روايات

رواية غوثهم الفصل التاسع عشر 19 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل التاسع عشر 19 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء التاسع عشر

رواية غوثهم البارت التاسع عشر

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة التاسعة عشر

_في كل مَرةٍ أرى بها نجاة أحدهم من معضلته آمل بكل ذرةٍ بي وأناجي المولىٰ طامعًا:
“وقــلـبي يا الـلّٰـه”
فمن سواكَ يحنو على قلبي من قسوته ويرسله للنجاة، ومن غيرك يا واحد يا صمد تُبصر القلوب في رحمته و تتوسله بطمعٍ في رحماه.
فاللهم قلبي وما به، وقلب كل من آكلته وحشة دنياه.
____________________
ربما يكون القلب قطع العهد، ولكن لأجلها يُخان ألف “عهد” ؛ وربما أقسم القلب بالزُهدِ عن ليال السمر، فبات ساهرًا يراقب القمر؛ طامعًا في الحصول على “قَـمر”، وربما هناك جاهلٌ لم يفقه في الحب شيءٍ وكل ما يعرفه فقط سمات، فأضحىٰ بعد رؤياها يتلو في العشق “آيات”، وهناك من قسى قلبه وبات أسودًا ولهيبه مشتعل كما الجمارة، لكنه خضع عند دلالها وما هي سوى “سمارة”.
أقترب “يوسف” منهم وأمسك الورق يقرأه بعينيه سريعًا ليطمئن أن كل شيءٍ على ما يرام وما إن تأكد من ذلك أمسك القلم يُدلي بامضته على الورق لينتقل كل ما يخص المرحومة إلى حوزته وسط نظرات الحسرة منهم جميعًا حتى “شـهد” التي وقفت تطالع الوضع بغير رضا، فهتف “يوسف” لهم بعدما طوى الأوراق في يده يتشفى بهم:
_ الحج “نَـعيم” الله يبارك في عمره لما روحتله وأنا عيل صغير خارج من الإصلاحية قالي كلمتين مهمين، منهم بقى إن الزمن كاس وداير على الكل بحساب، وإن اللي بعيشه صعب و ممكن ناره تكويني وتبرد غيري، نفس النار دي هييجي عليها يوم تبرد ناري وتكوي غيري.
أوقف حديثه ثم التفت لـ “شهد” يطالعها بخيبة أملٍ ثم نظر لزوجها يقول بنبرةٍ واثقة وثابتة:
_جدتك الله يرحمها يوم ما راحت تطلب العروسة ليك اللي أنا كنت عاوزها، قالتها كدا بمنتهى الصراحة والفخر عاوزينها لحفيد العيلة الوحيد وقالت اسمك أنتَ، رغم إني أنا هنا الكل في الكل، ساعتها الكلام كان نار بتاكلني، بس شوف يا أخي، نفسها جدتك دي ماتت ووصت إن كل حاجة تروح للوريث الوحيد اللي هو أنا….”يوسف مصطفى الراوي” يعني الكاس دار عليكم يسقيكم المُـر.
وقف أمامه “نادر” يتحدث باستهتارٍ ويقصد التقليل منه:
_بتحلم….فوق لنفسك يا بابا، واللي خدته دا نقطة من بحر اللي هنا، حلال عليك واعتبره شفقة مننا ليك.
أبتسم “يوسف” بزاوية فمه وحرك رأسه موافقًا ثم اعتدل واقفًا بشموخٍ في وقفته يعتز بنفسه كما تربىٰ ونشأ:
_لو حقي دا شفقة منكم ليا، فاعتبروني بحن على عالم جعانة عينها مشافتش في يوم شبع، علشان كل اللي أنتم فيه دا حقي أنا وفلوس أبويا وجدتي، يعني لما تيجي تشفق على حد يا بابا، ابقى اشفق من جيب اللي خلفك مش من جيب صاحب الحق، وابقى اتربى شوية وبطل بجاحة عينك المكشوفة دي.
هتف “نـادر” بنفاذ صبرٍ منه فلسفته تلك:
_بقولك إيه متصدعناش، خدت اللي ليك برة بقى.
أبتسم “يوسف” بسخريةٍ ونظر حوله وكأنما يتفحص المكان بنظراته ثم نظر لهم من جديد وقال مُتعجبًا:
_برة فين ؟؟ أنتَ عقلك ملطوط؟؟ الورق اللي معايا دا مش مالي عينك يعني؟؟ فوق يابن “سامي” أنا ليا هنا قد اللي ليك أنتَ وأمك…ريح…ها…ريح شوية.
تحدث “عاصم” هذه المرة بدلًا عن الأخر بقوله الذي ظن أنه به يهينه أو لربما يزيد من جرحه:
_لو ناسي اللي فات افكرك أنتَ مين وكنت فين، كعبك عالي أوي على ٣ أماكن أي حد لو عرف بيهم، هيقرف يقف قصادك حتى.
أظلمت عيناه بحقٍ وأصبح الغضب مقروءًا في نظراته لذا بخطواتٍ واسعة تحرك نحو عمه الذي وقف ثابتًا وهدر من بين أسنانه بقوله:
_وأنتَ مقرفتش ليه ؟؟ ولا علشان زيك زي الكلب طمعان في عضمة ؟؟ لو ناسي أنا هفكرك مين اللي كان السبب، بس لكل مقام مقال، وأنا بأيدي دي، هعمل فيك حاجة من الاتنين، يا أرميك في قبرك، يا أرميك في السجن، يا إما بقى…..
توقف عن الحديث ليرسل للأخر خيالاتٍ تعصف بذهنه وما إن نجح في ذلك قال بتريثٍ مريب:
_اللي أنتَ فهمته أيوة….لو حَكمتْ هبعتك بأيدي هناك.
التحدي السافر من نظرات عمه له والغضب المرسول له من عينيه لم ينذر بذرة خيرٍ واحدة، بل ينذر بقدوم عاصفة على وشك إقلاع الأشجار من جذورها ليقوم هو بإطفاء تلك النيران وإخمادها تمامًا ثم التفت يغادر المكان ليصله بدء التحدث من “سـامي” فالتفت برأسه يشملهم بنظرةٍ دونية يقصد إهانتهم بها وهتف مُستخفًا بهم:
_وسَـفيه العقل إذ تناقشه بدا لكَ وكأنه ثرثارٌ
لا تسمع منه صوتًا سوى النهيق ليتضح لك أنه حمارٌ
رمىٰ لهم حديثه وتحرك من المكان في يده الورق فجلست “شهد” بجوار زوجها تدرك حجم خسارتها وهي الوحيدة التي هُزِمت هنا بحق، هي من خسرت حُب “يوسف” و احترامه لها، وخسرت المال الذي كان سببًا في قبول هذه الزيجة، وخسرت فوق كل هذا كبريائها كأنثىٰ يستطع “يوسف” في كل مرةٍ توجيه الإهانات لها.
________________________
جلس “أيوب” في غرفته حبيسًا يختلي بنفسه كما اعتاد لكن تلك المرة فقد شغفه وانطفأت روحه بعد حديث “يوسف” عن والدته وكأن نيران الأخر تمسكت بحبل الوقود لتعلن له أنه لازال في حاجةٍ لعناقها، ذلك الفراق الذي كُتِبَ عليه؛ أثبت له أنه طفلًا يود عناق أمـه، خاصةً حينما مر بسمعه كلمة الأخر الموجعة:
_”أيوب”…أنا عاوز حضن أمــي.
تنهد بعمقٍ ثم رفع كفيه يمسح وجهه وخرج من الغرفة يتوجه للأسفل حيث غرفة مكوث والده ليخبره بقراره ورغبته الأخيرة في موضوع إتمام زيجته، لذا تحرك بخطى مُتمهلة والحزن باديًا في عينيه، طرق غرفة نوم والده فسمح الأخر له بالدخول، دلف “أيوب” له يلقي التحية وتبعها بقوله:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ممكن أتكلم معاك؟؟
انتبه له “عبدالقادر” الذي كان يتابع نشرة الأخبار وخاصةً في المنطقة العربية، لذا اطفأ الصوت تمامًا وانتبه له مشيرًا إلى جواره بقوله:
_مش ممكن ليه يعني ؟؟ اتفضل يا حبيبي.
تحرك الأخر نحوه وجلس بجواره على الأريكة يقول بإصرارٍ:
_بابا…قبل أي خطوة اخدها لازم أتكلم بكرة مع “قـمر” لوحدنا، في بيتهم بقى أروح اقابلها وحد ييجي معانا يراقبنا من بعيد، بس لازم أتكلم معاها هي، علشان أحدد قراري.
سأله “عبدالقادر” بنظراتٍ مُتفرسة وهو يجول بعينيه في نظراته لعله يعرف قراره أو حتى فيما يفكر:
_ليه ؟؟ مش كنت مقرر تروح تتقدم وبعدها تشوف موضوع “يوسف” ؟؟ إيه اللي جد جديد بقى ؟؟
تنهد “أيوب” مُطولًا وهتف بنبرةٍ هادئة لكنها كانت فعالة في توضيح تخبطه وشتات أمره:
_اللي جد أني حطيت نفسي مكانه ولقيت إن بفتري عليه وأنا بأيدي أني أرحمه، مش يمكن طول غياب أمه عنه هو السبب في إن غضبه يزيد ؟؟ غير كدا فيه حاجة أنا مش فاهمها، حاسس ناحيته بمسئولية غريبة، عاوز احميه خايف عليه، والأهم أني خايف على أخته اللي في حاجة جوايا اتحركت ليها، لو فيه حاجة خلتني اتغوي في مغريات الدنيا دي كلها، تبقى “قـمر” هي فتنة الزاهد.
ربت “عبدالقادر” على كتفه وهتف بنبرةٍ ثابتة كعادته يشدد من أزره ويبثه القوة في قرارته التي أخذها:
_لو عليا هريحه وأقوله على مكانهم وأخلص، بس فيه حاجات لازم تتدارى عنه، اللي زي “يوسف” دا فكرني بيك، عزيز النفس دمه حامي، لو حاجة من اللي حصلت زمان هو عرفها أكيد هيطربق الدنيا على دماغ الكل وأولهم نفسه، علشان كدا أنا صابر ومستني لحد ما أتأكد أني أقدر احافظ عليه، علشان لما اقابل “مصطفى” قدام ربنا يقولي عيشت، كنت قد الأمانة.
تنهد “أيوب” بعمقٍ ثم نطق بثباتٍ اقتبسه من والده ليظهر حديثه شامخًا ثابتًا غير مهزوزٍ:
_وأنا قررت، “يوسف” لازم يرجع لحضن أمه.
أبتسم له “عبدالقادر” وهتف يمازحه بعدما علم بخوفه من القادم والاضطراب البادي على هيئته:
_طب “يوسف” هيروح لحضن أمه، “أيوب” مش هيدخل حضن أبوه ؟؟ وحشتني يا واد ولا هتعملي فيها شيخ الشباب بقى وتشوف نفسك عليا ؟؟
أبتسم له “أيوب” بحبٍ واقترب منه يضع رأسه على صدر والده الذي رفع كفه يمسح على خصلاته وتنهد بعمقٍ وهو يقول بحزنٍ حينما تذكر العقبات التي مر بها صغيره:
_لما سميتك “أيوب” كنت قبلها صبرت كتير لحد ما ربنا كرمني من وسع بحلاله، وفضلت أتمنى من ربنا يرزقك بصبر “أيوب” وميحكمش عليك بالوجع، بس اللي حصل إنك اتحملت كتير، تعبك وأنتَ صغير لما اتولدت، وموت “رقية” في حضنك وسكوتك بعدها بالشهور، وبعدها السرطان اللي جالك، وبعدها خطفك وأنتَ صغير علشان يساوموني بيك، بعدها اعتقالك والأيام اللي شوفتها جواه، وأنا زيك بتعذب براه، صبر “أيوب” شوية على اللي شوفته.
تنهد “أيوب” مُطولًا وكأن حياته تمر أمامه مثل الشريط لعرض حياته كما الأفلام، ليبتسم هو بقلة حيلة وهتف بنبرةٍ قوية العزيمة:
_لكنه مُـرٌ وبرحمة الخالق مَـر، فمن شفى “أيـوب” وكشف ضُـر “يعقوب” أيبخل على عبده برحمته؟؟ مستحيل.
ربت “عبدالقادر” على رأسه ثم نطق مؤكدًا:
_صح….ربنا مش هيبخل على عباده برحمته.
_________________________
قامت “عـهد” بإنهاء عملها في العيادة ورحلت الطبيبة من المكان لتتولى هي مُهمة إغلاق المكان والاتمام على كل شيءٍ به وأخر ما أتمت عملها عليه هو إغلاق مفاتيح الكهرباء الرئيسية ثم أغلقت الباب الخشبي للعيادة ومنه الباب الحديدي ثم نظرت في ساعة معصمها تطالع الوقت لتشهق شهقة خفيفة وهي ترى الوقت تخطى منتصف الليل، نعم المكان تكدس بالمريضات لكنها لم تتوقع أن تبقى لهذا الوقت المتأخر لذا قررت الإسراع في الرحيل.
على الجهة الأخرى جلس “سعد” في محله بجوار “شكري” وكلاهما يدخن السجائر المُخدرة بمادة الحشيش، فشعر “سعد” بالانتشاء فور وصول الدخان لرأسه وتأثيره القوي على خلايا المُخ ليسأل بنبرةٍ ظهر بها الانتشاء:
_ولا ؟؟ الحتة دي منين ؟؟ عالية أوي.
رد عليه “شُكري” الذي لم يتأثر بتلك المادة نظرًا لأنه اعتاد على الأقوى منها بمختلف الأنواع:
_دي اسمها “نجوم الليل” واحد حبيبي طابخها طازة وحلف أني أول واحد أدوقها، إيه رأيك ؟؟.
رفع “سـعد” كفه يحك فروة رأسه نظرًا لقوة المادة على رأسه والحالة التي دخل بها ليُكمل إنهاء السيجارة ومن ثم بدأ عقله في رسم خيالات أخرى _حقيرة_ لم تخرج سوى من شخصٍ مثله، بدأت صورتها تمر أمامه وهي تضحك وغمازتها واضحتان على وجنتيها ليبتسم هو الأخر ظنًا منه خياله السكران إنها تبتسم له، لذا ضحك بسعادةٍ بالغة وفجأة مر أمامه خيال “يوسف” وهو يضربه ليقوم هو بدفع النرجيلة بقدمه تزامنًا مع صراخه عاليًا، فنظر له “شكري” بتعجبٍ وهتف مستفسرًا:
_الله !! مالك يا جدع هي هبت منك ولا إيـه؟؟
نطق “سعد” يجاوبه بنبرةٍ مغلولة:
_بقى أنا حتة بت زي دي تبقى السبب أني اتهان على أيد اللي يسوى واللي ميسواش بسببها ؟؟ بتستعصى عليا ؟؟ نسيت إنها جاية هنا مطرودة هي وأمها ؟؟ طب وربنا المعبود لأكون مربيها والليلة دي، وتوريني مين هيلحقها مني بقى.
وقف بعد حديثه بغلٍ دفين طفق يعلن عن نفسه وهو يتحرك بتؤدة في بدء خطواته لكنه ترنح فنطق “شكري” بقلقٍ زائفٍ:
_الله يا جدع خلي بالك وفوق لحالك، دا أنتَ دماغك على البايظ خالص.
تحرك “سـعد” من محله تاركًا كافة شئونه لينظر “شكري” في أثره بيأسٍ وهتف بسخريةٍ يرثي حال صديقه:
_صحيح زمن قلاب…ملحقناش مجنون “ليلى”، لحقنا مسطول “عـهد”.
خرجت “عهد” من البناية ووضعت كافة أشيائها في حقيبة ظهرها ولبست أحد ذراعيها وضمت الحقيبة بيدها تتمسك بها خاصةً مع هدوء المنطقة ليلًا وإغلاق كافة المحلات، تحركت بخطواتٍ واسعة حتى تذهب إلى البيت خاصةً أنها تكره الطرق ليلًا ولم تضع في ذهنها ظهوره أمامها يعترض طريقها عند مدخل أحد الأزقة الضيقة وهو يبتسم لها بسماجةٍ أسقطت قلبها من الخوف، لينطق هو بنبرةٍ جامدة:
_مالك يا “عـهد” ؟؟ مش هعملك أي حاجة أنا ليا عندك حق وهاخده وكدا نبقى متصافين سوا يا بنت الحلال، قولتي إيه ؟؟
على الرغم من خوفها إلا أنها تسلحت بشجاعةٍ زائفة وهتفت في وجهه بثباتٍ لم تملك منه ذرةٍ واحدة:
_قولت إنك حيوان ميتردش على كلامك أصلًا، وسع من وشي بدل ما أصوت وألم عليك الناس كلها، ساعتها محدش هينجدك من علقة محترمة.
هتف بوجهٍ مبتسمٍ بسماجةٍ وكأنه طمع في كل الصفات السيئة لصالحه مما زاد من خوفها:
_عارفة لو عملتي كدا هقولهم متفقين نقضي الليلة سوا وهي جاية دلوقتي تعترض، في النهاية بقى دي سمعتك أنتِ، هتضحي بسمعتك ؟؟ ولا نتلم في الهدوء؟؟
تنفست بعمقٍ وهتفت بحدةٍ في وجهه:
_عاوز إيه ؟؟ اخلص وخلصني منك.
_عــاوزك أنتِ.
تلك الكلمة التي أوقعت قلبها من الخوف وجعلت الاشمئزاز يدب في خلاياها يثير النفور بداخلها لتهتف بقلة حيلة وقد انتهت قوتها نهايئًا:
_والله يابن الحلال أنا مش ليك، مش قابلاك ومش قادرة اتقبل وجودك لوحده قدامي، حاولت اديك فرصة وغصب عني أنا مقدرتش، شوف غيري كتير ومنهم بنات ناس أحق بيك مني.
كانت تستعطفه بحديثها ظنًا منها أنه لربما يملك لو قليلًا من صفات البشر ليشعر بمآساتها المكتوبة عليها، ففاجئها هو بقولٍ يدل على وقاحته ومدى وضاعة تفكيره:
_بس مفيهمش حلاوتك ولا اللي عندك، مفيش ست قدرت تشغلني زيك ولا واحدة قدرت تخليني مجنون بيها كدا، أنتِ أولى بيا.
جال بخاطرها فكرةٌ وهي أن تركض للجهةِ المخالفة بدلًا من حالة الرعب والذعر الذي أخذا يعلنا عن نفسهما وسطوتهما عليها وقبل أن تقوم ببرمجة خطواتها في برنامج عقلها أتتها النجدة على هيئة ذراعٍ قويٍ يقبض على عنق “سـعد” وهو يقول بنبرةٍ تهكمية:
_بتعمل إيه هنا يا أبو سِعدة ؟؟ بتظبط المرور ؟؟
اتسعت عينا “عهد” بدهشةٍ وسرعان ما أطلقت أنفاسها المحبوسة بسبب خوفها ولمعت العبرات في عينيها بامتنانٍ لهذا الشخص، فيما نطق “سـعد” بصوتٍ مختنقٍ إثر ذراعه الموضوع على عنقه:
_إيه اللي جابك دلوقتي يا شيخنا ؟؟.
هتف “أيـوب” بسخريةٍ وهو يشدد قبضته على عنقه:
_جاي أتابع حظر التجوال يا خفيف.
حاول “سعد” إبعاد ذراع “أيوب” عنه ونظرًا لوهن قوته بسبب المخدرات عليه لم يقو على هذا الفعل البسيط، لذا ازداد ضغط “أيوب” على عنقه ومال على أذنه يهتف بفحيحٍ بالغ الأثر على نفس الأخر:
_لو فاكر إنك هتقدر تعمل حاجة تبقى عبيط، ولو فاكر إنها لسه خطيبتك ويحق ليك تراقبها وتوصلها أحب أقولك اتغطى كويس، ويلا غور روح نام.
دفعه بيده دفعة واحدة قوية حتى أوشك الأخر على الاصطدام بالحائط لكنه تماسك وتحامل على نفسه ثم وقف يقول بنبرةٍ أتضحت عادية لكن بها تهديدٍ غير صريح:
_ماشي يا شيخنا….هروح أنام بقى، تصبح على خير.
تحرك “سـعد” بعدما شملهما بنظرةٍ ساخطة ليختفي أثره من المكان فتحدث “أيوب” بضجرٍ من رائحته النفاذة:
_يا أخي ربنا يسامحك، أنا متوضي، يهدك يا بعيد
فلتت ضحكة خافتة من بين شفتيها لينتبه لها “أيوب” بعد حديثه وسألها بمعاتبةٍ:
_إيه اللي أخرك لحد دلوقتي بس يا آنسة؟؟ أنتِ عارفة أنه مختل وممكن يعمل أي حاجة بسبب الزفت اللي بيطفحه.
هتفت بلهفةٍ تنفي عن نفسها أي إتهامٍ:
_والله العيادة كانت زحمة أوي وفيه حالتين ولادة، لو أعرف كدا كنت خليت حتى ماما تيجي تاخدني ولا حاجة.
تنفس بعمقٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة وهو يشير لها أن تتقدمه:
_طب اتفضلي علشان أوصلك، مش هينفع تمشي لوحدك.
حركت رأسها موافقةً لكنها عرضت عليه بأدبٍ:
_ممكن حضرتك تروح مشوارك وأنا همشي خلاص، كفاية أني عطلتك وكتر خيرك.
أبتسم بمجاملةٍ وهتف مُستخفًا بحديثها:
_على أساس كدا هقتنع وامشي يعني؟؟ اتفضلي علشان أكيد والدتك هتكون قلقانة وأكيد زمانها اتصلت بالحج، اتفضلي.
حركت رأسها موافقةً وسارت أمامه تتقدمه فيما أطلق هو زفيرًا قويًا وهتف بنبرةٍ خافتة:
_يـا صـبر “أيـوب”.
وصلت “عهد” إلى أول الشارع وهو يسير خلفها مما جعل الأمان يسكنها وكأنها تحتمي بجيشٍ قوي العِدة والعداد، وما إن وصلت للبناية التفتت له تبتسم بمجاملةٍ وهي تقول:
_ألف شكر يا أستاذ “أيوب” أنتَ جيتلي نجدة من السما.
أبتسم لها وهتف بنبرةٍ هادئة يرفع عنها الحرج:
_متشكرينيش أنا، أحمدي ربنا أني نزلت في الوقت دا، محدش بيبعت لينا الغوث غير ربنا، اتفضلي اطلعي وأنا هكلم الست والدتك اطمنها.
حركت رأسها موافقةً ثم تذكرت أمر حقيبتها فاقتربت منه من جديد تفتح الحقيبة وأخرجت منها فطيرة أو ماشابه ذلك وهتفت بنبرةٍ هادئة:
_ممكن حضرتك تاخد دي؟؟ أنا اللي عملتها واعتبرها حاجة بسيطة مني.
سألها بحاجبين معقودين وقد خمن بمرحٍ:
_ دا تمن التوصيلة يعني ؟؟ معلش مش هقبل أقل من فطيرة بالسمنة البلدي.
نظرت له بتعجبٍ وخاصةً أنه أول مرة يتحدث بتلك الطريقة، فيما تنهد هو بعمقٍ ثم اخذها منها وهو يقول بنبرةٍ هادئة يريد تنحية خوفها جانبًا أو أي إحراج قد تشعر به بسبب معاونته لها:
_ألف شكر وتسلم إيدك مقدمًا.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم بإحراجٍ وقبل أن يتحرك هو وصلهما صوت “يوسف” من الخلف يسألهما بتعجبٍ:
_مالكم واقفين كدا ليه؟؟ خير إن شاء الله.
التفت له “أيوب” واشرأبت “عـهد” برأسه نحوه فزاد هو من تفرسه لهما وحرك رأسه باستفسارٍ لم ينطقه، ليقول “أيـوب” بثباتٍ:
_أبدًا دا كان مجرد سوء تفاهم اتحل الحمد لله، حمدًا لله على السلامة، بس مش جاي متأخر كدا ؟؟
رد “يوسف” بقلة حيلة بدون أن يتواقح كعادته:
_كنت مخنوق شوية قولت أقعد مع نفسي، أنتَ بقى نازل متأخر ليه ؟؟ والآنسة كمان ؟؟
هتفت “عـهد” بلهفةٍ تبريء نفسها من إتهام طريقته:
_أنا لسه راجعة من الشغل والله، أكيد مش نازلة بمزاجي….إيه دا ؟؟ أنا بقولك ليه؟؟ أنتَ مالك؟؟
رفع حاجبيه مستنكرًا بعد تبدل طريقتها في الدفاع عن نفسها، فتحدث “أيوب” بثباتٍ ينهي مشاجرة ظن أنها ستبدأ بينهما:
_اتفضلي يلا يا آنسة، ولو هتتأخري تاني يفضل تكلمي الحج وأحنا هنخلي حد يجيبك لحد هنا، وياستي ابقي ادفعيله أنتِ تمن التوصيلة، اتفضلي.
تحركت من أمامهما و “يوسف” يتابعها بعينيه حتى اختفى أثرها فنطق “أيوب” يلفت نظره نحوه:
_محتاج حاجة ؟؟ مضطر أمشي أنا بقى.
سأله “يوسف” بتعجبٍ:
_تمشي على فين؟؟ مش بيتك الناحية دي؟؟
حرك رأسه موافقًا وأشار على الجهة الأخرى يهتف مُعدلًا على حديثه:
_صحيح بيتي هنا، بس راحتي هناك.
فهم “يوسف” مقصده حينما نظر للمسجد المُضيء على أول الشارع فتحرك “أيوب” بعدما ربت على كتفه ليتنهد الأخر ثم صعد البيت هو الأخر لشقته بتعبٍ اتضح عليه، فوجد عمته تقترب منه بلهفةٍ واضحة وهي تقول:
_كنت فين كل دا ؟؟ ومش بترد عليا حتى خوفت عليك.
نظر لها بلامبالاةٍ وهتف مُستخفًا بخوفها:
_متخافيش كلهم هناك سُلام محدش فيهم حصله حاجة، مش في mood أني أكسرهم لسه.
ردت عليه بحبٍ تنفي ظنونه بقولها:
_مش هما، أنا اللي يهمني أنتَ، كويس ؟؟
نظر لها بعمقٍ لتتصل نظراتهما سويًا ثم حرك رأسه نفيًا فشملته هي بنظرةٍ حزينة تتجول في ملامحه باشفاقٍ عليه، ليتنهد هو بعمقٍ ثم قال بنبرةٍ مُنهكة:
_قومي نامي متشغيلش بالك بيا.
هتفت هي تسأله بلهفةٍ:
_طب أنتَ روحت فين بعدما مشيت من هناك؟؟ “مادلين” قالتلي إنك مشيت من بدري وعلى ماهي روحت مكنتش أنتَ هناك، كنت فين ؟؟
زفر بقوةٍ وهتف رغمًا عنه:
_كنت في جنة الراوي، المكان اللي بيريحني وبنسى نفسي فيه، مش يهمك أني أكون مرتاح ؟؟ أهو أنا بقى مش برتاح غير هناك.
عقدت ما بين حاجبيها ليتحرك هو من أمامها نحو الداخل لتنظر في أثره بضجرٍ من غموضه الذي كلما زاد عمره ازداد معه وكأن العلاقة بينهما طردية لم يقو أحدهما على التحرك بمفرده دون الأخر.
وصلت “عـهد” شقتها فوجدت والدتها تجلس بقلقٍ في شرفة الشقة وما إن رأتها تتحرك في الشقة ركضت نحوها بخوفٍ بلغ أشده وقد عصفت الخيالات بذهنها:
_يابنتي حرام عليكي قلبي وقف، كنتي فين؟؟
ارتمت على والدتها تحتضنها وتتشبث بها كما الطفل الصغير الذي اخطأ في الخارج وركض لكهفه يبحث عن أمان حضن أمه، فتشبثت بها “مـي” هي الأخرى وربتت على ظهرها وهي تقول بنبرةٍ هادئة حينما صعد صوت بكاء ابنتها:
_بـس بـس خلاص مش عاوزة أعرف مالك، كفاية إنك قصادي بخير وفي حضني، بس يا حبيبتي.
هدأت ثورة بكاءها تمامًا وارتخى ذراعيها عن والدتها وهي تقول بنبرةٍ مبحوحة من فرط البكاء:
_تعبت خلاص….بيطلعلي في كل حتة وملازمني زي ضلي حتى في أحلامي، خلاص مبقيتش حمله ولا حمل سيرته حتى.
ربتت عليها والدتها وهتفت بقلة حيلة:
_احنا مفيش علينا غير إننا نوكل ربنا، هو مُطلع.
_____________________
في صباح اليوم التالي نزل “أيهم” بصغيره في يده فاقتربت منهما “آيات” تلقي عليهما التحية ثم أمسكت وجه الصغير تقبله وهتفت بنبرةٍ مرحة:
_يسعد صباحك يا حلو أنتَ.
رد عليها “إياد” بمرحٍ كما مرحها:
_يسقيكي الخير يا جميلة.
ضحكت له ثم وقفت أمام أخيها تقول بنبرةٍ هادئة:
_صباح الخير يا حبيبي، تعالى يلا علشان نفطر سوا، “أيوب” زمانه نازل أهو و بابا بيصلي الضُحى وخارج.
حرك رأسه موافقًا ثم سألها مبتسم الوجه:
_قوليلي صحيح، “تَـيام” جالك إمبارح ؟؟
عند ذكر اسمه حركت رأسها موافقةً بخجلٍ، فيما سألها هو باهتمامٍ خوفًا من تهور شقيقته في الحكم على الأخر:
_وإيه الدنيا ؟؟ هتفرحينا ولا تنكدي على أهالينا.
ردت عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
_هو بصحيح مرووش وعاوز ظبطة محترمة، بس باين أن مش لئيم ولا خبيث، يعني هقدر آمن على نفسي معاه.
وضع “أيهم” ذراعه على كتفها يضمها إليه هاتفًا بسخريةٍ:
_لأ والشهادة لله يعني، فترة الخطوبة بتاعتك دي ولا كأنها جيش، دا ربنا يصبره ومنلاقيهوش في ميدان رمسيس بيجاهد هناك في سبيل الله.
كتمت ضحكتها رغمًا عنها وتصنعت الجدية وهي تقول:
_لو سمحت !! من غير تريقة بعد إذنك، دا الصح وهو لو عاوزني في بيته بما يُرضي الله يبقى يصبر نكون سوا، صح؟
حرك رأسه موافقًا ولمعت عيناه بفخرٍ لتتحرك هي نحو طاولة الطعام تسحب المقعد للصغير حتى يجاورها في الجلوس، وجلس مقابلًا لهما “أيـهم” و أتى لهم “أيـوب” وأتى بعدها “عبدالقادر” ليكتمل عددهم مع بعضهم على الفطور فتحدث “عبدالقادر” بعد إلقاء التحية عليهم:
_النهاردة إن شاء الله يا “أيوب” هتروح بيت الأستاذ “فضل” لوحدك علشان تتكلم مع “قـمر” زي ما أنتَ عاوز.
ابتسمت “آيات” وسألت بلهفةٍ تتوق لهذه اللحظة:
_ينفع أروح معاه يا بابا ؟؟ عاوزة أشوفها.
تحدث “عبدالقادر” برفضٍ طفيف حتى لا يُحرجها:
_ماظنش إنك ينفع تروحي، أنا قايلهم إن “أيوب” بس اللي هيروح يقابلها، خليها للمرة التانية لما الموضوع يكون رسمي.
هتف “أيوب” بلهفةٍ بعد حديث والده:
_خليها تيجي معايا أحسن، كدا كدا مش هقدر أروح لوحدي مكان أول مرة أدخله، دخولي بيها أحسن علشان هما ميكونوش مجروجين مني.
أيده “أيهم” بقوله موافقًا:
_صح، خدها معاك أحسن وبعدين دي بت وش خير طول عمرها وعاملة زي جدتك كلها بركة كدا.
أنهى حديثه بالمزاح يشاكس شقيقته التي طالعته بسخريةٍ وهي تقلد طريقته، فتنهد “عبدالقادر” ثم قال بنبرةٍ هادئة يستسلم لهم:
_روحي معاه هما كدا كدا كانوا فاكرين إننا كلنا هنروح، بس هعرفهم الأول علشان محدش منهم يتحرج، تمام؟؟
حركت رأسها موافقةً فهتف “إياد” ببراءةٍ:
_يعني هتاخدوا الفرخة الصغيرة وتسيبوا الديك الكبير هنا؟
نظروا له في آنٍ واحدٍ ليشير على نفسه مبتسمًا ببرودٍ جعلهم للأسف يضحكون رغمًا عنهم بسبب استفزازه وصيده في الماء المُتعكر وقلب الأمور لصالحه هو.
______________________
في بيت “نَـعيم” علم هو بعمل “سراج” في القضاء على عروضهم مستغلًا انشغالهم في اللعب أسفل الطاولةِ، فاجتمع مع الشباب صباحًا وأتت لهم “سمارة” مع “تَحية” بالطعام لتناول الفطور سويًا ثم جلست بجوار “إيهاب” حتى أبتسم لها “نَـعيم” وهتف يثني على هيئتها الجديدة:
_طب تصدقي يابت شكلك كدا أحلى ؟؟ جدع يا “عـمهم” ربنا يكرمكم إن شاء الله سوا بكل خير ويرزقكم بعيال تطلع عليكم القديم والجديد.
ضحك البقية فيما سألته “سمارة” بلهفةٍ:
_شكلي حلو فيه بجد ؟؟ حاسة أني مش عرفاني خالص.
رد عليها مؤكدًا سابق حديثه بقوله:
_هكدب عليكي يعني ؟؟ وحتى لو شكلك مش حلو فيه يبقى كدا الغرض منه اتحقق، ربنا يهدينا جميعًا ويرزقكم.
أمنوا خلف دعائه فسأل هو باهتمامٍ:
_عرفتوا إن “ماكسيم” رجع هنا تاني؟؟
نظروا لبعضهم بدهشةٍ وأكثرهم كان “إسماعيل” الذي ردد مستنكرًا:
_”ماكسيم” !! رجع تاني ليه دا؟؟
أبتسم “نَـعيم” بسخريةٍ ونطق بتهكمٍ.يجاوب فضولهم المنطوق:
_”سراج” بيه جابه علشان اشترى بيت جديد وأكيد فيه مصلحة آثار حلوة، المهم إن “إسماعيل” يخلي باله من نفسه، وياريت يبعد عن سكتهم أحسن.
اندفع “إيهاب” يقول بنبرةٍ جامدة يعبر بها عن غضبه:
_يعني إيه ؟؟ هو أنا هنا هفأ ؟؟ طب من غير يمين اللي هيفكر ييجي جنب أخويا ولا حتى يجيب سيرته هطير رقبته، ومات الكلام و وراه يموت اللي يفكر ييجي جنب الـ مني.
لاحظت “سمارة” تهوره في الحديث وغضبه البائن في كلماته وطريقته لذا أمسكت يده تربت على كفه، فهدأ تمامًا ونظر لها، حينها فقط نطق “مُـحي” باهتمامٍ لوالده:
_سيبك من “ماكسيم” دلوقتي، بس إحنا هنعمل إيه قصاد اللي “سراج” بيعمله؟؟ دا كدا بيخرب لنا شغل شهر كامل، وطالما الجدع دا هنا يبقى أكيد مموله جامد وصارف بالمستريح، هنعمل إيه؟؟ هنروح نرقصله في حفلته؟؟
رد عليه “إيهاب” بإصرارٍ أسفر عن تحديه المتفاقم تجاه الأخر:
_طب وماليك عليا حلفان لأخليه هو اللي يرقص على خيبته، واليوم بتاعه اللي فرحان بيه دا، يبله ويشرب مايته، بس المعلم “يوسف” يحضرلي هنا علشان نتفق سوا.
سأله “نَـعيم” باهتمامٍ:
_مجهز حاجة تتصرف بيها ؟؟ ولا نسيبهاله ونفوقله بعدها؟
ابتسم “إيهاب” بخبثٍ وطفق الغموض يبدو في نظراته مقروءًا للعيان:
_أنا مبعرفش أسيب حاجة لوقت تاني، دمي حامي وحقي يا يتاخد وقتها يا تروح عليا أحسن، أمنلي بس يا عمنا.
بعد مرور دقائق وقف “إيـهاب” أمام البيت بعدما تمم على الخيول واطمئن على توفير الرعايةِ لهم فوجدها تركض نحوه بابتسامةٍ واسعة جعلته يبتسم بعينيه حتى وقفت أمامه تقول بلهفةٍ أعربت عن خوفها من رحيله وعدم اللحاق به:
_كويس أني لحقتك، أمسك دا علشان أنتَ مفطرتش كويس، عملاهم بأيدي ليك، ألف هنا وشفا يا سي “إيهاب”.
أبتسم بفمه وعينيه معًا ثم سألها مُتعجبًا:
_هو أنا رايح مدرسة ؟؟ دا أنا رايح الشغل وهناك فيه أكل.
هتفت بتلقائيةٍ كعادتها بدون تفكير:
_وماله يا أخويا كُل أنتَ بألف هنا، وابقى كل هناك برضه أنتَ بتشقى علشاننا، ألف هنا.
ضحك رغمًا عنه ثم أخذ الطعام من يدها والكوب المعدني الملازم لعلبة الطعام ثم تفحصها وهو يقلبها بين أنامله وسألها مبتعجبًا:
_بت ؟! الزمزمية دي بتاعة مين ؟؟
هتفت خلفه باستهجانٍ من كلمته هذه:
_زمزمية؟؟ يعني يا أخويا أنا أصرف وادفع دم قلبي وأناهد مع الولية أم جنى وأخرتها تقولي زمزمية؟؟ جيباه ليك علشان يحافظ على السخونة.
ردد خلفها مستنكرًا بسخريةٍ:
_سخونة إيه؟؟ عاوز أفهم بجد، بعدين هي أم “جنى” دي البيت السعيد بتاعك ؟؟ هدوم ومفارش وكوبايات؟؟
حركت رأسها موافقةً وهتفت بتلقائيةٍ:
_آه يا أخويا، بعدين الست مش وحشة يعني كل ما يجيلها حاجة جديدة تعرفني، صحيح بتشغل دماغها عليا بس أنا بشغل الفهامة عليها وربنا يربحنا سوا.
لم يقو على كتم ضحكته حتى حرك رأسه يائسًا وأوشك على التحرك من محله فأوقفته بقولها:
_خُـد هنا !! مفيش كلمة حلوة لـ “سمارة”؟؟
التفت لها ضاحكًا ثم رماها بغمزةٍ من عينيه رافقها بقوله:
_لما أرجعلك بليل يا عمنا، استنيني بس أنتِ.
نظرت في أثره بابتسامةٍ مُشرقة ثم تنهدت بعمقٍ والتفتت لداخل البيت تتابع شئونه مع “تحية” وتعاونها قبل الصعود إلى شقتها.
_______________________
في حارة العطار وسط النهار تقريبًا كان “يوسف” يجلس أمام الحاسوب الخاص به في غرفته فوصله عبر موقع التواصل الاجتماعي “Gmail” بريدًا من عمله يخبروه بموافقتهم في مد أجازته ومن بعدها انتقاله إلى الشركة مرةً أخرى بدلًا من سفره لعدة محافظاتٍ.
تنهد براحةٍ ثم هتف بين نفسه بتأكيدٍ:
_كدا أحسن خليني افوق للي هنا.
طرقت عمته الغرفة فوصلها صوته يوافق على الدخول بقوله:
_تعالي…. أنا صاحي.
دلفت له الغرفة فوجدتها مُرتبة ومنسقة كعادته فابتسمت له وهي تقول:
_طول عمرك بتحب النظام ومتقبلش الكركبة، مين يصدق إن دي أوضة شاب أعزب لوحده ؟؟.
رفع عينيه لها ثم تفحص المكان ببصره وهتف بسخريةٍ:
_هو الطبيعي دلوقتي بقى غريب؟؟ المفروض إن أي إنسان يتضايق من العفانة، بس أنتِ معذورة، معاشرة مين يعني؟.
تنهدت بعمقٍ ثم غيرت الموضوع بقولها:
_طب مش هتاكل؟؟ مفطرتش معايا ولا حتى فطرت لوحدك، يلا علشان نتغدا سوا ولا أمشي يمكن تاكل ؟؟
أغلق حاسوبه ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_لو عاوزة تمشي أنا مش ماسك فيكي، بس مترجعيش تزعلي من اللي هيعملوه فيكي هناك، وبلاش كل شوية نبرة الذنب دي، علشان أنا مبيفرقش معايا….ماشي؟؟
حركت رأسها موافقةً وهتفت بتلقائيةٍ وكأنها لم تستمع له:
_يعني امشي ؟؟
رفع حاجبه لها باستنكارٍ لتبتسم له بقلة حيلة جعلته يتحرك من المكان بيأسٍ نحو الخارج بعدما ضرب كفيه ببعضهما.
_____________________
تجهز “أيوب” في الأعلى وارتدى حلةً سوداء اللون أضافت له وقارًا فوق وقاره، فوقف يهندم خصلاته السوداء ولحيته أيضًا ثم هندم قميصه وياقته والتفت يتحرك من موضعه فوجد “إياد” يدخل وهو يقول بمرحٍ:
_إيش….إيش أيوا يا عريس، أقسم بالله نفسي حد يزغرط.
أبتسم له “أيوب” وهتف بنبرةٍ رخيمة:
_عقبالك يا “أودي” إن شاء الله.
رفع الصغير كفيه ينطق بتضرعٍ:
_يا رب…يا رب…يا رب.
ضحك عليه “أيوب” فدلفت “آيات” تتعجله بقولها:
_يلا يا “أيوب” هنتأخـ….بسم الله ما شاء الله، اللهم بارك، ربنا يحفظك ويتمم فرحتك بخير إن شاء الله.
بدلت حديثها فور وقوع بصرها عليه ليبتسم لها هو وينطق “إياد” بزهوٍ في نفسه يقول:
_لأ طالما أنا معاكم الموضوع هيتم إن شاء الله، أنتم مستقليين بيا ولا إيـه ؟؟.
نظر له كلاهما فيما سأله “أيوب” بسخريةٍ:
_ليه هو حضرتك ناوي تتكلم هناك أصلًا؟؟
أضاف مؤكدًا بعدما حرك رأسه:
_آه طبعًا، أومال مين اللي هيفخمك هناك..؟
نطق”أيوب” مستنكرًا خلف كلمته:
_هيـ…إيه؟؟ يعني إيه؟؟
نطق “إياد” مُفسرًا قوله السابق:
_يعني أنا اللي هتمم الجوازة دي إن شاء الله.
ظهر التعجب على ملامحهما، ليضيف هو مُفسرًا:
_هقولهم إنك محبوب، عمر العيبة ما خرجت منك والعياذ بالله، عمرك كدا عمرك ما مديت إيدك على حد، عمرك فوت فرض ولا سُنة حتى، إمام مسجد بتصلي بالحارة كلها، بتحفظ القريب والغريب قرآن، بتصوم اتنين وخميس وأيام قمرية، يعني من الأخر العروسة هتعمل رجيم رباني، عمرك كدا ما قفلتها ولا عقدتها على اللي خلفونا، عمرك ما كـ…..
أوقفه “أيوب” بقوله يهدده بصراحةٍ:
_انا لو سمعت منك صوت هناك هجيبك زحف على بطنك، كلامك دا هيبوظ الجوازة يا متخلف، دا مش بعيد نطرد من هناك.
هتف “إياد” بمرحٍ يزيد من نيران غيظ عمه:
_طب يا جماعة إحنا عاوزين إيه تاني؟؟ ألف مبروك.
ضحكت “آيات” وتحركت تمسكه من ذراعيه وهي تنطق بيأسٍ منه ومن أفعاله:
_ياض تعبتنا، ربنا يهديك يا رب ويصبر اللي ليه نصيب يكمل معاك الطريق دا.
هتف “إياد” بحزنٍ حينما تذكر أمر رحيلهما:
_هو أنتِ قربتي تمشي خلاص؟؟ مش هعرف أقعد هنا من غيرك، ولا من غير “أيوب” خليكم شوية معايا.
ردت عليه هي بتأثرٍ وكأن حزنه انتقل لها:
_لأ طبعًا إحنا معاك هنا أهو، وبعدين حتى لو مشيت أنا، “أيوب” معاك هنا مش هيمشي ومعاك جدو وبابا بعدين لسه بدري أوي على أني أمشي من هنا واتجوز، اتطمن.
حرك رأسه موافقًا بتفهمٍ ثم ابتسم براحةٍ وهتف من جديد يشاكس عمه:
_الجو دا مش واكل معاك بحاجة؟؟ مش عاوز تعبرلي عن مشاعرك خالص؟؟
اقترب “أيوب” منه يحمله بكفيه ثم نطق يعبر عن يأسه منه:
_أنا لو هعبر وتديني فرصة يبقى مترجعش تزعل.
حرك الصغير عينيه ثم هتف فجأةً بخوفٍ:
_لأ شكرًا خلاص أنا وصلني كل أحاسيسك ناحيتي.
بعد مرور دقائق نزل “أيوب” مع شقيقته وابن شقيقه معهما ثم خرجوا من البيت نحو سيارة “أيوب” وكانت “آيات” تمسك في يدها باقة زهورٍ وعلبة حلويات فاخرة تليق بهم، فاقترب “تَـيام” ينطق بمشاكسىةٍ متجاهلًا وجود “أيوب” :
_ازاي يا آنسة يا محترمة تخرجي من غير اذني؟؟
نظرت له ببلاهةٍ وقد ادهشها تواجده بالمكان، ليهتف “أيوب” بعدما زمجر غاضبًا:
_بتقول إيه يالا؟؟
انتبه له “تَـيام” فهتف بصوتٍ مضطربٍ:
_يوه…لامؤاخذة اندمجت شوية، Sorry.
رفع “أيوب” حاجبيه فاقترب “بيشوي” منهم يعاتبه قائلًا:
_مش كنت عرفتنا نيجي نرفع راسك؟؟ رايح سُكيتي كدا؟؟
رد عليه “أيوب” بحديثٍ مُبطنًا وصل مغزاه للأخر:
_ما أنتَ فاهم اللي فيها، أدعي بس ربك يكرم والدنيا تمشي تمام وكل حاجة بعدها تتيسر لأخوك.
ربت “بيشوي” على كتفه وهتف بثباتٍ يبثه ثقةٍ:
_روح وخليك متأكد إنك عمرك ما أذيت حد ولا نيتك كان فيها حاجة وحشة لحد، خايف ليه؟؟ متنساش تيجي تطمنا بس.
حرك رأسه موافقًا ثم فتح باب سيارته يركبها وفي الخلف الصغير وشقيقته بجواره الذي تعلق نظر “تيام” بها ليتفاجأ بكف “بيشوي” يوضع عليه هاتفًا بسخريةٍ:
_دلوقتي بقينا نبص وناخد راحتنا، الله يرحم أيام كدا…الله لا يعودها الأيام دي، ولا نعودها تاني.
هتف “تَـيام” ساخرًا:
_ياه عليك وعلى قلبتك يا جدع، زعلك وحش أوي إلهي ربنا ياخد “جابر” يا شيخ لو حد زعلك تاني.
رفع “بيشوي” صوته قائلًا:
_ياعم ياريت الدنيا كلها تزعلني لو هو دا الحل.
ضحك “تَـيام” ومعه “بيشوي” هو الأخر ثم تحركا نحو عملهما بعدما تأكدا من خروج سيارة “أيوب” من الحارة.
_______________________
في شقة “غالية” تم ترتيب المكان وتجهيزه لاستقبال ابن عائلة “العطار” على الرغم من تواضع المكان إلا أن إضافة النساء له جعلته مميزًا، فبدا وكإنه تم تجهيزه لعشية العيد لاستقبال العيد بعد مرور سويعات، أما “قَـمر” فقد اختلط عليها الأمر أهي حقًا تعيش في الواقع أما إنها أسيرة حُلمٍ جميل لم تبغى الاستيقاظ منه؟؟
ارتدت فستانًا باللون الوردي ينساب على جسدها ويبين رسمة جسدها وفوقه الحجاب باللون الأسود وكذلك الحذاء ذي الكعب العالي بنفس لون الحجاب، وبعض مساحيق التجميل التي ناسبت ملامحها كما أخبرتها “ضُـحى” التي تولت مهمة تجهيزها.
وقفت “قـمر” بتوترٍ تفرك كفيها ببعضهما وتضغط على أناملها حتى أبيضت مفاصلهم، فاقتربت “ضُـحى” منها تُتمم على مظهرها النهائي وهي تقول بنبرةٍ متلهفة:
_عاوزاكي كدا تثقي في نفسك ومتبانيش متوترة خالص، أحسن يفتكرك لقمة طرية ويكرب حالك بعد الجواز.
لكزتها “قمر” في مرفقها بضجرٍ اتضح على ملامحها، فيما ضحكت الأخرى ثم ضبطت حجاب رأسها وهتفت بنبرةٍ مرحة:
_”قــمـر” يا “قــمر”.
ضحكت لها “قمر” وأتت لهما “غالية” ورغمًا عنها وعن حزنها ابتسمت وهي تطالع وجه ابنتها وقد اغرورقت عيناها بالدموع المتأثرة واقتربت من فتاتها تُقبل قمة رأسها وهي تقول بنبرةٍ مختنقة وقد داهمها البكاء:
_زي القمر يا عيون ماما، ربنا يسعدك يا حبيبتي ويجعله من بختك إن كان يستاهلك وإن كان هو نصيبك.
لمعت عيناها بفرحةٍ وحركت رأسها موافقةً فدلف “عُـدي” في هذه اللحظة يقول بلهفةٍ:
_بقولكم إيه وصلوا خلاص، ادخلوا جوة يلا وأنا وبابا هنيجي نستناهم وماما تجيب الحاجة.
سألته “قـمر” بلهفةٍ عن هيئتها:
_شكلي حلو يا “عُـدي” ؟؟ مش هطلة؟؟
حرك رأسه موافقًا وهتف بمرحٍ:
_حلو الطقم وشكلك زي القمر، يلا بقى ادخلي.
دلفت للداخل مع “ضحى” و والدتها فيما صدح صوت زغاريد “أسماء” عاليًا وهي تدخل لهم تحمل صينية التقديم في يدها ليبتسم ابنها وزوجها لها وفي الأسفل هتفت “آيات” في مدخل البيت بنبرةٍ خافتة تقول:
_بقولك إيه شكله فال حلو أوي أهو، مبارك مقدمًا.
أبتسم لها فهتف “إياد” بتعجبٍ:
_بيزغرطوا على إيه دول، مش يمكن منوافقش؟؟
كتم “أيوب” فمه وهو يقول من بين أسنانه:
_بس يا بابا، اسكت يا حبيبي، أخرس خالص.
بعد مرور ثوانٍ معدودة صعد “أيوب” بهما نحو شقة “قـمر” فوجد كلٍ من “فضل” و “عُـدي” في استقبالهم، فابتسم هو بدوره وعرفهم على شقيقته وابن شقيقه ثم جلسوا معًا وقد أتت “أسماء” لهم تضع واجب التقديم.
في الداخل ارتفعت ضربات قلب “قـمر” وظنت أنه أوشك على التوقف تمامًا من فرط ضخه للدم في جسدها، فربتت “ضُـحى” عليها في محاولةٍ منها لتهدئتها، لتقول الأخرى من فرط توترها:
_بقولك إيه؟؟ اطلعي قوليلهم برة أني ماكنتش أعرف علشان كدا نزلت من غير ماحد يعرف، يلا مش هقدر.
ضربتها “ضُـحى” في رأسها تقول بحنقٍ:
_أنتِ مجنونة يا بت ؟؟ اطلع اسوء سمعتك علشان مكسوفة ؟؟ ياشيخة يارتني كنت روحت الشغل بدل ما يتخصملي، بس أقولك هاخد حق اليوم دا منك وعليه باقة الشهر عليكي.
رمقتها “قمر” بغيظٍ فدلف “عدي” لهن يقول بنبرةٍ هادئة:
_يلا يا “قمر” الناس مستنية.
سألته عمته عن سر ابتسامته:
_بتضحك على إيه؟؟ هما جايبين برة إسماعيل ياسين؟
رد عليها مفسرًا بوجهٍ بشوشٍ:
_لأ الفكرة بس أنه مريح أوي لدرجة تخليكي متعرفيش سر ضحكتك وأنتِ بتبصيله، ومعاهم برة ولد سكر أوي تحسيه يتاكل من كتر الحلاوة.
تحركت معه “قـمر” وخلفه النساء، كانت تخفض رأسها على استحياءٍ فيما لاحظ “أيوب” قدومها فوقف تقديرًا لها قبلهم، وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_ازيك يا آنسة “قـمر” ؟؟
رغم نبرة صوته المميزة وطريقته المحترمة في التحدث إلا أنها اجزمت أن تلك هي الطريقة الألطف على الإطلاق في ذكرها، لذا رفعت عينيها بخجلٍ نحوه ترد عليه قائلةً:
_بخير الحمد لله، حضرتك عامل إيه ؟؟
رد عليها بوجهٍ مبتسمٍ ثم أشار على شقيقته قائلًا:
_اقدملك، “آيات” أختي الصغيرة، ودا “إياد” ابن أخويا الكبير.
هتف “إياد” بمرحٍ:
_بابا هو اللي كبير مش أنا، أنا وحيد.
انتشرت الضحكات على قول الصغير المرح حتى “قمر” نفسها التي ضحكت له، فتحدث “فضل” مشيرًا للواقفين بالجلوس فرحب “أيوب” بـ “غالية” وهو يبتسم لها مما جعلها تطمئن له، هيئته وطريقته وشفافية لسانه وطريقة تربيته نفسه وسُمعته كل هذا ساهم في إدخال حبه للقلوب.
كان “أيوب” يتابعها بعينيه حتى هتف “فَـضل” يستأذن من البقية بتركهما بمفردهما، فهتف “أيوب” يستأذنه بقوله:
_بستأذن بس حضرتك أو أستاذ “عُـدي” يقعد قريب من المكان، كدا أفضل طبعًا للكل.
أبتسموا له بتقديرٍ وهتف “فضل” مؤكدًا ثقته به:
_من غير ما نقعد ومن غير ما تطلب معروف أنتَ مين وابن مين، ربنا يكرمك يابني ويثبتك إن شاء الله.
تحرك وتركه بمفرده معها وهي تجلس بخجلٍ، فجلس “أيوب” مجاورًا لها تاركًا مسافة لا بأس بها بينهما وهو يقول بنبرةٍ رخيمة:
_طب إيه العداد هيبدأ يعد، هترفعي راسك ولا أمشي ؟؟
رفعت رأسها له تطالعه بخجلٍ فيما ثبت هو نظره عليها، لم يعلم إن كان صوابًا أم خطأً لكنه هنا كما الغريق في ملامحها _العادية_ والطبيعية لكنها هي وحدها من امتلكت هذا السحر عليه، عيناها الجميلة أسرته ككوبٍ من القهوة تملك أثرًا نفاذًا على عقلٍ لم يفق يومًا بعد، أما هي فشردت في ملامحه وحتى تلك اللحظة لم تصدق أنه حقًا “أيوب” الذي تعرفه.
هتف هو بعدما تنحنح يُجلي حنجرته:
_طبعًا الحاجات العادية أنتِ عرفاها عني، تحبي تعرفي إيه عني ؟؟ أي سؤال ليكي الحق فيه وواجب عليا أجاوبك بصراحة.
حركت كتفيها بحيرةٍ وهتفت بتوترٍ من اللحظة:
_بصراحة دي أول مرة اتحط في الموقف دا، فمعرفش.
سألها بنبرةٍ ضاحكة:
_يعني أنا اللي مقطع عتب الخاطبات؟؟ مانا زيي زيك.
ضحكت له بخفةٍ فتنهد بعمقٍ ثم سألها بثباتٍ:
_بصي علشان نوفر التوتر على بعض، أنا جاي النهاردة أعرف حاجة واحدة، أنا ليا قبول عندك يخليني أجيب أهلي وأجي اتقدم رسمي ؟؟ ولا خايفة مني؟؟
نظرت له بعمقٍ خاصةً بعد كلمة “خوف” فكيف تخشى مثله؟؟ ودت أن تنفي ظنونه لكنها لم تقو على هذا فحرك رأسه هو متسائلًا بصمتٍ لتقول هي حينما لاحظت استنكاره لصمتها:
_شرف ليا طبعًا إن حضرتك تيجي هنا تتقدم ليا، ولو أنا ليا نصيب معاك أكيد ربنا هييسر علينا الطريق ويوضع القبول.
اجابتها ممتازة ومُقنعة جعلته يبتسم لها بفخرٍ ثم تنهد بعمقٍ وباغتها بقوله الصريح _الغير متوقع_ في هذه اللحظة:
_تعرفي “يوسف” أخوكي يا آنسة “قـمر”؟؟
اتسعت عيناها بدهشةٍ فور ذكره لأخيها ورددت خلفه باستنكارٍ وقد أدمعت عيناها:
_”يوسف” !! أنتَ تعرفه ؟؟
حرك رأسه نفيًا ثم هتف موضحًا:
_أنا عرفت القصة من الأستاذ “فضل” لما سألته عنك وعن أكتر حاجة ممكن تفرحك، هل “يوسف” ممكن يفرحك؟؟
نزلت دموعها فور تذكرها أخيها وهتفت بنبرةٍ محشرجة:
_والله العظيم اسمه بس بيطمني، مش قادرة أتخيل فرحتي يوم ما اشوفه قصادي ولا حتى يوم ما أتأكد أنه موجود بجد وأني ممكن أشوفه، كل يوم غلاوته عند بتزيد من غير ما اشوفه حتى.
سحب “أيوب” منديلًا من أمامه ومد يده لها وهو يقول بمعاتبةٍ زائفة:
_طب بلاش عياط، أول مرة أشوف عروسة بتعيط في الرؤية الشرعية، الإنسان مننا سُمعة يا أخت وأنتِ بتدمري سُمعتي كدا.
ضحكت رغمًا عنها وهي تسحب منه المنديل فهتف هو بنبرةٍ هادئة يحاول طمئنتها:
_عاوزك تتوكلي على المولى ثم عليا في موضوع “يوسف” دا وأنا إن شاء الله ناوي اجمعكم سوا، بس أخد الموافقة الأول مش هعمل حاجة ببلاش.
ابتسمت له بفرحةٍ كبرى طفقت تعلن عن فرحتها وقبولها ليسألها هو مُخمنًا:
_اعتبر دي تصريح القبول ؟؟
حركت رأسها موافقةً بخجلٍ ثم سألته:
_بجد هتدور على “يوسف” ؟؟ ولا بتعشمني؟؟
أومأ لها بأهدابه وهتف بنبرةٍ مؤكدة:
_بجد أنا عمري ما قولت كلمة وخلفت بيها، عاوزك تثقي فيا بس وتدعيلي ربنا ييسر عليا الأمور، اتفقنا ؟؟
اومأت هي له موافقةً فتنهد هو براحةٍ وابتسم لها بصفاءٍ لتتصل نظراتهما سويًا في لحظة صفاءٍ اطمئنت بها القلوب وكأن قلب كليهما للأخر قد صفا.
__________________________
عاد “إيهاب” من عمله أولًا بعدما اطمئن على كافة الأمور العينية والمادية وخطط لرد فعل قوي يرد به على فعل “سراج” الذي بدأ معهم من جديد حرب الكر والفر.
قرر أن يفي بوعده لزوجته وانتظرها بجوار الخيل حتى أتت له وركب معها الخيل الذي اختاره هو ليقضي رحلتهما السعيدة العابرة.
كان يركب الخيل وهي أمامه بسعادة طفلة صغيرة ترى العالم للمرةِ الأولى بينما هو كان يسير بهوادةٍ وتؤدة حتى لا يثور الخيل ويفقد سيطرته على الأمور، خاصةً أنها معه فخشى أن يصيبها أي مكروهٍ أو تقع من على الخيل، وبعد الكثير من لحظات السير هتف يسألها بنبرةٍ رخيمة:
_مبسوط يا عمنا ؟؟ عملتلك اللي كان نفسك فيه أهو؟
التفتت له برأسه تقول بتلقائيةٍ:
_أوي أوي يا سـي “إيـهاب” بفرح أوي لما تعمل حاجة نفسي فيها، بحس أكني بغيظ الدنيا كلها بيك.
ابتسم لها ثم نزل من على الخيل ومد يده لها ليعانق كفها كفه ونزلت هي أيضًا، فقال هو بنبرةٍ هادئة:
_هقعد هنا أشرب سيجارة ونكمل تاني.
حركت رأسها موافقةً فاقترب هو من شجرة صغيرة الحجم يجلس بجوارها فاقتربت منه “سمارة” تجلس بجواره تستمد منه الامان خاصةً في الفراغ الذي ملأ المكان وسكون الليل الذي غطت عتمته الفراغ، فرفع هو ذراعه يضعه على كتفها يضمها إليه وسألها بنبرةٍ جامدة:
_هتفضلي كدا ولا تضايقي من ريحة السجاير.
ردت عليه بنبرةٍ ضاحكة:
_لأ هفضل كدا، مزعلك يا عمهم ؟؟
حرك رأسه نفيًا وبعد لحظة صمتٍ مرت عليهما سألها هو من جديد:
_مش عاوزاني ابطل سجاير يا “سمارة” ؟؟
ردت عليها بعشوائيةٍ كما المعتاد منها مندفعة في طريقتها:
_يا أخويا ماتولع وتفك عن نفسك مش أحسن ماتولع فيا وأنتَ متعصب وخرمان ؟؟ إيه المصيبة دي ؟؟
رمش ببلاهةٍ عدة مراتٍ فوجدها تضيف بتلجلجٍ:
_بص بصراحة يعني، لو زي ما بيقولوا إنها بتجيب أمراض وهباب أزرق يبقى بطلها أحسن، أنا مش مستغنية عنك.
سألها باهتمامٍ تفاقم إليه بعد حديثها:
_خايفة عليا أوي كدا ؟؟
ردت عليه هي بلهفةٍ تؤكد حديثه:
_ليا مين غيرك علشان أخاف عليه؟؟ مليش غيرك أنتَ كل حاجة ليا في الدنيا، أب وأخ وصاحب وجوزي وعزوتي، أنا حطيت فيك دنيتي كلها يا سي “إيـهاب” ومعنديش استعداد أقف أشوف نفسي بخسرك حتى لو بتتوجع.
تأثر هو بحديثها ونبرتها الصادقة لذا شدد ضمته لها ثم حرك فمه نحو جبينها يطبع قبلة رقيقة وناعمة وقبل أن ينطق ويعبر له عن مشاعره صدح صوت هاتفه عاليًا فأخرجه وجاوب على المتصل بقوله:
_إيه يا عمنا أنتَ فين ؟؟
رد عليه “يوسف” بنبرةٍ هادئة:
_أنا برة أهو يا عمهم، أخرجلي لحد ما أشوف الحج فين.
جاوبه “إيهاب” معدلًا عليه:
_لأ أنا بلف بالخيل شوية، هجيلك على الحوش هتلاقي الحج عندك ومعاه جوز الخيل دول.
أوقف “يوسف” سيارته في الخارج ثم دلف لهم فوجد “نَـعيم” يجلس وسط الشابين والنيران مشتعلة يقومون بعمل الشاي عليها، فألقى عليهم التحية ورحبوا به حتى جلس بجوار “نَـعيم” فسأله “إسماعيل” باهتمامٍ:
_كنت فين يا “غَـريب” ؟؟ نسيتنا خلاص؟
رد عليه مُعدلًا حديثه:
_مقدرش انساكم غير لو أنا قليل الأصل، أنا بس انشغلت في وجود عمتي معايا، وفي حوار ورث “حكمت” دا خوفت يعملوا حاجة كدا ولا كدا، بس جيت علشان نشوف حوارات “سراج”
اقترب منهم “إيهاب” يقول بشموخٍ:
_لأ حوارات “سراج” دي محلولة، ومش هتاخد مننا وقت أصلًا، ركزلي أنتَ بس واسمعني كويس.
كانت “سمارة” تقف بجواره فهتف “يوسف” بتعجبٍ:
_لبستي الحجاب ؟؟ مبروك يا ست.
ردت عليه بنبرةٍ هادئة:
_الله يبارك فيك يا أستاذ “يوسف” تسلم يا رب.
هتف “نَـعيم” لها بنبرةٍ لينة:
_روحي يلا قولي لـ “تحية تحضر العشا وعرفيها إن “يوسف” هنا.
حركت رأسها موافقةً ثم تحركت من المكان، فجلس “إيهاب” بجوار”يوسف” وقال بدهاءٍ:
_ركزلي بقى، دلوقتي هو هيعمل يوم مفتوح بالخيول صح.؟ يعني هو دا آخره وكدا يبقى مية مية، هيأجر الخيول من المعلمين ويفتح الكافيه بتاعه على الشارع، احنا بقى يوم نحط على حد، نحط بالتقيل أوي، نسيبه يجيب أخره علشان ننزل إحنا بأخرنا ميعرفش يجيبه هو.
سأله “مُـحي” بانصاتٍ يطمع في المزيد من خبرته:
_قصدك إيه يا عمهم ؟؟
هتف “يوسف” بدلًا عن “إيهاب” وكأن الأفكار انتقلت له:
_يعني هنعلي عليه إحنا، ننزل بحفلة مفتوحة للكل، دافعين احنا حقها، ويبقى يوم بمقام اسبوع كامل من بتوعه.
قال حديثه ثم وقف يخرج ورقة وقلم من جيب بنطاله ثم دون بها أسماء ومد يده لـ “إسماعيل” قائلًا بثباتٍ:
_الاسامي دي تجيبها في الحفلة، جديدة وبتاكل مع الناس.
هتف “نَـعيم” يعلن فخره بهما:
_ربيت صح، وطلعت رجالة زي ما بيقول الكتاب.
تحدث “إسماعيل” بمرحٍ بعدما أمسك صينية الشاي وهو يقول:
_طب بما إننا رايقين كدا، محضرلكم أغنية “يوسف” بيموت فيها، يلا ياض يا “مُـحي”.
عقد “يوسف” مابين حاجبيه ووزع نظراته المستنكرة بينهم ليصدح صوتهما بمرحٍ بعدما فهم كل منهما ما يرمي إليه الأخر:
_سابت في قلبي جراح…عليها العمر راح…. من غيرها أنا هرتاح….دا أنا شوفت معاها آسية….كدبة وصدقتها….وأهي عاشت وقتها….هسيبها لوحدها ماهي برضه غدرت بيا.
ضحك “يوسف” رغمًا عنه وكذلك “نَـعيم” أيضًا وبعد مرور ثوانٍ صفق “يوسف” معهم بغلبٍ و “إيهاب” أيضًا حتى تذكر “مُـحي” أمر هاتفه فصرخ قائلًا:
_يلهوي، الزفت محطوط على الشاحن من ساعة ماجيت.
ركض بلهفةٍ من المكان فنطق “إيهاب” بسخريةٍ بعدما رفع صوته:
_روح يا “مــوهي” هتلاقي فيه ٣٦٥ واحدة رنوا عليك.
ضحكوا عليه وبمجرد اختفاء أثره اندلعت النيران بالمكان كما لو أنها حالة حرب حتى فزع الشباب وانتفضوا من جلستهم يقفون مع بعضهم وفي وسطهم “نَـعيم” الذي رفع صوته بصراخٍ:
_فــيه إيــه؟؟ إيه ضرب النار دا ؟؟ الرجالة فين؟؟.
هتف “يوسف” بلهفةٍ:
_الخيول….”لــيل”.
انتبهوا لما تفوه به وقبل أن يأخذوا خطوة واحدة تجاه الخيول، وصلهم صرخة مدوية عالية باسم “إيــهاب” لتتجه أبصارهم نحو مصدر الصرخة العالية وماهي سوى “سمارة” التي وقفت تبكي والسكين على عنقها، لتنتابهم حالة القلق والخوف، فصرخت هي ببكاءٍ:
_ابوس إيدك الحقني يا “إيهاب” أنا مليش غيرك، الحقني.
هتف “إيهاب” بنبرةٍ جامدة يهدد الأخر بقوله:
_لو لمست شعرة واحدة منها، يمين بالله لأكون دافنك مكانك.
هتف “فتحي” بنبرةٍ ضاحكة شامتة:
_اتكلم على قدك يا “عَـمهم” مش خدت اللي عاوزه منها، خلاص لو عليك لحد كدا، سيبلي أنا الباقي.
تدخل “يوسف” يقول بنبرةٍ جامدة وقد فقد أعصابه:
_اتكلم على قدك أنتَ يا روح أمك، أنتَ عارف إنك حتى لو خدشتها بالغلط محدش هنا هيسمي عليك، مش “يوسف الراوي” اللي يسيب أخته لعيل زيك من غير حتى ما يربيك.
ضحك “فتحي” بهيسترية وهو يشدد وضع السكين على عنقها ثم هتف ببرودٍ آثار أعصابهم:
_للأسف مش أنا اللي هعمل، أنا بخوفكم بس.
نظروا لبعضهم بترقبٍ وقبل أن ينطق أيًا منهم، ضحك “فتحي” من جديد ليقطع دهشتهم هذه صوت عيار ناري أصاب هدفه لتتسع الأعين بعدها ويهتف “إيـهاب” صارخًا باسمها:
_”ســمــارة” !!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى