رواية غوثهم الفصل الثالث والخمسون 53 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الثالث والخمسون
رواية غوثهم البارت الثالث والخمسون
رواية غوثهم الحلقة الثالثة والخمسون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث والخمسون”
“يــا صـبـر أيـوب”
___________________
مولاي أجفاني جفاهن الكَرى والشوق لاعِجُهُ بقلبي خيما
مولاي لي عملٌ ولكن مُوجبٌ لعقوبتي فأحنن على تكرما
وأجلو صدى قلبي بصفو محبةٍ يا خير من أعطى الجزاء وأنعما
يا ذا العطاء يا ذا الوفاء
يا ذا الرضا يا ذا السخاء
اسق العطاش تَكرمًا.
_”محمد النجيدي الحلبي”.
__________________________________
ثمة بعض الأبكامِ متحدثين،
وكانت المثال هُنا عينيكِ،
وكأن عيناكِ سردت قصة وطنٍ سُلِبَت منه الحُرية لكنها بالرغم من ذلك قادرة على أسر كُل حُرٍ مثلي؛
وغدوت أتساءل كيف للغريب أن يُأسر بداخل وطنه؟،
لتكون الإجابة أنه كما الطير المُرابط بجوار عشهِ،
فتلك المرة وقعت في الأسر بإرادتي بعدما فُرضت عليَّ حربٌ مسلوبة الراءِ كان سحر عينيك فيها قتالًا،
وقد تبدو لكِ أنها حُربٌ فُرِضَت عليَّ،
لكنكِ تناسيتي أنني أقمت آلاف الحروب
فقط….لأجل عينيكِ،
فَـ حُـرٌ مِثلي لن يقبل بمن يتعدى على وطنه
وإن كان ضائعًا عن الوطن، والوطن هُنا هو عيناكِ.
<“الثأر يعود من جديد لمن أراد بي سوءً”>
حرك “مُـنذر” رأسه مومئًا له وهو يتفهم حديثه، بينما الأخر فتح الملف ونظر فيه يقرأ اسمه الذي جعله يقف مدهوشًا حينما قرأ اسم زوجته “قمر مصطفى الراوي”، قرأ الاسم مرة وثانية وثالثة وحاول ربط العلاقة بين الشابين ليفهم أن هُناك عصفورين سوف يتم صيدهما بحجرٍ واحدٍ فقط، الحجر الذي يمثل خزينة الذهب لديه متمثلًا في “قـمر”.
لاحظ “مُـنذر” انبساط ملامح الأخر والبهجة التي طفقت تُعلن عن نفسها وتزيل عبوس ملامحه وحينها لم يمنع فضوله من التدخل حين سأله مُتعجبًا:
_فيه إيه ؟ لقيت حاجة خليتك تفرح؟.
انتبه له الأخر وقال بغموضٍ غلف نظراته القاتمة التي كان مصدرها الرئيسي هو الانتقام والثأر لنفسهِ:
_لقيت اللي هترجعلي حقي، حقي اللي “يوسف” دمره وضيع تعب ومجهود كبير لما راح قال لـ “نَـعيم” على اللي حصل وخلاه بوظلي شغلي، الفرصة جت على طبق دهب.
لم يفهم “مُـنذر” سبب حديثه لكنه لم يتطرق لأي أسئلةٍ أخرى خاصةً بعدما لاحظ أن الأمر كله يتعلق بـ “يوسف” فعليه أن يسأل “إيـهاب” أولًا إذا كانت هناك علاقة تربط بين “أيـوب” و “يوسف” ببعضهما خاصةً أن الملف لم يوضح أي شيءٍ من هذا القبيل، يبدو الحوار وكأنه حلقات مكونة في نهايتها الطور الأخير لسلسالٍ ينقصه فقط حلقة أخيرة لكي يكتمل.
أما الأخر فبدت الأسباب تتهيأ له بنتائجٍ هو يرضاها، بِخلاف أن عائلة “يوسف” على قيد الحياة لكن هناك ثأرٌ لن يغفل عنه، هناك من تسبب في تدمير كل شيءٍ حين علم بما فعله مع صديقيه “سـراج” و “إسماعيل” ومن حينها تحداه في خاطره
__________________________________
<“لستُ مريضًا نفسيًا، بل ضحية عالم مرضى”>
جلس على المقعد أمام “جَـواد” الذي بدت عليه الدهشة من حياة “يـوسف” والمفاجآت الغريبة التي ظهرت له مؤخرًا بعدما سردها له، فلم يتوقع أن تكون حياته امتلئت بهذا الكم من الغموض، هو من الأساس كان غامضًا لأشد الدرجات، لكن فكرة أنه خُطِفَ من أمهِ وسُلِبَتْ منه كافة حقوقه كطفلٍ يَحق له أن ينعم بالحريةِ مثل عصافيرٍ تغرد في حدائق الأزهار، ليغدو بدلًا عن هذا سجينًا بين الجدران، جدران الوحدة واليأسِ والخوف ليخرج غضبه على الأخرين في صورٍ أخرىٰ لولا تحكمه بها لكان فتك بكل من وقف في طريقه.
مد يده له بكوب النعناع الأخضر وقال بنبرةٍ حاول صبغها بالهدوء ليُخفي خلفه رداء الدهشة التي كانت طبيعية لمعلوماتٍ مثل هذه:
_أشرب بقى وقولي حاجة، ومين مراتك دي كمان ؟ أنتَ كنت طلقت السِكة دي بالتلاتة، حصل إيه وصلك لهنا؟.
التقط “يوسف” الكوب منه وهتف بوجعٍ حقيقي لم يقوى على مواراته أكثر من ذلك في حديثه وانفعالاته:
_تعبت، تعبت يا “جـواد” ومش قادر أقف أكتر من كدا، كل حاجة متدمرة جوايا ومفيش حتى مكان يتحمل حاجة جديدة، حياتي بايظة ومبهدلة ومكركبة شبه راسي بالظبط، الاتنين مفرقوش عن بعض حاجة….
توقف عن الحديث حينما جالت بخاطره ومر طَيفُها بذهنه ليتذكر أن الوقت الوحيد الذي تفرغ رأسه من ضجيجها المُزعج يكون فقط بجوارها هي، لذا استأنف الحديث مُستطردًا:
_أو كانت، كانت قبل ما ألاقي نفسي هناك، مش عارف.
لاحظ الأخر ضياع الحديث منه وضياع حاله لذا ربت على كتفه ثم هتف يُشدد أزره بقولهِ مُبثًا له القوة وإبعاد الأفكار القديمة التي جاهد هو لإصرافها عنه:
_”يوسف” !! متنساش إننا قطعنا سوى طريق كبير لحد ما قدرنا نوصل لهنا، فكرة الانتقام مش هتفيدك بحاجة، دلوقتي بقى ليك ناس تعيش علشانهم، الأول مكانش فيه حد يدينا دافع لأي حاجة، حاليًا إحنا بقى عندنا الدافع الأكبر، أوعى تخليهم يرجعوك تاني.
ابتسم “يوسف” بسخريةٍ وظهرت القتامة في نظراته حين هتف بغلٍ حمله في قلبه الموجوع من صغره:
_لو فاكر إني هسيب حقي تبقى غلطان، لو الأول مكانتش فارقة معايا علشان ماليش حد، فدلوقتي أنا مش هرفع راسي غير لما حقي كله يتردلي تاني، فلوسي وبيتي وحقي وقهرة قلبي هاخدها من عينيهم نفسها، قهرة أمي السنين اللي فاتت مش هسيبها، بس كله بوقته وأنا مش غشيم علشان اتغابى في حقي.
شعر “جَـواد” أن الأمور تزداد سوءًا وربما الحديث ينقلب كما حدث كثيرًا في الماضي، لذا قرر أن يُبدل الحديث حينما سأله عن زوجته بقوله:
_سيبك من كل دول، خلينا في جوازك، مين دي؟ وإزاي اتجوزت بعدما قولت إنك مش هتعرف سِكة الجواز والحياة الطبيعية دي، وفين “عـهدك” يا “يوسف”؟؟.
في ثوانٍ تبدلت نظراته القاتمة لأخرى غير مُفسرة، نظرة لم يفهمها سواه، وكأن في حضرتها ليس كل الكلام يُقال، وكيف يقول إن كان الحال في وجودها غير الحال، استكانت ملامحه وصفت عيناه ويبدو أن ذِكرها يملك أثرًا طيبًا عليه لاحظه “جَـواد” حينما اتضح جليًا لذا بادر يسأله مستفسرًا:
_جوازك منها مش شهامة بس، فيه حاجة تانية صح؟.
خشى أن يقولها، خشى أن يُصدق قلبه الذي أقسم له بِحُبها، أراد أن يُكذبه لكن عيناه أبت ذلك، لمعت بوميضٍ أقرب للمعة نجوم السماء بليلٍ مُعتمٍ وقال موجزًا يتهرب من الجواب المعلوم:
_مش عارف.
حمحم “جَـواد” وسأله بثباتٍ:
_يعني إيه مش عارف ؟ أومال اتجوزتها ليه؟ على فكرة مفيش راجل يقدر يورط نفسه في جوازة إلا لو كان عارف كويس إن فيه حاجة شدته للبنت دي، فعاوز أنتَ يا “يوسف” تقنعني إنك اتجوزت عادي كدا مجرد إنقاذ ليها؟.
ازدرد لُعابه ثم هتف بنبرةٍ ضائعة بقدر ما كان يتحدث بصدقٍ وكأن قلبه امتلك السُلطة ليُسكت عقله بتاتًا واتضح هذا خلال قوله:
_علشان هي شبهي، بشوف فيها “يوسف” تاني بس بصورة مختلفة، بديها الحاجة اللي كنت بعجز أديها لنفسي وأنا مكانها، “عـهد” محتاجة تكون قوية بس مش عارفة، وأنا قوي بس لوحدي قوتي ضعف، مقدرش أقولك غير إني لما شوفتها….شوفت “يوسف” جديد.
انتبه له “جَـواد” ولحديثه الذي انقلب رأسًا على عقبٍ فاستغل هذه الفُرصة وسأله من جديد وكأنه يتابع سير خطاه كما خطط:
_طب ممكن اسألك حاجة ؟ حاسس ناحيتها بإيه؟ إيه الحاجة اللي خليتك تيجي لحد هنا علشانها لو الموضوع ميخصكش ويخصها هي شخصيًا، أو بمعنى أصح بتحس معاها بإيه؟.
أغمض جفونه لوهلةٍ وتردد على سمعهِ جملتها التي أخبرته بها صباحًا حين توسلته بالبقاء وأعطته مسئولية جديدة يتولاها ليتأكد أنه يشكل فارقًا كبيرًا لها وهي تقول:
_”مبقاش ينفع تمشي وتسيبني لوحدي”.
حينها فرق جفونه عن بعضهما وخفق قلبه ليخبره كيف تكون مشاعره معها حتى وإن ودَّ هو الإنكار لذا قال بنفس التيه الذي عادي يُرافق كلماته المنطوقة بقلة حيلة:
_مش عارف أنا حاسس معاها بإيه، بس كفاية إن دماغي معاها بتفضى من الكركبة، “عهد” قادرة تصلح كل حاجة بايظة جوايا بنظرة من عينيها، وقادرة برضه تثبتلي إني كويس لما أعمل حاجة علشانها وتقدرها، كل اللي اتعاملوا معايا قالوا أني صعب وكأن محدش يطيق وجودي، بس هي من بعد أمي و “قـمر” الوحيدة اللي خدت صفي وبقيت في نظرها مجني عليه حتى من غير ما تعرف حصلي إيه، بس عينيها بتقولي كل حاجة، الوحيدة اللي شبهي وعلشان شبهي اتطمنتلها، لو الدنيا كلها ضدي وهي بس اللي فضلت في ضهري، أنا موافق أعادي الدنيا كلها علشانها هي، بس تكون قصادي كويسة.
انبسطت ملامح الأخر وفهم أن عناده لن يدوم طويلًا، بمجرد ذِكرها فقط يقدر على التحكم به، لذا قرر أن يختبره بما قد يقلبه عليه كُليًا:
_بس دا مكانش إحساسك ناحية “شـهد”.
تبدلت ملامح “يوسف” نهائيًا، وكأن حرفٌ فقط يشبه الفرق بين لون السماء الصافي وبين أرضٍ ملوثة يغلفها الغُبار وانتبه لـ “جَـواد” الذي تحداه بنظراتهِ وما إن فهم هذه النظرة قال بوقاحةٍ يعهدها الأخر منه:
_ولما أقولك كلمة وحشة ترجع تزعل؟ زفت إيه وهباب إيه دي اللي جاب سيرتها؟ أنا مال أمي بيها ؟ داهية تاخدها مطرح ماهي قاعدة هي والـ*** اللي متجوزاه دا.
ضحك “جَـواد” من طريقته ووقاحته فزفر “يـوسف” مُطولًا ثم أخرج سيجارةً من علبته يضعها بين شفتيه وقام باشعالها فورًا وقد انتبه له “جَـواد” وقال بنبرةٍ يائسة:
_كان نفسي تبطل سجاير، قولتلك حاول.
رفع عينيه نحوه يسأله باستهتارٍ بعد حديثه:
_ودي كنت هبطلها علشان مين؟ اسكت.
لاحظ “جَـواد” من خلال انفعالات جسده وملامحه وحركة العروق في عنقه أن ربما الأمر يكون صعبًا على تحمله، وحينها خرج من إطار الطبيب النفسي وتلبس وشاح الرفق حين أقترب منه يجاوره في جلسته وسأله باهتمامٍ:
_مالك !! فيك إيه مخليك متضايق كدا؟.
اندفع “يـوسف” يخبره بألمٍ حقيقي سكنه ولم يخرج منه وكأنه استوطن القلب وأعلنه الموطن الأصلي له:
_فيه أني خايف، فيه إني مش عاوز أجرب نفس إحساسي تاني لما عرفوا يقهروني، المرة اللي فاتت هي مكانتش تهمني أصلًا وكان وهم عيشت فيه، إنما المرة دي أكبر من إني أشوفها بعيد عني، المرة دي شكله عملها ووقع بجد.
كان يتحدث بصيغة الغائب عن قلبه وقد فهم الأخر هذا لذا سأله بسخريةٍ يُذكره بأخر جلسةٍ جمعتهما سويًا قبل رحيله من القاهرة:
_طب والعهد ؟؟ مش كنت برضه قاطع على نفسك عهد؟
رفع “يوسف” رأسه يُطالعه بصدقٍ وهو يقول ما يُمليه عليه قلبه ويأبى هو أن يتحدث به صراحةً أو لربما يخشىٰ من شيءٍ هكذا:
_أنا خونت العهد علشان خاطر “عـهد”،
و”عـهد” علشانها يتخان ألف عـهد.
الجُملة التي بدأ من أساسها كل شيءٍ يخبره بها من جديد صراحةً، من بعد أول مرةٍ قرر أن يستمع فيها لقلبه من بعد خصومةٍ دامت لسنينٍ قرر أن يستمع له ويصدقه أنه خان العهد لأجلها، وأنه لأجلها يفعل الكثير حتى وإن خان كل العهود التي سبق وقطعها على نفسه، حديثٌ أخر اضافه لنفسه من بعد “أنا هُـنا لأجلكِ” ليكون “خونتُ العهد لأجلكِ”
__________________________________
<“ياليتنا تشبثنا بالبدايات فقط”>
ربما تهون كل الأشياء على المرء عدا أن تخونه صحته دون أي إنذارٍ ويصبح جسده هزيلًا وهو يجلس ضعيفًا لم يقدر على معاونة نفسه، هكذا فكر “عـادل” الذي عاونه “سـراج” في جلسته بعدما تنفس بحدةٍ وكأن قلبه يتراوح بين ضلوعه، أما “نـور” فلم ترفض معاونته، هي من الأساس لم تقدر على رعاية والدها بمفردها لذا تركته هو يتولى هذه المُهمة.
اختلس “سراج” النظر لها سرقةً من عدستيه كأنه يطمع في التواصل معها بالرغم من حديث عينيها الذي يلومه دومًا وكأنها لم تستوعب بعد قدر صدمتها منه، هو الذي رأت به كل شيءٍ أصبح الآن ولا شيءٍ، نظرت أمامها تتهرب منه ونظر هو لوالدها الذي أتضح اليأس على ملامحه حتى صدح صوت هاتفه فأخرجه يجاوب على المكالمة بعدما تحرك خطوتين بعيدًا عن “عـادل” وقد قال بلهفةٍ:
_أيوة يا حبيبتي، وحشتيني.
انتبهت هي لحديثه فحركت رأسها بحدةٍ نحوه وقد لاحظ هو حركتها هذه فوأد ضحكةً كادت أن تفضح أمر فرحته وقال مُتماديًا في فعله:
_عارف أني سيبتك لوحدك حقك عليا، بس وعد بليل هتنامي في حضني وهاكل من إيدك زي كل مرة، هو يعني هييجي أعز منك على القلب؟؟.
الجملة التي كان يخبرها بها دومًا يحدث بها أخرى غيرها ؟؟ وأمام عينيها وكل هذا ولم ينساها ؟؟ يبدو أنه كما هو سيظل كاذبًا حتى وإن وارى جسده التُراب سيكذب أيضًا، رمقته بسخطٍ بعد تفكيرها فيه، فيما أغلق هو المكالمة ثم عاد لسابق مكانه يهتف ببراءةٍ مُتجاهلًا فعله:
_دي “جـودي” كانت بتطمن عليا.
رفعت حاجبيها بسخريةٍ وأصدرت صوتًا مُتهكمًا من حنجرتها جعل “سـراج” ينتبه لها فيما تدخل “عـادل” يحدثه بنبرةٍ مُنهكة بدا عليها أثر التعب:
_ربنا يحفظهالك، دي رزق خد بالك منها.
هنا ظهر شوقها للصغيرة، لم تنكر أنها اعتبرتها ذات يومٍ مثل ابنتها حتى وإن لم تربط بينهما روابط الدم، تذكرت ضحكتها وروحها وحيوتها وكيف ملئت عليها الفراغ وقد التقطت نظراتها بنظرات “سـراج” الذي تذكر هو الأخر نفس الشيء الذي تذكرته هي لتوها في آخر لقاءٍ جمعهما سويًا قبل الفُراق.
[منذ ما يقرب الثلاث سنوات]
بعدما تركها “ماكسيم” وذهب استفاقت هي من صدمتها على جلوسها أرضًا بجوار إطار السيارة تبكي من قهرتها وصدمتها فيه، لما من الأساس توسمت الخير في وجوده؟ لم يقوى على ترك الآثام التي تربى عليها وبالتالي لن يقدر على عيش حياة كريمة خالية من الهالات السوداء التي تبقى دومًا في تاريخ المرء تدنسه.
حينها قادت السيارة نحو بيته بمنطقة “المعادي” وهي تعلم أنه سيكون هُناكَ مع الصغيرة وبالطبع تتسنى لها فرصة مواجهته، ستخبره بما حدث وتنتظر منه الجواب على الرغم من علمها بكل شيءٍ لذا سارت إلى هناك في وقتٍ لم تنتبه له ثم توجهت إلى بيته تطرق الباب بغضبٍ حتى فتحه هو لها وقد ذُهِلَ من حضرتها أمامه في هذا التوقيت !!
قبل أن يفتح فمه يسألها بقلقٍ بلغ أشده عن سبب مجيئها إلى هُنا وجدها تندفع في وجهه وهي تسأله بصوتٍ حادٍ كأنه هيأت نفسها كثيرًا لهذه المواجهة:
_أنتَ كنت فين من ٤ أيام وغيبت بعدها معرفش حاجة عنك ؟؟ ومتكدبش عليا لو سمحت، كنت فين يا “سـراج”؟؟
فرغ فاهه وظهرت الدهشة عليه يُرافقها خوفٌ طَلَّ من نظراته وهو يراها أمامه بهذه الحالة في محاولةٍ منه يُكللها الفشل وهو يحاول إبعاد ظنونه السيئة لكنها أكدت له كل مساويء تفكيره حين هتفت بنبرةٍ باكية:
_روحتلهم تاني صح ؟؟ رجعت للحرام تاني وللغلط تاني ولا كأني ليا لازمة في حياتك، هو دا وعدك ليا ؟؟ مـــا تـرد.
صرخت بجملتها الأخيرة في صوته حتى أغمض جفونه بأسىٰ يُعنف نفسه فوجدها تنهار باكيةً أمامه، صمته ونظراته أكدت لها أنه فعلها حقًا، آملت لأخر لحظة أن يُكذب الجميع ويَصدُق هو لكنه فعل العكس، لم ينتبه إلا حين هتفت بقهرٍ وهي تطالعه بنظرةٍ قتلته في مكانه صريعًا:
_خلصت يا “سـراج” أنسى اللي كان بينا وشوفلك عروسة تانية تحضر الفرح غيري، أنا مش هكمل مع واحد كداب وملهوش كلمة بيرجع في وعده.
كادت أن تلتفت فأمسك ذراعها يتشبث به وهتف بنبرةٍ ملهوفة أخرجت صوته مُحشرجًا وكأنه أراد أن يبكي:
_استني بس، والله أنتِ فاهمة غلط هما هددوني بيكِ وبـ “جـودي” وأنا ماليش غيركم والله، اسمعي بس يا “نـور” متمشيش، نور أنا محتاجك معايا.
سحبت ذراعها من كفيه وهتفت بوجعٍ ألمه هو قبلها هي كونه المُتسبب في هذا الألم بالرغم أنه كان موجوعًا مثلها:
_وأنا مش هقدر يا “سـراج” صدقني مش هقدر، صعب أسامحك وصعب أعيش معاك عادي بعد اللي حصل دا كأن مفيش حاجة حصلت، أبوس إيدك سيبني وإنساني وادعيلي أنساك.
قبل أن ترفع قدميها عن الأرض لكي تتحرك اعترض طريقها وهو يقول بعينين ترقرق بهما الدمعِ ونطقتا بكل ألمٍ:
_طب بلاش علشاني أنا، علشان “جـودي” اللي ملهاش حد غيرك، أنتِ عارفة إن هي بتحبك، “نـور” أنا ماليش غيرك أنتِ، علشان خاطري خليكِ.
أبعدت جسدها تمامًا عن محيطه ثم هتفت بما قتله من كلماتٍ:
_لو تهمك “جـودي” بجد كنت راعيت ربنا علشان متترباش بفلوس حرام، عن إذنك ومتحاولش توصلي تاني علشان أوعدك إنك مش هتلاقيني، ومش هتصعب عليا يا “سـراج” علشان أنا صعبان عليا نفسي أكتر منك، صعبان عليا إن جرحي يكون بأيدك أنتَ، صعبان عليا قلبي اللي اتعشم فيك خير.
صرخت بحديثها ثم أولته ظهرها وهربت من أمامه وحينها خانته قدمه وأصبحت كما الهلام الضعيف لم تقو على حملهِ حتى سقط على رُكبتيه وهتف بنبرةٍ باكية:
_متمشيش يا “نـور”، طب وقلبي يا “نـور” ؟؟.
كانت الأمل الأخير في حياةٍ رغبها بشدة، رغب أن بعد تيهه وشتات حاله كما اليتيم المُشرد أن يكون استقراره بجوارها هي، أراد أن يعيش كل الأيام معها إن كُتبَ عليهما حلوها أو مُرها، أرادها خليلًا له في كل الليالي وأصبحت عنه بعيدة لا وبحالهِ لا تُبالي.
[عودة لهذه اللحظة]
خرجا من شرودهما على صوت الممرضة التي أتت بالطعامِ وخلفها “زيزي” التي وقفت توزع نظراتها بينهما حتى قامت “نـور” وجاورت والدها تُطعمه بنفسها لينسحب “سراج” من الغُرفة كونه الغريب وسطهم هُنا ومن المؤكد أن وجوده لم يكن مرغوبًا بهِ.
“في منطقة نزلة السمان”
كانت “جـودي” تتابع الأشياء التي جلبها لها “إيـهاب” برفقة زوجته وقد تناست حزنها تمامًا لأجل غياب خالها ودارت البيت بأكملهِ لكي تَريهم ألعابها الجديدة وخاصةً “تحـية” وهي تقول بحماسٍ:
_بصي يا تيتة “تحية” بصي عمهم جاب إيـه؟.
انتبهت لها المرأة واقتربت منها تُلثم جبينها ثم قالت بحبٍ بالغٍ الأثر وهي تدعي لهما:
_يا حبيبة قلب تيتة، عسل زيك، ربنا يراضيهم ويسعدهم وعقبال ما يجيبوا لعيالهم مع بعض ويملوا البيت علينا، قولي يا رب.
قالتها الصغيرة ثم ركضت نحو الخارج حتى التقطها “إسماعيل” بين يديه وقال بحقدٍ زائفٍ:
_بسبب لعبك دي اتدبست في شغلين مع بعض، يرضيكي كدا يا حلوة يا أم عيون حلوين أنتِ ؟؟.
هزت رأسها موافقةً مما جعله يتصنع عض وجنتها حتى ضمت عنقها وهي تضحك بصوتٍ عالٍ جعله يدور بها في محله وقد دلف في هذه اللحظة “إيهاب” ومعه زوجته التي تمسكت بحقيبة أشيائها وكأنها تخشى أن يُأخَذوا منها مرةٍ أخرىٰ فيما قال “إسماعيل” لأخيه بعدما انتبه له:
_بقولك إيه أنا تعبت النهاردة، جالي صداع ومحتاج أرتاح شوية، إيه رأيك تروح تكمل مكاني علشان أقدر بكرة أصحى بدري؟؟ ولا تبعت “ميكي” وخلاص يقف هناك مع “مُـحي”.
قال “إيهاب” بعجالةٍ ينفي حدوث هذا الشيء:
_لأ مش حابة هي وجع دماغ، “مـيكي” و “مُـحي” مع بعضهم مش هينفع وهيقلبوا الدنيا، هروح أبص بصة على المكان واقعد كام ساعة وأرد تاني علطول، هغير هدومي وأجي، يلا يا “سمارة”.
تحرك ومعه زوجته فيما طوقت “جـودي” عنق “إسماعيل” وهي تقول بدلالٍ اتقنته بعدما اقتبسته وتفننت في إظهاره:
_مش هتركبني خيل يا سي “إسماعيل” ؟.
دوت ضحكة “تَـحية” عاليًا فيما رمش “إسماعيل” عدة مراتٍ ببلاهةٍ مستنكرًا طريقة الطفلة التي ضحكت ببراءةٍ جعلته يقول بسخريةٍ:
_هي لحقت هكرتك !! استر يا رب من اللي جاي.
في البناية المُلحقة بالبيت دلف “إيهاب” المرحاض أولًا قبل أن يُبدل ثيابه وما إن خرج منه وعبر لداخل غرفة نومه وجد “سمارة” بدلت ثيابها ثم أمسكت العروس والدُب ولم تنتبه لخروجه حتى قالت لهما بصوتٍ مسموعٍ:
_والله كان نفسي لولا العيبة أطلب منه، خوفت يتعصب عليا ويفتح زوره، بس طلعت ظلماه وطلع حنين أوي، أحن عليا من نفسي حتى.
أبتسم هو بسمة هادئة زينت مُحياه وهو يرى الطفلة الصغيرة التي لازالت بداخلها تخرج وتلعب وتعيش بعدما حُكِمَ عليها بالموت وأُرغِمَت على قتل الطفلة بداخلها وقد اقترب منها يجلس على الفراش مقابلًا لها وهو يقول بسخريةٍ:
_خلي بالك تتلبسي، خالتي قالتلي إن اللي بيكلم الحاجات دي بيتلبس، كفاية عليا “إسماعيل” مش هتبقى السُلالة كلها ضاربة وملبوسة.
ضحكت هي بصوتٍ عالٍ فيما أضاف هو متابعًا يُعاتبها على سابق حديثها الذي استمع له:
_بعدين مقولتيش ليه إنك عاوزة عروسة؟ هبخل عليكِ يعني ؟ لسه مش فاهمة إن اللي يفرحك يفرحني حتى لو كان إيه؟؟ أي حاجة تطلبيها أنا هنفذها طالما هتفرحك.
اقتربت منه تسأله بدلالٍ أنثوي كعادتها:
_أي حاجة أي حاجة؟؟.
رفع أحد حاجبيه في إنتظار حديثها حتى وجدها تضيف بنبرةٍ هادئة وكأنها تطمح في القليل منه:
_بقالك فترة مطنشني وأنا جعانة، إيه رأيك تقعد معايا وناكل سوى الأكل اللي أنا عملاه وتسيبك من أكل الست “تحية” والشغل خالص ؟؟ إيه قولك يا سي “إيـهاب” ؟؟.
تنهد مُطولًا ثم هتف بقلة حيلة وهو يتابع ملامحها:
_بعد سي “إيـهاب” دي اعتبري أكل عيشي اتقطع.
ضحكت بسعادةٍ وهو يلبي مطلبها بينما هو تحرك معها حينما أمسكت كفه لكي يشاركها أسعد لحظاتها التي تعيشها هنا معه، الحياة التي طمحت بها بين أزقة الشوارع حينما كانت مُشردة، صارت حقيقة ملموسة مع الرجل الذي تمنت قربهِ، فياليته يدوم بجوارها وياليت حياتها تبقى هكذا.
__________________________________
<“هُم أقارب بالاسم فقط”>
كانت “نِـهال” في غرفتها تجلس على سجادة الصلاة بعدما استخارت ربها في أمر زيجتها وقد شعرت بالراحة تجاه الأمر، أرادت أن تتمسك بحبل الطمأنينة الذي مده لها قلبها لكن ثمة شيءٍ أقلقها أن يكون الحبل ضعيفًا، وتنفلت يدها منه، المشاعر بداخلها مُتضاربة تمامًا، تريد أن تخطو قدمًا في حياتها الفارغة وتريد أن تشارك “إيـاد” كل لحظاته وتريد أن تكون مع “أيـهم” الذي يختلف عن كل الرجالِ الذين قابلتهم في حياتها، لكن لمحات الماضي تظل تقذف في عقلها بعض الذكريات المُرعبة.
انتبهت لعدة أصوات بالخارج جعلتها تترك محلها ثم اقتربت من الباب تفتحه بمواربةٍ صغيرة بالكاد تظهر منها عينيها وهي ترى صالة الشقة وقد وجدت والدها يجاور عميها ومعهما “بهاء” ابن عمها ومعه ابن عمها الثاني، وقفت تنتظر حديثهم سويًا حتى قال والدها بثباتٍ:
_”نِـهال” بنتي جالها عريس وأنا قولت اعرفكم بما إنكم أعمامها وأخواتها، “أيـهم العطار” أتقدم ليها وأنا موافق.
نطق حديثه بكل جديةٍ وثباتٍ فيما حلت عليهم الصدمة، لم يتوقعوا أن يحدث ما خشوه هُم، وخاصةً والد “بهاء” الذي اندفع يسأله باستهجانٍ ملحوظٍ في انفعاله:
_نعم !! يعني إيه كلامك دا ؟؟ طب و”بهاء” ابني؟ مش متقدم ليها على الأقل عارف ظروفها وموافق بيها لا فارق معاه عيل ولا تَيل.
في داخل الغرفة استمعت هي لحديثهِ فقالت بنبرةٍ خافتة:
_هتفضل طول عمرك عم ناقص.
بالخارج قال والدها بنفس الثبات الذي غلفته نبرةٍ مُحذرة من التكملة:
_اللي عندي قولته الراجل جه البيت واتقدم وأنا رحبت بيه، لكن ظروفها بقى هو عارف عنها كل حاجة وهيعمل اللي عليه وربنا يراضيهم مع بعض، إنما “بهاء” أخوها وهي مش قادرة تشوفه غير ابن عم ليها، علشان كدا مينفعش يكون فيه جواز بينهم.
تحدث شقيقه بتهكمٍ بعدما فسر الأمور بصورةٍ خاطئة:
_آه، يعني أنتَ بتحطنا كلنا في أيد الغريب عننا، وبكرة ييجي ابن “العطار” يحط رجل على رجل ويتشرط علينا، علشان البيه بداه على ابن أخوه، طب كنت قولت من الأول، مكانش الواد عشم نفسه كدا، بس هتقول إيه للناس بقى لما يقولوا إن بنتك المحترمة رسمت على الواد وأبوه؟؟ مش دا اللي هيتقال برضه؟.
وقف “شلبي” ينهره بقوله معنفًا له ومُدافعًا عن ابنته:
_قطع لسانك على رقبتك، أنتَ اتخبلت في مخك ؟؟ بنتي محترمة ومتعملش كدا أبدًا الراجل جه يطلبها علشان رايدها بحلال ربنا، إنما اللي هيجيب سيرتها أنا هقطع لسانه حتى لو كان أنتَ نفسك.
وقف “بهاء” بينهما يحاول تهدئة الأمور المُحتدة بينهما وهو يقول بنبرةٍ مهتزة من توتره:
_وحد الله يا عمي، وحد الله يا بابا، الكلام مش كدا.
التفت له عمه يسأله بنبرةٍ جامدة:
_أومال إزاي يا “بَـهاء” ؟؟ أبوك مستني أطرد الراجل وأغلط فيه زي المرة اللي فاتت ؟؟ وكل همه الفلوس والمحل، مش همه لحم بنت أخوه ولا حتى فرحتها، ملعون أبو الفلوس اللي تخلي الواحد يجحد على أهله بالشكل دا.
تحدث والد “بهاء” من جديد بوقاحةٍ:
_فلوس إيه يا أبو فلوس ؟؟ أنتَ مسمي الكام ملطوش اللي بترميهم لينا دول فلوس ؟؟! أنتَ عايش في اليغمة الكبيرة وشفطت المحلات في كرشك كلها وإحنا متداينين وحالنا كرب، اسمع لو ابن “العطار” فكر بس أنه يقف يحط عينه في عيني أنا هطربق الدنيا، والجوازة دي أنا مش راضي عنها، وريني مين هيقف معاك بقى، خلي الغريب ينفعك.
صُعِقَ “شلبي” من حديث شقيقه وتابع رحيل رجال عائلته بقهرٍ وكأن حديث “عبدالقادر” يتجلىٰ أمام عينيه، يرفض فرحة ابنته ويقف مثل العائق لأنه يعلم أن شقيقه من المؤكد سيختاره لكن ما إن وقع بصره على ابنته تقف أمامه حينها سحب هاتفه الموضوع أمامه وهو يهتف في وجهها بنبرةٍ جامدة:
_خدي، اتصلي بـ “أيـهم” عرفيه إنك موافقة على الجواز منه وأنه يخلي أبوه يكلمني علشان نتفق هييجوا إمتى، يلا.
تلك المرة ابتسمت “نِـهال” وكأنها كانت تشك في اختيار والدها لها لكنها لم تصدق أنه يتخذ صفها على غير عادته وقد أمسكت الهاتف منه وتحركت من أمامه تحاول ترتيب أنفاسها الثائرة.
كان حينئذٍ “أيـهم” مع الشباب في مخزن والده يتم جرد المنتجات بداخله على يد “بيشوي” و “تَـيام” و وقف “أيـوب” معهم يساعد في العمل قبل أن تأتي البضائع الجديدة، وقد صدح صوت هاتفه برقم “شلبي” وحينها انتبه هو للرقم لوهلةٍ خشى أن يجاوب على المكالمة لكنه استعاد ثباته من جديد وتنحى جانبًا ينزوي عن الأعين وقد جاوب على المكالمة بقوله:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا حج.
توترت “نِـهال” من الحديث لكنها شجعت نفسها كثيرًا وقالت بنبرةٍ مهتزة تخبره بقرارها الأخير:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أنا موافقة يا “أيـهم”.
اتسعت عيناه وتثبتت حركة بؤبؤيه لوهلةٍ فوجدها تضيف بنبرةٍ هدأت قليلًا عن السابق:
_تقدر تكلم والدك علشان يكلم بابا، عن إذنك.
قبل أن تغلق المكالمة بعدما أنذرته بجملتها هتف هو يردع فعلها بقوله مُندفعًا:
_طب قبل ما تقفلي أنا عاوز اتجوزك علطول مش عاوز خطوبة، وليا أسبابي ممكن أقولهالك، وحاجة كمان قبل ما عقلك يودي ويجيب، أنا مش عاوزك أم لابني وبس، أنا عاوز أتجوزك علشاني أنا، يعني ليكِ مقام كبير عندي، وأي حاجة وأي طلبات عاوزاها تقدري تطلبيها وأنا مستعد لأي حاجة بأمر الله.
ارتفعت ضربات القلب وأرادت أن تطلب منه الكثير والكثيرلكنها توقفت عن هذا وقالت بثباتٍ لم تملكه من الأساس:
_في أقرب وقت هنتكلم سوى إن شاء الله، مع السلامة.
أغلقت الهاتف معه ثم رفعت رأسها للأعلى وهي تقول بأملٍ تراه يترعرع بداخلها من جديد وكأنه يخبرها بخيرٍ قادمٍ لأجلها فيكفيها فقط أن تكون مع من أرادت الحياة بجوارهِ.
عاد “أيـهم” للشباب من جديد وقال براحةٍ اتضحت عليه وعلى ملامحه التي انبسطت عن السابق حين هتف:
_يا شباب، العروسة وافقت على الجواز.
هللوا بفرحةٍ لأجلهِ وخاصةً “أيـوب” الذي عانقه وهو يقول بنبرةٍ هادئة في أذن شقيقه وهو يمسح على ظهره:
_مُـبارك يا حبيب أخوك، ربنا يجعلها سكن ليك في الدنيا وسبب في دخولك الجنة وعوض لقلبك من كل حاجة.
تأثر “أيـهم” بحديث شقيقه بينما “أيـوب” غمز يشاكسه حين هتف بمراوغةٍ:
_هتزنهر يا أبو “إيـاد”.
أقترب “بيشوي” يقول بسخريةٍ يُهنيء صديقه بقولهِ:
_مبروك يا سوسة، اتاريك كنت بتاخد دروس مع إبنك، بس بأمانة كدا أحسن مرات أخويا ومش هتاخد مننا فلوس ولا إيه يا أبو “إيـاد”.
ضحكوا على قوله بينما “أيـهم” سحب الدفتر يَرميه عليه وقد تنحى “بيشوي” جانبًا بينما “تَـيام” وقف صامتًا حتى مازحه “بيشوي” بقولهِ الخبيث:
_إيه يا “تِـيمو” ؟؟ مش هتبارك؟
انتبه له المدعو وحرك رأسه يستقر ببصره على وجه “أيـهم” يسأله باهتمامٍ:
_هل دا معناه إنك هترحرح؟؟.
دوى صوت الضحكات من الثلاثة بعد سؤاله فيما ضرب هو رأسه بكلا كفيه تزامنًا مع قوله مُتحسرًا على حاله:
_يا ميلة بخت ابنك يا أما.
في بيت “العطار” قام “أيـوب” بإخبار شقيقته التي جلست برفقة الفتيات في حديقة البيت وما إن حدثها شقيقها حينها هبت من جلستها منتفضة وهي تسأله بحماسٍ:
_بجد ؟؟ وافقت؟ الحمد لله حمدًا كثيرًا مُباركًا فيه، عقبال الفرح يا رب، أنا كنت حاسة إنها هتوافق، حد فيكم يعرف بابا بقى عند الشغل هو هناك ومعاه “إيـاد”.
أغلقت معه الهاتف بعدما ودعته فيما سألتها “مهرائيل” باهتمامٍ بعدما تشوش عقلها بسبب الحديث:
_مين اللي وافقت؟ فيه إيه يا بت؟؟.
جاوبتها “آيات” بحماسٍ شديد وفرحة طفقت تُعلن عن نفسها فورًا وكأنها فرحتها هي:
_”نِـهال” وافقت على الجواز.
هبت “مارينا” من محلها بحماسٍ وهي تقول:
_كدا “بيشوي” و “أيـهم” هيفرحوا مع بعض ؟؟ عقبالي يا رب، أي حد ييجي ينتشلني قبل التخرج أنا راضية ؟؟.
هتفت الفتاتان في آنٍ واحدٍ بحديثٍ خبيثٍ:
_قصدك مين ؟؟ “يـوساب”؟؟
تضرج وجهها بحمرةِ الخجل ثم ضحكت رغمًا عنها فيما قامت “مهرائيل” بالطرق على الطاولة وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة وكأنها تغني:
_يا نجف بلور يا سيد العرسان،
يا قمر ومنور على الخِلان.
في غضون ثوانٍ امتلئت الحديقة بالمرحِ والغناء وكأنهن في أوجٍ من لحظاتِ سعادتهم، الفرح يطرق بابهم واليوم لم ينتهي بعد، الكثير من الحماس والفرح والسرور يقف على أعتاب بيتهم من مجرد موافقةٍ عابرة كانوا في انتظارها.
__________________________________
<“لأجل من نُحب يتوجب علينا مواجهة من نكره”>
قضى غالبًا نصف يومه هنا في عيادة “جَـواد”
أخبره كافة التفاصيل عن حالة “عـهد” وعن الأعراض الظاهرة عليها بعد كابوسها المروع، أخبره عن كافة التفاصيل مع عدم التطرق لأي تفاصيلٍ أخرى حتى جاوبه “جَـواد” بقولهِ يُطمئنه:
_في الغالب دا اضطراب الكابوس، يعني بيكون بشكل مستمر درجة الرؤية فيه واقعية جدًا كأنه متجسد قصاد العين وواقع يتشاف، الفكرة هنا في مصدر الخوف، يعني التهديدات اللي تلقتها من أشخاص تانية كانت بتتجاهلها وتتعامل معاها بقوة مزيفة، قصاد كدا العقل الباطن كان بيقوم بدور تاني وهو برمجة الصور دي في هيئة كوابيس متجسدة ودا لإن الخوف موجود بالفعل وهي بتتجاهله بقوة مش موجودة، أهم حاجة إنها تحاول تخرج الطاقة السلبية اللي جواها، تحاول تطمن تخرج الطاقة اللي جواها بشكل، وجودك حاليًا فارق كتير أوي وممكن يكون فيه دور أوي لنهاية كل دا، غالبًا هي بقت شايفاك حاجة مُهمة.
خرج “يوسف” من شروده حينما كان جالسًا أمام كورنيش النيل يحتسي القهوة حتى سرقت أنظاره كلمات أغنية أتت من بعيدٍ عنه ليتوجه ببصره نحو الشاب الذي يبيع ملابس شبابية لا تتناسب مع ملابسه الرديئة التي يرتديها وكأن كلاهما يسمع وجعه في كلماتٍ عبارة عن:
_بسرح وأتوه في الذكريات
وبعيش حياة ويا اللي فات
أشخاص أماكن كل شيء…
حاجا توديني لحاجات.
_حكايات مواقف كلها
في الماضي دي أنا عيشتها
كل ما أغمض عيني أروح
لسنين سابتني وسيبتها.
تاه من نفسه لرحلة مؤلمة شكلت الطور الأخير في تكوين شراسته في الحياة، خاصةً بعد تخرجه من جامعة السويس لهندسة البترول، الشهادة التي حارب لأجلها بكل طاقته رغم استحالة الأسباب وانعدام رؤية النتائج خاصةً هذا اليوم الذي قام فيه عمه ببيع النصيب في الشركة لـ “سامي” و “نادر”.
[منذ عدة سنواتٍ]
دلف “يوسف” مكتب عمه مثل الإعصار الذي يقتلع الشجر من جذوره على هيئة رياحٍ غابرة، حينها رفع “عاصم” رأسه ينهره في وجهه بحدةٍ قائلًا:
_١٠٠ مرة قولتلك تحترم نفسك أنتَ مش داخل زريبة، إيه اللي مدخلك كدا ؟؟ فاكر نفسك داخل فين ؟ لأخر مرة هقولك يا “يوسف” أنا صبري ليه حدود.
أقترب “يوسف” منه يقول بنبرةٍ عالية يعبر عن غضبه:
_أبوك لأبو صبرك في الأرض، بتبيع أسهم الشركة لـ “سامي” ليه ؟؟ ها !! ملقيتش غير ابن الرقاصة دا تخليه ياخد مكان أبويا ؟؟ شقا أخوك وتعبه بترميه على الأرض في حجر ابن الرقاصة؟؟.
تسلح “عاصم” بالبرود وهتف يتشدق بنزقٍ:
_شيء ميخصكش.
حينها أمسك “يوسف” المكتب ودفعه بعيدًا حتى كاد أن يصطدم به “عاصم” الذي رفع صوته قائلًا بغضبٍ عارمٍ:
_أنتَ اتجننت ؟؟ بترميني بالمكتب؟.
أقترب منه وكاد أن يضربه، حضر جنونه وانعدمت الرؤية أمام عينيه، حالته النفسية تدهورت بسبب ضياع عمل والده الذي عمل كثيرًا لأجلهِ وقبل أن يفعل ذلك وجد المكتب يُفتح عليه بواسطة “سامي” المُتجبر وخلفه يقف رجالٌ يرتدون ملابس مشفى لم تتضح ماهيتها حتى منذ الوهلة الأولى.
نظر “يوسف” بتعجبٍ واستنكارٍ لهم ليشير نحوه “سامي” بقوله:
_أهو دي أقل حاجة بيعملها، كل ما أعصابه تبوظ كدا يكسر في البيت ومعيشنا في رعب، حتى الجيران اشتكوا، اتفضلوا خدوه.
خطف “يوسف” المصباح الكهربائي الموضوع على الطاولة الرخامية الصغيرة وهتف بنبرةٍ عالية يهددهم بقوله:
_اللي هيقرب مني أنا هجيب راسه بيها، أرجع منك ليه.
للأسف هذه الجملة أودت بحياته حيث تكالب عليه الرجال يكبلون حركته ويتم نعته بالمجنون وسطهم وهو أبعد ما يكون عن ذلك، لم يكن مجنونًا بل هو ضحايا لجنون العظمة التي عاشوا بها، لم يكن كما يدعون لكنه عاقلًا، بريء يصرخ وسطهم أنه بريء براءة الذئبِ من دم ابن يعقوب.
حاول فك حصار جسده لكن كل شيءٍ قاموا بترتيبه لأجلهِ هو، حاول أن يصرخ ويرفع صوته حتى نزلت دموعه وهو يقول بنبرةٍ مقهورة عاجزة عن الدفاعِ عن نفسها وهم يجرونه لساحةٍ من المؤكد أنه سيموت فيها كمدًا:
_أنا مش مجنون والله، مش مجنون أنا جاي باخد حق أبويا، حقي هاخده منك يا “عـاصم” ومن “سامي”، مش هسيبكم وأسيب حقي….أنا مش مجنون والله، عرف أبوك يا “نـادر” إني أعقل منه.
وقف أهل البيت بأكملهم يشاهدون “يوسف” الذي تم سحبه من وسطهم مقهورًا، شابٌ تخرج من أسبوعين وانهى دارسته الجامعية ليبدأ حياة جديدة فتفاجأ بنفسه مجنونًا.
تم سحبه لداخل المصحة العقلية التي سبق ودبر أمرها “عاصم” و “سامي” معًا للتخلص من “يوسف” بشكلٍ نهائي بعدما نجحوا في الاستيلاء على حقه كاملًا، والآن يستولون على شبابه وحريته ليكون مثل الغلام الذي عاد للقبيلة يحرقها بعدما أحرقوا قلبهِ وتم وضعه هناكَ دون أن يتم الاستفسار حتى عن قواه العقلية _السليمة من الأساس_ كل شيءٍ تم ترتيبه نجحوا فيه.
تم تسجيل خمسة تقارير صحية عن قواه العقلية كلهم أكثر سوءًا من بعضهم، تم ضرب خمسة أطباء على يده وللأسف كلٌ منهم لاقىٰ إصابة ساحقة أقرب للموتِ، أحدهم تم ضربه على رأسه، والثاني تم جرح عنقه والثالث ضرب رأسه بالحائط والرابع كانت الإصابة في فكهِ والأخير كسر ذراعه.
جلس قرابة الشهرين بهذه المصحة العقلية الخاصة التابعة لأحد رجال الاستثمار المصريين برعاية أجنبية، مشفى كل شاغله جني المال والأرباح المادية حتى وإن كان على حساب شابٍ مثل “يوسف” أكبر ذنبه أن عمه تجمعه علاقة صداقة بصاحب المشفىٰ، جلس متهجم الملامح الهالات السوداء غطت حول عينيه وخصلاته أصبحت مُشعثة ذقنه استطالت كثيرًا وكأن الزمن جار عليه كما يُقال.
دلف أحد الأطباء لغرفته يختلس الحركة مثل المفترسِ الذي سبق درس كل خطواته لكي يأتي إلى هنا، ورافق كل حركاته سكون حركة “يوسف” الذي جلس على الفراش ينتظر فريسته وما إن أقترب هذا الطبيب منه قام بسحب الملعقة البلاستيكية التي أتت له مع وجبة الغداء ثم كبل عنقه بمرفقه ووضع الملعقة التي قام بكسرها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_اسأل اللي قبلك حصل فيهم إيه لما دخلوا هنا !! لو حطيت المعلقة دي في أي مكان يخطر ببالك أنا ممكن أنهيك، أخرج بأدبك أحسنلك.
هتف حينها “جَـواد” بنبرةٍ مختنقة وكأنها يحارب لإخراج صوته من أسفل ذراع “يوسف” الذي يُخنق عنقه:
_صدقني اللي بتعمله دا هو اللي هما عاوزينه، هما حاطينك هنا تضرب وتكسر علشان يتكتب…. تقارير عنك إن حالتك صعب ومينفعش ليك خروج، أنا الوحيد اللي عاوزك تخرج من هنا، صدقني أنا مش هضرك.
انتبه “يوسف” لحديثه وقبل أن ترتخي مسكته شددها من جديد وهتف بنبرةٍ مبحوحة بعدما قام بغرز الملعقة بداخل عنق “جَـواد”:
_إيه اللي يثبتلي إنك مش كداب ؟؟ عاوز تقنعني إنهم بييجوا علشان يتضربوا هنا ؟؟ أنتَ شكلك مجنون.
هتف “جَـواد” ردًا عليه بإمارةٍ يكسب بها ثقته:
_صدقني والله دا شغلهم أصلًا، واللي عامل كدا عمك وجوز عمتك وعمي صاحب المستشفى دي، بس حظك أنه سافر مؤتمر برة علشان ياخد الدكتوراه الفخرية، أنا هخرجك بس تسمع كلامي، أبوس إيدك ساعدني أساعدك، حرام شاب زيك بشهادتك وشكلك ومواصفاتك دي يضيعوا عمره هنا، ثق فيا يا “يوسف”.
لم يعلم كيف تركه وكيف وثق به وكيف ابتعد عنه وقد جلس على الفراش لأول مرةٍ يضم ركبتيه بكلا ذراعيه يبكي وكأنه فقد والديه لتوهِ، بكى وهو يقول بنبرةٍ مقهورة كحال قلبه:
_يارتني كنت موت معاهم، يارتني كنت موت.
انتبه له “جَـواد” واقترب منه يعانقه وكأنه يحمي طفلًا صغيرًا وليس شابًا بالغًا، أما “يوسف” فسمح لنفسه ينهار أمام “جَـواد” وكأن ماحدث له أكبر من قوة تحمله، حياته لم تكن طبيعية أو حتى مثل أي حياةٍ أخرىٰ، ولو علم “نَـعيم” بما حدث له من المؤكد سيبحث عنه لكنه هنا في مكانٍ يشبه المنفى بعيدًا عن العالم وكأنه كهفٌ، وهو الناجي الوحيد من الكهف المظلم، ليخرج حينها للدنيا المُضاءة، وقتها فقط تأكد إنها كهفٌ لكن أكثر اتساعًا من الأخر مع مراعاة وضع الأسف للأخر.
[عودة لهذه اللحظة]
خرج من رحلته الصعبة على صوت الأغنية الذي رفع الشاب صوته يغنيها هو _بالرغم من بشاعة صوته_ لكنه كان يعبر عن وجعهِ مع هذه الكلمات حينما ظهرت دموع “يوسف”:
_وأنا عمري كام علشان
تكونلي الذكرى أسلوب حياة..
دماغي فيها مليون شريط
ماضي قديم من دا ودا
دا أنا كنت عيل من يومين ودخلت أنام
صحيت لقيت العمر عدى ماخدنيش معاه.
أغمض جفونه بأسىٰ ثم سحب نفسًا عميقًا ورفع كفه يمرره فوق خصلاته، فاته قطار العمر وتركته أجمل سنين عمره ليبقى هنا هو الغريب حتى نفسه بعدما فقد نفسه، ضاع منه “يوسف” ولازال ضائعًا كما هو وقبل أن يتعمق مع جروحه خرج على صوت هاتفه الذي صدح برقم “أيـوب” وحينها سحب نفسًا عميقًا ثم جاوبه بقوله الذي أوضح ألم نبرته:
_ألو، إيه يا “أيـوب” ؟؟
لاحظ الأخر صوته فسأله بتعجبٍ تصحبه اللهفة:
_مالك أنتَ كويس ؟.
أراد أن يخبره نافيًا هذا الجواب وأراد أن يصمت أراد أن يبكي ويخبره بما حدث له وأراد الكثير والكثير وكعادته رد بكلمةٍ واحدة كاذبة يؤكد جواب السؤال:
_آه يا “أيـوب” خير فيه حاجة ؟.
بعد هذه النبرة المُبرمجة تأكد “أيوب” أنه يكذب لكنه لم يضغط عليه وجاوبه مفسرًا سبب اتصاله:
_آه مشوارنا لـ “عـادل” بيه نسيته؟
بالطبع وسط هذه الجروح الغائرة سينسى هذا الموعد، إذا كان نسى نفسه وعائلته ونسى أنه وجد حياته ووجد الوطن من بعد الغُربة فكيف سيتذكر تفاهة هذا الشيء؟ لذا مسح وجهه بكفهِ وقال بنبرةٍ محشرجة:
_معاك أهو هبعتلك اللوكيشن اسبقني على هناك وأنا هاجي وراك علشان بعيد عنك بشوية، مش هتأخر عليك متقلقش.
وافقه “أيـوب” في الحديث وقبل أن يُغلق الهاتف تحدث بثباتٍ يُبعد الحزن عن الأخر بقوله:
_”هَون عَليكَ فَما هِي إلا دُنيا”
ها !! دُنيا يعني أصلها في النازل أوعى تزعل على حاجة فيها يا ابن الناس، هي الجنة فاتتك يعني ؟ لسه في راحة أبدية تانية مستنيانا، علشان كدا دي دار شقاء، هون على نفسك.
أغلق “أيـوب” الهاتف فيما تعجب “يوسف” من حديثه الذي أتى في وقته، هو حقًا يحتاج للتهوين عن نفسهِ، كعادته أتى في وقتهِ ينقذه من نفسه ومما تفعله به وكأنها وحشٌ يفتكُ بهِ.
__________________________________
<“إنجازٌ حينما يأتي لصيدك فتقوم بصيدهِ”>
في بعض الأحيان تصبح الأشياء الغير هامة هي أكثر الأشياء محبةً على قلبكَ، مثل صوت الهاتف الذي تكرهه حينما يصدح من رقمك المُفضل ومثل الازعاج الذي يكره طبعك الهاديء ويحبه نقيضك، وهنا هو يرى الازعاج من رقمه المفضل لكنه ابتسم لحين يصل حتى يستطع أن يجاوب على المكالمة.
أوقف “أيوب” سيارته أولًا أمام باب المشفى وأخرج هاتفه يجاوب على اتصال زوجته التي قالت بلهفةٍ فور جوابه على اتصالها:
_كنت فين يا أسطى “أيـوب” ؟.
تنهد مُطولًا وقال بقلة حيلة بعدما ابتسم لها:
_بدأتيها معايا بدري أوي يا “قـمر” دا إحنا يدوب، على العموم أنا عند مستشفى***** بزور “عـادل” بيه ومستني “يوسف” أخوكِ علشان يجي وندخل سوى.
قلبت عينيها بتفكيرٍ ثم هتفت بحماسٍ بعدما خطرت ببالها فكرةٌ تمنت أن تتحقق واتضح هذا من إلحاحها عليه حين هتفت:
_طب ممكن أطلب منك طلب بس إياك تقول عليا هايفة؟.
ابتسم بسخريةٍ ورد عليها بقوله:
_أنا أقول عليكِ كدا ؟؟ أعوذ بالله مقدرش، أنا أبصم بالعشرة إنك في كامل قواكِ العقلية، سامحني يا رب، ها يا روح “أيـوب” أؤمري.
ابتسمت بخجلٍ من هذا اللقب وسألته بتوترٍ تنتظر منه الجواب بفارغ الصبرِ:
_هو أنا روحك بجد ؟؟.
تبدلت بسمته الساخرة إلى أخرى صادقة حين هتف حديث قلبه لها وما يراه هو فيها من صفاتٍ عديدة تجعله متمسكًا بها حتى وإن كانا عكس بعضهما:
_آه يا “قـمر” أنتِ روح “أيـوب” ونتيجة صبره، وأي وصف جميل على القلب زيك، ها يا روح “أيـوب” وقمره وصبره، اشجيني بفكرتك.
سحبت نفسًا عميقًا ثم قالت بحماسٍ ازداد عن السابق:
_عاوزاك تتصور مع “يوسف” وتبعتلي الصورة ومترفضش علشان خاطري، هي صورة واحدة بس تجمعكم مع بعض عاوزاها على تليفوني.
تعجب من حديثها وكاد أن يسخر منها أو لربما سخر بالفعل حين هتف:
_لو عليا أقسم بالله موافق، إنما لو على أخوكِ مش ضامن.
أتى “يوسف” من خلفه يسأله بتعجبٍ من حديثه وقد علم بالطبع مع من يتحدث:
_ماله أخوها ؟؟ مش ضامنه ليه يعني؟.
انتبه له “أيـوب” فمد كفه بالهاتف حتى أخذه منه “يوسف” الذي سألها باهتمامٍ عن سبب حديث الأخر فأخبرته هي بما تريد وعند طلبات “قـمره” بالطبع لن يُرفض وإن كانت روحه حتى، لذا قال موجزًا بكلمةٍ مقتضبة:
_ماشي يا “قـمر”.
أغلق معها المكالمة ثم فتح هاتفه وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما جهز الكاميرا الأمامية ليلتقط الصورة لهما معًا مما جعل “أيـوب” يسأله بحيرةٍ من خضوعه لها:
_وافقت كدا عادي؟.
التفت له “يوسف” يهتف بصدقٍ:
_معنديش رفاهية أني أرفضلها طلب حتى لو روحي.
تم التقاط الصورة لهما مع بعضهما فيما ابتسم “أيوب” له بتقديرٍ وكأنه يعلم هذه المشاعر جيدًا، شقيقته التي تولى رعايتها وتربيتها من بعد وفاة أمه جعلته يقدر أصغر اللحظات معها، لذا تذكر “آيـات” التي شارفت على الإنتقال من البيت ليصبح من بعدها كئيبًا مُظلمًا.
سارا معًا للداخل حتى غرفة “عَـادل” وقد فتحت لهما “نـور” التي ذُهِلت من مجيء “يوسف” إلى هنا بينما هو ذكر اسمها بلهفةٍ أعربت عن صدمته بتواجدها وقد انتبه لهما “سـراج” الذي تأهبت حواسه حينما وجدها تنطق بفرحةٍ كُبرى:
_”يوسف” !! عامل إيـه؟ طمني عليك.
هز رأسه مومئًا لها بتيهٍ ثم حرك رأسه نحو “سـراج” الذي حذره من أي تمادي معها فحرك “يوسف” عينيه نحوها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا كويس بخير حمدًا لله على سلامتك.
انتبه “عَـادل” لوقوف “أيـوب” غاضًا لبصره عن ابنته فقال بفرحةٍ لأجل رؤية “أيـوب” في المشفى لأجلهِ:
_دا أنا طلعت غالي عليك بقى أوي، جاي تاني بنفسك ليا؟ هتخليني أحب التعب والرقدة يا “أيـوب”.
أقترب منه يقول بوجهٍ يبتسم ببشاشةٍ:
_ألف لا بأس على حضرتك، شدة وهتزول والحمد لله اختبار من ربنا، لعله يكون شفيعًا لكَ ويجعل البلاء في ميزان حسناتك، ربنا يبارك في عمرك وصحتك.
تعجبت “نـور” منه كثيرًا وطريقة حديثه المُهذبة، بالطبع هي كانت صديقة “يوسف” و حبيبة “سراج” والآن تتقابل مع “أيـوب” شتان بينهم، وتعجبت أكثر من علاقة والدها به وانشغلت معهما حتى اقترب “يوسف” من “سراج” يحدثه بنبرةٍ ساخرة أقرب للهمس حتى لا تصل إلى غيرهِ:
_أنا قولت الشهامة اللي نزلت على أمك دي مش لله وللوطن، أتاريها جت وأنتَ تَبِت في المكان، ياكش تيجي بفايدة ونخلص من زن أهلك.
حدثه “سراج” بنبرةٍ هامسة في أذنه بوقاحةٍ كعادتهما مع بعضهما:
_أنتَ مالك؟؟ لما أبقى اذن على ودن أهلك ابقى أتكلم، حاشر نفسك ليه في اللي ميخصكش.
اغتاظ “يوسف” من طريقته فهمس له بما ضايقه كثيرًا وجعله في شدة غيظه منه:
_أبـقى اسـأل أمــك.
لاحظت “نور” همسهما سويًا فسألت بنبرةٍ عادية أو هكذا حاولت إظهارها أمامهم تُخفي توترها من هذه اللحظة بخلاف أنها حتى الآن لم تتعرف على “أيـوب”:
_تشربوا إيه يا جماعة ؟؟ عصير؟ عصير.
جاوبت بدلًا عنهم وتحركت من محلها تترك الغرفةِ لهم فيما استمرت حرب النظرات بين “سـراج” و “يـوسف” دون داعٍ لذلك لكن الماضي هنا يلعب بينهما دورًا كبيرًا.
كان “إيـهاب” نائمًا أو هكذا بدا حيث كانت “سمارة” بجواره تتوسد صدره برأسها وهي تشاهد التلفاز بينما هو يبدو وكأن النوم يُعانده أو لربما هي التي أجبرته على السهر معها حتى صدح صوت هاتفه فسحبه من جواره يجاوب على المتحدث الذي كان “مُـنذر” وهاتفه بقولهِ:
_عاوز اقابلك الليلة دي ضروري ومعاك “يوسف”.
اعتدل “إيهاب” في وضعية جسده وسأله باهتمامٍ:
_فيه حاجة؟.
كان الأخر حائرًا وتائهًا بين شيئين فاندفع يسأله بدلًا من أن يحاوبه:
_ تعرف واحد اسمه “أيـوب العطار” ؟.
حينها انتفض “إيهاب” مبتعدًا عن زوجته التي تعجبت من حالته فيما سأله هو بنبرةٍ جامدة بعد استماعه للاسم:
_ماله !! حصله حاجة ؟
طريقته هذه أكدت لـ “مُنذر” أنه حقًا يعرفه لذا قال بثباتٍ حاول صبغ حديثه به على عكس خوفه:
_طب هات “يوسف” وتعالى على الأرض بتاعته، بسرعة بس وياريت تخلي بالك وأنتَ جاي.
أغلق الهاتف بينما “إيهاب” سحب ثيابه حتى وجد زوجته تسأله بقلقٍ من حركته الغير مناسبة في هذا الوقت:
_مش قولت إنك مش نازل؟ رايح فين دلوقتي؟.
وقف أمامها ينطق بلهفةٍ:
_مشوار مهم مع “يوسف” خلي بالك من نفسك ومتنزليش تحت تاني أنا هاجي على هنا علطول، أوعي تتحركي مش هقول تاني.
حركت رأسها موافقةً عدة مراتٍ فيما ارتدى هو القميص الرمادي المصنوع من خامة الجينز فوق السترة القطنية البيضاء وخرج من البيت في يده الهاتف يتحدث مع “يوسف” وبعد عدة محاولات جاوب الأخر على مكالماته حتى قال بلهفةٍ:
_تعالى على الأرض بتاعتك دلوقتي.
فهم “يوسف” أن الأمر به شيئًا غريبًا فلم يتطرق لأي أسئلةٍ أو أحاديثٍ لن تفيده وقد التفت لـ “أيوب” بعد خروجهم من المشفىٰ في استعدادٍ للرحيل وقد هتف بنبرةٍ حاول رسم الهدوء عليها بقوله:
_كدا كدا كل واحد فينا معاه عربيته، مش عاوزك تزعل بس والله جالي مشوار مهم ولازم أروحه، يدوبك ألحق أتحرك، عن إذنك.
لم يترك له فرصة الجواب بل تحرك يركب سيارته فورًا فيما ركب “أيـوب” أيضًا سيارته وتحرك بها عكس طريق “يوسف” وكأن هذه هي طبيعتهما، كلاهما يسير عكس الأخر وفي نهاية الأمر يجمعهما شيءٌ واحدٌ.
بعد مرور بعض الوقت من القيادة المتهورة وصل “يوسف” إلى أرضه ليجد هناك “مُـنذر” برفقة “إيهاب” وحينها سأل بقلقٍ مما جال بخاطره من مخاطرٍ جميعها أسوأ من بعضها:
_حصل إيه ؟؟ أوعوا يكون حصل حاجة لحد؟.
هتف “مُـنذر” بضياعٍ:
_الراجل اللي اسمه “أيـوب العطار” دا تبعك صح؟.
تبدلت ملامح “يوسف” وتباينت ردات فعله بين الحيرة والصدمة والذهول وكأنه يتسائل بصمتٍ كيف علم “مُـنذر” بأمرهِ، فيما تدخل “أيـوب” ينطق بقلقٍ:
_آه، جوز أخته وابن صاحب أبوه، ليه؟.
هنا ظهرا الخزي والآسف على ملامحه حين تحركت عظمة حنجرته وهتف هو بخجلٍ من فعله:
_أنا ماكنتش أعرف ومركزتش في ربط العلاقة بينك وبينه أو اسمك واسم أختك، بس “ماكسيم” طلب مني أجيبله بطريقتي كل حاجة عن “أيـوب” دا وأنا جيبتها وأديتهاله.
_إيــه ؟؟
كلمة استنكارية معتادة خرجت من “إيـهاب” فيما رفع “يوسف” صوته قائلًا بنبرةٍ عالية:
_نعم يا روح أمـك؟؟ عملت إيه تاني كدا سمعني؟.
لم ينطق “مُـنذر” بل أخفض رأسه أرضًا حتى أقترب “يوسف” منه يمسك تلابيبه وهو يصيح في وجهه بنبرةٍ عالية:
_ليه ؟؟ أنتَ غبي ؟؟ عارف دا عاوز إيه من “أيـوب” ؟؟ زي اللي عاوزه من “إسـماعيل”، كل دا علشان الفلوس ؟ انطق خد منك إيه بخوص “أيـوب”.
قبل أن يجاوب صدح صوت هاتف “مُنذر” الذي أخرجه بلهفةٍ مما جعل “يوسف” يتركه ويراقبه حتى ارتفع صوت “مُـنذر” بحدةٍ يوبخ من يحدثه بقوله:
_أنتِ غبي يا “أمين” ؟؟ مش قولتلك لما تعرف أي حاجة تعرفني، يعني إيه ؟؟ طب متعرفش المكان ولا مين اللي راح؟.
_للأسف معرفتش هو أتحرك لوحده في السر محدش يعرف عنه حاجة، أول ما عرفت قولت أعرفك، لو عرفت حاجة تاني هقولك، سلام.
أغلق “مُنذر” الهاتف فيما انتبها له الإثنان وحينها قال بآسفٍ يخبرهما بما حدث وأخبره به مساعده:
_”ماكسيم” بعت حد يخطف “أيـوب”.
حلت الصدمة عليهما كوقع الصواعق المحرقة على الأجساد بعد سكونها، لم يتوقع أحدهما أن الأمر يتم بهذه السرعة ويقع الضحية بها “أيـوب”.
__________________________________
<“جراب الحاوي لم يفرغ بعد”>
الظلام الدامس يشق الليل والمكان، الطريق العام كان فارغًا من السيارات والناس، عدا سيارتين متقابلتين صفتا على الطريق الشاغر من كل شيءٍ، وقد كان يجلس أحدهم راكعًا على رُكبتيه بجوار إحدى السيارتين والعِصبة السوداء “قماشة” تُغطي عينيه لتمنع عنه الرؤية وهناك جسدٌ أخر مُلقى أرضًا بجواره وقد سُحِبتَ العصبة من فوق عينيه ليتفاجأ بالضوء الذي ضرب عينيه حتى أغمض جفونه يحمي عدستيه من الضوء فيما سأله “أيـوب” بسخريةٍ بعدما ابتسم ببرودٍ:
_ها !! مين بقى سلطك تخطفني فقومت أنا اللي خطفتك؟؟ أبقى قوله لما تشوفه إن الشيخ “أيـوب” متربي في حارة، وقوله برضه فيه مثل حلو اسمه تيجي تصيده يصيدك، و ابن “العطار” صياد شاطر، شوفت إزاي بينقلب السحر على الساحر؟.
“انقلب السحر على الساحر”
أتوا ليقومون بخطفه فقام هو بخطفهم، “أيوب” الذي لم تنتهي جبعته مما يحمل بداخلها، وقف بشموخٍ يتابع المخطوف ومن يجاوره، لازال جراب الحاوي يحمل بداخله الكثير والكثير وأولها حينما استطاع أن يقلب السحر على الساحر.
_لا تنسوا الدعاء لإخوانكم وتذكروا أن الدعاء هو سلاحنا الوحيد، وأن الكلمة مقاومة والدعاء جهاد، جاهد بما تقدر عليه.
_______________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)