رواية غوثهم الفصل التاسع والأربعون 49 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل التاسع والأربعون
رواية غوثهم البارت التاسع والأربعون
رواية غوثهم الحلقة التاسعة والأربعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل التاسع والأربعون”
“يــا صـبـر أيـوب”
___________________
_أتيتُ يا خالقي أخبركَ أنني ضعيفٌ
والدرب يقتلني وظلامه مُخيفٌ
_أتيتُ من وحشةٍ تفتك بروحي
أتيتُ وأنتَ وحدكَ مداوي جروحي
_فبرغم أني عاصيك إلا أن عفوك
يُطمئن روحي
وبرحمتك هدأ وجعي وطابت جروحي.
__________________________________
أعتدتُ أن أكتبُ لكِ وأخبركِ بما أشعر به
لكن هذه المرة لاحظت أن الأمر أصبح أكثر خطورةً من السابق على نفسي،
فالأمر تخطى مجرد مشاعر الحب ليصبح
أشياءً أخرى أعجز عن وصفها،
وعند التمعن في فِكري أتذكر إنكِ لم تُري بعين البصر بل
وجدتكِ بعين البصيرة،
تحديدًا أنا من تم وصفه من قِبل العرب قديمًا:
“مَطروفُ العَيْنِ بِفُلانةِ”
وإذا أردتي معرفة الوصف فمقصده هنا:
” أنه لا ينظر إلا لها”
وفي حين بصري وبصيرتي استقرا عليكِ، فأود أن أكررها عليكِ أنكِ أنتِ من بين سائر البشر وكل النساء، أنتِ وحدكِ من بين الجميع استثناء، استثناءٌ صفا له القلب ورآكِ بعينيه وسبحانه من جعل القلوب للقلوب تصفو.
<“عاد النور لدربنا المُظلم”>
لم تكن صدمة بقدر ما كانت دهشة، دهشة غريبة تشبه فرحة الخائف عند شعوره بالاطمئنانِ، كونكَ غريبًا لم تنتمي لأي شيءٍ وفجأة أصبحت تملك كل شيءٍ، صوتها أرسل له غُمرة انتشاء جعلته يتنفس لأول مرّةٍ، تاه في رحلة ذكريات أعادته هي منها حينما قالت بنبرةٍ باكية تتهرب من التعرف على صوته برغم صدقها للهفته:
_ألو !!
انتبه لها من جديد وأخفض رأسه نحو “عادل” الذي احمر وجهه لدرجةٍ قاتمة وشبه توقفت حركة أنفاسه وتشتت حال “سراج” في الحال مابين هذا الذي أوشك على لفظ أنفاسه الأخيرة وكأنه قاب قوسين أو أدنى من الموت، وتلك التي تحدثت من جديد تتوسله باكيةً بقولها:
_”سراج” الحق بابا علشان خاطري، أبوس إيدك ألحقه أنا ماليش غيره…علشان خاطري.
بكت بصوتٍ متقطعٍ أعاده لرشدهِ وجعله ينتبه لما يتوجب عليه فعله فهتف بلهفةٍ يُطمئنها بقولهِ:
_متخافيش متخافيش، أنا معاه ومستحيل اسيبه.
اعتصرت عينيها بقوةٍ تضغط عليهما تُحد من البكاء وتحاول رسم صورة هادئة وسط زحام عقلها بأفكارٍ مشوهة تفتك بها بمجرد التخيل فقط، فماذا إذا حدثت؟ أغلق “سراج” الهاتف ووضعه في جيب بنطاله ثم رفع ذراع “عادل” يطوق به رقبته ليقوم بعدها برفعه بمجهودٍ بدا شاقًا عليه، لكنه حاول فقط لأجلها هي وهو يقوم بإسناد الأخر عليه.
وصل به إلى البوابة الحديدية القصيرة ورفع صوته يُنادي على حارس بيته الذي خرج من الغرفة الصغيرة المُلحقة ببيته وركض إليه بملامحٍ ناعسة جعلت “سراج” يقول بأسفٍ من موقفه:
_معلش يا عم “شعبان” بس الراجل بيروح مني.
سأله الرجل ببلاهةٍ ولا زال يقف محله:
_طب والعمل إيه يا أستاذ “سراج”
_لأ ولا حاجة، اجري وراه ألحقه، يــاعم “شــعـبان” هتجلطني قبل الراجل، افتحلي الباب دا ولا أتصرف.
بدل نبرته التي كانت ساخرة إلى أخرى حينما رفع صوته بضجرٍ في وجه الأخر الذي حاول أن يفتح الباب وقد نجح في ذلك وعاون بعدها “سراج” حتى ذهب به إلى السيارة أخيرًا أما الآخر فرفع صوته يحذره بقوله:
_خلي بالك على “جـودي” يا عم “شعبان” ركز أبوس إيدك البت فوق لوحدها وأنا هحاول أتصرف.
انتبه له الأخر وأومأ موافقًا بينما هو قاد السيارة بسرعةٍ دون أن يفكر في أي شيءٍ سوى هذا الرجل الذي يجاوره وفي محاولته لإنقاذه قبل فوات الأوان وقبل أن يظهر في عينيها مُهملًا فيكفيه حاليًا أن يكون مُجرمًا فقط..
__________________________________
<“مرة في حينا زارنا ضيفٌ لطيفٌ”>
كان “عُـدي” قد جلس وانهمك في ترجمة المحتوى الموجود أمامه وقد أنجزه ببراعةٍ كُبرى تتناسب مع شغفه الكبير لهذا المجال، حلم كثيرًا بما لم يصله كأي شابٍ في هذه المُنظمة التي تلطم الشباب بحقيقة فشلهم.
انتهى مما يفعله واقترب يحاور “يوسف” ثم قال بنبرةٍ هادئة يشرح له:
_دي الترجمة لـ ٣ لغات والعربي معاهم، ترجمة مترتبة مش حرفية زي جوجل، شوف كدا وراجع.
ابتسم له “يوسف” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة يبثه الثقة بالنفس ويعبر عن ثقته به:
_هراجع وراك يعني؟ دلوقتي “رهف” هتحطهم في الورق وتروح تظبطهم في الملف قبل بكرة، كدا خلاص فيه حاجة تاني يا “رهف” ؟؟.
أخذته منه الأوراق تراقبها بعينيها وترى كم الإنجاز الكبير الذي تحقق في ساعاتٍ قليلة بعدما أضنت أسبوعًا كاملًا من مجهودها وسُرِقَ في نهاية الأمر، وما إن رأت هذا نصب عينيها قالت بامتنانٍ توجه حديثها لذاك الغريب الذي ساعدها في حل مشكلتها:
_شكرًا يا “يوسف” أنا كنت مرعوبة أوي وخايفة بكرة ييجي وأنا مش محضرة حاجة، وشكرًا يا أستاذ “عُـدي” لحضرتك معلش تعبناك معانا وأخرناك على الغدا، متأسفة.
رفع “عُـدي” حاجبيه مذهولًا من حديثها ولم يرد عليها فضربه “يوسف” من جديد في قدمه حينها انتبه لها وهو يقول بنبرةٍ مكتومة وهو يتجاهل ألم الضربة:
_متقوليش كدا يا آنسة أنا تحت أمركم وأمر “يوسف”.
حركت رأسها موافقةً وقالت بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يديمكم لبعض ويحفظكم، عن اذنكم.
همت بجمع اشيائها فسألها “يوسف” بتعجبٍ:
_أنتِ راحة فين ؟ هتمشي ازاي لوحدك هاجي أوصلك.
هتفت بلهفةٍ ترد عليه وترفض عرضه:
_لأ كتر خيرك لحد كدا، أنا كلمت “حازم” جوز أختي وهو بعتلي صاحبه بعربية توصلني للبيت، خليك أنتَ علشان بكرة يوم مهم ومش عاوزين حد منهم يتكلم معانا أو حتى يستقصدنا.
انتبهوا لها جميعًا فقالت “قـمر” تقترح عليها:
_طب خليكِ معانا شوية كمان، أنتِ اشتغلتي بس.
طالعتها بأسفٍ وهي تقول بقلة حيلة بعدما أشارت على ساعة يدها وكأنها تخبرها بالتوقيت:
_ماهو أنا نفسي والله بس مش هينفع، عن اذنكم
جهزت اشيائها وقامت بجمعها ثم وقفت ووقفوا هم استعدادًا لرحيلها وهي تودعهم بقولها الذي خرج ممتنًا وبشوشًا:
_أنا متشكرة جدًا على الوقت الجميل اللي قضيته هنا معاكم، بجد كنت مبسوطة أوي واتمنى تتكرر على خير في ظروف أحسن إن شاء الله.
ابتسمت لها “غالية” وأضافت بودٍ كعادتها ترحب بها:
_البيت بيتك خلاص أنتِ مش غريبة، أي وقت اتفضلي تنورينا، وأتمنى يعني يكون اللي حصل دا مضايقيكش بس أنا أم وغصب عني انفعلت، مع أني ماكنتش والله ناوية على كدا وقولت خلاص هو معايا، بس القهرة أكبر من إني اتحكم فيها.
تبدلت نبرتها من الودِ والترحاب إلى القهر والأسف وكأنها تتأسف لها وتخبرها إنها لم تقصد فعل هذا الشيء أمامها، والأخرى تفهمت وردت عليها ترفع عنها الحرج ثم استأنفت وداعها وأخيرًا وقفت أمام “عـهد” وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_أنا خلاص اعتمدت إنك دكتورة آشعة، فسلام يا دكتور حتى لو أنتِ مش هتكملي يعني، بس في نظري دكتورة.
ابتسمت لها “عـهد” وأضافت بأسفٍ:
_هو للأسف أنا مكانش حلمي خالص كلية علوم، كان نفسي فنون تطبيقية وأي حاجة ليها علاقة بالهاند الميد والمشاريع اليدوية أو الفنون القديمة، بس التنسيق كان عنده رأي تاني.
ابتهجت ملامح “رهف” وقالت بحماسٍ شديد لا تعلم هي سببه ولا حتى الأخرين:
_على فكرة الحاجات دي مش حِكر على الكليات بس، فيه ناس كتير صحابي في الزمالك فاتحين الجاليري بتاعهم وبيعملوا كل حاجة ويعلموا ناس كتير في ورش تبعهم، ممكن أعرف “يوسف” وتروحي معاه ؟.
نظرت “عـهد” له نظرة عابرة لم تطلها بل حركت رأسها سريعًا وأضافت توافقها بقولها:
_إن شاء الله الظروف تتحسن وكل حاجة تبقى أحسن شوية وهاجي حتى لو معاكِ أنتِ نفسك علشان متزعليش.
تدخل “يوسف” هُنا ينطق بنبرةٍ هادئة وهو يقول:
_قريب إن شاء الله هاخدها الزمالك تتفرج على كل حاجة هناك وتتفسح فيها كلها، هانت اللي فاضل مش كتير.
صدح صوت هاتفها في هذه اللحظة برقم السائق فاعتذرت منهم وجاوبت على المكالمة ثم أخبرتهم برحيلها الذي توجب عليها فرافقها “يوسف” للأسفل واطمئن عليها بداخل السيارة واخبرها أن تُطمئنه عليها بعد عودتها.
في الأعلى جلسوا مع بعضهم بعد رحيل “يوسف” معها فسألهم “عُـدي” بتعجبٍ:
_هي مين دي اللي كانت هنا !!
ردت عليه “ضُـحى” بضجرٍ منه بعدما رسمت اليأس على ملامحها:
_تعبتني، يا بني قولنا دي النائب عن “يوسف” في الشركة وماسكة شغله بس بصراحة طلعت عسولة أنا قولت هلاقيها مُتكبرة ورافعة مناخيرها علينا، بس طلعت ذوق كمان بصراحة.
أومأ موافقًا لها وكاد أن يرد فصدح هاتفه برقم خطيبته السابقة حينها زفر بقوةٍ ثم ترك محله وابتعد عنهم بمسافةٍ لا بأس بها وقال بنبرةٍ جامدة:
_خير يا “مـيار” ؟ فيه حاجة؟
جاوبته هي بلهفةٍ مُصطنعة ما إن وصلها الرد منه:
_كنت بتطمن عليك يا “عُـدي” وأنتَ مش عاوز ترد عليا، روحت من الشغل ولا لسه؟ يومك كان كويس؟
ابتسم بسخريةٍ وهتف بنفس الجمود:
_معملتيهاش واحنا لابسين الدِبل يعني يا “ميار” جاية دلوقتي تطمني عليا وأنا ماليش حق حتى أعرفك ؟ على العموم أنا بخير الحمد لله ويومي كان كويس جدًا، أيامي الأخيرة كلها حلوة ومش مضغوط فيها.
كان يواري خلف حديثه حديثًا يرسله بها برسالةٍ مُبطنةٍ فيما ردت عليه برقةٍ بغضها هو وبغض صاحبتها في هذه اللحظة:
_طب ربنا يوفقك إن شاء الله أبقى اسأل بقى.
_إن شاء الله لما أفضى.
جاوبها بفتورٍ ثم أغلق معها المكالمة فوجد “يوسف” الذي صعد منذ لحظاتٍ قليلة يجاوره في الوقوف وهو يسأله بسخريةٍ:
_هي برضه بنت الزنانة ؟ طب ما ترجع طالما باقية عليك.
نظر له “عُـدي” بءهولٍ تام وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_أرجع !! مستحيل طبعًا، دي واحدة بتاعة مصلحتها وبس، يعني متفكرش غير في نفسها، مشوفتهاش وقفت معايا حتى لو في مواقف عادية، وفي أكتر وقت كنا مزنوقين فيه صممت أني أخطبها رغم أني كنت متفق بعد ٦ شهور بس فضلت تعمل أفلام وحوارات عليا لحد ما روحت داينت نفسي ولبستها الشبكة.
سأله “يوسف” باهتمامٍ من جديد بعدما أخبره أخوه بهذا الحديث وكأنه لفت نظره لتوهِ:
_هو إزاي أنتَ مترجم شاطر كدا وواضح إنك متمكن مش هاوي وفي نفس الوقت بتشتغل في مكانك دا، مؤهلاتك وامكانياتك أكبر بكتير من المكان اللي أنتَ فيه.
ابتسم “عُـدي” بسخريةٍ وهتف بوجعٍ:
_علشان دي العيشة هنا للأسف، تفضل تحلم تحلم تحلم ومرة واحدة تاخد على دماغك أنتَ وأحلامك، مين في مصر اشتغل بشهادته ولا مين هنا عرف ينجح أصلًا من غير واسطة ومحسوبية، أنا أحلامي كانت عادية أوي أوي لحد ما اكتشفت صعوبتها فاتأكدت إنها أكبر مني.
لاحظ “يوسف” الأسى الذي ظهر عليه فأضاف الأخر من جديد مُتابعًا حديثه بشرودٍ:
_أنا كنت شاطر أوي وطول عمري بشتغل من ساعة ما بقيت في خامسة ابتدائي، أي حاجة كنت بشتغلها، في سوبر ماركت ولا صبي مكوجي، عند حلاق ساعات، عشان أساعد مع خالك في المصاريف حتى لو هجيب حق أكلة، ولما كبرت مطلبتش كتير، حبيت زميلتي في الشغل أو هي خلتني أحبها، وقولت زيي زي غيري يكافح وخلاص، بس للأسف بقى ولا أي حاجة نفعت أصلًا….
توقف عن الحديث لبرهةٍ ثم أضاف من جديد:
_ساعتها قولت هتجوز في إيجار لحد ما ربنا يكرم وأقدم على شقة بعد جواز “ضُـحى” بس اتطمن على أختي الاول، اتفاجئت ساعتها بحماتي رافضة وتقولي بنتي متخشش في إيجار، بنتي مش أقل من اختها، دي أختها قاعدة في العبور، طب أنا هعملك إيه ؟ أشتغل شغلانة واحدة مش عاجب، شغلانتين أنا كدا مش مهتم ومقصر، مترجم زيي شغال كول سنتر الناس بتقفل في وشه قبل ما يرمي عليهم السلام حتى، يا أخي صلي على النبي نكدت عليا.
ضحك “يوسف” رغمًا عنه وكذلك ضحك “عُـدي” فوجد “يوسف” يرفع ذراعه يضعه على كتفه وقال بنبرةٍ هادئة يتضامن مع مشاعر أخيه:
_متزعلش نفسك بكرة كل حاجة تتعدل وتاخد أكبر بكتير من اللي اتمنيته، بأي شكل هتاخد أنا خدت كتير اسألني أنا.
عقد “عُـدي” مابين حاجبيه وهو يسأله بتعجب:
_بجد !! طب هاخد إيه ؟
جاوبه “يوسف” بجديةٍ واثقة ردًا على سؤاله:
_هتاخد على دماغك إن شاء الله.
ضحك “عُـدي” وضحك معه “يوسف” أيضًا وكلاهما يتذكر أحلامه الصغيرة التي قبض عليها الفشل وسجنها بين جدران المُستحيل وكأن تحقيقها لم يصبح حقيقةً ذات يومٍ.
لاحظت “عـهد” صوت ضحكاته مع أخيه فابتسمت بهدوءٍ ثم عادت بتركيزها للفتيات من جديد فيبدو أنه يحترم رغبتها الأولى في وضع حدودٍ بينهما قبل أن يُنهي هذه العلاقة، أما هو فاسترق النظرات نحوها وكأنه يطمئن عليها، يراها وسط أفراد عائلته وكأنها منهم لم تكن غريبة عنهم، ابتسم حينما تذكر موقفها مع والدته وشعر بفخرٍ كبيرٍ تجاهها.
__________________________________
<“الليل في قاموسنا للقلق، أين الراحة”>
كان “إيهاب” نائمًا على فراشه يضم زوجته بين ذراعيه وكأنه يؤمنها من شيءٍ مجهولٍ، أخيرًا سنحت له الفرصة يرتاح قليلًا بعد يومٍ شاق دار به على كافة أماكن العمل يتابع سيرها والشئون المالية والإدارية وها هو يهنأ بنومةٍ هادئة بجوار زوجته بعدما رحلت “جودي” وعاد له مكانه من جديد.
صدح صوت هاتفه يشق سكون الليل مما جعله يتململ في نومته فيما فتحت زوجته عينيها بضجرٍ وهي تسحب الهاتف وتعطيه له، استيقظ هو بضجرٍ وما إن لمح اسم “سراج” زفر مُطولًا ثم هتف بنبرةٍ جامدة مُحشرجة:
_دا ابن المجنونة سيبك منه، هتلاقيه بيرخم.
وضعت رأسها على الوسادة من جديد فصدح هاتفه للمرة الثانية حينها هتفت هي بقلقٍ ساورها وأرعب قلبها:
_رد كدا ممكن تكون “جودي” فيها حاجة، رد.
حرك “إيهاب” كتفيه وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_هي “جودي” طلعالي في البخت ؟؟ تلاقيها هي وعاوزة تكلمك قبل ما تنام ساعتها أنا هقطع العلاقات المهببة بينكم.
أطاحت له الأخرى برأسها فيما أضطر هو للرد على المكالمة خصوصًا حينما وجد الساعة شارفت على إتمام الواحدة صباحًا، فرد عليه بتهكمٍ:
_خير يا وش الخير، اتخطفت؟؟
جاوبه “سراج” بنبرةٍ هادئة حاول التسلح بها بعدما أخيرًا جاوب الاخر على مكالماته واتصل به:
_لأ يا غالي، أنا في مستشفى وقاعد معيش أي حاجة، و “جودي” في البيت لوحدها وماليش غيرك دلوقتي علشان تلحقني من اللي أنا فيه…
أخبره بما حدث دون أي تفاصيلٍ تُذكر مما “إيهاب” ينتفض من محله يسأله بقلقٍ:
_مستشفى إيه ؟؟ و “جودي” لوحدها ازاي يعني مفيش عند أهلك مخ تاخدها معاك بدل ما تصحى لوحدها وتخاف ؟ يا أخي تعبت من غبائك.
هتف “سراج” بقلة حيلة يُبريء نفسه:
_بقولك الراجل كان هيروح وهي نايمة، اسمع كلامي بس أنا هنا مش معايا حاجة غير موبايلي وهيفصل كمان و موبايل “عـادل” فصل على حظي.
أخبره “إيهاب” بالموافقةِ وأغلق معه المُكالمة فوجد “سمارة” تترك الفراش واقتربت منه تسأله بخوفٍ حملته في قلبها بقدر ما سمعت من حديثٍ عن الصغيرة:
_مالها “جودي” ؟؟ هي فين يا “إيـهاب” ومستشفى إيه دي اللي كنت بتتكلم عنها !!.
سحب نفسًا عميقًا داخل رئتيه ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_”جودي” في البيت هناك لوحدها و “سراج” راح مع “عادل” المُستشفى علشان جاله أزمة وأنا هروح البيت اتطمن عليها وأخد فلوسه وبطاقته وأروحله.
تحدثت بلهفةٍ وهي تمنع تحركه حينما وقفت حائلًا أمامه وهي تقول بلهفةٍ قَلِقة:
_أنا عاوزة أجي معاك، أنتَ مش هتعرف تتعامل معاها وحرام تتبهدل في المستشفيات، خدني معاك بالله عليك.
بعد مرور نصف ساعة تقريبًا خرج بزوجته من الشقة ومن البناية بأكملها ثم ركب سيارته يشق بها الطريق شقًا إلى الصغيرة خوفًا من استيقاظها بمفردها في سكون الليل، بينما الأخرى بجواره كانت تجلس بقلقٍ وتساورها أفكارٌ قاتلة كلٍ منها أسوأ من الأخرى، وكلهم فقط يخصون الصغيرة.
أوقف “إيهاب” السيارة أخيرًا عند البناية بعدما أرسل له “سراج” الموقع عبارة تطبيق المُراسلات، وقد نزل من السيارة وزوجته معه بلهفةٍ أكبر حتى وقف الحارس أمامه يسأله بنبرةٍ جامدة:
_أيوة يا أخ !! واقف هنا ليه الساعة دي.
انتبه له “إيـهاب” وشمله بنظرةٍ مُتفحصة من أعلى لأسفل وهو يقول بنبرةٍ بدأها ودية:
_السلام عليكم يا حج، أنا “إيـهاب الموجي” قريب “سـراج” وجاي علشان بنت أختي جوة لوحدها.
جلس الرجل على المقعد بقصدٍ يتجاهله وقال بفتورٍ:
_وإيـه اللي يثبتلي ؟؟ عبيط أنا يعني ؟؟
ارتسم الذهول على ملامح “سمارة” التي فرغ فاهها، فيما رفع “إيـهاب” حاجبيه وهو يتشدق بنزقٍ مُستفسرًا:
_نعم !! دا اسمه إيه إن شاء الله ؟؟
رفع الحارس رأسه وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_سميه زي ما تسميه، بس أنا مش ضامن إنك تعرفه أصلًا، المفروض أصدق إنك قريبه إزاي وأنتَ مش شبهه؟ ثم يعني ما يمكن تكون واحد سمعني بالغلط وقولت أهي فرصة، أنتَ فاكرني عمياني هنا !! دا أداري ومفتح أوي.
نظر لزوجته التي جاهدت تكتم ضحكتها فسألها بنفاذ صبرٍ:
_أنتِ بتضحكي على إيه ؟؟.
ضحكت هذه المرة بصوتٍ عالٍ بينما هو أخرج هاتفه يطلب رقم “سراج” الذي كان واقفًا مع الطبيب يتابع حالة الآخر لذا تأخر عليه في الرد، حاول “إيهاب” ثانية وثالثة حتى وصله الجواب في الرابعة فتحدث بنبرةٍ عالية:
_يا أخي بقى !! مبتردش ليه على الزفت ؟
هتف بنبرةٍ هادئة ظهر بها التعب:
_يا عم كنت واقف مع الدكتور، قولي وصلت؟.
أخبره “إيـهاب” بما حدث من حارس العقار فطلب منه أن يعطي الهاتف للحارس الذي أخذه منه وهو يرسم نظرة ثقة جعلت “سراج” يقول بسخريةٍ دون أن يراه لكنه تيقن من هذا:
_نزل حواجبك يا عم “شعبان” متخليهوش ياكلك.
ذُهِل الرجل من حديث الأخر الذي أضاف من جديد:
_ دخلهم يا عم “شعبان” جاي تستنصح على دول ؟؟ خلي بالك منهم بس وشوفهم لو محتاجين حاجة هاتها.
بعد مرور دقائق بحثت فيها “سمارة” عن الصغيرة حتى وجدتها في الغُرفة بعدما أرشدها الحارس حينها فقط أطلقت سراح أنفاسها المحبوسة ثم اقتربت من الصغيرة تسحبها داخل عناقها وخلفها وقف “إيـهاب” يبتسم بعينيه مع تحفظه على جمود ملامحه، فيما قال الحارس يعتذر منه بقوله:
_لامؤاخذة يا بيه، بس دي أمانة وعيلة صغيرة في رقبتي، وحصلت هنا يجي ١٠٠ عملية سرقة وخطف، متزعلش.
ابتسم له “إيهاب” وهتف بنبرةٍ هادئة ردًا على حديثه:
_متقولش كدا، كويس إنك مراعي ربنا في أكل عيشك واديك قولت بنفسك عيلة صغيرة في رقبتك، تسلم يا حج.
تحرك الرجل وتركهما بمفردهما، فاقترب “إيهاب” يجلس أمام زوجته وهو يسألها بتعجبٍ:
_ارتاحتي خلاص ؟! مش فاهم الحب دا كله جه إمتى ؟
هتفت بلهفةٍ بعدما وضعتها بالفراش من جديد:
_والله ما أعرف بس أنا بحبها أوي، حاسة بيها وبكل حاجة هي بتحسها، فكرة إنها ملهاش حد خالص دي يا حبة عيني أنا مجرباها، بس عندها خالها ربنا يباركلها فيه ويهديه.
اقترب منها يقول بمراوغةٍ:
_هي لو عندها خالهم، فأنتَ عندك عمهم يا عمنا.
ضحكت بقلة حيلة ويأسٍ وأضافت بغلبٍ على أمرها:
_والله يا أخويا أنتَ فايق ورايق أوي، روح يلا شوف صاحبك دا بدل ما يسجنوه مع أنا أتمنى والله علشان أربي البت دي لوحدي.
لثم جبينها بحنوٍ ثم لثم وجنة الصغيرة ثم تحرك يأخذ أشياء “سراج” وأكد عليها قبل تحركه بقوله:
_مش هأكد تاني، خلوا بالكم من نفسكم، وخلي بالك من نفسك بلاش روح المغامرة والاستكشاف اللي عندك دي، تخلي بالك من البت ومن نفسك تاني، تمام ؟؟.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم بسعادةٍ له وتراقبه وهو يتحرك نحو الخارج ثم خلعت غطاء رأسها وفردت خصلاتها الغجرية الكثيفة ثم ضمت الصغيرة من جديد في عناقها تأمن عليها من الوحدة بين ذراعيها وتؤنس وحشة أيامها تغدقها بعاطفةٍ أمومية للحق هي تحتاج إليها قبل الصغيرة.
__________________________________
<“كُـل الأنُـسِ هُـنا بِـجـوارِكُـمْ”>
بعد مرور بعض الوقت لم يقوى “يوسف” على النوم بل ظل يُفكر في يومه الموالي لهذا، لم يُصدق أن عمه و “سامي” تركا له هذه الفرصة الكبيرة في العمل إلا إذا كان الأمر يحمل شيئًا يتوارىٰ خلف العمل، لذا ترك عائلته بأكملها تنزل من السطح وبقى هو بمفرده، عفوًا مع قمره التي رفضت تركه، جلس أمام الحاسوب الخاص به وبجواره دفترًا يدون به ملاحظات جانبية وكأنه يحفظ أدق التفاصيل التي يعلم هو ماهية تواجدها وكيف ستساعده.
حرك رأسه نحو “قـمر” التي تمددت على الأريكة أمامه بعدما ظلت تتحدث معه عن كثيرٍ وكثيرٍ وهو يشرح لها تفاصيل عمله مما جعلها تشعر بالحماس لأجله ثم شاركته الأمسية حينما التقطت الصور برفقته.
ابتسم بسعادةٍ وهو يراها أمامه نائمة، القمر الغائب عاد لسمائه مُجددًا وأضاء الليل المُعتم، وآنس وحشة الدرب، لم يشعر بنفسه سوى وهو يتحرك من محله ثم سحب المقعد يجلس أمامها يمعن النظر في ملامحها التي جمعت بين رقة ملامح والدته ورسمة العين منه ومن والده، ابتسم مجددًا ثم رفع الغطاء يُدثرها به وتذكر موقفًا يشبه هذا في ماضيه، حينما كان يتحرك خلسةً من خلف والديه ويلج غرفتها يوقظها في الليل وعند فضح أمره كان يتصنع البراءة وهو يقول بنبرةٍ طفولية تلقائية:
_كنت بغطيها والله علشان متبردش.
ضحك حينما تذكر جملته في الصغر فوجد صوتًا يأتيه من خلفه يسأله بتعجبٍ:
_أنتَ بتعمل إيه ؟؟
هتف بلهفةٍ جملته التي تطابق جملته في صغره:
_كنت بغطيها والله علشان متبردش.
ضحكت “عـهد” له وهتفت بنبرةٍ هادئة ودودة وهي تسحب المقعد وتجاوره في الجلوس رغم تعجبها من لهفته:
_مصدقاك والله، ربنا يديمكم لبعض، أنتَ بتحبها أوي وباين إنك مرتبط بيها، وهي محظوظة إن عندها أخ زيك بيحبها كدا.
أومأ لها موافقًا ثم نظر على شقيقته وهو يقول بنبرةٍ رخيمة وكأنه يحاول التأكيد لنفسه أنها اصبحت معه أو لربما يتناسى ماضيه الأليم بتواجدها معه:
_قمري الضايع، عمري كله عيشته رابطه باسمها، حاجة أقوى مني كانت بتقولي إنها موجودة وإنها مستنياك، عارفة ؟ طلعت بتدعيلي من صغرها، وأنا كنت مستغرب إزاي كل مصيبة كنت بقع فيها كنت بخرج منها كدا، بس واضح إن حبهم الكبير حياني من تاني.
ابتسمت له ثم قالت بنبرةٍ حزينة:
_أنا علطول بابا كان يقولي لو بتحبيني ادعيلي، اللي بيحب حد مش بيغفل عنه في الدعاء، بيذكره قبل نفسه، فاتعودت أدعي ليه ولماما ولـ “وعـد” كمان بقيت بدعي للكل، حتى لما مات بدعيله كل يوم وكل خطوة بمشيها مفارقنيش.
رأى الحزن مُتجليًا في عينيها السوداوتين فقرر يمازحها بقوله المراوغ وهو يتوقع الجواب منها:
_طب وأنا ؟؟ مدعيتيش ليا خالص؟ ولا استني أنا هتوقع أكيد قولتي يا رب زيحه من طريقي وخلصني منه، صح؟
رفعت عينيها لتتلاحم بعينيه ورغم مزاح كلماته لكنها رأت في نظراته حديثًا يُنافي قوله ويُشبه ما بداخل قلبها، فقالت بنبرةٍ تائهة تخبره بصدقٍ:
_دعيتلك، وطلبت من ربنا لو وجودك فيه خير ليا وليك إن الموضوع دا يكمل، وطلبت منه أني لو أذى ليك أخرج من حياتك، وطلبت من ربنا إننا لو مش شبه بعض ميجمعش بينا.
ابتسم بعينيه فقط ثم قال بنبرةٍ رخيمة يتهرب من حديثها الذي بعثر ثبات مشاعره:
_سيبيها على الله محدش عارف أخر الطريق إيه.
هزت رأسها توميء له ثم سألته من جديد بحديثٍ بدا وكأنها تختلق معه المواضيع حتى تتهرب مما تفوهت به:
_المهم سيبك مني أنا، طنط عاملة إيه دلوقتي، بقت أحسن؟
أومأ لها ثم هتف بقلة حيلة:
_هتبقى أحسن بس مين ينسيها قهرتها ؟؟ اللي فات مكانش سهل نعديه كدا وخلاص ونتعامل كأنه عادي، وبصراحة موقفها أنا كنت متوقعه وكنت متوقع أكبر من كدا بكتير، عيلة “الراوي” الأذى بيجري في دمهم.
ظهرت الشفقة على ملامحها وقالت بوجعٍ حينما تذكرت أمر عائلتها وما لقته على أيديهم من مصائب أُلقيت فوق رأسها بعد موت أبيها، وكأنهم خلقوا فقط ليتفننوا في تعذيبها.
لاحظ “يوسف” نظراتها والأسى الظاهر على ملامحها فقال بكلماتٍ تشابه كلماتها لوالدته منذ ساعات حتى تُطيب جراحها:
_بس بصراحة مامتك ست جدعة أوي إنها مستسلمتش ليهم وخدتكم ومشيت من هناك وعرفت تربيكم التربية دي، ست جدعة وبناتها زيها وبصراحة أنا كجوز بنتها عاوز أقولها تسلم ايديكِ يا حماتي.
رفعت رأسها نحوه وما إن لاحظت نظراته ضحكت رغمًا عنها وضحك هو الأخر فوجدها تقول بصوتٍ مختنقٍ تخالطه ضحكات امتزجت ببكاءٍ وهي تمسح دموعها:
_أنتَ بتردهالي يعني ؟ على فكرة هي ضحكت بجد ونسيت إنها زعلانة متتريقش عليا لو سمحت علشان أنا مبعرفش أواسي حد.
استمع لحديثها فهتف بصدقٍ بعدما نظرت له:
_بس أنا مش بتريق، أنا بتكلم جد، أنتِ قدرتي تطيبي بخاطر أمي في أكتر وقت أنا وقفت عاجز فيه، مش قولتلك قبل كدا إنك مُـذهلة ؟ دلوقتي بقى أنتِ فعلًا شبهي، بس الفرق أني لو عاوز أعيط بعمل أي حاجة، أنتِ ليه عاوزة تعيطي يا “عـهد” وليه مش عارفة تعيطي؟.
لاحظ هو أنها تتهرب من دموعها واتضح له أنها أتت إلى هُنا هربًا من دموعها لكن سؤاله كان الضغطة المؤلمة فوق زر جراحها لتنفجر باكيةً أمامه بضعفٍ، ضعفٌ جعله لم يتردد في ترك محله ثم جلس أمامها على رُكبتيه يسألها بلهفةٍ:
_بتعيطي ليه طيب ؟ فيه حاجة مزعلاكي ؟
حركت رأسها موافقةً ثم هتفت بنبرةٍ باكية:
_بكرة ذكرى وفاة بابا وأنا كنت ممنوعة أروح البيت هناك، بكرة هيبقى أول يوم أدخل البيت فيه من بعد موته بشهر، بكرة أنا هبقى لوحدي هناك بعدما منعوني حتى أخد ذكرياته معايا، بكرة أول هحس فيه أني بقيت من بعده لوحدي.
زفر مُطولًا ثم سحب المحارم الورقية يمسح لها عينيها من العبرات التي عَلقت في أهدابها وهتف مؤكدًا بصوتٍ رخيمٍ:
_بس أنتِ مش لوحدك أنا معاكِ هنا، ومش هسيبك تروحي لوحدك هناك عندهم، وهخليكي بكرة تقضي اليوم كله هناك في بيتك مع كل حاجة والدك الله يرحمه، تمام ؟ واثقة فيا؟
أومأت برأسها له فسحب هو نفسًا عميقًا وسألها بنبرةٍ هادئة:
_أنتِ محتاجة حاجة بكرة مني اعملها طيب؟ قبل ما أجي من الشغل ونروح مع بعض؟؟
مسحت دموعها وقالت بنبرةٍ مختنقة:
_أنا عملت فطاير وقرص هوزعهم رحمة ونور، ومجهزة كل حاجة بس غصب عني إحساس أني هكون لوحدي بكرة كان صعب عليا أوي، خوفت أنهار هناك ودي أول مرة أواجه حقيقة إن المكان بقى من غيره.
ربت على كفها واحتضنه بين كفيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة يحاول طمئنتها قبل نفسه حتى:
_كل حاجة هتعدي لما تتأكدي أنه سبقك على مكان أحسن من دا، مكان مفيهوش بشر مؤذية، مليان بس وجع وتعب وناس بتاكل في بعضها، هو هناك في المكان اللي لازم كلنا نروحه.
ابتسمت له من بين دموعها وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
_شكرًا، كلامك طمني وخلاني مستعدة، كويس إنك هنا.
أسرته بقولها الممتن وهي تشكره على تواجده وعلى كل شيءٍ بذله لأجلها فرد عليها هو بحديثه المعتاد دومًا منذ أن وطأت قدماه إلى هُنا:
_أنا قولتلك أنا دايمًا هنا.
كان أصدق قولًا تسمعه في حياتها فهي لم تراها فقط كلماتٍ بل تراها دومًا في أفعاله معها، في اللحظة التي تُعاني بها يكون حينها هو هُنا، هو الغريب الذي دلف الديار لوقتٍ مؤقتٍ تفاجأ بنفسه يأخذها وطنًا له، وطنٌ وجد له كل الأنس هُنا.
__________________________________
<“رجال أقوياء مثل الخَيل أعزاء”>
بعد مرور ساعات بدأ بزوغ الشمس يظهر وخيوطها الذهبية تمتد لتمسك في يدها النهار تعلنه للناسِ جميعًا بإذن ربها الواحد الأحد، حينها وبداخل المشفى الخاص الراقي الذي يدلفه علية القوم يحصلون بداخله على الرعاية التامة مقابل الأموال جلس “إيـهاب” بجوار الغرفة التي كان “عـادل” بداخلها بينما “سراج” تحرك ليقوم بتسوية الحساب ثم عاد يجاور “إيـهاب” في جلسته، حينها انتبه له الأخر وسأله باهتمامٍ:
_الفلوس كفت إنك تدفع ؟
حرك كتفيه بقلة حيلة ورافق حركته هذه قوله:
_لأ طبعًا دول فكة كدا علشان المواصلات، بس دفعت من الفيزا بقى هعمل إيه يعني؟ أمري لله.
عقد “إيـهاب” مابين حاجبيه وسأله بتعجبٍ وكأنه أدرك الموقف لتوهِ ولم تسنح له الفرص لكي يتساءل وما إن اُتيحت له الفرصة هتف مُستفسرًا:
_هو أنتَ دخلت بيه هنا إزاي من غير فلوس؟ دي مستشفى استثماري يعني الفلوس قبل كل حاجة، الراجل شكله شاف رعاية جامدة، عملت إيه يا صايع ؟؟
ضحك “سراج” رغمًا عنه ثم أقترب منه يهتف بنبرةٍ خافتة تمتزج بضحكاتٍ شقية كطبعهِ المراوغ:
_وقفوني على الباب وقالولي ممنوع، روحت مخرج الكارنيه بتاع “عادل” قولتلهم دا “عادل أبو الحسن” نائب المحافظ، في ثانية لقيتهم بيقولولي شُبيك لبيك.
ضحك “إيـهاب” رغمًا عنه وقال بيأسٍ من الأخر:
_مفيش فايدة فيك، حتى وهو بيموت استغليته برضه.
عاد “سراج” لجلسته معتدلًا بها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_مش أحسن ما أسيبه يموت ؟؟ أديني اتصرفت أهو ياكش نعجب بس.
في هذه اللحظة دلفت “زيزي” شقيقة “عادل” واقتربت منهما بلهفةٍ تقف أمام “سراج” تسأله بأنفاسٍ لاهثة شبه متقطعة:
_فين “عـادل” يا “سراج” ؟؟ طمني هو كويس؟
أومأ لها موافقًا ثم أشار لها بالجلوس وهو يقول باهتمامٍ:
_اقعدي أنتِ بس وهو بخير الدكتور طمننا عليه، مين قالك وليه جيتي ما كنتي كلميني وخلاص كنت هطمنك.
جاوبته بنبرةٍ قلقة وهي تُحرك بؤبؤيها بعيدًا عنه حتى لا يلتقط كذبها:
_الست اللي بتشتغل عنده، هي اللي قالتلي.
ابتسم بسخريةٍ وهتف بلامبالاةٍ ظاهرية:
_الست !! يعني مش “نـور” اللي كلمتك ؟؟ طب مقالتش ليكِ إنها كلمتني إمبارح كمان؟ على العموم مش وقته، أخوكِ بخير جوة كان عنده أزمة قلبية علشان ماخدش جلسة الأكسجين ولا البخاخة، أظن هو عنيد ومحتاج حد يراعيه.
وزع “إيهاب” نظراته بينهما وخاصةً حينما تحدث “سراج” عن مكالمته مع “نـور” حينها ازداد تعجبه فوجده يجلس مقابلًا لها واتضح عليه الوجع من جديد كونه مجرمًا في نظرهم لا تُشفع له براءة قلبه الصغير.
خرج “إيهاب” من تمعنه على صوت هاتفه فأخرج الهاتف من جيب سترته وجاوب على المُتصل الذي لم يكن سوى “نَـعيم” الذي قال بنبرةٍ جامدة يوبخه:
_أنا نفسي أفهم أنا مش مالي عينك ليه ؟؟ يعني إيه تخرج من غير ما تعرفني يا بيه ؟؟ وتسيبني وتسيب أخوك قلقان عليك ولا حتى مراتك بترد على حد ؟؟ أنتوا فين يا أستاذ ياللي مش مالي عينك حد؟
ابتسم “إيهاب” رغمًا عنه وهتف بنبرةٍ هادئة:
_قطع رقبتي قبل ما أقلل منك، بس أنا خوفت أصحيك بليل علشان عارف إنك هتقلق، بعدين “سمارة” لو مكانتش جت معايا كانت فضلت اليوم كله واكلة دماغي، متقلقش شوية كدا هاجي البيت وأبقى أرجع تاني.
زفر “نَـعيم” مُطولًا ثم قال بلهجةٍ أمرة:
_طب أنا هبعت “إسماعيل” يجيبهم على هنا علشان مفضلش قلقان بس مش دلوقتي، واسأل “سراج” كدا لو عاوز فلوس ولا حاجة، قولي الراجل عامل إيه دلوقتي؟؟
جاوبه بحيرةٍ وكأنه لم يفهم ما يصير حوله:
_والله ما عارف بس هو كويس وشوية كدا هنشوفه، أزمة قلبية للأسف لو محدش كان لحقه القلب كان وقف خالص، أنا هعدي على “سمارة” و “جودي” أجيبهم معايا متبعتش حد يا حج.
وافقه “نَـعيم” في الحديث وقال بنبرةٍ هادئة:
_خلاص ماشي، أبقى كلم أخوك علشان قلق عليك.
أغلق معه المكالمة ثم جلس جوار “سراج” الذي ظهر عليه أثر النوم واتضح على عينيه أنها على وشك الإغلاق لكنه يُعاند النوم ويقاوم سلطته حتى لا يغفل عن رعاية “عادل” وشقيقته وكأنهم أصبحوا ملزمين منه هو.
__________________________________
<“من جد وَجد ولو رزع حَصد”>
استيقظ “أيوب” صباحًا بعد عودته من صلاة الفجر ثم نزل من غرفته بعدما بدل ثيابه وتحمم وتوضأ وتجهز للرحيل فوجد أمامه في ردهة البيت “إيـاد” يجلس بجوار “آيـات” ويقوم باستذكار دروسه التي أهملها منذ أيامٍ عديدة، فألقى عليهما التحية ثم سأل بسخريةٍ:
_بتذاكر !! استنى نوثق اللحظة دي.
هتفت “آيات” بنبرةٍ ضاحكة ترد عليه:
_آه، أصل ميس “نهال” جاية النهاردة علشان كدا تلاقي فيه حماس كدا لدرجة أنه منامش من بعد الفجر ومصحيني معاه من قبل الشروق، الواد دا بيديني دروس في الخِلفة وبقى عندي خبرة خلاص.
اقترب “أيوب” منه ثم أخرج من جيبه ورقة مالية يعطيها له ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
_طب أمسك استفتاحة أهو، عاوز حاجة تاني؟
ترك “إيـاد” محله ثم اقترب من عمه يحتضنه فيما حمله الأخر ولثم وجنته ثم هتف بنبرةٍ هادئة يقول:
_عاوزك تذاكر ومتزعلش نفسك وتراعي ربنا في مذاكرتك ومتنساش إن العمل دا فرض عليك وواجبك تتقنه، ولازم نعمل إيه بقى ؟ نقتدي بسيدنا محمد ﷺ ونسمع كلامه لما وصانا بإتقان العمل في حديثه الشريف ﷺ:
قال رسول الله ﷺ:
“إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ”
_يعني علشان إحنا عباد الله وكل هدفنا هو رضاه عننا لازم نسعى أنه يحبنا، والسعي يبقى من خلال إتقان العمل وعزم النية تكون لله، يعني بذاكر علشان أنجح علشان أفيد نفسي والأمة، وعلشان أكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام، يبقى نذاكر ونجتهد ونركز وملناش دعوة بأي حاجة غير إننا نتقن العمل ونسعى وربنا يكرمنا بالنتيجة اللي نستحقها، ومتنساش إن ربنا سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز:
” إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا ”
_يعني إيه ؟ يعني من توكل على الله عازمًا نيته في العمل ابتغاء مرضاة الله يبقى ربنا هيرزقه بالأجر، ودا وعد ربنا للعباد، تقولي إزاي هقولك ربنا قال لا نضيع أجر من أحسن عملا، بس معرفناش النتيجة إيه، النتيجة هنا مفتوحة، ممكن يكون توفيق في طريقك اللي اختارته، أو ربنا ييسرلك أمورك في طريق تاني مكنتش تعرفه عنه حاجة، أو حاجات كتير متعرفش عنها حاجة برحمة ربنا يكشفهالك فتساعدك في خطواتك، وعد ربنا نافذ لا محالة بس ابدأ أنتَ.
ابتسم له “إيـاد” وكذلك “آيات” فأضاف هو من جديد للصغير يحدثه بقوله الحكيم:
_ربنا قال في كتابه العزيز آية عظيمة تدل على عظمة الخالق ورحمته بعباده رغم استحالة توقعك للنتائج وعدم ادراكك للأسباب وهي:
“وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى”
_يعني عليك السعي والتوكل على الخالق وربك عليه النتيجة بس احنا منعرفش إيه النتيجة، لكن يكفي عند حلول اللحظة اللي نقف نستنى فيها النتيجة نقول يا رب إحنا عملنا اللي علينا الحمد لله، وتوكلنا على الخالق العادل، يبقى نستنى النتيجة مهما كانت بقلب راضي ومنزعلش حتى لو كانت عكس هوانا.
احتضنه “إيـاد” وهو يقول بمرحٍ:
_فينك من بدري يا جدع !!.
ضحك “أيوب” بصوتٍ عالٍ وشدد مسكته للصغير وهو يرد على مزاحه بمزاحٍ هو الأخر:
_كنت نايم يا قلب الجدع.
أنزله “أيـوب” بعد حديثه ثم وضعه بجوار شقيقته التي قالت بترددٍ لكنها حسمت أمرها:
_بص، أنا هروح مع “مهرائيل” النهاردة نتطمن على طنط “نجلاء” علشان هي تعبت إمبارح هو أنا معرفش أروح إزاي بس هروح معايا “مهرائيل” طنط “وداد” بتقولي عادي هو زمان كان عيب البنت تروح بيت أهل خطيبها، معرفش هي وترتني ليه.
سألها هو بتعجبٍ بعدما نظر لها:
_إيه العيب إنك رايحة تزروي واحدة مريضة؟ أنتِ مسلمة ومرجعك كتاب القرآن والأحاديث النبوية الشريفة، هل القرآن فيه آية حرمت الفعل دا ؟؟ لأ طب هل الأحاديث والسُنة نهوا عن الفعل دا ؟؟ برضه لأ، يبقى خلاص أنتِ رايحة نيتك خير، متنسيش إن هييجي يوم تبقي بنتها مش بس مرات ابن، المهم بس متتأخريش هناك.
حركت رأسها موافقةً فنزل في هذه اللحظة “أيـهم” الذي قال بسخريةٍ:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، خير يا عصابة على الصبح بتتفقوا على إيه ؟؟.
سألته “آيات” بلهفةٍ حينما وجدته أمامها:
_هروح أتطمن على طنط “نجلاء” النهاردة أخد معايا إيه علشان هي تعبانة ؟؟ أخد فاكهة ؟
جاوبها “أيـهم” بسخريةٍ:
_خديلها منفضة تربي بيها ابنها.
ضحكت عليه وضحك الآخران، فيما أضاف “أيوب” مقترحًا عليها بنبرةٍ ضاحكة:
_خدي عصير وفاكهة يا ستي متحرميهمش من حاجة خلينا نكسر عينهم قبل المهر، ولا إيـه رأيك يا أبو “إيـاد” ..
ضحك “أيـهم” يتضامن مع أخيه ثم هتف بقلة حيلة:
_سيب أبو”إيـاد” في حاله بالله عليك، متوقعنيش في غلط تاني، كفاية “أيمن” المعفن هو وعيلته.
نهره “أيـوب” بقوله:
_ بس خلاص ربنا يسهله منجيبش سيرة حد إحنا.
نظر “أيـهم” في وجه صغيره يسأله بتعجبٍ:
_بتذاكر !! لوحدك كدا من غير إلحاح أو شحاتة مننا ؟ يا راجل دا إحنا ورمنا لغاية ما هُرمنا، كمل يا حبيبي.
قال “إيـاد” بحماسٍ شديد:
_أصل ميس “نـهال” جاية النهاردة ومش عاوزها تيجي تزعل مني، علشان كدا بذاكر.
مد “أيـهم” يده يدفع بها رأس الصغير وهو يقول بضجرٍ:
_يعني ميس “نـهال” متزعلش منك وأبوك وعيلة أبوك يخبطوا راسهم في الحيطة؟؟ ياض إيه قلة الأصل دي يخربيت تربيتك المهببة.
انتشرت الضحكات عليه وعلى صغيره فيما مال “أيوب” عليه وهو يتجهز للرحيل وقال بنبرةٍ خافتة بعدما أخذ الفطيرة المحشوة بالجبن من على الطاولة:
_سيب الواد يزنهر براحته، متبقاش حقودي كدا، ولا أنتَ طمعان في شوية الزنهرة بتوع ابنك ؟؟ عيب كدا عيب.
تحرك “أيوب” وترك أخيه خلفه مدهوشًا ثم نظر لابنه يحدثه ساخرًا بقوله الذي أعرب عن حقده:
_زنهرت !! عقبال أبوك يا ابن المحظوظ.
خرج “أيـوب” من بيته متوكلًا على الله في السعي بعمله حتى وجد “يوسف” يمر بسيارته عليه حينها أوقف “يوسف” سيارته وسأله بتعجبٍ:
_رايح فين كدا على الصبح؟ الناس نايمة.
جاوبه “أيوب” بسخريةٍ بعدما ضحك له:
_على أساس إنك أنتَ اللي هتصحيهم يعني، هفتح محلي وأشوف شغلي، رايح فين أنتَ بقى ؟؟.
جاوبه “يوسف” بجديةٍ بعدما نظر أمامه:
_هروح أفتح دماغ عمي وأجيب كرش جوز عمتي وأشوف شغلي، عاوز حاجة بقى ؟؟.
كان حديثه الجدي يتنافى مع سخريته ومزاح كلماته مما جعلهما يضحكا سويًا فحدثه “أيـوب” بنبرةٍ هادئة وهو يدعو له:
_روح ربنا يوفقك و ييسرلك أمورك، بأمر الله ترجع مجبور الخاطر.
ابتسم له “يوسف” وهتف يمازحه:
_كفاية أني شوفتك هلاقي أحلى من كدا ؟؟
ضحك “أيوب” له فيما أدار “يوسف” سيارته وهتف بنبرةٍ هادئة على عكس مزاحه ومراوغته:
_ربنا يرزقك يا “أيـوب” ويفتحلك أبواب الرزق.
ابتسم له “أيـوب” ثم اقترب منه يقسم الفطيرة التي سبق وأخذها من بيته قبل خروجه وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_طب أمسك دي غير بيها ريقك على الصبح ولا هتكسف أيدي بقى ؟؟ اكسفها علشان أطلع اديها لـ “قـمر”.
ضحك الأخر وأخذها منه يقضم منها ثم قال حينما غمز له:
_خدتها بمزاجي على فكرة، أنا مبتهددش، سلام.
قاد السيارة في حين نظر “أيوب” في أثره مبتسم الوجه وحتى هذه اللحظة لا يعلم سبب المحبة التي نشأت بين القلوب ويتعمد كلاهما إنكارها، لم يصدق أن يأتي اليوم الذي يحب فيه شخصًا بطريقة “يوسف” لكنه يحب هذا الغريب عنه كثيرًا لكن يبدو أن القلوب ترى بعينيها هي، تفتح متى أرادت لمن أرادات.
وصل “يوسف” مقر عمله بثباتٍ كملكٍ يخطو بداخل أرضه، كل شيءٍ هنا له وهو أتى لينتصر ولم يضع أي مجالٍ في خاطره للهزيمة، هم تركوا له الفرصة وهو استغلها خير الاستغلال ليعلمهم فنون القتال كما يجب أن يكون.
دلف الغُرفة أمام الجميع الذين جلسوا يترقبون فعله وكأنهم ينتظرون وقوعه بالخطأ على أوج لحظات الصبر، بينما هو وزع نظراته بين من يلقبون بعائلتهِ وبين تلك التي من المفترض أن تكون حبيبته _سابقًا_ وبين “رهف” التي هزت رأسها تدعمه بصمتٍ حتى نظم أنفاسه ثم بدأ الحديث بالدباغة المعروفة في مثل هذه المواقف يعرف نفسه ويعرف طبيعة عمله.
ثم بدأ الحديث عن خطة العمل بثقةٍ كبرى تتنافى مع مشاعر خوفه على عمل والده وسُمعته وسط رجال الأعمال الذين بدأوا بنفسهم فحتى هذه اللحظة وهو يعمل لثبات اسم والده بنفس القوة، كانت ثقته كُبرى وكأنه يتسلح بالمعلومات الدقيقة التي قام هو بجمعها والآن يقف خلفها متخذًا منها درعًا بعدما استخدم حتى أحرف الكلمات ليستدل منها على ما يُريد.
وقف يستمع للتصفيقات العالية والنظرات التي نطقت بصدقٍ تُعبر عن الفخر والثناء عليه، وعلى النقيض تمامًا من كانت نظرات عائلته ومعهم “شـهد” التي تعجبت مما قام هو به، بدل خطته وبدل حروفه وبدل كل شيءٍ في غضون ساعات من اكتشافه أمر الملف !! ظنت أنه تضربه في مقتلٍ تفاجئت بنفسها تضربه ليفيق ويعدل سير خطاه.
خرج من المكتب بنفس الخطوات الواثقة التي دلف بها تاركهم خلفه يلعنون قوته وثقته التي جعلته كعادته يمتاز عليهم جميعًا وكأنه في نجاح عمله يقتدي بوالده بنفس طريقة تفكيره.
وجد أمامه “فـاتن” تقطع عليه الطريق وكأنها تعمدت الظهور أمامه حينها زفر بقوةٍ فوجدها تحول بينه وبين تحركه وحينها سألها بجمودٍ:
_نعم !! مش مكيفك اللي حصل امبارح ؟
ابتلعت الغصة المريرة في حلقها من طريقته وجفائه لها ثم هتفت بنبرةٍ مختنقة وقد بدأ البكاء يُخيم على حلقها:
_أنا عاوزة أتكلم معاك كنت عاوزة أقولك حاجة مهمة.
هم أن يعترض ويرفع صوته فرأى ظل “شـهد” يظهر على زجاج المكتب المُقابل له حينها أخذ يد عمته يجرها إلى ساحته ثم دلف بها واحدة من الغرف المغلقة بالشركة ثم أغلق الباب من الداخل بعدما أحكمه جيدًا ثم التفت لها يسألها بقسوةٍ:
_عاوزة تقولي إيه ؟ ها يلا يا ست الكل اشجيني.
لاحظت تبدله معها والفارق الملحوظ قبل أن يجد والدته وبين هذه اللحظة، شتان بينهما، فلم يكن أمامها سوى أن تسأله بنبرةٍ باكية:
_هي كرهتك فيا صح ؟؟ خليتك تكرهني؟؟
ابتسم بسخريةٍ واتضح الوجع في نظراته وهو يقول بنبرةٍ منكسرة:
_ياريتها حتى حاولت تكرهني فيكم كنت هفهم إنها تستاهل حاجة من اللي حصلتلها، دي أنضف منكم كلكم، ولما تتكلمي عنها تتكلمي كويس كفاية إنها السبب أني ساكت عليكم لحد دلوقتي.
أقتربت منه تقول ببكاءٍ خشيةً من فراقه:
_أنا ماصدقت إنك تعاملني كويس شوية، ما صدقت تحسسني إنك بتحبني بعدما اتحرمت من حضن “مصطفى” لما زعل مني بسبب جوازي، أنا والله مأذتكش زيهم، أنا كنت بحاول علشانَك.
هنا وقد انفجر الضغط الذي يحمله بداخل قلبه فأمسك ذراعيها يوقف استرسال حديثها حينما هتف فيها بنبرةٍ عالية:
_بـس !! كفاية كدب شوية بقى، عاوزة تقنعيني إنك عملتي حاجة علشاني ؟؟ كل حاجة علشان نفسك أنتِ، خليتيني عندك قصاد عينك علشان أبقى معوضك عن أخوكِ اللي مات، فضلت بتذل قصادك على اللُقمة وأنتِ شاهدة، فضلت أخد بواقي ابنك في كل حاجة وأنتِ نفسك بتديني بواقي امومتك اللي هو رفضها، كنت بسرق الأكل من وراكم في بيتي وحقي، اليتيم اللي المفروض تكرموه قهرتوه، وجاية تقولي علشانك !!.
بكت وهي تقول بلهفةٍ تتوسله أن يستمع لها:
_بس أنا كنت بحاول كنت بخاف عليك وهما مهدديني وأنتَ عارف كويس أوي أنهم يقدروا يعملوا أي حاجة.
ضحك بسخريةٍ وهو يقول بوجعٍ:
_ما أنا عارف، أحب أقولك إن كل تهديد اتنفذ وإن كل حاجة قالوا هيعملوها عملوها فعلًا، وابقي اسألي مرات ابنك وهي تقولك، مرات ابنك دي اللي كانت هتبقى مراتي صح؟ آه هي هي اللي أنتِ وافقتي على جواز ابنك منها.
نزلت دموعها أكثر من السابق وهتفت ببكاءٍ:
_بس أنا مش زيهم، أنا معملتش فيك زي ما هما عملوا.
ضرب سطح المكتب بيده يوقفها عن الحديث ثم هتف بنبرةٍ عالية تعبر عن جَام غضبه وهو يقول منفعلًا:
_أنتِ عملتي الأفظع منهم، أنتِ سكتي وكنتي عارفة إنها عايشة مماتتش، لولا أمك قبل ما تموت قالت على كل حاجة كان زمانك لسه ساكتة، سكتي ليه؟ ها !! ليه مقولتيش ليا إنها موجودة وأنا كنت هدور عليها لحد ما أوصل إن شاء الله حتى أروح فيها بعدها، ليه دا أنا كنت لما بغلب والكلمة توحشني كنت بقولك يا ماما، ليه؟؟
كان يسألها بصوتٍ مُنكسرٍ وكأن خذلانها له أكبر بكثير من جُرم العائلة، هي من تعشم آملًا بها ففاجئته حينما طعنته في ظهره خِفاءً وأمامه تتظاهر بالمودة.
__________________________________
<” لكل مقامٍ مقال، فأين مقامك لنجد المقال”>
استيقظت “عـهد” صباحًا تقوم بتجهيز الأشياء التي ستأخذها معها لبيت والدها الفقيد، قامت بتشغيل القرآن في الشقة بصوت الشيخ “محمود علي البنا” ليرتفع صوته بكلمات الذِكر الحكيم مع رائحة المخبوزات التي جلست تصنعها منذ الصباح وبداخلها يتواجد شعوران ينافسان بعضهما؛ حيث الحماس للذهاب إلى هذه الشقة التي حُرمت منها منذ سنواتٍ وبين الخزف من وحش الذكريات التي تفتك بكل طيرٍ ضعيف الجناحين عند عودته إلى موطنه الأول.
اندمجت فيما تفعله حتى وصلتها طرقات فوق باب شقتها فتحركت هي تفتح الباب وقد وجدت أمامها “قـمر” تقول بأسفٍ:
_بصي أنا كنت خايفة أصحيكِ بس لما سمعت صوت القرآن عرفت إنك صاحية، أنا جاية أصبح عليكِ علشان “يوسف” قالي إن النهاردة يوم مهم عندك، تحبي أساعدك ؟؟ أي حاجة كدا كدا “عُـدي” نزل و “ضُـحى” وخالتو كمان، وماما مع خالو بيتكلموا مع بعض، لو هضايقك امشي عادي.
ابتسمت لها “عـهد” وأدخلتها الشقة ثم أغلقت الباب وهي تقول بنبرةٍ هادئة بها القليل من المرح بعدما حاولت إضفائه على كلماتها:
_يا ستي متقوليش كدا، ماما و”وعـد” كمان معاها في المقابر عند باب، وأنا صحيت بدري اخلص اللي ورايا قبل ما أروح بيت بابا والمقابر هروحها مع ماما يوم تاني
هتفت “قـمر” بأسىٰ حينما تذكرت أمر وفاة والدها:
_ربنا يرحمه، أنا للأسف معرفش مقابر بابا فين بس بدعيله علطول يعني ومش بنساه خالص، أكيد بيفرح لما أدعيله.
ربتت “عـهد” على ظهرها وهي تقول بنبرةٍ مختنقة:
_ربنا يرحمهم ويغفر لهم ويجمعنا بيهم في الجنة.
سحبت “قـمر” الهواء داخل رئتيها ثم هتفت بنبرةٍ هادئة:
_طب ينفع أجي معاكِ بيت والدك !! يعني علشان متكونيش لوحدك خصوصًا إن “يوسف” ممكن يتأخر في شغله، إيه رأيك وبصراحة أنا قاعدة لوحدي همل و “أيـوب” وراه حاجات مهمة النهاردة.
ضحكت لها “عـهد” وهي تقول بعتابٍ زائفٍ:
_آه، تسلاية أنا بقى !! ماشي يا “قـمر” بس كلمي أخوكِ علشان ميعمليش حوار وكلمي جوزك علشان برضه ميعمليش حوار، أنا عاوزة أعيش في سلام.
ضحكت “قـمر” عليها ثم أخرجت هاتفها واتجهت نحو النافذة ثم أخرجت رقم أخيها تحاول التواصل معه لكن هاتفه أعطاها رسالة أنه ربما يكون مُغلقًا، حينها زفرت بقوةٍ ثم طلبت رقم زوجها تستأذنه هو وما إن رد عليها قالت هي على استحياءٍ:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ينفع أقولك حاجة؟
ارهف سمعه لها وقال بتركيزٍ لها:
_ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، معاكِ يا “قـمر”
أخبرته بحماسٍ شديد:
_بص أنا هروح مع “عـهد” بيت أهلها علشان النهاردة السنوية بتاعة باباها، جيت أقول لـ “يوسف” لقيت موبايله مقفول، قولت أعرفك برضه ولا أعمل إيه بقى ؟؟.
زفر مُطولًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_المفروض دلوقتي إن أخوكِ هو اللي يكون عارف مش أنا لأنك في رعايته هو، بس بما إنك على ذمتي فأنا موافق ولو أخوكِ عرف يكون أحسن، أخوكِ مش هنا يبقى خالك، خالك مش هنا يبقى “عُـدي” لو مفيش حد يبقى أنا بس بعدهم.
ابتسمت بسعادةٍ كبرى ثم هتفت بحماسٍ:
_طب خالو هنا هلحقه وقبلها هقوله إن جوزي موافق على أساس أحرجه فيوافق يعني، اوعي تطلعني هطلة قصاده هنزعل مع بعض خد بالك.
ضحك رغمًا عنه وهتف بنبرةٍ ساخرة ردًا عليها:
_مش مهم أنا أطلعك هطلة، المهم أنتِ متطلعيش نفسك هطلة، على العموم أنا في ضهرك وقت ما الدنيا هتميل هتلاقيني سداد بعون الله.
كان صادقًا فيما يخبره عنه واستشفت الصدق هي في كلماته فتنهدت تنهيدة مُثقلة ثم تذكرت أمر اللقب الذي أخبرها به فسألته بتعجبٍ:
_”أيوب” هو يعني إيه مطروف العين ؟؟ يعني عيني وجعتك طيب ولا إيه مش فاهمة ؟؟.
ضحك على حيرتها وتخمينها ثم قال مُفسرًا بنبرةٍ هادئة:
_”مطروف العين” هو زمان لقب العرب أطلقوه على العاشق وفسروه إن مطروف العين بفلانة يعني مبيشوفش غيرها، وأنا مثال حي لمطروف العين عند العرب، أنا مبشوفش غيرك أنتِ.
تحرك قلبها من محله وطفق الخجل يظهر على وجهها فقالت بنبرةٍ خجلة تتهرب منه أو لربما من خجلها:
_طب….طب سلام بقى علشان أروح استأذن خالو.
ابتسم هو حينما تيقن من خجلها ومن هيئتها الآن ثم أغلق الهاتف وزفر بعمقٍ وهو يقول مبتسمًا:
_يا صبر “أيـوب”.
بعد مرور بعد الوقت نزلت “عـهد” من بيتها ورافقتها “قـمر” بعدما استأذنت من خالها وأعطاها الموافقة وحاولت من جديد التواصل مع شقيقها لكن الهاتف كما هو، وقفت “عـهد” أمام البنابة تحمل في يديها المخبوزات و معها “قـمر” أيضًا التي حملت حقيبتين، فاقترحت الأخرى بقلة حيلة:
_لازم نركب توكتوك يوصلنا لحد هناك، مش هنعرف نمشي كدا كل دا، معلش تعبتك معايا من الصبح بدري بس إن شاء الله يعني نخلص بدري مش هطول أو لحد ما “يوسف” يكلمني هو عارف أني هسبقه.
هزت الأخرى رأسها موافقةً لها وقد أتت المواصلة الشعبية التي تحدثت عنها فركبتها الاثنتان معًا نحو الحارة الخاصة ببيت والدها، وقد بدأت مشاعرها تتباين مع بعضها حتى وصلت المواصلة إلى هُناك ونزلت منها ومعها الأخرى.
حينها كان “وجدي” جالسًا بجوار محل الأدوات الصحية الخاص به وقد راقب نزول “عـهد” ومن ترافقها فرفع صوته يقول بسخريةٍ:
_تعيشوا وتفتكروا، ربنا يجعلها أخر الأحزان.
التفتت له “عـهد” ترمقه بغيظٍ ثم تغاضت عن صوته وكلماته ثم التفتت تمسك كف “قـمر” التي طالعته باشمئزازٍ ثم توجهت معها لداخل البيت بينما الأخرى ركضت نحو شقتها بسرعةٍ كُبرى وقد حاولت تفتح الباب لكن الباب كان موصدًا والمفتاح لم يعمل !! حاولت من جديد وهي تهز الباب بعنفٍ فاقترحت “قـمر” عليها بقولها:
_طب أحاول أنا طيب ؟ هاتي كدا؟
حاولت “قـمر” بعدما تحركت لها “عـهد” لكي تحاول الأخرى لكن أيضًا نفس النتيجة المحتم عليها بالفشل، مما جعل النيران تضرب بصدر “عـهد” وقد توقعت هذا الفعل لكنها كانت تحاول الهرب منه، مما جعلها تترك الأشياء ثم ركضت من البيت نحو الأسفل وخلفها “قـمر” أيضًا، فيما نزلت الأخرى نحو “وجـدي” تهتف بنبرةٍ عالية في وجهه:
_أنتَ غيرت الكالون !! ها !!.
سحب الهواء من النرجيلة الفحمية ثم أخرجه في وجهها وهو يقول بتبجحٍ دون أن يراعي روابط الدم بينهما:
_آه، أنا اللي غيرت الكالون وأنا اللي هبيع الشقة وأعلى ما في خيلك اركبيه يا بنت “محفوظ” وغوري بقى متطيريش الحجرين من نفوخي على الصبح.
شعرت بالقهر والغل يتفاقما بداخلها فاقتربت منه تمسك تلابيبه وهي تصرخ في وجهه بقهرٍ من قلبها المظلوم فتفاجئت به يدفعها بعيدًا عنه وهو يَسبها بأهلها فأسندتها “قـمر” قبل أن تسقط الأخري بينما “وجـدي” وجد الفرصة تأتي له على طبقٍ من فضة واقترب منها حتى يضربها وينتقم من زوجها فيها لكنه لم يضع في الحُسبان أن يجد كف “أيـوب” يمنعه ثم يقف أمامهما درعًا وهو يقول بتهكمٍ:
_ليك حظ تجرب كف “أيـوب”.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)