روايات

رواية رد شرف الفصل الأول 1 بقلم وسام الأشقر

موقع كتابك في سطور

رواية رد شرف الفصل الأول 1 بقلم وسام الأشقر

رواية رد شرف البارت الأول

رواية رد شرف الجزء الأول

رد شرف
رد شرف

رواية رد شرف الحلقة الأولى

المقدمـــــــــــــــة.
***
خلف قضبان القفص الحديدي بساحة المحكمة نكس رأسه خوفا من نظرات الحاضرين مرتديا قبعته البيضاء الملائمة لزي احتجازه محاولا تحاشي لقطات الكاميرا ووميض فلاشها الضوئي، نادما متحسرا ربما على سرعة القدر الذي ألقى به الآن في ذلك المكان القميء بهوته النتنة، ليته يقدر على قصّ خطيّته بلسانه والنبس بما يملأ جوفِه من آلام، وهل إن فعل سيصدقه الجميع بعد إصدار حكمهم المسبق دون رأفة؟، لم يلقي اللوم عليهم وهو الملام الأوحد بتلك القضية؟ لم يظن أنه أبيض الخطى، طاهر الثوب فربما هو الآن يدفع ثمن خطيّة واضحة، رفع عيناه بثقلٍ لرجلٍ وقور كثير الشبه من أبيه بنفس هيبته وملامحه الارستقراطية وقد تعجب من مدى ثباته ونظراته الثاقبة على وجهه كشخصٍ في مثل مصابه، فكم تمنّى بنطق كلمات عزاء واعتذارٍ لن توفّيه حقه وتخفف عنه ألمه، رفّت عيناه لتلك النظرة الشرسة الكارهة لمن تجاوره من لم تتجاوز سن المراهقة بعد، عينين شديدة القتامة بسوادهما الحالك المنسوخ من لون خصلاتها المسترسلة، تلوّح برَايَة الكُره العميقة، فيقسم ما رأى في بغضهما بحياته، جذبه بقوة صدوح صوت الرجل الجَهوري ينزعه نزعا من نظرتها المقبضة؛ ينبه الحاضرين لولوج هيئة القضاة الموقرة، شُدد أنامله فوق قضبانه يستعد لتلقي حكمٍ إضافي يدوّن بقائمة أحكامهم الطاغية يطعن بسمعته وسمعته من يعرفه، تفاجأ بصوت حاجب المحكمة الخشن مرة أخيرة يدوي بقسوة:
-محكمـــــــــــــــــــــة!
****
الفصل الأول.
***
ظل ساكنا على وضعه بعد أن هاجمه نفس الكابوس المتكرر منذ خمسة عشر عاما، لقد اعتاد زيارته المتكررة ولم يفلح معه جلسات نفسية أو عقار مُتّبع، يعلم أن ما مر به ليس بالهين القليل، ولكن إلى متى سيظل يعاني وحده لا يعلم عنه غيره حتى محاولته الوحيدة في الانتحار فشل فيها لتترك ندبة على جسده شاهدة على إخفاقه في الهرب من تلك الحياة.
***
في إحدى الدول الأوروبية..
عجّ المكان بالكثير من المتخرجين والمتخرجات، يزين أجسادهم تلك العباءات السوداوية والقبعات العالية مسطحة القمّة، لا يتخيل كلا منهم أنهم الآن أحرارا من قيودهم وسيبدَأن طرقهم ودروبهم المتباينة، ألقوا بقبعاتهم مع صيحة حماس يلتقطون آخر صورة فوتوغرافية تجمعهم بتلك الساحة بهاتف إحداهن، لينطلق أحدهم باحتضان صديقته بحميمية، والآخر يشاكس صديقه مرحا مبعثرا خصلاته، وأخرى تقفز بين أحضان رفيقها ليحملها بين ذراعيه بنشوة حماسٍ، صرخ أحدهم بلكنة عربية سليمة من بعيد:
-أخيرا! أخيرا خلصنا مش مصدق نفسي.
ضَحكت الفتيات العربيات وكل منهم من دولة عربية مغايرة، لتظهر من بينهن إحداهن بخصلاتها السوداء المتطايرة خلفها، تركض إليه ليلتقطها بين ذراعيه يشدد من احتضانها، تخبره بحماسها الدائم:
-ولا أنا مصدقه، كان نفسي “بابي” يكون هِنا اليوم دا.
دار بها مهددا بإفلاتها من ذراعيه، لتنطلق صرختها الضاحكة تستطرد بقوة:
-يا مجنون حاسب، هتوقعني.
أخبرها “مازن” بين ضحكاته المشاكسة، بحبور:
-عُمري ما أقدر أوقعِك، أنا مش مصدق إن خلاص حِلمنا قرّب وهنبطل حجة عمّي ونقدر نتجوز.
ارتاحت ساقيها على الأرض وشيءٍ داخلي أجبرها على سحب بسمتها تدريجيا مبتلعة غصة مريرة من مجهول ينتظرها، تخبره بصدق وهي تريح كفيها على صدره تنظر لعينيه الشبيهتين بها:
-ياريت! ياريت يا “مازن”، بس …
-بس إيه يا “نيرفانا”؟ إنتِ ليكِ رأي تاني؟ إحنا متفقين من سنين، ولا هترجعي في كلامك.
بللت شفتيها الورديتين تنظر له من خلف سوداويتيها الواسعتين تحاصرانها أهداب طويلة:
-أكيد ماليش رأي تاني.
ارتمت بأحضانه تضمه تستند برأسها فوق صدره وتخبره بخوفٍ داخلي:
-إطّمن وسيب “بابي” عليّا.
تدخل صوت صديقهما من الخلف، يصيح بحماسٍ مخطط للاحتفال كما يجب:
-ها إيه الجديد؟
***
بللت شفتيها بوجهٍ شاحب، يجاورها ذلك المتجهم متعرق الجبهة مما سمعه من عمّه، من قرارات يعلن بها هدمه لكل ما خطط له، بعد أن صرّح بأمره القاطع الذي لا رجعة به، يسمعونه يكرر:
-طيارة الصبح تكوني عندي يا “نيرفانا”، مش هقبل أي كلام تاني على الأقل الوقت الحالي.
نظرة من “مازن” ألقاها لأبيه حتى يعينه في موقفه مستنجدا، فقطع “حمزة” والده الأمر موجها حديثه لأخيه “شاكر”، بلين متبع:
-طيب إيه رأيك يا “شاكر” تيجي تقعد معانا شهرين ونفرح بالولاد شوية، سيبهم ياخدوا نفسهم وبعدين نشوف إنتَ عاوز إيه من “نيرفانا”؟
أجابه “شاكر” بحدته المعهودة التي لا تقبل رجعة:
-ما فيش فرح يا “حمزة” ولا زفت ليهم، إلا لما ترجعلي “نيرفانا” وتنفذ وعدها ليّا في الرجوع تاني، ولا نسيتي؟
نكست رأسها تعتصر جفنيها بقوة تحارب بقوة إظهار ضعفها لوالدها الذي لا يقبل أبدا منذ صغرها بأي لمحة طفيفة لانكسار يمس أفراد عائلته، التقطت أنفاسها تزفر هوائها ببطءٍ، تنظر لوجهه بشاشة الجهاز اللوحي:
-بكرا الصبح هكون عندك على أول طياره يا “بابي” زي ما وعدتك.
-“نيرفانا”!
نطقها “مازن” مذهول من تخليها عن قضيتهما بتلك السرعة مستسلمة لتحكم والدها بها، لتجيبه بأسفٍ:
-ما عنديش خيار تاني يا “مازن”، سامحني!
التقط أنفاسه سريعا فلن يسمح بأن تتفلت من يديه أبدا بعد تلك السنوات التي أعتاد فيها وجودها، مصرحا بجدية:
-بعد إذنك يا بابا رجلي هتسبق رِجلها على مصر.
***
تسلل بالرواق الهادئ بعد أن اطمأن على نوم الجميع، وقف أمام باب غرفتها يتلفت حوله خوفا من أن يقبض عليه والده متلبسا، طرق بابها الخشبي طرقات خفيضة واضعا أذنه عليه يتحسس السمع، فمن المؤكد يقظتها فضوء المصباح المتسلل من أسفل الباب يشي بذلك، حرك مقبض الباب ببطء يدفعه ممررا عينيه يفتش عنها حتى وجدها متكورة فوق فراشها دافنة رأسها بين ساقيها بأسى واضح، أغلق الباب خلفه يقترب منها متلهفا، يلمس كتفيها، ناطقا بهلع:
-“نيرفانا”!
رفعت رأسها تلقائيا له، لينسدل خصلاتها حولها بشكلٍ دوما أثره لامتلاكها، يظهر على عينيها آثار الحزن دون دمعة بسيطة تروي بها عطش عينيها الجافتين، ليستطرد محاصرا وجهها بين كفيه متأثرا لحالها:
-مالِك؟ اتصلت بيكِ كتير أما إتأخرتي عن الحفلة وماردتيش على التليفون، الكل سأل عليك واستغرب عدم وجودك.
-أسفة يا “مازن” مكنتش هقدر أكون في الحفلة وحالتي كدا أكيد كنت هبوّظ عليهم الحفلة بشكلي دا، قولتلك روح وأنا هحصلك عشان كدا.
اقترب منها لتلفح أنفاسه بشرتها الرقيقة يبث بها شوقا أرق مضجعه لسنوات، يخبرها بتمهل:
-الحفلة مكنش ليها طعم يا قلبي مش هتتخيلي قد إيه كنت وحيد وأنا شايف كل واحد معاه صاحبته بيحتفلوا بالتخرج، وأنا قاعد منتظرك.
صمت عندما لاحظ إسبالها لأهدابها بخجلٍ منه متململة من لمسته رغم السنوات التي جمعتهما تحت سطح ذلك البيت في إطار علاقة محددة لا تتعدى علاقة ابن عم بابنة عمّه الوحيد، كانت خائفة دوما من تطور الأمر بينهما متيقنة أنها تعشقه حد النخاع إلا أن تلك الذكريات المسيئة ما تدفعها للابتعاد عن أي علاقة حسيّة به، فزاعة الماضي كانت خير معين طيلة تلك السنوات، في غمرة تدفق ذكرياتها، شهقت على قبضه على شفتيها بخاصتيه يتذوق منها قبلتهما الأولى التي طالما حرمته منها بقسوة، كيف له أن يطيل صبره وهي أمامه تنمو وتنضج أمام عينيه الولهة وقد حل حصادها، فاق على نفضها له تدفعه بكفيها في محاولة فاشلة لإيقافه:
-“مازن” إيه إللي بتعمله دا، إنت مجنون؟
بعد وجهه عنها يلثم جوانب عنقها بلهفة جنونية، لتأن من سحر تلك اللمسات رغم رفضها الداخلي، يسألها بلوعة:
-قوليلي إنك عاوزاني زي منا عاوزك، رفضك دا بيقولي إنك مش بتحبيني.
أغمضت عينيها تاركا لعقلها المعذب حرية الانطلاق فوق غيمة تطوف بحرية تتراقص، تخبره بلوعة:
-بحبك يا “مازن” بس، بس مش هينفع أرجوك..!
مال على شفتيها مرة أخرى بلثمة خفيفة، محاصرا وجهها، يخبرها باحتياجه لها:
-أنا صابر بقالي سنين، ليه عاوزين تعذبوني أكتر، عمي هيبوظ كل حاجة يا “نيرفانا” وهيبعدنا عن بعض، إفهمي!
شردت في حديثه عن أبيها لتقفز بكامل إرادتها في تلك الذكرى البعيدة المشوشة لجسدٍ بارد شاحب اللون ملقى على لوح معدني، كانت في حاجة لأن تهرب من فزاعتها مؤقتا ربما تجد خلاصها الأخير بها، متى نَزع عنها ملابسها وكيف؟ لم تجد جوابٍ سوى أنها في حاجة الآن لطوق نجاة مؤقت ينقذها حتى لو كان ذلك الطوق مصابا بخلل.
***
بمكانه المخصص بإحدى المطاعم جلس بإحدى الجوانب المغلقة تحاصره بحواجز خشبية أنيقة بنقوشها الحديثة، والمعدة خصيصا له؛ لتضيف إليه بعض الخصوصية بعيدا عن أعين المتطفلين والرواد لذلك المكان، ولم لا مادام يقدم للمكان أجره وأكثر لتلك الخدمة؟، رفع وجهه للواجهة الزجاجية الفاصلة بينه وبين الطريق العام لتكشف له حركة سير السيارات دون كشفه لمن بالخارج مما يعطيه راحة أكبر، طرق بقلمه الرصاص فوق الطاولة يستجلب فكر جديد لتصميم أحدث يخطّه على ورقته البيضاء مهملا أمر لوحه الذكي الذي قَلما يستعين به في رسم تصميماته مفضلا طرقه القديمة، رفع يده الأخرى بتركيز يسحب دخان سيجارته محاولا الانفصال عن أي فكرٍ يشتته، أغمض عينيه بضيقٍ عند استماعه لنقر كعبٍ حذاء متعمدة إزعاجه بشكلٍ أثار استفزازه.
وصله صوتها الأكثر استفزازا خلفه، ينطق:
-“طاهر” بيه، إتفضل قهوتك!
زفر بخفة يواليها ظهره، مستمرا في مراقبة الوجهة الزجاجية المطلة على الطريق، ليأمر باقتضاب ليتخلص منها:
-حطيها عندِك.
مررت لسانها بجانب وجنتها من الداخل تضبط لياقة قميصها الأحمر، تفكر كيف السبيل للوصول إليه؟، فشدت جوانب قميص زيها الرسمي ليظهربروز مفاتنها أمامه، تخبره بغنجٍ:
-تسمح لي أخد من وقت دقيقه.
رفع يده يسحب دخان سيجارته وغضب أوشك على الانفلات، يجيبها بصلابة:
-وقتي أغلى من إن أديكي منه دقيقه، يا ريت تروحي تشوفي شغلك مع الزباين برّا.
قاطعته بلهفة تستجديه، مقتربة خطوة ربما تحقق حلمها:
-طيب جربني مش هتخسر حاجه، يمكن أنفع وأعجبَك.
فاض كيله من تلك العلقة التي لا تمل من طلب انضمامها لفريق عمله كعارضة لأزيائه الخاصة بشكلٍ رخيص فأزيائه أغلى من أن تمس جسدها، دار بجسده ببطء مع ثبات كرسيه، وهذا قد أعطاها أملا جديدا للموافقة، يمرر عينيه الثاقبة على قوامها المتفجر أسفل زيها الملتصق بها بشكلٍ فج،وقد أعطاها هذا بعض الثقة في نفسها ربما تكون أعجبته أخيرا، إلا أنه صدمها بقوله البارد:
– شكلك مابتفهميش وغبيه.
نادى بصوتٍ غاضبٍ أفزعها، يدفع كرسي خلفه مصدرا أزيز مزعجا ناتج عن احتكاكه قبل سقوطه:
-حد يناديلي المدير، حالا!
صوته كان كفيلا ليصل له بالخارج قبل أن يطلبه، دخل من فتحة الحاجز الخشبي المخصص لذلك الركن، ليجد إحدى العاملات بمطعمه أمامه تواليه ظهرها، مرر عينيه بينهما بقلقٍ، يتساءل:
-أي خدمه “طاهر” بيه، حصل حاجه؟
أشار له برأسه لمن تجاوره، يسأله بثباتٍ:
-أنا مش نبهت إن إللي يقوم على خدمتي ما يكونش رغاي ويقرفني، مش نبهتك المره اللي فاتت تغيرها لي، وتشوفلي بنت تانيه؟ أنا جاي هنا أشتغل يا “مجدي” مش أسمع حكاوي القهاوي .
حرك “مجدي” رأسه بحركة مرتبكا من تقريعه فيعد أهم زبائنه بالمكان، يقر بأسفٍ:
-حصل يا فندم، وأمرت إن “صافي” بالذات ما تدخلش عليك تاني.
التوى ثغره ساخرا، بإماءة من رأسه جهتها يخبره بتقصيره:
-شكلك مش شايف شغلك كويس يا “مجدي”، وكدا أنا هزعل، فبلاش أزعل منك.
سألها برعبٍ من تهديده المبطن:
-إنتِ هببتي إيه؟
استطرد يكمل حديثه معه، عندما انتبه للملمته لأوراقه وأقلامه وأشيائه بحقيبته:
-يا بيه إنت رايح فين بس، أنا هطردها عشان خاطرك و…
توقف “طاهر” عن ما يفعله، يرمقه بتهديدٍ يسأله مستنكرا:
-مين قالك إني عايزك تمشيها؟ مش أنا إللي أقطع عيش حد.
حمل حقيبته الجلدية، عازما الرحيل، يخبره مشددا:
-المره الجايه لو ما ارتحتش في المكان، هشوف مكان تاني، وكمان إبقى بص على رجول البنات إللي شغالين عندك قبل ما يدخلولي.
انصرف بهيبته حاملا حقيبته السوداء يخفي عينيه بنظارته السوداء، تاركا الأخير يرمق قدميها بجحوظ، ليلاحظ ارتدائها لذلك الحذاء العالي، شحب وجهه لما لاحظه، ليوبخها بحدة بنبرة مهينة:
-إنتِ متخلفه! إحنا مش منعين لبس الجزم دي فترة الشغل، وخاصة هو، أنتو عاوزين قطع عيشي.
-يا مستر “مجدي”، أصل..!
صرح ببغضٍ لها:
-مخصوم منك تلت أيام عشان كسرتي أوامري ودخلتي له القهوة، ويومين عشان الزفت إللي لابساه، وإحمدي ربنا إن الراجل مقالش أطردك، روحي شوفي شغلك هو أنا ناقصك.
التوى ثغرها بنظرة عبثية واضحة، تغمغم:
-تحت أمرك يا مستر “مجدي”!
***
وقفت أمام وجهة المطعم بتردد، تقرأ اسمه العريض المكون رقمٍ وكلمة أجنبية بلوحته الضوئية المطفأة نهارا تقارنه بما هو مدون بورقتها التي تشدد عليها خوفا من ضياعها، تحاول حماية حقيبة يدها من المارة ربما كان بينهم أحد اللصوص المتربصين ينتشلونها منها.
غمغمت بدعائها أن يوفقها الله لما أتت من أجله اليوم، خطت أول خطواتها للداخل يبهرها أناقة المكان الراقي التي دفعتها للانكماش على حالها تخفي وضعها الحالي البسيط، لمحت سريعا إحدى النادلات المرتديات لزي مكون من قميص أحمر قاني وتنورة قصيرة سوداء تلتحم بمنحنياتهن تظهر جواربهما السوداء بشفافيتها، أوقفت إحداهن من تحمل صينية دائرية، تتعثر في كلماتها:
-لو سمحت! ألاقي فين أستاذ “مجدي”.
تفحصتها “فاطمة” من أعلها لأخمصها بتشكك، تخبرها مشيرة بإصبعها:
-هتلاقيه في مكتبه.
انصرفت بعد انتهائها تكمل عملها، لتوقفها بحرجٍ مرة أخرى:
-وألاقي مكتبه فين؟
زفرت “فاطمة” بملل تشير لها في جهة محددة للداخل، تقول:
-هناك!
علقت عيناها جهة باب الغرفة، تتخذ أنفاسها الضائعة تحبسها وتشد من أزر نفسها لتنتهي مما أتت إليه.
***
أغمض عيناه لدقائق يهدّئ من غضبه الداخلي غير المبرر، يريح رأسه على مقعد قيادته يتبع طريقة الشهيق والزفير بأعداد محددة معكوسة، إلى متى ستكون تلك نظرته لهؤلاء النسوة؟ يشعر سريعا بالامتعاض والذي يصل أحيانا للغثيان أمام هؤلاء المُتمايعات، فرغم عمله المستمر مع النساء الذي يحتمه عمله عليه في مجال الأزياء إلا أن الجميع يعلم حدود تعاملهن معه، إنها علاقة رئيس ومرؤوس، قائد وعشيرته ليس عليهن سوى العمل المتقن يتقاضين عليه.
رفع يده يتحسس جوانب سترة بذلته يفتش عن هاتفه، ضرب رأسه خلفه بضيقٍ بكرسيه، سيتحتم عليه العودة مرة أخرى لاستعادته من داخل المطعم، وهذا ما لايحبذه.
تحرك برسمية يخفى ملامحه الجادة خلف نظارته الشمسية يتحاشى نظرات النادلات المتعجبة من عودته فالجميع بالمكان يحفظه عن ظهر قلب يكفيه تأهب الأعين كلما خطا بداخله، دُون سؤالٍ توجّه لمكانِه المُخصص بسرعة في محاولة لاسترداد هاتفه من فوق الطاولة، توقف بمكانه عندما وجد إحداهن منحنية بوضعيتها تلملم باقي أوراقه المفسدة المبعثرة بالجوانب والذي قام بالتخلص منها أرضا أثناء عمله، فتّش بعينيه عن الهاتف فوق الطاولة فلم يجده، كاد أن ينبهها إلا أن شيئا قويا دفعه لإغماض عينيه لثانية واحدة يسترجع شيئا بعيدا فجأة طرق عقله، عبس بحاجبيه لذلك الشعور المباغت، يسمعها تخبر أحدهم بالطرف الآخر بالمكالمة، واضعا سماعتها السلكية بأذنيها:
-مش عارفه هبات فين إنهارده؟ معملتش حسابي إنه هيقولي مَفيش سكن هنا.
مرّر عينيه على ملابسها البسيطة ليتعجب أنها غير مرتدية للزي الرسمي للمكان كمثيلاتها، تتميز بقصر القامة بحذائها المسطح فلم يتبين تفاصيل جسدها بسبب طول قميصها فوق ذلك السروال الجينزي ، سمعها مرة أخرى بصوتٍ حارب بكائه:
-هعمل إيه؟، مش هينفع آجّر في فندق، ماتقلقيش يحلها ربنا بقى عنده هتصرف الليلة دي.
خشى أن يقبض عليه إحدى العاملات ويتهم بالتلصص، فأجبر نفسه للتحدث بجدية ينبها لوجوده:
-يا آنسه!
لم يتوقع انتفاضها وهلعها ليجدها تقفز من انحنائها أسفل الطاولة المعدنية فزعة لترتطم رأسها بحافتها، صرخت من ذلك الألم الطاعن برأسها، ووقفت أمامه تتحامل على نفسها بتوتر تضبط قميصها فوق سروالها، تجيبه:
-نعم!
نظرة خاطفة من عينيه الثاقبتين لاحظ تدلي سماعتها السلكية حول عنقها، ليعلم أن هناك من كانت تحدثه أثناء عملها، أشار للطاولة المجاورة يسألها بجدية:
-كان في تليفون هنا؟
ابتلعت ريقها بتوتر، تسأله بتشكك وهي تخرجه من سروالها وقد كانت تنوي تسليمه لمديرها عند انتهائها:
-هو يخصّك؟
كاد أن ينطق، إلا أن عيناه جحظتا بشكلٍ مخيف ارتابت منه، يشاهد ذلك الخط الدامي ينساب من بين مقدمة خصلاتها السوداء مرورا بجبهتها، نطق بهلعٍ، تزامنا ما إدراكها لملمس رطب فوق جبهتها:
-راسك بتنـــــز …!
قبل أن يكمل رفعت يدها تزيل تلك القطرة المنبثقة من رأسها ظنا منها أنها قطرة عرقٍ بارد من خوفها، انفرجت شفتاها وهي تلتقط حمرة الدماء تلطخ أناملها، لتصرخ صرخة غريبة بهلعٍ حقيقي أصابها وقد كان كفيلا لأن يصل لمن حولها:
-دَددددم!
انهار جسدها في حالة إغماء غير مبررة من وجهة نظره، فلحق بجسدها قبل أن يرتطم مرة أخرى بالطاولة المعدنية فيحدث مالا يحمد عقباه وتكون القاضية، وهذا كان كفيلا لأن تتضارب نبضات نابضه بقوة من تقاربها الأولي، زاده تلك الرائحة العالقة بجسدها بشكلٍ غريب تصر على سحبه للماضي، أغمض عيناها مرة أخرى لتتوالى المشاهد السوداء برأسه بسبب نفس الرائحة التي باغتته للوهلة الأولى منذ دخوله عليها.
***
انهارت ببكاءٍ تدفع يد الأطباء عنها بانهيارٍ خوفا مما سيحدث الآن، نهرها أحدهم:
-يا آنسه ماينفعش إللي بيحصل دا، راسِك بتنزف، امسكيها يا “فوزية”!
-لااااا! محدش هيلمسني ، شيلوا إيدكم عنـــــــــــــــــي.
بانفعالٍ أمر الطبيب بصوتٍ جهوري من معه:
-حد ينادي على الراجل إللي برا دا؛ يستصرف معاها، هو يوم مش فايت باين.
ولج بثقة أكثر برودا عندما سمع ما يجرى بالداخل، يزين قميصه وبذلته الكثير من آثار دمائها أثناء نقلها لسيارته ليلحق بها أسفل أنظار الجميع في المطعم، فصمت الجميع، وتحدث الطبيب بضيقٍ:
-أتصرف يا أستاذ كدا النزيف هيكتر مش هنعرف نسيطر عليه، يأمّا تاخدها من هنا لأي مستشفى تانيه.
صمت للحظة بنفس الثبات مخفيا كفيه بسرواله، وقد ظن الجميع أنه سيبدأ في ترجّيها وإقناعها بالرضوخ لطلبهم لصالحها، فأفحمهم برده البارد غير مبالي كحلٍ ذكي للموقف غير مباليا بحالتها:
-إربطوها!
التفت بهدف الانسحاب الهادئ، فصرخت تقاوم أيدهم الحاجزة لذراعيها تشحن قوتها الفطرية للتحررغير متقبلة غرس إبرة بجلدها، لتضرب ساقيها بالهواء، وقبل أن يصل لباب الغرفة وجد من يطير جواره ملتصقا بجدار الغرفة أمامه صارخا من آلام ظهره بفعل ضربها له بساقيها، رفع حاجبيه بصدمة من تصرفها العنفواني المتهور الأكثر عنفا، دار يرمق حالتها متسائلا: كيف واتتها القوة لضربه؟، ضيّق عينيه يرمق جسدها المتشنج وأصفرار لون بشرتها وزيغ عينيها، في خطوتين متمهلتين كان قد وصل لفراشها يقيد هو معصميها بدوره أمام صدرها بشكلٍ عكسي كالمجاذيب بدلا من الممرضة المنهكة القوى، يطلب منهما ما دفع الذهول يتراقص بأعينهما:
-حقنة مُهدئ بسرعه، دي حالة “هيموفوبيا”.
احتقن وجهها بالدماء أكثر من تلطخه بدمائها الساخنة وكادت أن تلفظ أنفاسها من حدة صراخها بوجهه لعله يرحمها ولا يفعل ما ينوي عليه، كيف ستقبل غرس إبرة بجسدها؟، همس بجدية أمام عينيها:
-هتبقي كويسه، كله هيعدّي أنا معاكِ.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية رد شرف)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى