روايات

رواية غناء الروح الفصل الثاني 2 بقلم زيزي محمد

رواية غناء الروح الفصل الثاني 2 بقلم زيزي محمد

رواية غناء الروح البارت الثاني

رواية غناء الروح الجزء الثاني

رواية غناء الروح
رواية غناء الروح

رواية غناء الروح الحلقة الثانية

-هو أيه اللي ماتقدريش ترفضيه يا يسر؟!
انتقلت نظرات والد ” يسر” السيد “فاضل” تاجر الاجهزة الكهربائية بينها وبين والدتها “أمل” فسارعت والدتها كعادتها بتهدئة الوضع بكلماتها الثابتة رغم أنها كانت تحمل قدرًا كبيرًا من التوتر:
-مفيش حاجة يا حاج فاضل دي يسر بس بقولها نروح نعمل مفاجأة لنوح في العيادة بمناسبة عيد ميلاده وهي بتقولي ماقدرش.
رفع والدها حاجبيه معًا بتعجب وركز بنظراته على ابنته الباكية:
-ايوه بردو، أيه الصعب في كده!
خفضت بصرها تخفي عيناها الحزينة وهي تقول بصوت مرتجف ممزوج بنغمة الأسى المصاحبة دومًا لصوتها:
-عشان اتخانقت أنا وهو….
صمتت تستطلع رد فعل والدتها التي هاجم التوتر قسماتها بوضوح، فأكملت بضيق:
-وكرامتي واجعني بس.
-يعني الخناقة دي هو قل أدبه عليكي فيها ولا خناقة بين اتنين متجوزين عادية؟!
أجابت بصدق على والدها:
-لا خناقة عادية يا بابا.
اكتفت بهذا القدر من الإجابة وأخفت سبب المشكلة المتفاقمة بينها وبين زوجها لعلمها بمدى صرامة والدها الشديدة وأن ذلك العيب الخطير المصاحب لشخصية زوجها لن يتقبله والدها أبدًا.
-ومن امتى يا حاج فاضل نوح بيقل أدبه على يسر.
-مايقدرش اصلاً.
رده الخشن والصارم جعلها تخطو نحوه تحتضنه تنهل من نهر حنانه ما يكيفها لاستكمال طريقها مع نوح مُحب النساء!
-بس ده مايمنعش بردو يا يسر انك تتنازلي وتروحي تفاجئ جوزك في شغله انك افتكرتيه الحاجات دي بصراحة بتفرح الراجل.
ضحكت “أمل” بخفة تمازح زوجها بطريقتها البسيطة:
-يعني طلعت بتتبسط مني يا حاج.
-اه طبعًا.
أجاب بصدق وهو يشملها بنظراته الحنونة المحبة لشخصيتها البسيطة، فقالت يسر بهمس متقطع يحمل قهر نابع من معاملة نوح لها:
-عشان بتحبها بجد من قلبك يا بابا.
-بتقولي حاجة يا يسر؟!
رفعت نظراتها وهي تحرك رأسها بالنفي:
-لا.
ابتسم لها ابتسامته الحنونة:
-طيب يلا روحي لجوزك وصالحيه، ماتبوظيش يوم زي ده بشوية عكننة مالهاش لزمة.
سارعت والدتها بالتأكيد الممزوج باللهفة:
-ايوه كلامك صح يا حاج فاضل، يلا هنزل معاكي بالمرة واوصلك لغاية العيادة.
لم تجد يسر مفر يسمح لها بالفرار من فكرة ذهابها لزوجها في عمله، فاستسلمت بحسرة والشجن ينسج خيوطه بعينيها الممتلئة عن أخرها بالدموع.
***
غادر “يزن” المصعد وهو ينظر للشقة القابعة أمامه، فقابلته فتاة بزي رسمي مكون من تنورة طالت ركبتيها وقميص زهري اللون ملتصق إلى حد ما بجسدها، رمقها بنظراته التي حاول بقدر الامكان أن يحجمها ولكنه فشل كعادته وغمرها بالإعجاب الشقي وهو يقول:
-أهلًا بمروة القمر.
مال وجهها للخجل وهي تبادله نفس نظرات الاعجاب:
-أهلاً بيك يا مستر يزن، نورت العيادة كلها.
-مستر أيه بقى، هو أنا مش قولتلك مابحبش الالقاب.
شهقت بنعومة مقصودة:
-يا خبر ماقدرش.
مالت شفتيه ببسمة ساخرة جذابة:
-ليه اسمي صعب كده، ده حتى تحسيه اسم سينمائي.
بادرت بتأييده بحرارة ناعمة:
-عندك حق بجد.
-أيه الرقة دي، ماعرفش نوح بيلاقي موظفينه البروفيشنال فين؟! ده أنا دايخ يا مروة على حد زيك يستقبل الكلاينتس في الأجانص مش لاقي كلهم غفر.
ضحكت برقة والسعادة تغمر صوتها عقب مديحه لها:
-ميرسي لزوقك أوي، وان شاء الله هتلاقي، أنت حد كويس اوي اوي يا…
-يا أيه؟! اوعي تقولي مستر دي بحس بكرشة نفس لما حد بيقولهالي.
مزاحه وخفة دمه كانت الضوء الأخضر لها كي تجرد الالقاب بارتياح:
– يا يزن.
-طلعت سهلة صح؟!
سألها بمزاح واتضح لها مدى إعجابه بها فشعرت بالفخر لجمالها وشخصيتها التي ظنت أنها فريدة لدرجة أنها استطاعت جذب أنظاره ولم تدرك أنه ماكر جدًا ويعلم متى يخفى إعجابه ومتى يظهره في الوقت المناسب!
-ها أيه يا قمر نوح موجود؟!
-اه دكتور نوح موجود، هيفرح جدًا لما يعرف بوجودك.
ضحك بسخرية ملحوظة معقبًا على ترحيبها المبالع فيه:
-أنا أي حد بيفرح بوجودي.
دخل يزن العيادة وكما هو متوقع وجدها تزدحم بالنساء فقط! صداقته لنوح لم تكن من فراغ، فبينهما الكثير من سنوات العمر التي قضياها معًا كجيران يقطنان بنفس الشارع قبل أن ينتقل نوح مع عائلته منذ فترة كبيرة إلى تخطي تلك الاختلافات التي جعلت شخصياتهما منفردة بذاتها، فلم يقتصرا على تجاور المنازل فقط بل اعتبره والد يزن كأحد أبنائه الثلاثة، فكانت حالة أسرة نوح المادية ما دفعته لضمه لكنف أبنائه وشراء ملابس مماثله له حتى لا يشعر بالنقص أبدًا، ولأن يزن كان أقربهم إليه رغم أنه أكبر منه بعدة سنوات، إلا أنه قد نشأ وهو يلعب معه في ظل ابتعاد زيدان قليلاً عنه، كان أحيانًا يصر يزن أن يذهبان معًا لاختيار ملابس مطابقة لهما حتى يظهرا كالأخوة، مما ترك هذا في قلب نوح أثرًا بليغًا ما زال يحمله حتى اليوم، ورغم تعارضه مع يزن في تصرفاته الطائشة وعدم تركيزه في دراسته إلا أنه لم يتجنبه أو يبتعد عنه رغم تباعد المسافات واختلاف الكليات كذلك، فقد اجتهد نوح ولاقى من المشقة حتى تخرج من كلية الطب بينما تخرج يزن من كلية التجارة، انتظر يزن وقت قليلاً كي يدخل لصديق عمره” نوح” والذي استقبله بحفاوة كبيرة:
-يزن باشا الشعراوي نورت العيادة يا عم اقسم بالله.
احتضنه يزن وهو يردف بضحك:
-أول مرة تلاقي راجل عبرك وجالك العيادة.
دفعه “نوح” للخلف بمزاح:
-يا عم الحال من بعضه، يعني أنا لما بجيلك بلاقي رجالة يعني.
جلس” يزن” فوق المقعد المقابل لمكتب “نوح” وهو يخرج تنهيدة قوية مردفًا بتهكم:
-على رأيك ده حتى يبقى خطر على صحتنا.
تابع خلفه بضحك:
-وعلى سمعتنا.
شاركه الضحك ثم قال يزن بضيق زائف:
-أنت يا اللي ماعندكش بربع جنية احترام للمواعيد، مكنتش متفق معايا على يوم الخميس تيجيلي ونسهر وفي الاخر تقلبني وتقفل تليفونك، أنا جاي اهزقك وامشي.
وضع نوح يده فوق وجهه وفركه بقوة وهو يقول بثقل ملحوظ بصوته:
-اتخانقت وقتها مع يسر خناقة كبيرة ومكنتش طايق حد.
رفع يزن أحد حاجبيه باعتراض معقبًا على حديثه:
-هو أنا حد بردو، كنت تعال وصدعني بمشاكلك مع مراتك اللي مابتخلصش، أنا من رأيي تطلقوا وترتاحوا.
-أنت صاحب جدع ومفيش اتنين منك في البلد، عشان لو كان فيه كانت خربت اقسم بالله.
رددها نوح بضحك وهو ينظر لصديقه الذي اتخذ وضعية التفاخر بالذات رغم معرفته بمقصده الساخر.
-ويا ترى اتخانقتوا ليه يا دكتور نوح المرادي، على مروة ولا سهى ولا منار ولا نهلة ولا…..
اوقفه نوح معترضًا بجدية:
-حيلك حيلك لا طبعًا الموضوع مكنش بسبب البنات.
توسعت أعين يزن بتعجب غير مصدقٍ ما يرويه صديقه فقال بفضول بان على وجهه:
-يا شيخ ماتقولش هو فيه موضوع تاني مختلف، أول مرة تحصل في التاريخ، بص فضولي هيقتلني لو ماعرفتوش حالاً.
هز نوح كتفيه متظاهرًا بالضيق وهو يفجر قنبلته التي كانت السبب في رسم علامات الدهشة على وجه صديقه:
-عشان بقولها نفسي اتجوز تاني وبحاول اقنعها هبت فيا وكأني أجرمت وبقولها عايز امشي مع واحدة ولعياذ بالله في الحرام، أنا بجد مش عارف دماغها دي فيها أيه!
صمت يزن لثوان معدودة قبل أن يسأله بحذر وهو ينظر إليه نظرات متصفحة:
-اوعى كده وريني يمكن عورتك كده وانت مداريها.
-ليه يا عم أخوك مسيطر؟!
صاح نوح باعتراض ممزوج بالفخر لرجولته، فهز يزن رأسه معقبًا باستهزاء:
-واضح واضح، ولما الخناقة حصلت نمت فين؟!
أجاب ببساطة وهو يحاول أن يكتم ضحكته:
-هنا في العيادة.
-صاحبي رجولة.
فُتح الباب بقوة أدهشت “نوح” واندفعت كلمات التوبيخ على طرف لسانه ولكنه حجمها في اللحظة الأخيرة، عندما وجد يسر تقف على أعتاب الباب ممسكة بيه وخلفها والدتها التي يبدو على وجهها عدم الرضا من أفعال ابنتها، فعقب ساخرًا:
-أيه لقيتي راجل معايا، مش واحدة وبخونك، انتي كده مديونالي باعتذار.
اندفعت الدماء لوجهها بحرج من موقفها المندفع، وراحت تتحدث بتلعثم طفيف:
-آآ..أنا كـ…كنت داخلة مستعجلة وعايزك..
قاطعها يزن بأسلوبه اللبق رافعًا عنها الحرج:
-أنا كنت ماشي يا يسر أصلاً، اخبارك أيه؟
والتفت كي يغادر الغرفة، فردت بصوت مُستعص:
-الحمد لله يا يزن، أنت عامل أيه؟
-زي الفل.
ثم التفت لوالدتها وقام بالترحيب بها ومن ثم قال لصديقه:
-عايز حاجة يا نوح، ماتنساش اللي اتفقنا عليه، وخف شوية على العربية عشان ماتهنجش معاك في الأخر، والله ما تعرف تعوضها.
أدرك “نوح” المغزى الذي يحاول يزن إيصاله له بطريقته المبطنة تلك، فأمأ برأسه ولم يعقب بأي كلمة حتى خرج، وعقب مغادرته انفجرت نظرات اللوم والعتاب من عينيه ومن فمه الذي أثقل “يسر” الواقفة بجانب والدتها تخفي عيناها عنه:
-يعني لما الناس تشوفك برة وانتي داخلة بالمنظر ده على جوزك في شغله تقول أيه؟!
استلمت” أمل” مهمة تهدئة الوضع كعادتها، وهي تقول:
-ولا أي حاجة يا حبيبي، أنا اللي كنت مستعجلة فيسر اتصرفت كده، دي حتى كانت جاية تقولك كل سنة وانت طيب عشان عيد ميلادك.
أنهت حديثها وهي تلكز ابنتها في الخفاء حيث لجم الصمت لسانها كعادتها، فانتهبت الأخرى قائلة بوجومٍ غير قادرة على نسيانه وهو يحدثها عن ضرورة زواجه مرة ثانية كي يحسن من نفسيته التي ساءت بسبب ضغط العمل:
-كل سنة وانت طيب.
تنهد “نوح” بقوة وهو يجلس فوق مقعده، مررًا بصره فوقها وهي تناظره بنظراتها الغاضبة والتي فشلت في اخفائها:
-ومالك بتقوليها وانتي مضايقة ليه؟
-ولا مضايقة ولا حاجة دي يسر غلبانة وطيبة وقلبها مفيش ارق منه وبتنسى بسرعة.
ربتت والدتها فوق كتفيها برقة وحنو وهي تثني عليها بطريقتها البسيطة، فقاطعها نوح بغل:
-اللي قلبها طيب دي خلت جوزها يمشي الساعة ١٢ بليل من بيته ولا همهما أنه تعبان وجاي من شغله هلكان وعايز يلاقي الراحة في بيته، لكن ازاي؟! لازم يلاقي النكد والبوز اللي طول شبرين.
انفلت لسانها بحدة وغضب:
-الجزاء من جنس العمل، يعني جاي تحرق دمي وعايزني استقبلك بالأحضان، ده حتى الاحضان خسارة فيك.
أشار لوالدتها بصوتٍ مستشيط:
-شايفة يا حاجة بنتك بترد عليا ازاي؟! ابوكي لو عرف طريقتك دي والله ما هايرضيه.
لم تعطِ الفرصة لوالدتها واندفعت تردف بعنفوان ناري رغم استنكار والدتها:
-ولو عرف باللي انت بتحاول تقنعني بيه مش هيخليني على ذمتك لحظة واحدة.
التهمت نيران الغضب أخر ذرة تعقل لديه وأردف:
-أنتي فاكرة أني مستني منك الموافقة، يبقى بتحلمي، أنا لو عايز أعمل حاجة هعملها ومش هيهمني حد.
-عيب كده يا نوح يا ابني، المفروض أنا واقفة وليا احترامي بردو.
قالتها والدتها بعتاب واضح وصريح، فقال بحدة:
-يعني عاجبك أسلوبها، أصلاً هي عارفة كويس إن الحاجة اللي أنا عايزاها مفيهاش نقاش ما بينا، لإن النقاش انتهى من زمان من يوم ما هي وافقت ولا نسيتي.
ضغطت فوق حروفها النارية والظلام يكسو ما تبقى من تعقلها معه:
-مانستش وكانت غلطة عمري، انت ماتستاهلش واحدة زيي، تستاهل واحدة من اللي بتتمرقع معاهم يا دكتور يا محترم، يلا يا ماما.
جذبت يد والدتها بعنفوان كبير رغم اعتراضات والدتها ولكنها استسلمت بالنهاية لطوفان الغضب الذي التفت حول ابنتها علها تساعدها كعادتها وتنتشلها منه كي لا تُهدم حياتها بسهولة.
وفور مغادرتهما القى ” نوح” مجموعة الاوراق التي أمامه باهتياج واضح جعل من موظفة الاستقبال التي كانت على أعتاب الباب أن تتراجع وتتركه يصارع انفعالاته وحده.
***
مساءًا.
عاد يزن للمنزل يحمل كعادته حقائب الحلوى لأولاد “سليم” منتظرًا فرحتهما والتي لم تتغير أبدًا رغم تكرار الحلوى وعدم تغييره بها! قابله “سليم” بتعجب ساخر:
-أيه ده؟! يزن باشا راجع بدري غريبة المفروض نسجلها في التاريخ، أيه الأدب ده كله!
انفلت لجام لسانه بمزاحٍ لم يتقبله “سليم” كعادته:
-امال انت فاكر بس أنت اللي مؤدب، لا في مؤدبين غيرك.
-قصدك أيه يا محترم؟!
كانت نبرته تحمل تهديد واضح ليزن الذي تراجع على الفور بقوله:
-ولا أي حاجة يا أخويا يا كبير، مالك مش طايقني ليه؟!، يعني كده مش عاجب وكده مش عاجب اموتلكوا نفسي.
ضحك سليم بتهكم وهو يوبخه:
-مالك قلبت على أمك ليه كده؟! ناقص تقف تعيط.
-وماله لو هكسب تعاطفك معايا هعملها.
حاول أن يستعطفه بأسلوب طفولي ممازح، فرد سليم باستنكار:
-تعاطفي؟! ليه بمسكك السلك عريان ولا بغرقك في برميل ميه.
رد بغل زائف:
-لا بتهزقني في الرايحة والجاية لغاية ما بوظت سمعتي في البيت.
عقب سليم عليه بفظاظة:
-انت سمعتك كده كده بايظة خلقة، يعني مش أنا السبب.
توسعت أعين يزن بصدمة مصطنعة:
-طيب حاول مد ايدك وانتشلني من الضياع.
ظهر علامات الاستياء على وجه سليم وهو يقول:
-يابني أنا اخاف امد ايدي تسحبني معاك.
-لدرجادي أنت فاقد فيا الأمل، مع أني في حالي وملتزم بشغلي وشايف مصلحتي…
قاطعه سليم بوجوم بعد أن دخل الحديث بينهما في منعطف آخر:
-ملتزم بشغلك عشان عارف أنا مش هعديلك غلطة فيه، وشايف مصلحتك عشان مش بعد التعب ده كله وتيجي تهد اللي انت بانيته في لحظة تهور، لكن انت مش في حالك يا يزن، وعلى العموم ربنا يصلحلك حالك ويرزقك ببنت الحلال.
رفع يزن يده للسماء محاولاً تلطيف الأجواء:
-يسمع من بوقك ربنا.
استغل سليم الفرصة وعقب سريعًا بجدية:
-حلو يبقى انت فكرت اهو تصلح من نفسك، كده أنا امد ايدي واساعدك.
تظاهر يزن بالبراءة متسائلاً بحماس:
-أيه هتفتحلي معرض تاني؟
-لا اشوفلك بنت الحلال عشان تتجوز وتستقر.
حرك رأسه بنفي غير مقتنع بالمرة بتلك الفكرة:
-الاستقرار بيجي من حاجات تانية يا سليم مش شرط الجواز.
انتشرت إمارات الاحتجاج فوق وجه سليم وهو يقول:
-مش بقولك عمرك ما هتتغير وهتفضل طول عمرك كده، بس خلي بالك أنا…
قاطعه يزن مقلدًا إياه في بداية حديثه:
-خلقي ضيق وأخر لما افقد اعصابي هضطر ادّخل واعمل اللي أنا شايفه صح.
صمت ثوان قبل أن يقول بوعدٍ قد قطعه على نفسه من قبل:
-وأنا اوعدك يا سليم يا اخويا عمري ما هاخليك تتدخل ولا تعمل اللي انت شايفه صح.
استشاطت نبرته في ثوانٍ معدودة وهو يتساءل بوجوم:
-قصدك أيه؟! انت واعي اللي انت بتقوله؟!
تراجع يزن بابتسامته التي غيرت مجرى الحديث مرة أخرى معلنًا استسلامه دومًا مع سليم:
-قصدي إن أنا هفضل لغاية أخر لحظة بحاول احافظ على اعصابك، أنا مارضاش اضايقك أبداً مني يا اخويا يا حبيبي ياللي ماليش غيرك في الدنيا.
حاول أن يحتضنه ولكن سليم رفض بقسوة كعادته واشمئزاز:
-بس بس اوعى كده، انت هتشحت!
فتح يزن ذراعيه وهو يقول بتمثيل احتياجه للحنان:
-يا عالم يا ناس ماحدش بيحتويني.
دفعه سليم عن طريقه وهو يقول بسخرية:
-امك عملتلك بامية ورز ودول هيحتووك أكتر مني.
-أيه ده بجد يا حبيبتي يا ماما يا اللي ماليش غيرك في الدنيا.
***
بعد مرور وقت قصير..
دخل “يزن” للمطبخ حاملاً “قمر” ابنة سليم والتي كانت ممسكة بخده معتقدة أنه طعام ملتهمه إياه بشراسة، فقال بضحك وهو يحاول إبعادها عنه:
-شمس أنا بنتك دي مش هستحملها كتير.
استدارت له “شمس” والتهديد يسقط من نبرتها الممازحة:
-تقدر تقول كده وابوها موجود.
أردف بغرور وقوة لم يستطع إعلانها إلا في غياب أخيه الأكبر:
-طبعًا، ليه هي ابوها هيعمل فيا أيه يعني؟!
تدخلت “مليكة” في الحديث وهي تساعد “شمس” في إعداد العجين:
-ده احتمال يطردنا كلنا من البيت.
كانت تضحك بخفة وهي تردد تلك الكلمات وعيناها تنتقل تلقائيًا بينه وبين شمس، ولكنها لاحظت شيء غريب طرئ على معاملة يزن معها، فكانت نظراته غامضة تحمل شيء من العتاب والضيق لم تكن تلك نظرات الإخوة الصافية المعتادة عليها منه، فسألته باندفاع وهي تغير مجرى الحديث كليًا:
– في حاجة يا يزن؟!
صمت ولم يجب، فأكملت بانعقاد حاجبيها:
-انت مضايق مني في حاجة؟!
أجاب هذه المرة باقتضاب كبير وواضح:
-لا وهضايق ليه؟ انتي عملتي حاجة تتضايقيني؟!
رمشت بعدم فهم والقلق يصدر من نبرتها:
-أنا مش فاكرة أني عملت حاجة تضايقك بس لو فيه يا ريت تقولي اوضحلك وجهة نظري.
اخفض رأسه ثوان معدودة قبل أن يرفعها ويشملها بنظرات ذات مغزى:
-وانتي لو في حاجة معينة واخدها عن شخصيتي وعن حياتي غلط يا ريت تيجي بردو تقوليهالي وصدقيني هاوضحلك بصراحة.
تضاعف الارتباك لديها وعدم الفهم سيطر على عقلها فسقطت في حلقة مفرغة وهي تجاهد التفكير بمعنى حديثه، ولكن من الواضح أنه يرمي لشيء ما هي ارتكبته، ظلت على نفس صمتها الطويل بينما مقلتيها تستنجد بشمس تطلب منها المساعدة وبالفعل استجابت لها شمس وكسرت حاجز الصمت بسؤالها:
-ما توضح يا بني قصدك أيه؟
-قصدي مفهوم يا شمس.
هنا رد بخشونة وضيق أدهشهما معًا، حتى أنه كاد أن يغادر المطبخ إلا أن مليكة أوقفته بسؤالها:
-لا بجد استنى وفهمني، في أيه؟!
وقبل أن يتحدث أشارت له وهي تستكمل كلامها:
-أنا بسألك ومهتمة عشان انت مش مجرد اخو جوزي انت اخويا بجد، كلكم بقيتوا عيلتي مش عيلة زيدان، فـ يعز عليا إن حد يكون زعلان مني وأنا ماعرفش.
انفجرت حروفه المعتقلة من سجن الصمت موضحًا لها ما يقصده من خلال أفعاله تلك:
-وعشان أنا اخو جوزك هو أنا عمري صدر مني موقف حسسك مثلا أني شخص مستهتر وبتعدى حدودي معاكي أو مع شمس، فانتي واخدة عني فكرة مش تمام.
تلون وجهها بلون احمر قاني ولم تستطع إيجاد تفسير منطقي لِمَ يقوله سوى أن زيدان فعل شيء بتصرفاته الحمقاء:
-هو زيدان جه قالك أني اشتكتله منك؟! والله ما حصل.
-لا زيدان ماقاليش بس صحابك من كلامهم معايا وضحولي الصورة أو الفكرة اللي انتي واخدها عني.
استنكرت بحماقة:
-صحابي؟!
هز رأسه مؤكدًا:
-اممم صحابك.
وقبل أن تتفوه بحرف صدر صوت “سليم” من الصالة باحثًا عنه، فقال بنفس اقتضابه:
-هشوف سليم عن اذنكم.
غادر وتركها على وضعها لم تتوصل لشيء إطلاقًا، فقالت لشمس الصامتة والتي يبدو أن عقلها كان يعمل بِجد كي تتوصل لتفسير واضح:
-أنا مش فاهمة أي حاجة يا شمس بجد.
تركت “شمس”ما بيدها واقتربت منها تسألها بهدوء ورزينة:
-هو انتي حد من صحابك يعرف يزن؟!
أجابت بتسرع:
-لا خالص عشان كده مستغربة.
ولكن صاحت بتذكر:
– شهيرة صاحبتي هي الوحيدة اللي تعرف يزن.
-حلو، انتي بتتكلمي معاها عليه؟!
سكتت مليكة وتذكرت بعض المواقف وهي تثرثر مع صديقتها عن عائلة زوجها وعن طباعهم وشخصياتهم ولم يخلو الحديث من مغامرات “يزن” مع الفتيات.
صمتها أكد لشمس أنها اوقعت نفسها في مأزق:
-يبقى اللي فكرت فيه صح، ممكن يكون وصل كلام أو حصل موقف الله اعلم أيه هو ومن خلاله يزن اخد الفكرة دي.
ضربت كف بآخر بضيق وانفعال:
-يا نهار ابيض يعني هو أكيد مفكر أني سوئت سمعته دلوقتي والله انا ما كنت اقصد أي حاجة بس هو كلام عابر يعني…
الجمت لسانها على الصمت بإحراج، فراحت شمس تربت فوق كتفيها برفق وحنو:
-ما تتوتريش اوي كده، كلنا عادي بنغلط، وبعدين يزن ده مفيش اطيب من قلبه والله.
-ده مضايق مني اوي.
هونت عليها شمس كعادتها مع الكل وقالت برقة:
-لا مش لدرجادي هو بس بيعاتبك من تحت لتحت كده، انتي بس شوفي صاحبتك دي قابلته ولا أيه ولمي الدنيا.
تساءلت بحيرة:
-طيب اروح اكلمه ولا اعمل أيه ولا اخلي زيدان يكلمه ويفهمه؟!
نفت شمس بسرعة ترفض فكرة اخبار زيدان اطلاقًا:
-لا انتي عايزاها تتعك أكتر لو زيدان ادخل، فكك خالص واتعاملي عادي وأنا هتصرف واحل كل حاجة.
هزت مليكة رأسها واحتضنتها بحب:
-ربنا يخليكي يا شمس، أنتي بقيتي أكتر من اختي.
***
دخلت شهيرة باندفاع غرفة حورية وهي منفعلة:
-حورية هو انتي شوفتي يزن قريب مليكة؟!
أجابت برعونة:
-اه ليه؟
تساءلت من جديد بغيظ:
-واتكلمتوا مع بعض؟!
-اه في ايه يا بنتي؟!
جزت فوق أسنانها بقوة وهي تقول:
-دلوقتي حالاً تحكيلي أيه اللي حصل؟
اعتدلت “حورية” فوق الفراش والفضول يأكل تقاسيم وجهها:
-حاضر بس في أيه؟
انفعلت شهيرة بغيظ:
-أنا طلبت منك تحكيلي ويا ريت تقوليلي من غير ما تقعدي تسأليني كتير.
زفرت “حورية” بضيق وسردت عليها ما حدث مع يزن بالتفصيل والأخرى كانت تتوسع عيناها تدريجيًا من حماقة اختها:
-يا بجاحتك يا شيخة ما تروحي تقوليله مرات اخوه كانت بتقول عنه أيه؟
تعجبت منها وهي تقول:
-هو أنا جبت سيرة مليكة يا شهيرة!
قضمت ” شهيرة فوق أصابعها والغيظ يأكلها أكلاً:
-ما هو ده اللي ناقص، يا ابلة حضرتك ببساطة وضحتيله إن مرات اخوه هي اللي موضحلنا الصورة دي عنه، لإنك ماتقبلتيش معاه قبل كده إلا مرات بسيطة وماتكلمتوش في حاجة توضح إنه بتاع بنات صح ولا لأ؟
ردت بنصف شجاعتها رغم أنها كانت تظهرها كاملة قبل قليل:
-صح.
-يبقى الفكرة دي واخدها منين، بتنجمي مثلا!
راحت تبرر لأختها بتلعثم طفيف:
-آآ…أنا مـ…مـافكرتش في كده، كل اللي فكرت فيه سيرا بصراحة.
انقض الغضب على عقل شهيرة وهي تردف:
-ياختي سيرا دي انصح منك ومن عشرة زيك.
أظهرت “حورية” تبرمها وهي تقول:
-انتي مش فاهمة حاجة يا شهيرة، سيرا انبهرت بيه وهو مش سهل وممكن…
-مفيش ممكن يا حورية، سيرا مش هبلة ومش عيلة صغيرة يضحك عليها بشوية انبهارات، وحتى لو انبهرت واعجبت هي ذكية اوي ولا يمكن تغلط غلطة توديها في داهية مع إن مليكة عمرها ما قالتلي مثلاً أنه بيتجوز عُرفي اخره بيحب في البنات.
احتجت حورية بسخرية:
-ودي حاجة حلوة مثلا!
توسعت أعين شهيرة بقسوة، ثم قالت:
-ياستي واحنا مالنا ندخل في حياة الناس ليه، وبعدين تعالي هنا انتي شغلوكي واصي على ست سيرا وأنا مش عارفة!
حاولت “حورية” تهدئة الاوضاع المتفاقمة من قبل اختها فقالت بهدوء مصطنع:
-خلاص يا حورية اعتبريها غلطة وعدت على خير، وأنا هبقى افهم سيرا عن شخصيته.
ضربت “شهيرة” صدرها بغيظ وصاحت بنبرة عالية:
-يالهوي كمان، انتي مجنونة بقولك مليكة زعلانة مني وعاتبتني جامد يعني أنا لو كنت عايزة اروحلها الزيارة أنا وجوزي ماينفعش.
-دي ملهاش علاقة بدي.
لم تهدأ “شهيرة” بتاتًا وكأن اللامبالاة الظاهرة من قبل اختها الصغرى كانت هي الشرارة التي أشعلت فتيل غضبها من جديد:
-لا ليها علاقة يا ست حورية، شوكت كان عايز يطلب من زيدان خدمة في شغله، بأنهي وش نروحلهم بيتهم وانتي عاكة الدنيا مع اخوه.
دخلت والدتهما الغرفة متسائلة بقلق عارم:
-في أيه بتزعقوا كده ليه؟ غيث برة يا حورية قاعد مع ابوكي.
تهللت أساريرها وهي تقول:
-أيه بجد؟!
دفعت “شهيرة” بطريقها وهي تستكمل باقي ثيابها، فقالت اختها باستشاطة:
-شوفتي مش همك إلا نفسك، يعني اطلع احكي لغيث اللي عملتيه ونشوف رأيه أيه؟
توترت وهي تنفي برأسها برجاء:
-أيه لا يا شهيرة، ده لو عرف إني كلمت يزن او كلمت راجل أصلاً من الأساس هتبقى خناقة كبيرة.
انتقلت والدتهما بينهما بحيرة وهي تتساءل:
-ممكن تفهموني في أيه؟
تولت “شهيرة” مهمة إخبار والدتها في ظل صمت الأخرى، فعاتبتها والدتها بأسلوب هادئ لم يعجب شهيرة:
-خلاص يا شهيرة اهدي وعدي الموقف وبعد ما نرجع من السفر كلنا ابقي خدي زيارة حلوة وزوري صاحبتك واهو يكون الموضوع هدي شوية.
ثم التفت لابنتها الصغرى قائلة بتحذير قاسي:
-وانتي يا هانم ما تتكلميش مع صاحبتك في حاجة واوعي تحكيلها كلمة اختك كانت حكتهالك كفاية عك، وخليكي في نفسك وماتتدخليش في أمور الناس ياختي اللي يشوفك كده مايشوفكيش وانتي فرخة مع غيث.
تبرمت “حورية” بضيق:
-أيه فرخة دي يا ماما، وبعدين هو عشان بحترمه ابقى فرخة.
لم تهدأ شرارات الاستياء من فوق وجه شهيرة:
-دي ماتقدرش تفتح بوقها معاه شوفتي اول ما سمعت اسمه قامت نطت جهزت الشنطة ونفسها ونسيت صاحبتها وخوفها عليها من يزن.
كانت تسخر منها في أواخر حديثها، فزفرت حورية وهي تقول:
-يا ستي خلاص اسكتي بقى وأنا غلطنالك ومش هفتح بوقي تاني، خلينا نقوم نمشي بقى، ولا ناوية تنكدي علينا طول الطريق واحنا على سفر ورايحين فرح.
استنجدت بوالدتها عقب حديثها برجاء، فقالت الأخرى:
-خلاص يا شهيرة، مانخليش الموضوع يوصل لأبوكي ومش وقته كلام من ده، خلينا نروح البلد ونحضر فرح بنت عمك وبعدها هيكون عدي فترة تقدري تكلمي صاحبتك في اللي انتي عايزاه.
لم يعجبها رد فعل والدتها الهادئ فقالت بشيء من الحزن الممزوج بالضيق:
-ازاي بس ده شوكت كان معتمد اننا نروحلهم الزيارة بكرة قبل ما اسافر أنا وهو البلد.
صدر صوت حورية المتهكم وهي تتمم على حقيبة السفر خاصتها:
-ياستي ياعني انتوا ساكتين ده كله، مش هتسكتوا الكام يوم دول لغاية ما ترجعوا.
-الكام يوم دول هيدخلوا في اسبوعين واكتر يا هانم انتي عارفة لما بنروح البلد بنطول هناك.
انزعجت حورية وهي تستعد للمغادرة الغرفة:
-يووووه انتي مش عاجبك أي حل، شوفي انتي عايزة تعملي أيه واعمليه.
تمتمت شهيرة بخنوع:
-مش قدامي حل غير اني اسكت فعلاً، ربنا يسامحك يا حورية على اللي عملتيه فيا، بوظتي علاقتي بصحابتي الوحيدة.
***
في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل دخل “نوح” يجر اقدامه بتعب محاولاً إفاقة نفسه، كي يرضي زوجته المتبرمة ويحصل على ليلة هادئة يريح بها جسده، قبل أن يفتح باب غرفته مد يده وجلب هاتفه من جيب سرواله وأغلقه حتى لا يصل إليه اتصالات في وقت متأخر وتستشيط الأخرى بهياج مفرط وينتهي بيه الحال على أريكته في عيادته، وضع هاتفه بجيب سرواله مرة أخرى وتمم بعدها على هديته البسيطة والتي اقتناها لينال رضاها، فتح باب غرفته بهدوء فوجدها تجلس فوق الفراش تبكي بانهيار وظهرها موالي له تتحدث في الهاتف عدة كلمات وصلت لعقله كرصاصات استطاعت أن تصيبه في مقتل فهدر بانفعال وغضب عارم:
-نهارك أسود أنتي بتقولي أيه؟!
_______________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غناء الروح)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى