا ليه ؟؟
زفرت بقوةٍ ثم جلست على المقعد تقول بيأسٍ منه:
_أنتَ مستفز لأبعد درجة ممكنة، حرام عليك فضلت طول الليل أحاول أرتب نفسي وشكلي وكلامي، بكرهك يا “يوسف”.
حرك رأسه موافقًا بلامبالاةٍ ثم فتح هاتفه يطالع القمر الموضوع في خلفية شاشته وهو يفكر هل أصبحت مثل القمر أم أنها هي بذاتها “قمر” ؟؟ يا الله لما لا يمر الوقت ؟؟ الأمر يتطلب عدة ساعات ويرى قمره وعمره وغاليته،آهٍ منها هي الأخرى هل أصبحت سمينة أم حافظت على رشاقتها ؟؟ هل ظهر تقدم العمر عليها أم أنها احتفظت بملامحها لحين يعود ويراها هو؟؟.
راقبت “رهف” تعابيره المختلفة وقبل أن تهم بالتحدث وصلهما صوتٌ ربما يكون صوت تسونامي الجديد ولكن هل إعصار تسونامي ترك العالم بأجمعه وأتى لباب مكتبه أم أن “سامي” البربري تعلم فنون الأعاصيف كما تعلم فنون اللعب اسفل الطاولة؟؟
خرج من تفكيره على صوت “سامي” يهتف بنبرةٍ جامدة تعبر عن غلظته بعدما دلف الشركة وعلم بأمر استيلاءه على مكتبه:
_قوم يالا فِـز برة بدل ما أرميك برة زي الحرامية، داخل مكتبي وبتغير فيه كمان، يا بجاحتك يا شيخ.
ابتسم “يوسف” ببرودٍ وأرجع جسده للخلف يقول بلامبالاةٍ يُعلق على دخوله بهذه الطريقة الهوجاء:
_عيب يا أنكل تدخل مكاتب الناس المحترمة بالطريقة الغير لائقة بالبشر دي، دي طريقة حاجة تانية مش عينفع أقولها.
اقترب “سامي” يقف مقابلًا له وهو يضرب على سطح المكتب بيده قائلًا بانفعالٍ واضح:
_أنتَ هتستهبل !! طريقة إيه يا حيوان يا ابن **** أنتَ.
لقد استدعى الوحش الكامن بداخله وقد بدا هذا واضحًا من خلال العرق النافر الذي أخذ يضرب بجانب صدغه فانتفض واقفًا يقول بخبثٍ يحاول به الثأر لنفسه:
_طريقة أمك يا ابن الرقاصة، تحب أقول كمان ولا نسكت ونلم غسيلنا الوسخ أحسن؟؟
دلف “عاصم” لهما وهتف بنبرةٍ جامدة:
_لو ليك حق يبقى بالأدب، لكن تيجي تأمر وتتحكم وتاخد مكتب جوز عمتك ؟؟ ليه إن شاء الله ؟؟
هتف “يوسف” ببرودٍ آثار حفيظتهما:
_أهـــو كـيـفـي كــدا.
اندفع “سامي” يهتف بصراخٍ:
_كيفك يا صايع يا بتاع الغُرز ؟؟
ابتسم “يوسف” باتساعٍ وهتف بنفس البرود:
_بلاش تجيب سيرة الغُرز علشان مقولكش بروح أعمل فيها إيه وترجع تزعل، اسكت يا لساني أحسن.
أشار بحديثه إلى ماضي “سامي” وحياته القديمة فتقدم “عاصم” هو الأخر يقول بنبرةٍ غلظة:
_اديني مبرر واحد يخليك تدخل الشركة في الوقت دا وتاخد مكتب جوز عمتك !!.
حرك عينيه نحو عمه وأجابه بوقاحةٍ يُجيد الاتصاف بها:
_أنا عندي مُبرر لكل أفعالي وتصرفاتي؛ بـس أنـا بـحـب كـلـمة أنـتَ مــال أمـك أكتر.
اتسعت عيناه بدهشةٍ وأمسك كتف “سامي” يقول بنبرةٍ جامدة ولازالت عيناه مُثبتةً فوق “يوسف” بسهامٍ ودها حقيقية لتقتله محله:
_يلا…يلا يا “سامي” كفاية فضايح الشركة كلها بتتفرج.
انتفخت أوداج “سامي” بغضبٍ تفاقم عن المعقول ودفع “عاصم” بعيدًا عنه وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_بس يا “عاصم” !! مش همشي قبل ما أعرف سبب وجوده هنا، بصفته إيه ياخد مكاني ؟؟
ضرب “يوسف” كفيه ببعضهما يتصنع الضيق ووجه حديثه لـ “رهف” اللي وقفت بذهولٍ ترى ما يحدث بينهم:
_أهو شوفتي ؟؟ يتدخلوا في اللي ملهمش فيه ولما اقولهم أنتوا مال أمكم يرجعوا يزعلوا مني.
كتمت “رهف” ضحكتها فتحرك “سامي” من المكان وهو يسبه بسبابٍ لاذعٍ تغاضى عنه “يوسف” وهو يشير لعمه برأسه للخارج بمعنى أن يخرج خلف الأخر ثم تبع حركته بقوله بنبرةٍ مستفزة:
_برة….يلا يا عمو وخُد الباب في إيدك.
تحرك “عاصم” بعدما رمقه بسخطٍ فيما تتبعت “رهف” اختفاء أثرهما وعادت تنظر له لتجد ملامحه مقتضبة فتنهدت بعمقٍ وسألته بنبرةٍ مختنقة:
_أنتَ كويس ؟؟ متزعلش نفسك.
حرك رأسه وأصدر صوتًا من حنجرته يدل على اللامبالاة وهتف لتغير هي حاله بقولها مندفعة وقد فهمت السبب في تغيير مزاجه المتعكر:
_بقولك إيه سيبك من كل دا، هتعرفني على “قمر” امتى ؟؟ مش معقول أكون صاحبة أخوها ومش صاحبتها هي.
ابتسم رغمًا عنه وهو يقول بغلبٍ أعرب عن يأسه:
_يا شيخة اتنيلي، مش لما أتعرف عليها أنا الأول؟؟.
ضحكت له فوجدته يتنهد بعمقٍ ثم قال بقلة حيلة:
_احنا مضطرين نستنى هنا للأسف علشان المحامي هييجي يعرفني الليلة دي أخرها إيه، لو عاوزة تمشي اتفضلي وكتر خيرك لحد كدا.
حركت رأسها نفيًا وهتفت تثير غيظه بقولها:
_بس ياض، عاوز تاكل حقي وتفلت من العزومة؟؟.
رد عليها بوجهٍ مبتسمٍ:
_مقدرش، نخلص بس بسرعة علشان فيه حياة تانية مستنياني، حياة “يوسف الراوي”.
__________________________________
<“ها قد غَرُبَت الشمس….وسطع ضوء القَـمر”>
لما تأخر الوقت اليوم هكذا !! لما تأخرت الشمس في غروبها ؟؟ ألم تتعب من إضاءة حياة الجميع ؟؟ اللعنة على عقارب تلك الساعة اللعينة أهذا اليوم هو المُفضل حتى تتسكع في حركتها ؟؟ اللعنة على ذاك المحامي الغبي اللذي أخذ يثرثر بكلماتٍ مُبهمة في خضم العمل وهو كل مايشغله اللقاء المنتظر…عودة الغائب…احتضان الوطن…الكثير والكثير لكن الشمس عاندت معه حتى غابت وأمر هو المحامي بإنهاء كل شيءٍ لحين إشعارٍ أخر، هيا يا “يوسف” هيا.
أوقف السيارة أسفل البناية وركض منها نحو محل “أيوب” الذي انتظره بمللٍ وضجرٍ حتى ظنه يتهرب منه ومن مقابلةٍ بالنسبة لروحه تكاد تكون ساحقة، دلف “يوسف” ركضًا له وهو يقول:
_يلا ؟؟ أنا أسف كان ورايا حاجات كتير أوي.
وقف “أيوب” أمامه يأخذ مفاتيحه وهاتفه وكل ما يخصه ثم رد عليه بتفهمٍ يقدر كل ما يموج بداخله:
_ولا يهمك أنا كنت مستنيك في أي وقت.
حرك رأسه موافقًا فتحرك “أيوب” من أمامه حيث سيارته وقد جاوره “يوسف” في الجلوس بجوار مقعد القيادة يتأهب لتلك المقابلة بكل نيرانٍ مُشتعلة داخل قلبه، بينما الأخر لم يختلف عنه كثيرًا، فربما تكون نتيجة هذه المقابلة دمار كل شيءٍ أو إصلاح كافة شيءٍ.
هل السيارة واقفة أم أن الأرض لم تتحرك معهم؟؟ لما كل شيء اليوم ثقيل، كل مافي الأمر لقاء…ولكن أي لقاءٍ هذا؟؟ هو لقاء الغريب العائد و الشريد لوطنه والصغير لأمه، أين هذا الصغير؟؟ أين براءته وأين ضحكته؟؟ لقد أصبح متصلد المشاعر، وجامد التعبير.
ماهذا ؟؟ هل توقفت السيارة حقًا أم يُهيء له هذا ؟؟ نظر حوله بلهفةٍ ليجد “أيوب” يحرك رأسه موافقًا وهتف بنبرةٍ هادئة وهو يشير برأسه نحو البيت:
_جاهز ؟؟ هما هنا.
تحركت رأسه بحركةٍ بدت عنيفة من فرط لهفته فنزل “أيوب” من السيارة ولحقه “يوسف” يركض خلفه حتى دلفا مدخل البيت معًا، لمعت العبرات في عيني “يوسف” و سأله بنبرةٍ مبحوحة:
_هما هنا بجد ؟؟
لمعت العبرات في عيني الأخر وحرك رأسه موافقًا وصعد الدرجات وخلفه “يوسف” الذي وجد قلبه ينبض بعنفٍ وخوفٍ، ماهذا اللقاء الغريب؟؟ ربما يُحييه من جديد وربما يقضي على المتبقي منه، صرخ قلبه مُهللًا بفرحة طفلٍ صغير عشية العيد:
“أمي هنا…هل حقًا أمي هنا، أنا أشعر بها، أجزم وكأني اسمع دقات قلبها، هل هي في انتظاري ؟؟.
هنا تدخل العقل ينهره بقوله:
_”لا تتذكرك، وربما تخطتك، وربما تكون نستك، لا تأمل أيها الأحمق، كلهم نسوك وعاشوا وأنتَ وحدك الميت.
دموعه نزلت وهو يستمع لعقله وودَّ الهرب من هذا اللقاء، فكلمة “من أنتَ” منهم من الممكن أن تقتله حيًا.
هنا تدخل العقل ينهره بقوله:
_”لا تتذكرك، وربما تخطتك، وربما تكون نستك، لا تأمل أيها الأحمق، كلهم نسوك وعاشوا وأنتَ وحدك الميت.
دموعه نزلت وهو يستمع لعقله وودَّ الهرب من هذا اللقاء، فكلمة “من أنتَ” منهم من الممكن أن تقتله حيًا، لم يشعر بنفسه سوى وهو بجوار “أيوب” أمام باب الشقة والأخر يرفع كفه بآلية شديدة يضغط على الجرس، وزع نظراته بينه وبين عقلة اصبع “أيوب” أراد الهرب والصراخ، لكنه لم يتوقع أن يُفتح الباب الموصد خلال ثانية !! وجد فتاةً تقول بخجلٍ:
_نورت يا أستاذ “أيوب” خير فيه حاجة؟؟
هتف “أيوب” بنبرةٍ هادئة لم يفارقها القلق:
_أنا آسف أني جيت فجأة وبلغتكم متأخر، والدتك هنا يا “قمر” ؟؟
حركت رأسها موافقةً ونظرت لـ “يوسف” هذا الصامت الواقف بجمودٍ ينظر لها بعينين دامعتين والأحمرار يحاوط عينيه، تاهت في نظراته وملامحه تحاول التعرف عليه لتجده يقترب منها وتخطى “أيوب” وهتف بنبرةٍ مبحوحة لا يصدق أنها هي بحق، حبيبة روحه كما يلقبها !! نور حياته كما وصفها، “قمر الليالي” لذا هتف وقد فرت دمعة هاربة من عينه اليسرىٰ:
_”قمر”…أنتِ “قمر” ؟؟
حركت رأسها موافقةً بآلية شديدة وقد بدت مضطربة أمامه، ملامحه لم تكن غريبة عليها، هي تعلم صاحب الملامح جيدًا صورة والدها المحفورة بداخلها !! والدها !! هل معنى ذلك أن هذا هو…”يوسف” ؟؟ الغائب عنها عاد من جديد.
نزلت دموعها على الفور وقالت بنبرةٍ باكية تسأل “أيوب”:
_هو ؟؟ صح ؟؟ قول إنه هو علشان خاطري.
حرك رأسه موافقًا فاقترب منها “يوسف” يقول ببكاءٍ أعلن عن نفسه فورًا لتذهب قدرته وثباته وصموده سدىٰ وقال بنبرةٍ محشرجة:
_”قمر مصطفى الراوي” قلب “يوسف مصطفى الراوي”
بكت له بعنفٍ وظهرت شهقاتها الموجعة وارتجف جسدها بعنفٍ فلم يكن أمامه سوى خطفها بين ذراعيه ينهار معها باكيًا وهي تبكي بصمتٍ، تحدث وهو يضغط عليها بين ذراعيه بوجعٍ:
_وحشتيني…..قولي إنك فكراني وعرفاني….أحيي أخوكِ ورديله الروح من تاني.
ارتفع صوت بكائها ولم تقو على الرد فابتعد عنها يرى وجهها وهو يقول بصوتٍ متقطعٍ من قوة شهقاته:
_زي ما رسمتك في خيالي…. واحلى….”قمر” هتكون زي القمر واحلى منه كمان.
نزلت دموعها من جديد ونظرت لـ “أيوب” تقول ببكاءٍ تتوسله في جوابها بما يريح قلبها:
_أنا مش بحلم صح ؟؟ أخويا هنا !! أبوس إيدك أنا مش بحلم وأنتَ مش بتضحك عليا.
حرك رأسه موافقًا بدموعٍ أبت الصمود لرغبته و أعلنت عن نفسها لتعود “قمر” تنظر في وجهه ثم ارتمت على أخيها تعانقه من جديد وهي تقول ببكاءٍ ووجعٍ:
_استنيتك….وكنت هفضل مستنياك….كل يوم عدى عليا كنت معايا في قلبي و روحي، اتأخرت عليا أوي.
ضمها إليه يبكي من جديد وهي تبكي معه، لم يكن مجرد بكاء بدموع حارقة بل انهيارٍ تام حتى ابتعدت عنه تقول بلهفةٍ:
_ماما !! بتصلي جوة تعالى….تعالى.
دلف معها وهي تسحبه من كفه وخلفهما “أيوب” يسير بتأثرٍ هلك روحه فكيف بالقادم بعد ؟؟ كيف بلقاء أمٍ بصغيرها؟؟.
خرجت “غالية” من الداخل تنادي ابنتها وهي ترتدي إسدال الصلاة الأبيض الذي أضاء وجهها، ألتفت لها “يوسف” أولًا في لحظةٍ توقف بها الزمن من حوله، أما هي فخفت صوتها ما إن وقع بصرها على الضيوف وفورًا قالت لـ “أيوب”:
_نورت يابني خير إن شاء الله ؟؟.
أشار على ضيفه الذي تهرب هي من النظر إليه:
_ابنك يا ست “غالية”، “يوسف الراوي”.
نبض قلبها بعنفٍ نبضة أشبه بضربة الكهرباء في سائر جسدها، رفعت عينيها الباكيتين فور ذكر الاسم نحوه لتتقابل نظراتها بنظراته وهو يبكي، صرخ القلب بفرحةٍ:
“صغيري هنا !! صغيري وحبيبي وحبيب عيوني، أول من فرحة عيني برؤيته، هذا هو صغيري، قلبه يشير لقلبي يلتفت له، وعيناه تعانق عيني، هو…هو من انتظرته وافنيت عمري في الانتظار له، هو حبيبي.
تلاقت النظرات الباكية من كليهما ليتحرك هو نحوها منصاعًا خلف رغبة قلبه وهي خطت نحوه بثقلٍ تستمع لصراخ روحها، وقف أمامها ينطق بكلمةٍ حُرِمَ منها طيلة عمره:
_ماما…..”غالية” الغالية على قلب “يوسف” !!
صرخت وهي تسحبه داخل عناقها ليستقر هو بين ذراعيها وفور استشعاره بضربات قلبها بجوار قلبه وعرف الأمان بها صرخ بوجعٍ صرخة مدوية أعربت عن انهياره بين ذراعي والدته، لم يكن مجرد عناقٍ عابر أو حتى ضمة قوية، إنما هي مدينة آمنة حوت طمأنينة العالم على هيئة ذراعين، عودة الغريب الضال لوطنه المحبوب بعد فراقٍ دام لكثيرٍ وكثير، أنا هنا بين ذراعي أمي، عدت هنا من جديد لوطني، أنا هنا في مكاني المفضل، أنا هنا بجوارها هي، ارتوي من ظمأٍ أصاب روحي بالجفاف حتى مُت مرة ..وربما ألف.
أستمر صراخ “يوسف” الموجع وبكائه وهو يردد بوجعٍ:
_داسوني من غيرك….داسوني والله.
نزلت دموع “أيوب” هو الأخر وهو يفكر في وجع “يوسف” وفي وجعه هو الأخر، لأول مرّةٍ يتمنى ما في يد غيره وهو يراقب عناق “يوسف” لأمه وهو يفكر هل يمكن أن تحنو عليه الدنيا وتجعله يتذوق ما ذاقه “يوسف” ؟؟ رفع كفه يربت على قلبه يهتف بنبرةٍ هامسة باكية لم تصل لمن حوله:
_داسوني من غيرك وملقتش مكان تاني غيرك.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)