روايات

رواية وما ادراك بالعشق الفصل التاسع 9 بقلم مريم محمد غريب

رواية وما ادراك بالعشق الفصل التاسع 9 بقلم مريم محمد غريب

رواية وما ادراك بالعشق الجزء التاسع

رواية وما ادراك بالعشق البارت التاسع

رواية وما ادراك بالعشق الحلقة التاسعة

الفصل التاسع _ غرامٌ فاخر _ :
قبل ثماني و عشرون عامًا …
لقرابة الأسبوع منذ كان عندها آخر مرة و هي لا تترك تلك المجلة من يديها، فقد استرعت انتباهها صورة بإحدى الصفحات، تلك الصورة كانت صورته هو، لم يكن وحده بها، كانت تقف بجواره امرأة حسناء، بل جميلة جدًا، بارعة الجمال، تضحك للكاميرا، بينما هو يحيط خصرها بذراعٍ متملّكة، و لا ينظر إلا لها هائمًا بها كليًا
لا تعرف كيف لم تفسد المجلة المسكينة من كثرة ما ألقت به بعنفٍ كيفما أتفق، و لكنها حافظت عليها لأطول ممكن إلى أن يأتي لها، و بالفعل، اتصل بها صباحًا و أبلغها بأنه آتٍ مساء اليوم، و ها هي بانتظاره
تقف بالمطبخ أمام الموقد و قد فرغت للتو من طهي السالمون كما يحبه زوجها صحيًا، مزيّنًا بالخضروات المتنوعة، لم تسمع قدومه، ولا حتى وقع خطواته، لهذه الدرجة كانت منهمكة في تحضير طبقه المفضل، لم تشعر إلا بيديه حين تسللا على حين غرّة ممسكتان بخصرها، ثم أحسّت بجسده يلتصق بها من الخلف و هو يدنو برأسه مقبّلًا خدّها و هو يقول بصوتٍ خفيض :
-شكلك جميل أوي و انتي واقفة بتطبخي.. لو إللي انا شامّه ده صح يبقى هاتعشى سالمون !
ردت “رحمة” باقتضابٍ و هي ترفع يديها عن الطبق أخيرًا :
-أيوة صح.. انت طلبته مني آخر مرة.
-عشان مابقتش أعرف استطعم أكل إلا من إيديكي.. أكل طباخ القصر مايساويش حاجة جنب أكلك.. مش عارف كنت باكل من إيده إزاي !!
-ما انت لسا بتاكل منه عادي !
لاحظ للتو التغيّر في نبرة صوتها، فابتعد قدر بوصتين ثم أدراها تجاهه، كان يفتقدها بالفعل و رؤيتها هكذا في أكثر ملابسها إثارة أشعلت خياله الذي أرهقه طوال مدة بعده عنها، لكنه لم يتراجع عن سؤالها باهتمامٍ :
-مالك يا رحمة ؟ مكشرة في وشي كده ليه و لهجتك كمان حادة أوي !!؟
تطلّعت إليه محاولة تجاهل الشوق الصارخ إليه من أعماقها، و كأن غيابه لأيامٍ و ليالٍ عنها لا يملأها بعاصفة من المشاعر ؛ الخوف هو أبرز تلك المشاعر
الخوف من خسارته.. الخوف من الوحدة التي تسكنها و هو بعيدًا عنها.. الخوف من عالمٍ يخلو منه …
-مين دي ؟ .. سألته بجفاءٍ
رفع “يحيى” بصره ليحدق بالمجلة التي أظهرتها من ورائها فجأةً، كانت تضع نصب عينيه صفحة كاملة احتوت على صورة تذكارية له برفقة زوجته سليلة الحسب و الأنسب.. السيدة الراقية المشهورة بالطبقة العُلية “فريال المهدي” …
ارتفع حاجبيّ “يحيى” و هو يجاوبها بلهجةٍ فاترة :
-لو ماتعرفيش شكلها أكيد قريتي اسمها.. دي فريال مراتي يا رحمة.
رمقته شزرًا و هي تقول بغيظٍ :
-و فرحان و مرتاح أوي و انت بتقولّي مراتي !؟؟
هز كتفيه و قد سحب يديه من على خاصرتها و قال ببرودٍ :
-دي الحقيقة. عايزاني أتوتر ليه ؟ فريال مراتي و الدنيا كلها عارفة كده. انتي نفسك عارفة كده.. ثم انتي بتحاسبيني على إيه مش فاهم. أنا مش متصوّر مع واحدة غريبة دي مـراتـي !!
صرخت فيه بجماع نفسها :
-و أنا أبقى إيـه ؟ انت تقدر تقول عليا مراتك قدام أي حد ؟ تقدر تبصلي زي ما بتبصلها كده قدام الناس ؟ تقدر تظهر معايا في مكان واحد زي ما بتعمل معاها !!؟؟؟
تفاجأ من حجم الثورة التي اندلعت منها بوجهه، ظل صامتًا لدقيقة كاملة، ثم قال بحدةٍ :
-انتي مافيش فايدة معاكي. مهما اعمل مش كفاية. كل مرة لازم نتخانق على نفس السبب.. انتي اتجوزتيني بالشروط دي.. مش من حقك تحاسبيني أو تلوميني على أي حاجة دلوقتي يا رحمة.
أغرورقت عيناه بسرعة بدموعٍ ساخنة أحرقت جفنيها و هي تنهمر بغزارةٍ، بينما تقول بصعوبةٍ طاردة كل شيء من صدرها مرةً واحدة :
-أومال من حقي أعمل إيه ؟ رد عليا.. أنا بني آدمة. بحس. زيك بالظبط.. و ماكنتش أعرف إنك اتجوزتني عشان جسمي.. عشان أملا فراغ في حياتك.. أنا عشت عمري كله كرها أبويا بسبب قسوته عليا. دلوقتي خايفة أكرهك انت كمان من عمايلك فيا.. انت مش بتحس بيا خالص.. منظري قدام نفسي و أنا عايشة في بيتك ده مسجونة بستناك لما مزاجك يجيبك ليا. أيوة مراتك على سنة الله و رسوله بس محدش يعرف.. و فوق كل ده كل ما تتكلم عنها تتباهى أوي إنها مراتك.. تعترف إنك بتحبها و لما اسألك طيب ممكن تحبني و لو حتى بعدين تسكت. ماتردش.. أنا رخيصة أوي كده في نظرك. بس أنا مش رخيصة في نظر نفسي.. خلاص مابقتش قادرة أستحمل كده. مات إللي كان طول عمره معيّشني في قهر و ظلم. ماكنتش أعرف إنه حتى قبل ما يموت هايدورلي على راجل تاني نسخة منه يكمل عليا !!!
و سكتت “رحمة” عن الكلام …
شهقت !
شهقت فقط عدة مراتٍ تعبئ ما استطاعت من الهواء إلى رئتيها، بينما يجفل “يحيى” و هو ينظر إليها مذهولًا، تلك الفتاة اليافعة، الأنثى المائلة للطفلولة، لقد كبرت الآن، و كأنها تبلغ ألف سنةٍ، كل ما قالته، كل الدمار الذي يفيض منها، و الألم المطل من نظراتها.. كلها أشياء لا تعرب إلا عن حقيقة واحدة …
إنه رجلٌ بلا ضمير، و هذه المسكينة، كان يظنّها بلا مشاعر مثله كما قالت.. لقد دمرها بالفعل !!
-رحمة ! .. بالكاد نطق اسمها
لتقاطعه هذه المرة بصرامةٍ :
-طلّقني يا يحيى !
تمكن منه الغضب في لحظةً بعد أن قالت هذا، و هتف بها :
-تاني.. انتي مابتحرّميش ؟ كام مرة قلت لك مش هاطلقك ؟ و قلت لك إياكِ تجيبي سيرة الطلاق على لسانك بعد كده. إيـه مابتفهميش. مابلحقش أقول عليكي واحدة عاقلة و ناضجة دي تصرفات طفلة و طفلة ماشفتش تربية كمان !!
بقيت هادئة أمامه حتى فرغ، قالت ببرودة أعصاب :
-خلصت ؟ أنا لسا بردو عايزة أطلّق.. العلاقة دي مش جواز اصلًا.. لو مفكرها جواز ف أنا ممكن بعد ما اسيبك أترمي كل شوية في حضن الرجالة إللي هاتدفع أكتر !
خرست بعد ذلك مباشرةً فور أن نالت صفعةٍ مدويّة أطالحت بوجهها، بل بجسدها كله، لولا الطاولة من ورائها التي كسرت سقوطها الحتمي، تشبثت بها بيديها و لم تحاول النظر إليه، كانت الصفعة تؤلمها، دموعها تتساقط بالفعل و الفضل لشعرها الذي تبعثر مغطيًا وجهها عنه …
سمعت أنفاسه العنيفة قريبة منها، و استعدت لردة فعل أخرى منه أشدّ من سابقتها عقابًا على الكلمات البذيئة التي قالتها، لكنه لم يفعل لها شيء آخر، إنما قال من مكانه بلهجةٍ كحد سكينٍ :
-انتي بتتمنيها و أنا ماسك نفسي و مش عايز أعرّفك الفرق بين جوازك مني أنا و العلاقات إللي تقصديها.. إتقي شرّي يا رحمة.
سمعته يتحرّك، أيقنت بأنه مغادرًا، فأدرات رأسها تحدق في ظهره و هي تهتف من بين أنفاسها :
-لو خرجت من هنا دلوقتي هاترجع مش هاتلاقيني.. أنا مابقتش عايزاك و مافيش حاجة تجبرني أفضل معاك بعد إنهاردة.
كان قد توقف بالفعل يستمع إليها، و رأت اهتزازات كتفيه التي تنم عن شر مكتوم حقًا، و لكنها لم تعد تبالي، انتهى صبرها …
ينظر لها “يحيى” من وراء كتفه قائلًا بتعجرفٍ :
-يبقى تتحبسي.. و تتأدبي !
و لم يزد كلمةً أخرى، استأنف طريقه للخارج مخلّفًا إيّاها، تنهار في مكانها باكية، تنعي حظها العاثر و هي تغمغم منتحبة :
-هو أنا أصلًا مش محبوسة !؟
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
يتوّجه “يحيى” رأسًا إلى قصر “البحيري” بعد الشجار المحتدم الذي نشب بينه و بين زوجته الشابة، كان ممتنًا لعدم وجود “فريال”.. لأول مرة شعر بفائدة أن تكون امرأته مهووسة بالموضة و الأزياء لدرجة لا تفوّت عرض واحد فكيف بأكبر حفل لواحد من أشهر المصممين بالعالم !
أراد فسحة من الوقت بمفرده، ليتمكن من ترتيب أفكاره الني بعثرتها “رحمة” بصور شيطانية بثتها إلى عقله، تلك الفتاة الصغيرة تريد أن تخرجه عن طوره، تريده أن يتجرّد من ثوب التحضّر و الدماثة ليكون معها في أعنف صوره، هو الذي يُقدس العلاقات و خاصةً بينه و بين زوجته، سواء كانت هي أو “فريال”.. يخشى أن تحوّله لنسخة هي نفسها لن تتحمّلها
وما الدافع الذي سيحرّكه ؟ .. لماذا لا يطلقها كما طلبت و يؤمن لها حياة كريمة دون ان تكون في عصمته ؟ .. إنها فرصته الآن و قد أخذ منها ما يريد !
زفر “يحيى” بقوة و هو يحل ربطة عنقه بعصبيةٍ، يتجول بلا هوادة بأنحاء البهو الفسيح، عقله لا يكف عن التفكير، إنها تصر على الطلاق، و هو لا يريده، أجل لا يريد أن يطلّقها، و في نفس الوقت لا يستطيع إجبارها على معاشرته قسرًا عنها، تلك ليست شخصيته، يريدها، و لا يجرؤ على مواجهة المجتمع بها، خاصةً زوجته و أم ولديّه، إن عرفت “فريال” ستكون النهاية بينهما، لن تغفر له أبدًا، يعشق “فريال” و لا يمكنه التفريط بها حتى و هي ترهق رجولته أحيانًا يتحمّلها لأنه يحبّها و لا يريد أن يغيّر شعرة فيها، يحبها كما هي بعيوبها قبل ميزاتها
ماذا عن “رحمة” إذن ؟ .. ما هي مشاعره تجاهه ؟ .. إحتياج، إعجاب، حب !!!؟
السخافة !!
إنه معها منذ اشهر قليلة.. لا يمكن وصف ما بينهما بالحب.. هو لا يحبها على الأقل ليس كما يحب “فريال”… و لكنه يريدها بشدة.. صارت جزء مهم من حياته.. من سعادته.. راحته.. إذا فقدها سيحزن كثيرًا.. و ما من علاج لهذا الحزن سواها
هي وحدها …
-الله ! انت هنا !؟
إنتبه “يحيى” لصوت أخيه المنبعث من ورائه بغتةً، إلتفت نحوه، كان متأنقًا مثل العادة و كأنه على وشك الخروج لولا أن عرج عليه، رمقه “يحيى” بذلك العبوس متمتمًا :
-أهلًا يا رفعت !
رفع “رفعت” حاجبه مرددًا :
-أهلًا يا رفعت.. شكلك مزاجك متعكر أوي. مالك يا يحيى.. إيه المشكلة. قول ماتتكسفش أنا بردو اخوك الكبير !؟
تأفف “يحيى” قائلًا بضيقٍ :
-رفعت. أنا مش فايق لسخافاتك. روح شوف وراك إيه و سبني في حالي.
و أولاه ظهره في الحال، بينما يقول “رفعت” بتهكمٍ واضح :
-أنا مش ورايا غيرك من هنا و رايح.. صحيح قولّي. إيه أخبار شقة المعمورة ؟
جمد “يحيى” كليًا بعد أن ألقى أخيه بالقنبلة فجأةً …
شحب لونه و أستدار ناحيته من جديد، ابتسم له “رفعت” هازئًا، بينما يزدرد “يحيى” ريقه يتوتر و هو يسأله :
-انت عرفت إزاي !!؟؟
تنهد “رفعت” متباردًا و هو يخطو عبر أعتاب البهو ليقترب من شقيقه قائلًا بفتورٍ :
-يمكن من تالت أو رابع مرة سافرت لندن.. لندن هه. بحجة الإشراف على فرعنا الجديد هناك. انت فاكرني نايم على وداني ؟ إللي ربّى خير من إللي اشترى. و أنا مش فريال هاتعرف تضحك عليا أنا كمان.
قطب “يحيى” بشدة و هو يقول بخشونةٍ :
-قصّر و هات من الآخر يا رفعت.. عايز مني إيه و بأي حق تفتش ورايا ؟؟
جاوبه بابتسامةٍ ملتوية :
-مش أنا طول عمري الإبن و الأخ المستهتر ؟ أنا بتاع الستات و بخون مراتي كل يوم و انت الملاك الطاهر.. لسا محدش يعرف حقيقتك. و إنك أخويا و محدش أحسن من حد يا يحيى.
-أنا متجوز يا بني آدم !! .. غمغم “يحيى” من بين أسنانه، و أردف :
-أنا مش بخون فريال.. إللي قاعدة في شقة المعمورة دي تبقى مراتي !
إتسعت عينا “رفعت” بصدمةٍ و هو يقول :
-مراتك ؟ كمان اتجوزت على فريال.. انت اتجننت ؟ إزاي عملت كده !؟؟؟
يحيى بغضبٍ : أنا ماعملتش حاجة حرام. ده جواز شرعي.. محدش يقدر يحاسبني.
رفعت بتهكم : أطمن. محدش هايحاسبك.. خاصةً فريال. لو عرفت أنا بضمن لك إنك مش هاتلحق تبرر حتى. هاتسيبك فورًا.
يحيى منفعلًا : و مين هايقولّها !!؟
و أخفض صوته متلفتًا حوله خشية أن يسمعه أحد، فعلّق “رفعت” بسخريةٍ :
-ماتقلقش.. فريال و رضوى مش راجعين دلوقتي. أنا رايح أخدهم من الديفليه. و الولاد اتعشوا و ناموا عشان المدرسة. حتى الخدم نزلوا أوضهم. خد راحتك محدش سامعنا.
و ضحك …
كز “يحيى” على أسنانه بحنقٍ و رفع سبابته و هو يحذر أخيه :
-رفعت. أنا بحذرك الكلام ده يتقال حتى بينك و بين نفسك.. دي حياتي و أنا حر فيها. أتجوز ماتجوزش دي حاجة تخصني لوحدي محدش واصي عليا. لو فريال عرفت منك بأيّ طريقة كانت ساعتها تنسى إن ليك أخ اسمه يحيى. و هاتبقى عدوي لآخر يوم في عمري.. سامع ؟
لم يهتز “رفعت” لتهديد شقيقه، بل قال ببروده المعهود :
-ماتخافش يا يحيى.. فريال مش هاتعرف مني حاجة عن جوازك.. مش عشان قلقان من تهديدك ده. تؤ.. عشانها هي. الست إللي عمرك ما هاتلاقي ضفرها لو ضاعت من إيدك. و إللي بالمناسبة خسارة فيك.. ماتستاهلش صدمة زي دي تئذي مشاعرها.. ماتستاهلش تتوجع و تتهان كرامتها. انت الظاهر نسيت انت متجوز مين !
يحيى بحدة : لأ مش ناسي.. و متشكر لإهتمام سيادتك بمشاعر مراتي. أنا بعفيك من الذنب. دي مراتي أنا و عارف بتعامل معاها إزاي.. عن إذنك.
و تركه متجهًا للأعلى.. لا يطيق أن يراه الآن لا هو و لا غيره …
______________________________
استيقظت “سمر” في الصباح مع آخر جرس لساعة التنبيه، أفاقت في سرير طفولتها الذي عادةً ما تنام فيه وحدها، مؤخرًا شاركتها به أختها الرضيعة، و هي الآن مراهقة لا تعرف كيف !!
أما اليوم، في هذه اللحظة تمامًا ينام بالقرب منها، بل داخل أحضانها فعليًا إبنها، أجل إبنها هي.. و الذي لا تتذكره مطلقًا، لكنها تعرّفت عليه، وجهه المألوف، به لمحاتٍ من أخيها، منها نفسها ربما.. و لكنه بالأكثر كان يشبه والده.. نفس الدماء.. نفس التعابير و الحركات.. نفس نظرة العين
و تحديدًا تلك النظرة التي اصطدمت بها فور أن فتحت عيناها.. لتجده مستيقظًا بالفعل من قبلها و يحدق بها خلال نومها …
-صباح الخير ! .. تمتمت “سمر” مجفلة
لا زالت متوترة من الوضع، و لم تستطع رفض طلبه بأن يبيت الصبي بحضنها، كل شيء يؤكد بأنه ولدها، و قد اتفقت مع أبيه على ألا تبيّن له بأنها قد نسيته تمامًا، على الأقل هو …
-صباح النور ! .. رد عليها “يحيى” بصوته المتزن
يتواصل معها بالعين، يتشاركا لون العيون نفسه، و كأنها تحدق بعينيها هي، ابتسمت تلقائيًا لإدراك حقيقة أخرى تثبت بنوته لها، و قالت بلطفٍ :
-نمت كويس يا حبيبي ؟ قولّي تحب تفطر إيه.. زمان باباك جاي. نستناه و لا نفطر سوا ؟
لم يرد عليها، فتلاشت ابتسامتها و هي تستوضحه :
-انت ساكت ليه ؟ في حاجة ؟ و لا انت ماعرفتش تنام في السرير ده !؟
تنهد “يحيى” و هو يقول عابسًا :
-أنا ماكنتش بنام من يوم ما كنتي في المستشفى.. أول مرة أنام مستريح عشان في حضنك !
امتلأت نظرتها إليه بالعاطفة، داعبت شعره الكثيف بأناملها و هي تقول بحنوٍ :
-حبيبي.. أنا آسفة.. آسفة على كل اللخبطة دي.
-هاترجعي معانا إنهاردة. لما يجي بابا هانمشي مع بعض صح ؟
-هاروح معاكوا البيت عشان اشوف ملك و فريدة.. لكن لسا مش هرجع دلوقتي يا يحيى !
بدا منزعجًا بشدة و هو يقول بحمائية :
-ليـه ؟ أنا عايزك ترجعي.. عجبك تقعدي هنا منغيرنا يعني ؟ كلنا عايزينك. أنا و بابا و فريدة و ملك و فريال هانم.. ارجعي يا ماما عشان خاطري. بابا قالّي إنك هاتقعدي هنا شوية عشان تريحي أعصابك بعد الحادثة. ارجعي و أنا مش هاخلي حد يضايقك خالص و لا يقرب منك.. بس ارجعي !!
رمقته بتعاطفٍ قائلة :
-ماتستعجلش يا يحيى.. أنا هارجع إن شاء الله.. بس زي ما باباك قالّك. أنا محتاجة أريّح أعصابي.. شوية بس و هارجع.. و أنا علطول جنبك. وقت ما تكون عايزني هاتلاقيني.
تهدّلت ملامحه بحزنٍ بّيّن و قال بجفافٍ :
-يعني مش هاترجعي !؟
لم تكاد ترد عليه، دوى جرس باب الشقة، فوثب الصبي من الفراش في الحال منسلًا من حضنها، راقبته و هو يخرج من الغرفة مهرولًا ليلاقي والده.. هذا حتمًا والده
قامت “سمر” بدورها متئزرة بروبٍ طويل، و كادت تضع الحجاب على رأسها عندما تذكرت كلمات زوجها بالأمس قبل أن يرحل :”هاتتصرفي معايا عادي جدًا قدام يحيى. يحيى بالذات مش لازم يحس إنك متغيرة.. يعني كأنك تعرفيني كويس. لا تتوتري لما أقرب منك أو ألمسك في وجوده. و طبعًا ممنوع تلبسي حجاب و أنا موجود سواء هو كان معانا و لا لأ. مفهوم ؟” …
بالطبع مفهوم.. كانت كلماته واضحة و قد تفهمتها جيدًا
مشّطت شعرها على عجالةٍ و ارتدت خفّيها، ثم خرجت من الغرفة لتلتقي بهما بالخارج، كان الزوج و الإبن بالصالة، يفترشا طاولة مربّعة يضعا فوقها وجبات الإفطار التي جلبها “عثمان” من أجل ثلاثتهم
ما إن أحس بوجودها، حتى رفع رأسه محملقًا فيها، عيناه تجولان على كل مكانٍ في جسمها عدا وجهها، خاصةً فتحة الروب من الأسفل، ما جعلها تضطرب و هي تقبل عليهما متمتمة :
-صباح الخير !
حيّاها “عثمان” و هو ينظر إلى وجهها الآن مبتسمًا بجاذبيته المعهودة :
-صباح الورد.. أنا قلت سمر مش هاتقدر تصحى تفطر يحيى و تجهزه عشان المدرسة في وقت واحد بدري كده. ف عدّيت جبت الفطار في طريقي.. يلا يا بيبي عشان نفطر سوا. بعدين ننزل سوا نوصله و نطلع على البيت.. تعالي.
أطاعته “سمر” و ذهبت لتجلس فوق الكرسي الذي شدّه لها، جلس بجوارها وابنهما قبالتهما، الصبي سعيدٌ لأول مرة منذ أيام و هي ينظر لوالديه، بينما “عثمان” حريصًا على الظهور أمامه كدأبه مع زوجته دائمًا، فأخذ يطعمها بفمها و هي بدورها تسكب له من العصير الطازج الذي أحضره
كانا مثل عهده بهما.. و كما يتمنى دائمًا …
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
أخذ “عثمان” صغيره من يده بعد أن نزلا من السيارة، أوصله حتى بوابة المدرسة التي تضم أبناء النخبة بالمجتمع الراقي، لوّح له مودعًا، ثم عاد ليستقلّ بكرسي القيادة بجوار زوجته
إنطلق من جديد محددًا وجهته، قصر “البحيري”.. و كم كانت “سمر” تشعر بالإمتنان للأجواء الهادئة بينهما.. أمالت رأسها مراقبة الطريق عبر النافذة المجاورة.. تصفّي ذهنها برؤية الساحل الفيروزي و الاستمتاع بالنسيم الذي يغمر وجهها …
ارتعدت فجأة بعنفٍ عندما حطّت قبضته على فخذها معتصرًا إيّاه بقوةٍ من فوق التنورة، أدارت رأسها تجاهه و هي تحاول إبعاد يده بيديها مغمغمة باضطرابٍ لا يخلو من الغضب :
-احنا قولنا إيه ؟ طول فترة التعارف مافيش لمس أو قرب من أيّ نوع. شيل إيدك لو سمحت !!
يزفر “عثمان” بضيقٍ و هو يذعن لمطلبها على مضضٍ و يسحب يده، ليعاود التركيز على القيادة ثانيةً مرددًا بفتور :
-ماشي يا سمر.. إللي انتي شايفاه.. بس خلّيكي فاكرة المواقف دي. عشان ما هاتطوّل كتير.
عبست متسائلة بريبةٍ :
-تقصد إيه مش فاهمة !؟
إلتوى ثغره بابتسامةٍ تهكمية و حانت منه نظرةً خبيثة نحوها و هو يقول بطريقةٍ موحية :
-قصدي خير. كل خير يا بيبي.. دي مسألة قدرات و أنا عارف قدراتي و عارفك. حافظك صم.
أثار دهشتها و دفعها الفضول لتلح :
-يعني إيه بردو مش فاهمة !!
رد بنعومةٍ : المعنى واضح يا بيبي. واضح جدًأ. إللي داق.. مسيره يشتاق !
أحمرّ وجهها بشدة حين أدركت مقصده جيدًا، وجدت نفسها تردد من غير إرادة :
-انت سافل !!!
قهقه “عثمان” ضاحكًا بشدة، كأنما أطربه نعتها، بينما تشيح بوجهها بعيدًا عنه و هي لا تزال منفعلة و لا تجرؤ على مبادلته كلمةً أخرى، و هو لم يشأ الضغط عليها أكثر حتى وصلا في صمتٍ إلى القصر …
لم تخفَ على “عثمان” الجلبة المحيطة به منذ وصوله، اعتمل القلق بداخله و هو يصطف السيارة بالباحة، و فجأةً هرول صوبه مجموعة من الخدم، تتقدمهم وصيفة أمه الخاصة تصيح حتى قبل أن تصل إليه تمامًا :
-عثمـان بيـه.. إلحقنـا.. فريـال هـانــم !!
هوى قلبه بين قدمه و هو بالكاد استطاع الخروج من السيارة ! ………………………………………….

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وما ادراك بالعشق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى