رواية غوثهم الفصل الثامن والخمسون 58 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الثامن والخمسون
رواية غوثهم البارت الثامن والخمسون
رواية غوثهم الحلقة الثامنة والخمسون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن والخمسون”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
_شَكوتُ ومن غيركَ يسمع شكواي،
أتيت نادمًا على ما أقترفت يداي
ربي قد ضاقت عليِّ السُبل وياليتني مثل
الطير أو النجم والأماكن حولي تكون سماي
ربي قد فقد قلبي رؤيته وكأني أسير
على عماي، أطلب منك الرشد والنور لمسعاي
بدونك فقدت رؤيتي ياربي برغم أني أرىٰ
لكن فقدت الرؤية حينما رأت عيناي.
_”غَــوث”
__________________________________
_لقد قرأتُ ذات مرةٍ اقتباسًا
أظنه كُتِبَ فقط لكِ أنتِ ولأجلكِ، لم يكن حينها الكاتب أنا،
لكن يبدو أنه كان غريبًا مثلي وقد وصف ببراعةٍ حالتي معكِ وما وددته من كل قلبي حيث كتب:
“كم أتمنىٰ لو كنتِ جارتي لكتبتُ على جدران منزلك، فلتسقط الحكومة ليعتقلوا أهلك وأتكفل أنا بِكِ وهذا حق الجار على جاره”
فيا جارتي أنا وبكل صدقٍ أخرجه قلبي، ورغمًا عن أنف الحكومة وعائلتك وعن جيران البناية بأكملها أعلنها لكِ أمام الجميع وبكل صراحةٍ:
“مرحبًا بكِ في كنفي يا جارتي
وأني الوحيد المُتكفل بِكِ من كل أهل حارتي”.
<“مثل الطير في السماء، يرفرف بجناحيه مع جناحيه “>
نفس المكان من جديد بنفس الذكريات لكن هذه المرة مع أشخاصٍ جُدد يتم صنع المستقبل معهم، وقف “يـوسف” يُطالعها بغير تصديق وكأنه يقف أمام جُرأتها في سرقة كل ما يُخصه وأعطاءه لمن لا يستحقه، حتى مكانه المفضل تنسبه لنفسها وتشارك به غيره، لكن هذا الأمر الآن لا يُشكل له فارقًا بل الآن أتى مع من تستحق.
انتبهت “عـهد” لشرودهِ في وجه هذه الفتاة وقد انتبه لهما “نـادر” أيضًا بعد نظرات زوجته، مربعٌ من أربع أضلاعٍ أمام بعضهم، الأجساد عن الحرِاك واقفة والأعين في الكلام سوابق عن الألسنةِ، يتم توزيع النظرات المُتعجبة وقد رافقها الاستنكار الشديد، كأن العقل يبتسم بسخريةٍ للقلبِ وهو يشير على اختياره وكأنه يسأله بكل تشفٍ به:
“ألم يكونوا هؤلاء هم اختيارك البغيض؟”.
قرأ “يـوسف” نظراتهما له ولزوجتهِ فشدد مسكته لكفها وكأنه يحتمي هو بها منهم، يذكر نفسه وقلبه أنها معه وبالتالي الألم لن يكن موجودًا، وقد ابتسم بعينيه واستعاد ثباته وهو ينطق بنبرةٍ حملت فيها الكثير من المشاعر المُبهمة:
_مش معقولة !! القبطان “نـادر” بنفسه هنا؟.
ابتسم الأخر بتكلفٍ وهو يجاوبه:
_آه، شوفت بقى الدنيا صغيرة إزاي ؟ مُصممة تجمعنا حتى لو مفيش واحد فينا عاوز دا مع التاني، بأي شكل بتجمعنا، على العموم أنا باجي هنا من ساعة ما اتجوزت، كويس إنك اختارت المكان دا.
ما هذا !! هل يسرق هويته وحُبه للمكان كما سبق وسرق منه كل ما يَخصه؟ هل يطمس هويته وينسب ما لم يملكه لنفسهِ؟ حينها ابتسم “يـوسف” له من جديد وقال بنفس الأسلوب المتمكن في الرد:
_والله هو كويس إنك أنتَ اللي اتجوزت المدام “شـهد” علشان لولاها مكانش زمانك عرفت المكان دا، وزي ما قولت كل الأماكن بتجمعنا سوى حتى قلوب الحبايب كمان.
كان يقصد عمته و “شـهد” التي بدا الضيق واضحًا على معالم وجهها وهي تطالع كفه المتشبث بكف “عـهد” التي كانت توزع نظراتها بينهم بذهولٍ حتى وجدته يحرك رأسه لها وهو يقول بنبرةٍ اهدأ من سابقتها:
_أقدم ليكم يا جماعة، مراتي، الحقيقة كان نفسي نتقابل في ظروف تانية غير دي، بس هي الدنيا حكمت علينا بكدا، قولت أجيبها مكاني المفضل علشان كل حاجة هنا تبقى مفضلة، المكان وهي وأنا بس وهي معايا.
أخجلها كثيرًا بحديثهِ وجعل وجهها يتورد بحمرة الخجل فيما وقفت “شـهد” تشعر بالضيق، وزعت نظراتها من جديد بينه وبين الفتاة التي يطالعها بكل حبٍ، والأدهىٰ من ذلك أن عينيه نطقت بالحبِ لها، تقف بجواره كما الطفلة الصغيرة بجوار والدها وقد قطع لحظتهم هذه صوت رجلٍ ظهر من العدم يقرب الشابين في العُمر وما يزيد عن هذا قليلًا وقد هلل فور رؤيته لضيفهِ قائلًا:
_مش ممكن !! “يـوسف الراوي” هنا؟”.
انتبه له “يـوسف” واقترب منه يرد له التحية حتى هتف الأخر بمعاتبةٍ يلومه على غيابهِ عنه كثيرًا:
_كل دا تغيب عننا !! اومال لو مش دا مكانك من صغرك يعني ؟ دا أنا بعتبرك الشريك المعنوي ليا هنا في المكان، قولت هلاقيك راجع بعيالك في إيدك تعرفهم عليا.
ضحك له “يوسف” ثم قال بنبرةٍ لازال بها أثر ضحكاته:
_هو بصحيح أنا مجيتش بعيالي، بس جيت بمراتي، ودي أول خروجة لينا سوى من ساعة كتب الكتاب وقولت والله ما تكون في مكان تاني غير هنا، دا أنتَ حبيبي أنتَ والمكان.
ربت الشاب على كتفه وقال بنبرةٍ هادئة:
_المكان وصاحبه تحت أمرك، تؤمرني بحاجة؟.
حينها قام “نـادر” بسحب زوجته ورحل بها من محل وقوفهما وقد لاحظ البقية حركته هذه وخاصةً “عـهد” التي رأت ضيقه واضحًا فيما أقترب “يـوسف” من صديقه يتحدث معه بنبرةٍ خافتة جعلت الأخر يوميء له موافقًا ثم تركه وتحرك من مكانه يتجه إلى مكانٍ أخر وقد وقف “يـوسف” بجوار “عـهد” يبتسم لها حتى سألته هي بتيهٍ من نفسها من كل شيءٍ حولها:
_هو إيه اللي بيحصل !! فيه إيه ؟.
أمسك كفها من جديد وهتف بصدقٍ يُطمئنها:
_متقلقيش أنا هنا معاكِ وهقولك على كل حاجة.
بعد مرور دقائق تم أخذهما من المُرشد إلى المكان المطلوب التوجه إليه من قِـبل “يـوسف” عند لُعبة كبيرة الحجم بعيدة عن محط الأنظارِ تسمى باللغة الدارجة “لعبة الساقية” وقد نظرت “عـهد” إلى زوجها تسأله بعينيها حتى قال بنبرةٍ هادئة:
_يلا يا “عـهد”.
قال جملتها ثم وضع كفه في ظهرها يحثها على الاندفاعِ حتى توجهت للُعبةِ وأجلسها في أحد المقاعد وهي مشدودة أو لربما مجذوبة من رهبتها في المكان ومما ينتوي فعلهِ، وقد انتظرته يجلس هو الأخر لكنها تفاجئت به يبتعد عنها ثم أغلق اللُعبة وقال بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_عاوزك تصرخي وتعيطي وتخرجي كل اللي جواكي هنا يا “عـهد” دي أنسب طريقة تخليكي تفوقي من زعلك، وأنا هنا متخافيش، معاكي مش هغيب عنك.
ازدردت لُعابها وهي تطالعه بخوفٍ فيما أشار هو للعامل في محركات اللعبة حتى بدأ الأخر التحريك بينما بدأ صوتها في الارتفاع بخوفٍ وهي تنادي عليه أن يكون معها، صرخت بملء صوتها تتوسل إليه بقولها:
_نزلني يا “يـوسف” أنا بخاف، نزلني علشان خاطري….نزلني يا “يـــوسف”، أنا عمري ما جربت حاجة زي دي، يــــا “يـــوسـف” !!!.
صرخت بكملتها الأخيرة حينما تحركت اللُعبة بحركةٍ عنيفة اخفضتها للأسفل وفجأةً ارتفعت للأعلىٰ وهي تصرخ بملء صوتها، وقد وقف “يـوسف” يراقبها بعينيه، أراد أن يشاركها هذه اللحظة لكن في نفس التوقيت أرادها تصرخ وتخرج الطاقة السلبية من داخلها بهذا الشكل، لقد سبق وفعلها هو حينما تفاقمت مشاعره السلبية، أما هي فكانت تصرخ وتبكي وتحاول تضحك فعلت كل شيءٍ في نفس اللحظة، كلما ارتفعت بها اللعبة أغمضت عينيها لتقفز أمامها صورة من صور الذكريات، ولم تنكر إنها كلما صرخت شعرت بأنها خزان يفرغ تدريجيًا من بضائعه، استغلت عدم استماع البقية لها وظلت تصرخ حتى بكت فجأةً.
لاحظ “يـوسف” بكائها واتضح لها ذلك حينما انخفضت اللعبة والتقت نظراته بنظراتها وهي تطالعه بعينين دامعتين، لقد تكالبت عليها الذكريات السيئة منذ احتضانها لوالدها في كفنهِ الأبيض وطردها من البيت بدون ذكرياته، سمعتها التي تم الخوض فيها، و “سـعد” الذي هددها مرارًا وتكرارًا، كل شيءٍ منذ وفاة والدها يهدم فيها وهي حتى الصراخ عجزت عنه والآن اتيحت لها الفرصة، فتوجب عليها استغلالها، لذا صرخت من جديد ببكاءٍ حاد هذه المرة، أما هو ففهم كل ما تمر به، صدق القلب حينما أخبره إنها شبيهته لذا اصطفاها ومن بين سائر البشر أطمئن لها.
وزع نظراته بينها وهي تبكي وتصرخ وحينها نظر للشاب الذي فهم عليه وأخفض اللعبة حتى أصبحت هي في مستوى وقوفه وقد أقترب هو منها يجاورها وهي تطالعه بعينين دامعتين، الخوف الذي لاقته بمفردها في الأعلىٰ أظهر ضعفها وقلة حيلتها، بينما هو أخرج المحارم الورقية ثم مسح على عينيها برقةٍ وهتف بصدقٍ:
_أنا آسف بس لازم الوجع اللي جواكِ يخرج.
حركت رأسها موافقةً فيما أضاف هو بعدما ابتسم لها يحاول بث الطمأنينة لداخل قلبها:
_أنا معاكِ أهو، المرة دي هتفرحي.
أشار للشاب بعد إنتهاء جملته ليفهم الأخر مقصد الإشارة ثم قام بتحريك اللُعبة من جديد بهما سويًا لكن هذه المرة بحركةٍ أهدأ من السابق، هذه المرة أراد “يـوسف” إضفاء الاستمتاع لها وقد تمسكت هي بكفهِ تلقائيًا حتى هتف لها في أذنها بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_أنا معاكِ أهو وهي ماشية بهدوء، افتحي عيونك كدا وبصي على المكان حواليكِ، بص الدنيا من فوق عاملة إزاي، زحمة ومكركبة ومليانة حاجات مش مفهومة، بس افتحي عيونك شوفي اللي أنا شايفه كدا.
فتحت عينيها بتروٍ شديد وقد ازدادت الأضواء عن السابق بعدما قام العامل بإضاءة مصابيح اللُعبة، وجدت المدينة التي لم تحوي الصغير بين ازرعها مُضاءة وكل شيءٍ حولها بدا صغيرًا، تلك المرة لم تصرخ بل نظرت حولها بتعجبٍ وهي ترى نسب الأحجام الحقيقية حولها، أما هو فابتسم تلقائيًا لهدوئها وهي تراقب ما حولها بعينين لامعتين فأضاف هو من جديد عند ارتفاعهما للأعلى:
_بصي المكان رغم كل اللي فيه بس لسه منور، ولسه قادر يخطف أي عيون، كل الكركبة والزحمة اللي فيه مش مُبرر إن سحره يختفي، حاسة بإيـه ؟ خايفة؟.
حركت رأسها نفيًا ثم نظرت له تقول بنبرةٍ تائهة بعدما وقعت تحت تأثير الخدر الذي استطاع هو أن يضعها فيه بسبب كلماته:
_أنا…أنا ضايعة، حاسة أني فرحانة وزعلانة في وقت واحد، حاسة أني مسروقة من نفسي، أنا مين ؟.
ابتسم لها ثم هتف يمازحها بقولهِ:
_أنتِ حبيب عيوني.
حركت رأسها للجهةِ الأخرىٰ بعينين لامعتين بسبب هذا اللقب، لقد أصبحت واحدة من كلماتها المفضلة التي تحب الاستماع لها، بينما هو أخرج هاتفها وقال بحديثٍ مراوغًا أصابها بالصدمة:
_يلا بقى نتصور مع بعض علشان تبقى ذكرى لعيالنا لما تفتري عليا في يوم أقولهم أنا كنت بفسحها وأوديها الملاهي.
حدقت فيه بصدمةٍ مقروءة على تعابير وجهها فيما حرك شفتيها المُقتضبتين بإصبعيهِ حتى انفرجا ببسمةٍ زائفة ثم التقط هو الصورة لهما سويًا حتى ضحكت بصوتٍ عالٍ هي حينما تحركت اللعبة من جديد فجأةً بحركةٍ أسرع، ليصبحا معًا في عالمٍ خاص مثل الطيور التي خرجت من قفصها لتوها تختبر معنى الحُرية، صدقت حينما قالت إنه جناحيها، فلولاها لما كانت طارت من السماء مجازًا وفعلًا.
__________________________________
<“مَطروف العين بضي القمر”>
قد يجتمع ماضيك مع حاضرك وأنتَ ترى السعادة متجسدة أمامكم فيهما معًا، ربما كل الأماكن التي أتيتُ إليها بمفردك وكنت فيها بدون ونيسًا تشهد لك اليوم على حُبكَ لرفيقك، لا يوجد ما يُعرف بالمستحيل بل يوجد ما يأتي باليقين، اليقين الذي يتعامل به المرء مع خالقه سبحانه جل وعلا، كان “أيـوب” يسير بجوار “قـمر” في شارع “المُعز لدين الله الفاطمي”، هذا المكان الذي جمع بين الماضي الذي اختصره في هيئة المكان بحضارته وبين الحاضر على هيئة الأشخاص، بين الحين والآخر كانت التحية تُرسل له من الجالسين وهي تسير بجواره تبتسم له بفرحةٍ حتى وصلا إلى المَحلِ الخاص بهِ لتسأله هي بنبرةٍ هادئة من وجهها المبتسم:
_هما كلهم هنا عارفينك يا “أيـوب”؟.
حرك رأسه موافقًا وهتف بنبرةٍ أقرب للتخمين في قولهِ:
_مش كلهم، بس أنا لما بكون هنا يوم الجمعة بيخلوني أصلي بيهم، غير كدا إني في رمضان غالبًا بقضي الشهر كله هنا، فالأغلب منهم يا يعرفني كويس يا يسمع عني يا بيشوفني من بعيد، في النهاية الحمد لله دي محبة من ربنا بيحطها في قلوب العِباد للعباد.
توسعت بسمتها أكثر وهي تقول بنبرةٍ ظهر بها الخجل أو لربما الفخر به وبشخصهِ:
_هو بصراحة يعني أي حد يشوفك يحبك، يعني كل الناس دايمًا تدعي لوالدك وليك معاه، وبصراحة يعني عمري ما كنت أتخيل إنك كدا، وإنك تكون معايا في يوم من الأيام على طبيعتك، لأ وكمان بتقول كلام حلو، عارف !! أنا قبل ما أعرفك كنت علطول زعلانة وعلطول متضايقة وساكتة، حاسة أني مش في مكاني، كل حاجة ضايعة مني، عيلتي اللي معرفش دمروا حياتنا ليه؟ وأخويا اللي غاب عننا، وأنا اللي عايشة من غير أي سبب، وأكبر سبب لما كنت فاكرة إن حتى أنتَ بعيد عني برضه، أنتَ جميل أوي علشان أنا بقيت مرتاحة من ساعة ظهورك.
نظر حوله يراقب المكان ثم أقترب منها يهمس بقولهِ ردًا على حديثها الذي غمره بالسعادةِ الكاملة:
_يعني هو إحنا كنا نطول؟ طب أقولك أنا على سر ؟ أنا بحبك من سنتين، من ساعة الزير اللي كسرتيه، ساعتها أنا انشغلت بيكِ، وكانت أول مرة افتكر ملامح بنت، صورتك ساعتها مفارقتش خيالي، ودلوقتي مش بتفارقيني، عاوزك علطول معايا وعاوزك قصاد عيني، عاوز ييجي يوم تكوني معايا في بيتي واشاركك كل حاجة عني اللي فات واللي بعيشه واللي جاي كمان، وأنا واثق إن الأيام دي هتيجي علينا مع بعض بأمر الله، علشان كلي يقين إن ربنا مش هيعلق قلبي بيكِ من غير ما أحقق اللي عاوزه معاكِ يا “قـمر”.
ابتسمت هي بخجلٍ حتى ظهرت نواغز خديها ثم هتفت بحماسٍ يشبه حماسها حينما تتحدث بتلقائيةٍ:
_أنا كدا كدا معاك في أي حاجة، وكدا كدا مسلمالك قلبي علشان عارفة إنه في أيد أمينة عمرها ما هتخون القلب دا، أوعى تتغير عليا يا “أيـوب” خليني دايمًا شايفاك مكاني اللي مش هينفع أعيش غير فيه، طمن خوفي إن حياتنا مش هتتدمر زي ما حياتي اتدمرت قبل كدا.
رفع كفه يحتضن صفحة وجهها ماسحًا عليها برفقٍ ببنانة أصابعه وهتف بنبرةٍ رخيمة يزيل من قلبها أي خوفٍ كما يراه هو بعينيها:
_ثقي في ربك وأدعي بكل ثقة أنه هيحقق أملك، وخلي حب ربنا في قلبك قبل حُبي أنا، وخلي أمنيتك لطريق ربنا قبل الطريق معايا، ونيتك الجواز مني بغرض العِفة وإنجاب أولاد مسلمين نتباهى بيهم قدام ربنا ثم سيدنا محمد ﷺ، وأنا والله لحد أخر ذرة فيا هفضل معاكِ وأحاول علشانك، زي ما هحاول أخدك معايا للجنة، ودلوقتي هاخدك معايا.
سحبها من كفها ثم خلفه بُغتةً مما جعلها تشهق بحركةٍ تلقائية من فعلهِ فيما دلف هو بها للداخل بعدما استأذن مساعده وفتح الباب الصغير في محلهِ، وما إن دلف بها لهذا الجزء رفعت عينيها بدهشةٍ تتابعه، كان المكان عبارة عن مكانٍ صغيرٍ أسفل الأرض نزلته بثلاثة دراجات لتقف في مكانٍ من صُمم من قوالب الطوب الحجرية باللون البُني في أول درجاته وقد توسطتته أدوات صناعة الفخار، وصممت نوافذه على الطراز المصري الإسلامي في أول عصوره.
نظرت حولها ترى الأرفف الذي قام هو بوضع أدواته الفخارية فوقها ثم التفتت له تسأله بعينين لامعتا ببريقٍ خاصٍ لأجل ضحكته فقط:
_المكان هنا أحلى من برة، كأني في العصر القديم، دا تحفة فنية، إزاي بتسيب المكان هنا !! احبسني هنا علشان خاطري.
أشار على عينيهِ وهتف مُصدقًا على حديثها:
_من عيوني الاتنين، كدا كدا أصلًا عاوز أحبسك بجد مش هزار، تلقائيتك مخلياني عاوز أقفل عليكِ في برطمان ازاز، بس مفارقتش كتير هقفل عليكِ هنا في برطمان حجري، علشان تكوني ليا أنا بس، قولتي إيه ؟؟.
قلبت عينيها بتفكيرٍ ثم أقتربت منه تمسك كفيها وهي ترد عليه بنبرةٍ ضاحكة تنصاع خلف حديثه مهما كان:
_موافقة، كفاية أني هبقى معاك أنتَ بس.
ابتسم بعينيه لها ثم اقترب بها من العجلة الخشبية الموضوعة في المنتصف وحولها أدوات الفخار ثم خلع سترته ألقاها خلفه وقام بطي أكمام قميصه وسحب مقعده يقربه منها وقال بنبرةٍ هادئة:
_طب يلا يا طارفة عين الأسطى “أيـوب” علشان هعلمك.
اتسعت عيناها بدهشةٍ من جملته فيما رفع هو قدمه يضعها على العجلة يختبر دورانها ثم قام بأخذ كومة من الطين وسحب كفيها يحاوطهما بكفيهِ وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_سيبي إيدك تمشي مع خطوات أيدي بالظبط، اللي هعمله تعمليه، وأهم حاجة متشديش أعصابك علشان الطين بيحس بالشدة، سيبي إيدك خالص ومتخافيش.
توترت من اقترابهِ بهذا الشكل وصوته الرخيم الذي عبر أذنها كما أن رائحته الطيبة التي عبارة عن رائحة المِسك تفوح منه، بينما هو ركز بصره على العجلة وصب كامل تركيزه على ما يفعله يتجاهل خوفها حتى أمرها بنبرةٍ قوية:
_ركزي معايا يا “قـمر”.
هتفت هي بتلقائيةٍ وبدون وعيٍ لما تنطقه:
_والله العظيم ما مركزة مع حد غيرك أنتَ.
ضحك رغمًا عنه وانتبهت هي لما تحدثت به فاصطبغ وجهها بحمرة الخجل، فيما بدأ هو تدوير العجلة والبدء في تشكيل الطين الفخاري وقد تجاهل عن قصد جملتها حتى لا يتسبب في إحراجها حتى هتفت هي بخوفٍ من تخريب هذا الشيء:
_يا “أيـوب” هبوظه، والله حرام هيبوظ مني.
هتف بنبرةٍ هادئة يُطمئنها بقولهِ ردًا عليها لكي يبعد خوفها:
_فداكِ، حتى لو باظت هتبقى ذكرى حلوة لينا علشان عملناها مع بعض إحنا الاتنين، كملي بس معايا وبصي كدا وأفرحي باللي بتعمليه دا.
ضحكت له ثم نظرت أمامها فيما وضع استمر هو في تحريك كفيها أسفل كفيه على الشكل الفُخاري الذي بدأ يأخذ الطور الأخير في تشكيلهِ حتى أوقف هو العجلة الفخارية ثم سحب السكين يقطع به الشكل من جذورهِ وهي تتابعه بعينيها حتى وجدته يُضيف بسعادةٍ من نبرته الضاحكة:
_أول مرة أعمل حاجة بالفخار تبوظ مني وأكون متكيف كدا، تصدقي والله هييجي منها في الأخر.
تذمرت من سخريته عليها وهتفت بضجرٍ ردًا عليهِ:
_على فكرة قولتلك هتبوظ مني ،أهيه ملهاش لازمة في الأخر، إيه دي بقى؟.
قام بسحب الإبرة الكبيرة ثم أمسك كف زوجته وحفر عليها من الخارج بكفيهما معًا لكي يكون الشيء المصنوع بأكملهِ منهما معًا:
_”قـمـر أيـوب”.
كتبها على الفخار بالخط العربي حتى ابتسمت هي له بسعادةٍ جلت تذمرها بعيدًا فور رؤيتها للاسمين مع بعضهما حتى أضاف وهو يطالع عمق عينيها البريئة بصفاءٍ:
_كدا بقت ليها لازمة حطيها في أوضتك علشان كل ما عينك تقع عليها تفتكري إننا عاملنا حاجة زي دي مع بعض ولبعض، والمرة الجاية هتعملي حاجة أحلى بس لما تركزي في الفخار، مش في حاجة تانية.
أخفت عينيها عنهِ بخجلٍ من حديثها وتلقائيتها حتى ضحك هو عليها ثم لثم جبينها بقبلةٍ حنونة وقد صدح صوت الطرقات على الباب من الخارج وحينها تركها هو ثم فتح الباب لمساعده الذي مد يده له بمظروفٍ أبيض أُرسِلَ لها وقال بنبرةٍ حائرة:
_الظرف دا جالك يا أستاذ “أيـوب”، حد سابه ومشي.
أخذه منه “أيـوب” بحيرةٍ ثم فتحه بأطراف بنانهِ بالرغم إنه اتسخ بسبب أصابعه التي عَلُقَ بها الطين الفخاري، كانت ملامحه عادية ولم يهتم كثيرًا ظنًا أنها ربما تكون طلب مساعدة من أحد أفراد المنطقة وهو يتوجب عليه أن يُلبيها حتى وجد بداخل المظروف ورقة سوداء كُتِبَ بداخلها:
_خلي بالك على القمر على معاك، مش “قـمـر” برضه؟.
صُعِقَ مما رأه وتبدلت ملامحه على الفورِ للصدمة والذهول يُرافقهما الخوف عليها، وجدها تقترب منه من الخلف فقام باخفاء الورقة وقال بنبرةٍ ضائعة يحاول برمجة الحديث على لسانه:
_دا حد عاوز مني حاجة برة، خليكِ هنا راجعلك تاني.
هزت رأسها موافقةً فيما خرج هو بلهفةٍ ينادي على مساعده بقوله الذي خرج منه ملهوفًا:
_”مـحمد” !! يا “مـحمد”.
انتبه له الشاب وأقترب منه ليسأله حينها هو بلهفةٍ أزدادت عن السابق:
_مين اللي ساب الورقة دي؟ وقالك إيه ؟.
حرك كتفيه بحيرةٍ وهو يقول:
_شاب كدا لابس نضارة وكاب وقف يبص على الحاجات أفتكرته زي السُياح اللي هنا بس دا ابتسم وقالي سلمها للشيخ “أيـوب” وبس سابني ومشي.
ازداد الخوف أكثر من السابق وتأكد أن الأمر لن يمر مرور الكرام، في المرة السابقة محاولة خطفه وقد نجا منها بكرم الله عليهِ، أما هي !! فلن تبقى الأمور بنفس مقدور هدوئها، لذا سحب نفسًا عميقًا يستغفر ربه وقرر أن يعود لها يستأنف يومه معه كما خطط حتى لا يُثير قلقها، فيكفيه من الأساس أنها لازالت تخشى كل الناس عداه هو آمنت له، فيتوجب عليه أن يكون هو الآمان لها.
__________________________________
<“يخشى نفسه كثيرًا فكيف يأمن لمن حولهِ”>
اجتمعت كل الخصال التي يُحبها المرء فيها هي،
كانت هي الإختصار الوحيد لكل شيءٍ حولهِ أراده هو، القوة والدهاء والحنان والتلقائية، لقد حُرِمَ من العيش في بيتٍ تملئه العواطف أو حتى كما يعيش سائر الناسِ، كان بيتًا مؤلمًا وللمرء كان قاتلًا، حتى خشى أن تمر الأيام عليه ويكون كما المزعوم والده، لكن هي ؟! تفننت أن تكون مثل والدته، تفننت أن تملأ البيت بالحنانِ والحيوية والنشاط، يراها دومًا كما كان يرى أمه في صغرهِ.
هكذا فكر “إيـهاب” الذي وقف على أعتاب المطبخ يتابعها وهي تقوم بتنظيفهِ كعادتها بنهاية كل أسبوع، ارتدى ثيابه وتجهز للخروج من البيت وقد مر عليها يسألها باهتمامٍ:
_أنا هروح عند “عـزيز” أشوف الكافيه بتاع الواد “سراج” وبالمرة أفوت على “إسـماعيل” علشان “مُـحي” بيه في عيد ميلاد، عاوزة حاجة مني؟.
التفتت له ترد عليه بنفيٍ:
_تروح وترجع بالسلامة يا سي “إيـهاب”، متعوقش بس في الليل علشان مترجعش متأخر، ربنا يستر طريقك.
ابتسم لها وهز رأسه مومئًا حتى اقتربت منه تسأله بلهفةٍ بعدما تذكرت لتوها ما حدث في وضح النهار:
_يوه نسيت يا أخويا أقولك، بس هات إيدك على الحلاوة الأول، مش هتاكلها علينا يعني.
رفع ذراعيه يضعهما في خصرها ثم قربها منه وهو يقول بمراوغةٍ كطبعهِ الوقح دومًا:
_هو في أحلى من كدا يعني؟ هات اللي عندك يا عمنا.
تغاضت هي عن فعلهِ ثم تنهدت بضجرٍ وقالت بقلة حيلة بنفس طريقة حديثها العشوائية المُحببة لقلبهِ:
_دا أنتَ !! والله ماحد يعرف ياخد منك حق أو باطل، المهم أنا كلمت أخوك، صحيح فضل يتلاوع عليا أكنه حرامي مقفوش في كمين بسريقة، بس على مين، دا أنا “سـمارة” يا أخويا، أخوك حب يصدرلي المستعبطة روحت واكلاه هو وهي.
ضحك بصوتٍ عالٍ على طريقتها وهي تتحدث فيما تلوت هي بين كفيه حتى تتحرك وتتركه بسبب سخريته وضحكه عليها، فقال هو بعدما أوقف الضحكات التي أرتفعت في أخرها:
_خلاص بقى، أنتِ اللي بتقولي على أخويا كلام مش مظبوط، لو حد غيرك كان زماني واكلك كف محترم، لكن أنتِ خط أخضر وبشوقك، ها قالك إيه؟؟.
بدأت تخبره بما حدث في جلستها مع شقيقه وتخبره بمدى حزنه وكيف يتهرب مما يشعر به تجاه نفسه حتى قبل مشاعره تجاه الفتاة، وبعدما أنهت تفاصيل الحوار الذي دار بينهما أضافت من جديد بلهفةٍ تعبر عن مدى دهائها:
_هو بقى حب يتهرب ويقولي مفيش حاجة ومفيش حد، أنا قبلها كنت قافلة النت وروحت أنا فاتحاه وجاتلي رسالة ساعتها فهمته إنها من “ضُـحى” وبعتالي صورنا مع بعض في كتب الكتاب، وخليته خد التليفون يبص فيه ألاقي الواد يا أخويا عينيه بتطلع قلوب وأنا بيني وبينك كنت مكبرة التليفون على صورتها، شكله واقع لشوشته.
ضحك “إيـهاب” لها وظهرت الراحة على مُحياهِ، الفكرة نفسها جعلته يشعر بالرضا التام لأجل شقيقه الذي يغفل عن حبه وعن مشاعره لذا سحب نفسًا عميقًا ثم لثم وجنة زوجته وقال بنبرةٍ رخيمة:
_هجيبلك أنا الحاجة الحلوة وأنا جاي، سلام يا عمنا.
تركها ورحل من الشقة وهي تنظر في أثره بهيامٍ ثم قالت لنفسها بعدما أغلق الباب ورحل تمامًا:
_أقسم بالله ما عمهم غيرك أنتَ، إيه ياختي دا ؟؟ حماتي اتوحمت على صينية بقلاوة؟؟.
عادت لسيرتها الاولىٰ تستأنف عملها بعد رحيله، فيما توجه زوجها إلى البيت من الأسفل يخبر “نَـعيم” برحيلهِ ثم بعد ذلك يتجه إلى مكان العمل الذي ذهب إليه شقيقه من وسط النهار.
أراد أن يطمئن على شئون الكافيهات التي يقوم هو بإدارتها يهرب من نفسهِ في العمل هنا، وقد جلس في غرفة مكتبه يتابع الفواتير التي تم جمعها بعد دفع ثمن البضائع والفواكه، كان يوازن بين التكاليف والدخل بكل تركيزه وفي يده حمل السيجارة يُشغل نفسه فيها في إنتظار كشف الحساب الجديد الخاص بمصاريف الأسبوع الماضي، أعاد ظهره للخلف وحرك رأسه نحو الشاشة يتابع المكان من خلالها وقد تأهبت حواسه فجأةً عند رؤيته لها !!.
نعم هي، عيناه لن تكذب عليه في رؤيتها، هو يعلمها ويعرفها جيدًا، لكن كيف أتت إلى هُنا ولما أتت لهُنا؟ رفرف بأهدابه عدة مرات حتى تأكد أنها هي؛ لذا أغلق الدفتر ووقف يُهندم ثيابه ثم خرج من مكتبهِ بثباتٍ، أراد أن تثير استفزازه كما تفعل، أراد أن يرد عليها بنفس المعاملة التي عاملته بها في بيتها، كان يرتدي قميصًا باللون الزيتي والبنطال باللون البُني والحذاء الرياضي باللون الأبيض.
كان وسيمًا في ملابسه العصرية وقصد المرور من جوار طاولتها حتى شهقت هي بدهشةٍ وانتبهت صديقاتها إلى فعلها، أما هو فرغمًا عنه ضحك على ملامحها خاصةً حينما خطفت قائمة المشروبات تخفي بها وجهها حتى لا يتعرف عليها، فرفع حينها حاجبيه بغير تصديق ولازالت ملامحه منبسطة وكأنها تضحك بسعادةٍ لم يفهمها هو، وحينما رفعت عينيها من فوق القائمة تراقبه ووجدته كما هو يقف محله حينها شهقت وأخفضت رأسها من جديد فسألتها واحدة من إحدى الفتيات بتعجبٍ:
_أنتِ عبيطة يا “ضُـحى” ؟ مستخبية من مين؟ مش قولتي المكان هنا حلو والصور فيه حلوة علشان عيد ميلاد “مُـنى” ؟؟ مكسوفة أنتِ ولا إيه حكايتك؟.
أشارت عليه وهي تقول بنبرةٍ خافتة:
_الواد اللي واقف هناك دا، متبصوش.
في ثانية حركت الفتيات رأسهن نحوه حتى ضربت هي فوق رأسه من غبائهن، فلاحظ هو حركة الفتيات لذا سحب مقعدًا يجلس عليه بالقرب منهن حتى قالت هي بهمسٍ حانقٍ توبخهن:
_انتوا اغبيا ليه؟ دا صاحب “يـوسف” ابن خالي، ولقيته هنا متصور مع “يـوسف” والصور كلها حلوة أوي، والهانم عاوزة تغيظ الاكس، محدش بقى ينطق شكله مقيم هنا.
أشار هو لأحد العمال بالمكانِ وما إن أقترب منه أشار له على طاولتهن حتى أقترب الشاب وهو يقول بأدبٍ:
_مساء الخير يا آنسات تؤمروا بإيه؟.
نظرت الفتيات لبعضهن بحيرةٍ جعلت “إسـماعيل” يقترب منهن يقول بنبرةٍ هادئة من وجهه المبتسم:
_مساء الخير، مع حضراتكم “إسـماعيل الموجي” مدير المكان هنا اللي هو في الأصل بتاع أخويا و “يـوسف” مع بعض، والآنسة “ضُـحى” صاحبة المكان هنا، يعني أي حاجة عاوزينها على حسابها هي.
حركت رأسها نحوه بعينين ضيقت هي جفونهما تنذره بتوعدٍ له بخلاف دهشتها من امتلاك أخيها للمكانِ فيما عَدل هو حديثه بقولهِ:
_اقصد يعني الحساب على المكان، تحت أمركم نورتوا، عندنا هنا مشاريب مطرقعة ومشاريب مجنونة وهتلاقوا كمان مشروبات سَمجة أوي، عن إذنكم.
عاد لمكتبهِ من جديد فيما زفرت هي بقوةٍ وضحكت الفتيات عليها حتى قالت هي بضجرٍ بعد رحيله:
_طب والله لو كنت أعرف أنه المدير كنت خليت “يوسف” رماه من هنا، بلا وكسة عليا مش لما أعرف إن “يـوسف” صاحب المكان الأول؟.
عدلت حديثها بسخطٍ على الوضع حتى ضحكت عليها الفتيات فيما دلف مكتبه يشعر بغمرة الانتشاء والانتصار معًا، لا يدري السبب ولا يهمه من الأساس أن يعلمه، يكفيه أن وجدها هُنا دون أن يعلم السبب لذا عاد لمقعده وفتح الشاشة من جديد فوجدها مع الفتيات تقوم بالتقاط الصور لهن حتى وصلت أطباق الحلويات الفاخرة أمامهن فقامت هي بإخراج الأرقام من حقيبتها تضعهما في قالب الحلوى الخاص برفيقتها.
يبدو أنها تعشق الصور والنزهات وتحب الحلويات كثيرًا وكذلك تفضل ارتداء الأحذية الرياضية كثيرًا، تعشق التجارب والمغامرات، تحب دومًا وجود الصديقات معها، ممتازة في عملها، كل هذه التفاصيل أصبح يعرفها من تتبعه لها، برعت في إثارة فضوله تجاهها ثم تعود وتتصنع البراءة وكأنها لم تفعل شيئًا، إحساسه تجاهه لم يخطر ببالهِ قط، أراد أن تمد كفها له تسحبه داخل عالمها، أراد أن يكون شريكًا في هذه الحياة، فتح هاتفه يكتب عبر الفيسبوك واصفًا حاله معها:
_” قد يسير الطير بدون مقصدٍ،
لكن كل الطُرقات ترشده في نهاية الأمر إلى موطنه”.
كتبها وهو لا يعلم حتى من منهما يأتي للأخر، هل ستستمر علاقته بها عبر شاشة هاتفه فقط يسير مُنصاعًا خلف فضوله لها أم سيأتي اليوم الذي تكون معه؟ أو لربما ستختفي من عالمه حينما تعلم حقيقته وحقيقة أسراره التي لم يملك هو الجرأة لكي يخبرها عنه أو بما يحدث له، حينها تبددت راحته واتضح عليه الخوف، حتى وإن كان متعطشًا للمياه فلن يقدر على أخذ المياه منها، يبدو كخيلٍ تركوه في ميدان الركض لكي يسبق البقية وما إن ركض وكاد أن يصل وجد قدمه مُكبلة بلجامٍ من حديدٍ يمنعه من أخذ باقي الخطوات، لذا أغلق هاتفه ووضعه في جيبه ونظر للشاشةِ مرةٍ أخرى يتابعها بعينيه ثم أغلقها تمامًا.
هذا الذي يخشى نفسه كيف سيأمن لها؟
كيف يخبرها بحقيقته دون أن يشعر بالخوف؟ من المؤكد مثلها لن تحتاج لمثلهِ، قد يكون عبئًا عليها في بعض الليالي، وقد تتعرض معه لخطوراتٍ كثيرة، لذا يتوجب على كلٍ منهما أن يبقى بداخل أرضه ولا يعبر للأخر.
__________________________________
<“المكان الجديد اليأس عنه بعيد”>
ذهب النهار بعيدًا وبدأ الليل في الإعلان عن نفسهِ، لحينها لم يفرغ البيت من الزائرين، لازال البيت يستقبل النساء المقربين والرجال والشباب لتقديم المباركة للعروسين، حينها كانت “نِـهال” ترحب بهم بقدر ما حاولت أن تندمج وسطهم، كانت تراقب نظراتهم نحوها لتفهم طريقة التفكير التي يفكرون بها تجاهها، كانت تخشى النظرة القاتلة التي يُلقيها المجتمع على إمرأةٍ مثلها، تخشى نظرتهم لها كونها مُطلقة تزوجت للمرةِ الثانية والد طالبها المفضل، بالطبع ستكون النظرة مُزدرية إذا كانت هذه هي نقطة الأصل في نظرة المجتمع العقيم.
كان “أيـهم” يفهم طريقة تفكيرها وهي تجلس أمام الضيوف تفرك كفيها معًا وقد تحدثت “تـريز” والدة رفيقه بقولها بنبرةٍ ضاحكة:
_ياختي أضحكي كدا وفرفشي أنتِ مكسوفة يا عروسة؟ بكرة تاخدي علينا كلنا كدا ونقعد شلة واحدة مع بعض محدش يقدر يقف قصادنا غير الواد “أيـوب”، بصراحة علشان دا مربينا كلنا.
ابتسمت لها “نـهال” وهي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول بها إخفاء توترها:
_لأ عادي أنا بس علشان لسه بتعرف على حضراتكم، بس إن شاء الله يعني أكون خفيفة وسطكم ومحدش يتضايق مني.
دلف لها “إيـاد” ركضًا من الخارج يجلس بجوارها ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
_محدش بيتضايق منك خالص، عارفة كمان ؟؟ هما لو مش بيحبوكي مش هييجوا يقعدوا هنا، بس متمشيش خالص وهما هيحبوكي كلهم وبابا كمان، وجدو وكلنا.
رفعت كفها تمسح على رأسهِ وهي تقول بنبرةٍ متأثرة بحديث الصغير:
_مش هامشي خالص طالما كلهم هيحبوني، بس أنتَ كمان حبني أوي أوي وأنا مش هتحرك غير بيك، بس لسه فيه مذاكرة ودروس سيبك من الدلع دا، واخد بالك.
نظر لوالده بعينيه المُبتسمتين ثم أعاد بصره يستقر على وجهها من جديد وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_موافق، طالما أنتِ اللي هتذاكريلي.
تعلق الصغير بها بدا ملحوظًا لهم جميعًا، يود أن تبقى هنا كما لم تفعل والدته ويود أن يعيش معها كل اللحظات كما حرمته والدته، تلك الغبية التي تخلت عنه وعن احتضانهِ، حتى أنه كان يتعمد الظهور أمامها في بعض الأحيانِ لكي يرى رد فعلها لكنها كانت دومًا تتجاهله عن قصدٍ خشيةً على الأموالِ.
لاحظ “أيـهم” شروده بعينين لامعتين فسأله بتعجبٍ من صمته المفاجيء وشروده في وادٍ غير واديهم:
_سرحت في إيه ؟ في حاجة مزعلاك؟.
هز رأسه نفيًا وابتسم رغمًا عنه ثم حرك جسده يجلس بين والده و “نِـهال” لتكتمل الصورة الناقصة بعقلهِ دومًا، وما إن جاورهما رفع رأسه للأعلى يبتسم من جديد وهو يمتن للخالق بقلبهِ، هذا الصغير الذي لازال في التاسعة من عمرهِ دومًا يفهم ضرورة امتنانه لربهِ على لطفهِ به حتى تدوم النِعم طويلًا.
في مكانٍ أخر بحارة “العطار” كانت “أماني” تجلس في شرفة الشقة تضع كفها أسفل ذقنها وهي تهز جسدها بتشنجٍ واضحٍ بعد حديث أخيها الذي أخبره به “بيشوي” وعن ضرورة ابتعادها عن حياة الصغير، الآن فقط أدركت معنى أن يذهب كل شيءٍ من يدها، كيف استطاع أن يتزوج أخرى غيرها بعدما كان يخبرها دومًا بحبهِ؟ ظنت أن رحيلها سيكون الضربة القاسية له حتى ينفذ لها كل أوامرها، لكنها تفاجئت به يفلت كفيه من الإمساك بها.
لاحظت والدتها حالتها فاقتربت منها تنطق بتهكمٍ وهي تقوم بسرد حبات الخضروات من الصحن المعدني الكبير الذي تمسكه في يديها:
_قولتلك متروحيش، هتركبي نفسك الغلط واحنا مش قدهم، أهو حطوكي في وش المدفع، معرفش أنتِ وش فقر ليه؟ حد كان طايل عيشتك؟؟ دا إحنا في كل مكان لو حد كان سأل وعرف إننا تبعهم كان بيتضرب لينا تعظيم سلام، الناس كانت بتقوم لينا حتى ولو على رجل واحدة تقف علشاننا، منك لله يا بنت بطني.
صرخت “أمـاني” فيها بنبرةٍ عالية وهي تقول:
_ياما كفاية بالله عليكِ بقى، وهو يعني عيشتي هناك دي كانت عيشة؟ دول كانوا مطلعين عين أهلي كلهم، صاحبتك دي متجيش هنا علشان معرفش إيه، متروحيش بيت فلانة علشان مش شبهنا، داري شعرك علشان سي زفت بيضايق، وسعي لبسك في الجنينة علشان محدش يتكلم، “آيات” هتتخطب اعملي وسوي، وفي الأخر اسمي برضه ساكنة في الحارة، كل اللي عندهم دا واستخسر فيا شقة في حتة نضيفة زي بقية الخلق اللي عايشين وبنشوفهم، اومال لو مش معاه بقى؟ دول عندهم بيوت في كل حتة، وأخوه اللي عاملي فيها الشعراوي دا، يفضل يسخنه عليا، خنقوني ياما.
خرج شقيقها من المرحاض يمسح رأسهِ بالمنشفة وهتف بنبرةٍ عالية ردًا عليها:
_أهو أنتِ زي اللي رمى ابنه في الطوفان، ياختي اتوكسي، هو حد كان مهتم بيكِ جوة؟؟ دي “وداد” كلمتها هناك مسموعة عنك، أهو الواد ابنك رزعك نفس الكف، دلوقتي بقى دورك تشوفي حالك أختي، آه الفلوس هتطير، روحي شوفيلك محل كدا وابدأي مشروعك، وسيبك من سيرتهم بقى، خلاص مالكيش محتوى غيرهم؟؟.
نظرت له بقهرٍ وهي تقول بنبرةٍ أعربت عن غِلها المدفون أسفل رُكام قلبها الأسود الذي نشأ على الطمع والكذب والحيل وكأنه لم يرْ أي صفاءٍ قط:
_قاهرني، يرميلي أنا كام ملطوش ويجيب الهانم الجديدة دي يهننها في البيت وتاخد ابني على الجاهز، بس على مين ؟ والله ما هسكت ولا هسيبها ترتاح هي ولا هو، يتجوز بعدي أنا !! دا كلم طوب الأرض علشان يتجوزني.
ابتسم شقيقها بسخريةٍ على حديثها ثم خطف من أمام والدته ثمرة طماطم وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة بها توارى التهكم على حال شقيقته:
_على رأي المثل، يوم ما قفاه شبع ضرب وخلاص استوى، راح واخد اللي معلمين عليه محتوى.
ضحكت والدته رغمًا عنها فيما أمسكت “أماني” حقيبة المشابك البلاستيكية ثم ألقتها عليه بسبب غيظها منه وتشفيه بيها، ألم يكن هذا الغبي معاونًا لها ؟ ألم يكن هو من أول الأسباب التي دفعتها لترك بيت “العطار” والقدوم إلى هنا حتى تعلم هذه العائلة قيمتها ؟ مهلًا ستخرج كيد النساء وتستعيد ابنها والأموال، لن تقبل بخسارة أي شيءٍ كان لها مملوكًا.
_________________________________
<“أيا نورٍ كان يملأ طريقي، لما رحلت عني؟”>
توقفت سيارة “سـراج” أمام بيت “عـادل” بعدما عاد من موعدهم مع الطبيب، جلست “نـور” في الخلف بجوار “جـودي” وبجواره جلس “عـادل” الذي قال بنبرةٍ هادئة يعبر عن الإمتنان له بقولهِ:
_ألف شكر يا “سـراج” معلش تعبتك معايا، بس”نـور” مكانتش هتقدر لوحدها، أهو الدكتور طمننا خلاص الحمد لله، أظن كدا تشوف حالك بقى وسامحنا على التعطيل.
تحدث “سـراج” بودٍ له يرفع عنه الحرج:
_متقولش كدا يا عمي، أنا زي ابنك برضه، على العموم أنا موجود والآشعة بتاعة الأسبوع الجاي أنا هاجي معاك نشوفها ونعملها، تحت أمرك في أي وقت.
بعد مرور دقائق نزل من السيارة بمفردهِ وجاورته “نـور” التي تعمدت الهرب من النظر إلى “سـراج” الذي تجاهلها هو الأخر منذ علمه بضرورة سفرها من جديد، أي قساوة هذه ؟ ألن ترفق به وترأف بحالهِ؟ هل سيظل في نظرها مُجرمًا هكذا ؟ الجميع أقسموا بصلاح حالهِ وهي لازالت تغضب منه؟.
جلس “عـادل” على مقعده في الحديقة بيتهِ وقد جاورته “نـور” تحاول البدء معه في التحدث وما إن قامت ببرمجة الحديث في طرف لسانها سحبت نفسًا عميقًا وهتفت بترددٍ:
_بابا…أنا هسافر بعد أسبوع أو ١٠ أيام كدا.
صُعِقَ هو من حديثها وبُهِتَتْ ملامحهُ نتيجةً لخيبة الأمل التي تلحقها هي بهِ، بعدما فرح بعودتها إلى هنا وبعدما رأى الخير في ابتلاءه بالمرض وهو رؤية فلذة كبده، الآن يفيق على صفعة أقوى من ألم مرضه، فوجدها تضيف بلهفةٍ:
_بس صدقني مش هغيب زي المرة اللي فاتت، المرة دي شوية وهرجع والله…بابا أنتَ مش هترد عليا ؟ طب قولي أي حاجة.
ابتسم بوجعٍ ولمعت العبرات في مُقلتيهِ حينما تثبتت أنظاره عليها، رأى الوجع في عينيها هي الأخرى لذا سألها بنبرةٍ مبحوحة:
_ليه يا “نـور”؟ ليه مصممة تتعبيني؟ يا بنتي دا أنا ما صدقت الدنيا ضحكتلي شوية برجوعك تاني ليا، قولت الخير اللي في تعبي هو إنك تكوني معايا، دا أنا بقيت عاوز أخف وبقيت بعاند تعبي علشانك، ليه يا “نـور” ؟.
مسحت دموعها بأطراف بنانها وقالت بنبرةٍ مُحشرجة بعدما خيم البكاء على حنجرتها واستوطنت الغِصة في حلقها:
_يا بابا والله هاجي تاني، أنا أتطمنت عليك أهو.
ابتسم بوجعٍ وهتف يسخر منها لكن بسخريةٍ لاذعة:
_هتيجي ؟؟ إمتى يا “نـور”؟ المرة اللي فاتت جيتي بعدما لحقوني وأنا بيني وبين الموت شعرة واحدة، المرة الجاية هتيجي تلحقي الخشبة وهي خارجة من البيت؟ ولا هتيجي وأنا بدخل قبري؟ ولا قصدك على الذِكرى السنوية يعني؟.
بكت من قسوة سخريته عليها ومن عدم قدرته على فهم هروبها من المكان، كيف غفل عن وجعها الذي يحيا كلما ذُكِر اسمه أمامها من جديد؟ سألها والدها بتعجبٍ من نحيبها وهي تبكي بقهرٍ مؤلم له قبلها هي نفسها:
_يا بنتي بتعيطي ليه؟ لو مش عاوزة خليكِ، ولو عاوزة امشي يا “نـور” محدش هيجبرك على حاجة، المهم تكوني مرتاحة.
ردت عليه بنبرةٍ مبحوحة من البكاء لكن حديثها كان موجعًا وهي تخبره بألمها الذي لم ينفك عنها:
_علشان تعبت وهو قدامي، مش عارفة أعيش وهو هنا ومحاوطني في كل مكان، لا أنا قادرة اتخطتاه وأعيش ولا هاين عليا أنساه وأكمل، ولا قادرة أنسى عملته وإني هونت عليه، إزاي أتقبل أنه راح يضحي بصاحبه وإزاي أقبل أنه ضرب باللي بينا عرض الحيطة وراح يطلع آثار، أنا تعبت وهو مش فاهم حاجة زي دي، وجوده قصادي بيأذيني، بيفكرني بأحلامي اللي ملحقتش أحققها، بيفكرني بالبيت والفستان الأبيض وبحياتي اللي كنت بعد ليها بالساعة، وجوده تاعبني والله.
ضمها “عـادل” بين ذراعيه يسألها بنبرةٍ حزينة لأجل حزنها هي الأخرى:
_طب ولما هو أنتِ مش قادرة تنسي اللي عمله وخلاص قافلة نفسك من ناحيته، زعلانة ليه؟ إيه اللي مخليه فارق معاكي؟.
هتفت ببكاءٍ تُشفق على حال قلبها:
_علشان لسه بحبه يا بابا، لسه معشمة نفسي أني أقدر، مش قادرة أنساه ولا هقدر أنساه، بحبه وحبه وجعني أوي، حتى الوعد اللي كان بينا مقدرش يصونه، قولتله أنا راضية بيك بس وعد إنك تتغير علشاني، وحتة دي ضحك عليا فيها.
ربت والدها على ظهرها يقوم بتهدئة تشنجاتها وهي تتشبث به باكيةً، فيما وقف “سـراج” بأرض حديقته مدهوشًا من حديثها الذي استمع إليه بالكامل، لم يصدق ما عبر لسمعهِ، أراد أن يدخل لها ويخبرها بكل شيءٍ، أراد أن يخبرها أنه فعل ما فعله فقط لأجل حمايتها، أراد أن يُلقي نفسه بالنيران فقط حتى لا تمسها هذه النيران، لكنه لم يتخيل أن النيران التي ألقى نفسه بها حتى تقوم بتدفئتها انطفأت فقط بكومة من الرمال، ليصبح هو كما رُكام الحريق، والآن فقط عليه أن يتركها ترحل، لذا التفت عائدًا إلى بيتهِ تاركًا إياها للأبد، هو صنع هذا بيديه وعليه أن يرى تبعيات فعله.
__________________________________
<“لولا وجود من أحببنا ما كنا حيينا”>
قيل في السابق نصف المحبة آمان والنصف الأخر ونس، وبما إنك وجدت الونس فعليك بتوفير الأمان لونيسك، وهذا ما فعله “أيـوب” قرر أن يستمر اليوم بأكملهِ معها بعدما تغاضى عن الرسالة التي تسببت في تغيير حاله، لكنه تيقن أن الأمر بأكملهِ بيد الخالق فعليه أن يتوكل عليه، لذا استمر في نزهته بزوجته في شارع “المُعز لدين الله الفاطمي” وخاصةً مع قدوم الليل، اتضحت الإضاءات المختلفة وزاد عدد البشر، كانت هي تشعر بالسعادة وخاصةً حينما يلتقط هو لها الصور بنفسهِ، وكلما مرت على شيءٍ لم تفهمه يخبرها هو بتاريخه كاملًا.
رأت المكان للمرةِ الأولى بعينيه هو، كل التفاصيل التي كانت تغفل هي عنها، أخذها وتوجه بها إلى واحدٍ من المطاعم المصرية الشهيرة واجلسها بداخل المكان بعدما رأت بنفسها الترحيب به من أصحاب المكان، وحينها سألته بتعجبٍ:
_حتى دول عارفينك هما كمان؟.
أشار لها حتى أقتربت منه وما إن امتثلت هي لحركته وجدته يحدثها بنبرةٍ خافتة قائلًا:
_بيني وبينك، كل مرة باجي هنا فيها بتصل بـ “أيـهم” وهو بييجي هنا ناكل مع بعض ونظبط حالنا ونرجع تاني لا من شاف ولا من دِري، بس بناخد ليهم معانا في البيت، محدش يعرف بقى، خليه في سرك.
هزت رأسها موافقةً عدة مرات بينما أقترب منهما العامل بالمكانِ يضع الطعام المشوي لهما سويًا حتى طالعته هي بخجلٍ وقبل أن تتحدث أوقفها هو حينما قال بسخريةٍ:
_متقوليش مش جعانة، كدابة، أنا حاسس بيكِ والله، كلي يلا وهاجيب ليهم وأنا مروح متقلقيش، يلا دي أول مرة ناكل مع بعض فيها ويا رب “يـوسف” ميخليهاش الأخيرة.
بدأت تشاركه تناول الطعام بسعادةٍ طفقت تُعلن عن نفسها في ملامح وجهها وكذلك هو أيضًا ابتسم لها ثم أطعمها بيده، للحق نسى ما يقلقه وما يحزنه وكأنه حينما أرسل الأمان لها، قامت هي برد السعادة له من جديد من خلال ضحكتها ومشاركتها له في يومه، ناهيك عن المشتريات التي قام بجلبها لها كذكرى من كل مكانٍ هناك.
في مكانٍ أخرٍ كانت “عـهد” تركب السيارات المتصادمة بعدما خرج الكلام منها تلقائيًا أنها تحب هذه اللُعبة كثيرًا، وكان “يـوسف” يقف في خارج الإطار المعدني يراقبها وهي بداخل السيارة تستعد لقيادتها بعدما تركها بمفردها تخوض هذه التجربة، بدأت اللعبة من خلال شرارات الكهرباء التي ظهرت بينما هي يبدو أنها نست كيف تتعامل معها، حاولت عدة مرات قيادتها لكنها فشلت حتى أقترب العامل يجلس على طرف سيارتها يقودها لها مما جعلها تشعر بالقلق من جلوسه بهذه الطريقة بدون خجلٍ وقد اتضح عليها الخجل والتوتر معًا، رأى “يـوسف” حركة الشاب فاندفع بغيرةٍ واضحة ثم هتف بنبرةٍ جامدة يوقف الشاب بقوله:
_شكرًا يا ريس، اتفضل أنا هسوق.
نظر له الشاب بتعجبٍ وسأله بسخريةٍ:
_أنتَ إيه اللي دخلك هنا ؟! فين تذكرتك؟.
رفع “يـوسف” حاجبيه ثم أمسك ذراع الشاب يبعده عن زوجتهِ وقال بنبرةٍ هادئة تشبه هدوء ما قبل العاصفة:
_روح بس كدا قول لصاحب المكان “يـوسف” صاحبك دخل من غير تذكرة، وأبقى وريني بقى هتدخل المكان هنا تاني إزاي ؟! رَيح بقى بدل ما أريحك أنا.
دفع الشاب الذي سكت حينما اتضح له أنه فهم مقصد حركته بينما “يـوسف” جلس بجوارها ثم بدأ في قيادة السيارة حتى سألته هي بنبرةٍ ضاحكة:
_أنا قولت أنتَ هتاكله، خضتني أنا ذات نفسي.
رد عليها بنبرةٍ جامدة بعدما انتبه لنظرة الشاب:
_لو بيشوف شغله عادي أنا معنديش مشكلة، لكن دا قليل الأدب وبيتلكك وأنا راجل زيه وفهمته، علشان كدا لو كان كتر كنت موته بجد، يلا كله علشان خاطرك.
زاحمت البسمة الخجولة بسمتها الأخرى وهي تجلس بجواره يقود السيارة بها بمهارةٍ كبرى وكأنه قضى حياته في هذه اللعبة وهو يفلت من كل الصدمات التي كادت أن تصيب سيارته، وبعد مرور دقائق خرجت من السيارة وهو معها يسيرا مع بعضهما حتى سألته هي بنبرةٍ ضاحكة:
_كل الكاريزما دي والغموض والسكوت تطلع في الأخر بتحب الملاهي؟ بصراحة متوقعتهاش دي منك، كدا كدا أنا عمري ما توقعت منك أي حاجة أصلًا، كل شيء معاك مُتاح.
انتبه له وحرك رأسه نحوها يسألها بنبرةٍ رخيمة يستفسر منها عن حالها بعد هذه التجارب:
_المهم حالتك دلوقتي إيه ؟ أحسن صح؟.
سحبت نفسًا عميقًا وقالت بصوتٍ سكنته السعادة بعدما أخرجت الطاقة السلبية منها على هيئة صراخات وضحكات:
_بصراحة أوي، ومبسوطة أوي، اليوم كله رغم أنه غريب بس حلو مش هنكر يعني، شكلي هصرف الفلوس اللي معايا بتاعتك دي على الملاهي، مالكش حاجة عندي بقى.
ضحك بخفةٍ ثم استاذن منها بقولهِ:
_خليكِ هنا ثواني هجيلك.
انسحب من أمامها فجأةً مما جعلها تقف بحيرةٍ تضم ذراعيها معًا وهي تنظر للمكانِ حولها بوجهِ مبتسمٍ حتى وقع بصرها من جديد على “شـهد” التي جلست على أحد المقاعد بجوار زوجها، التقت نظرات الاثنتين معًا واتضح الحزن على ملامح “شـهد” وهي تطالع “عـهد” التي لم تفهم حتى الآن من هؤلاء، ومع شرودها فيها ظهر “يـوسف” يقدم لها غزل البنات كبيرة الحجم على هيئة زهرة كبيرة الحجم امتزجت بعدة ألوانٍ مع بعضها.
حركت عينيها نحوه ثم أخفضتها للأسفل تطالع الحلوى حتى ابتسمت من جديد وأخذتها منه وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما شكرته بنظراتها:
_على فكرة أنا بحبها أوي، تسلم إيدك.
حرك رأسه موافقًا وأشار لها نحو المقاعد حتى تقترب منها تجلس عليها، لكنها لاحظت جلوس بعض الأشخاص على الأرض الخضراء، فسألته بترددٍ:
_ينفع نقعد هناك أحسن؟ وسط الزرع، إيه رأيك؟.
وافق على مطلبها فورًا بدون جدالٍ أو حتى مناقشة بدل وجهته لكي تجلس محل ما تشعر هي بالراحةِ، وما إن وصلا إلى الأرض الخضراء جلست هي أولًا وجلس هو بجوارها ثم قال ردًا على حديثها قبل أن يتركها لشراء الحلوى:
_على فكرة الفلوس اللي معاكِ دي أنا مش هاخدها تاني، دي فلوسك أنتِ وأختك وحقك وحق مامتك، أنا قولتلك كدا بس علشان ساعتها أكيد كنتي تايهة، بس فكرة أني اخدهم تاني مش هتحصل.
تبدلت ملامحها وسألته باستنكارٍ لما يتحدث به:
_إزاي يعني ؟؟ طب والشقة ماهي كدا بتاعتنا؟.
حرك رأسه موافقًا وأضاف مؤكدًا صدق حديثها:
_أيوة، الشقة بتاعتك والفلوس بتاعتك، وأنا عارف كدا، إيه الجديد اللي بتقوليه بقى يا “عـهد” ؟ ليه محسساني أني غريب عنكم ومعرفش اللي فيها !.
زفرت بقوةٍ ثم هتفت بنبرةٍ أتضح بها الضيق:
_فيه إن كدا أنتَ خسرت فلوسك، يعني الشقة رجعتلي بس الفلوس دي دين في رقبتي، وهردها لما ننفـ
قبل أن تكمل حديثها بتره هو بقولهِ بنبرةٍ قوية وكأنه فهم ما ستخبره عنه:
_مش هيحصل، أي حاجة من دي مش هتحصل، لو على الشقة فهي بيت والدك ورجعلك محدش ضامن الأيام، ولو على الفلوس شيليها لأختك في بنك علشان تكبر تلاقي حاجة ليها باسمها، أما بقى نصيبك، جهزي نفسك بيه، علشان مش هقبل بتلاجة أقل من تلاجة بيت الحج “نَـعيم”.
ضحكت رغمًا عنها من سخريته ومزاحه وضحك هو الأخر بيأسٍ من هذه الغريبة التي تصر دومًا على إخراج الكثيرين منه حتى أنه أصبح أمام نفسه عن نفسه غريبًا، فيما لم تقو على إحجام فضولها، لذا باغتته بسؤالها الغير متوقع أو لربما توقعه في باديء الأمر:
_هما مين اللي إحنا قابلناهم دول ؟ البنت دي تعرفك؟.
سحب نفسًا عميقًا ثم هتف بصراحةٍ تعهدها هي منه منذ أن اجتمعت طرقاتهما سويًا:
_آه، ومش بس كدا، كنت المفروض هتجوزها كمان، وروحت اتقدمت ليها بس هي اختارت اللي معاه، واللي معاه كان “نـادر” بس، أما اللي معاها دا فدا “نـادر” ابن عمتي، وأنا “يـوسف” الغريب اللي عمره ما كان ليه حد وسطهم، وعلى فكرة أنا محبيتهاش، أنا زيي زي أي واحد اتشديت ليها، كانت حاجة جديدة لواحد زيي بظروفه ملهوش حد، وعلى فكرة جت معايا هنا قبل كدا.
زاغ بصرها وشعرت بالضيق من حديثه، فلكل شيءٍ حد يجب أن يتوقف عنده، أما هو فصدمها بقدر صراحته، صدمة جديدة يُصيبها بها لكنها لم تنكر صدقه المرئي في نظراتهِ، أرادت أن تسمعه من جديد فوجدته يقول بقلة حيلة:
_دا مكاني المفضل وبصراحة أنا كنت بحبه أوي وكنت فاكر إنها هتكون شريكة في الذكريات دي، بس بعد اللي حصل أنا قولت والله ما هاجي تاني ولا حتى هفكر اشارك حد في حاجة تخصني، بس كل دا طلع بلح، طلعت كداب.
حركت رأسها باستفسارٍ تسأله عن مقصد حديثه فوجدته يضيف مُفسرًا بعدما حرك رأسه يطالع عينيها:
_علشان لما قولتلك شكله وقع فيكِ، أنا كنت متأكد أنه وقع فيكِ بجد يا “عـهد” كنت واثق إنك زي ما كنتي سبب أخون علشانه العهد، هتكوني سبب يخليني أرجع في كل قرار كنت واخده على نفسي، أولهم أني أجي هنا تاني، أنا جيت هنا علشانك أنتِ، وعندي استعداد أعمل أي حاجة تانية علشانك أنتِ، بس قدام دا عاوز منك جملة واحدة، أنتِ حتى من غير ما تعرفي عني أي حاجة تقبلي تكملي معايا؟ ولا لسه مصممة إن أول ما الدنيا تتعدل بينا تمشي؟.
أغمضت جفونها لبرهةٍ ثم فتحتهم بتروٍ وقالت بنبرةٍ رغم تيهها إلا أنها كانت صادقة وهي تجاوبه بقولها:
_صحيح أنا معرفش عنك حاجة، بس متأكدة إنها كانت حاجات صعبة، بدليل بعدك عن مامتك وأختك، أخاف ألومك على ماضيك أبقى قلبي وحش، وأخاف أقولك ماشي تطلع لسه متعلق بحاجة فيه وأنا بس محطة وقفت ترتاح فيها.
كانت تشير خلف كلماتها على “شـهد” تحديدًا بينما هو فهم مقصدها وهتف بنبرةٍ أظهرت لهفته في تصحيح صورته وهو يقول:
_بس أنتِ مش محطة هقف فيها أرتاح من اللي فات عليا، طالما وقفت عندك يبقى ناوي أكمل الطريق بيكِ، بصي ؟؟ فيه حاجات لسه كتير جوايا أنا ممكن أجاوبك على كل سؤال، بس الأول أنتِ هتكملي معايا الطريق ؟.
توترت وتخبطت أمامه لكنها لم تنكر مشاعرها نحوه، فمجرد غيابه عنها لعدة أيام جعلتها تتوتر وسارت الخيالات برأسها وساءت ظنونها لذا حركت رأسها موافقةً وهتفت بنبرةٍ خافتة:
_هكمل يا “يـوسف” بس تقولي كنت فين من كام يوم.
ابتسم لها ثم مد كفه لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما ظهرت الطمأنينة على ملامحهِ:
_دي بقى تيجي تشوفيها بنفسك، تعالي يا “عـسولة”.
أمسكت كفه بعدما انفرجت شفتاها عن بعضهما بضحكةٍ خافتة ثم وقفت بجوارهِ بينما هو قبض على كفها وهي تسير معه مرةٍ أخرى يستأنفا اكتشافهما للمكانِ من جديد، وغالبًا دار بها المكان بأكملهِ دون أن يشعر بالمللِ أو حتى بالضيق أما هي فلم تفهم سبب صمتها عن حديثه وانصياعها خلف قلبها بالرغم أن العقل طلب منها التريث حتى لو قليلًا، لكنها الآن تحيا من جديد معه، وتسرق من الزمان الفرح الذي كادت أن تنساه.
__________________________________
<“لم يكونوا أطفالًا بل كانوا ألعابًا لنا”>
الموعد أُرسِلَ له وتم الوصول إليهِ بقيادةٍ متهورة، كان هو ينتظر الرسالة على أحر من الجَمرِ، وما إن وصلت له بالموعد حينها خرج من البيتِ مهرولًا مثل المجنون الذي فقد عقله فقط لأجل ابنه والخوف عليه، كان الموعد مع حلول الليل قبل قدوم منتصفه في أرضٍ فضاءٍ بمنقطةٍ قرب الأهرامات تحديدًا قبل منطقة نزلة السمان.
أوقف “سـامي” سيارته بها ينتظر مُراسله الذي تعمد أن يتركه في الانتظار كعادتهِ، أراد أن يختبر مدى صبرهِ وقدرته على التحمل، بينما الأخر جلس في سيارتهِ ينتظر قدوم الأخر.
في مكانٍ أخرٍ بالقرب من المكان الذي وقف به “سـامي” كان “مُـنذر” في الشقة التي استأجرها للجلوس فيها عند حاجته إليها وقد حضر “ماكسيم” إليهِ يتمم معه ما يتوجب عليهما فعلهِ، وقد سأله باهتمامٍ:
_المهم عملت اللي قولت عليه بخصوص “أيـوب”؟.
حرك رأسه موافقًا وسأله بتعجبٍ:
_قولي دا أنتَ عاوز منه إيه؟ مش شايف أنه ليه لازمة أصلًا، يعني لاهو ليه علاقة بأهل السمان زي الشباب، ولا هو زي “إسـماعيل” ولا هو بنفس طريقتهم، يعني واحد خام أوي ومفيش منه مصلحة.
ابتسم “ماكسيم” له بسخريةٍ وقال مُعلقًا بنبرةٍ ضاحكة:
_دا كلام الناس اللي مش دارسة الموضوع كويس، “أيـوب” دا كنز كبير أوي، عارف أنتَ الفرخة اللي بتجيب دهب؟ هو دا، اللي جاي كله ممكن يكون واقف على واحد زي “أيـوب” لا هو طماع ولا هو كداب ومش بس كدا، دايمًا نيته خير، يعني شخص فيه كل الشروط، شروط إيه بقى؟ هقولك اقرأ التاريخ كويس علشان تعرف، المهم أنا نازل دلوقتي، ركز على “سـراج” و “إسـماعيل” أنا محتاج دول حاليًا.
حرك رأسه موافقًا فيما تركه “ماكسيم” ورحل من الشقة لكي يتجه إلى أول رفيقٍ في سوق الآثار المُهربة، ذلك الذي عاونهم كثيرًا من خلال عمله وسكنه، اليوم يكتب لهما الموعد من جديد لكي تعود أبواب الماضي فتحها في أوجه الجميع كما لو أنها أبواب الجحيم، وصل “ماكسيم” إلى هناك في وقتٍ قياسيٍ وما إن ظهر في الأرض الفارغة نزل “سـامي” من سيارته وقال بتهكمٍ:
_أنا قولت برضه شغل السقا وإنتاج السبكي دا ييجي منك أنتَ، لسه عايش؟ دا أنا قولت زمانك ولى خلاص.
ابتسم “ماكسيم” له ووضع كفيه في كلا جيبي بنطالهِ وهو يرد ببرودٍ وكأن الحديث لم يؤثر بهِ:
_لأ خلاص إيه، دا أنا جاي أقوم الدنيا على بعضها، وأنتَ أولهم بصراحة، عملت كتير أوي أوي، قولي كدا يا “سـامي” فين الواد ابن “نَـعيم” ؟؟ أكيد متقتلش صح؟.
ضحك “سـامي” له وهو يقول بسخريةٍ:
_يعيني على عشم ابليس في الجنة، الواد الله يصبر أبوه راح يعيني، عمه الواطي خاف يرجعه لأبوه وفكر يروح يرميه في ملجأ بس للأسف ملحقش، أصحاب البيت حضروا ودبحوه، هكدب عليك يعني؟.
حرك رأسه نفيًا بطريقةٍ درامية تمثيلية بوضوحٍ ثم هتف يسأله بسخريةٍ:
_لولا إني عارف إن “نـادر” ابنك كان زماني قولت إن هو، بس الغريب بقى الواد راح فين رغم إني عارف إن عيلة أصحاب البيت راحوا ملقوش الواد هناك، فقولي كدا بصراحة الواد فين يا “سـامي”.
فهم “سـامي” أنهم يعلمون كل شيءٍ عن ماضيه لذا قرر أن يتعامل بنفس الطريقة التي كللتها الصراحة حين هتف بنبرةٍ هادئة نجحت في توتر الأخر وهو يستفسر منه بقولهِ:
_لو على الواد يا سيدي اعتبره في الحفظ والصون، بس متنساش إنهم كانوا اتنين مش واحد، يعني ابن “نَـعيم” وابن “شَـوقي” أخو “نَـعيم”، فأنتَ قولي فين ابن “شَـوقي” وأنا هقولك فين ابن “نَـعيم” ؟؟ إيه رأيك يا صاحبي؟.
العديد والعديد لم يُكشف بعد، والأبواب حتى الآن لم تُفتح على مصراعيها، هي فقط تواربت ليظهر من خلفها فقط إطار الصورة التي لم تظهر بأكملها، لذا نحن فقط في الانتظار لحين تُفتح الأبواب على مصرعيها أو ينفجر الجحيم في وجوهنا.
_______________________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)