رواية خطايا بريئة الفصل الثامن 8 بقلم ميرا كرم
رواية خطايا بريئة الجزء الثامن
رواية خطايا بريئة البارت الثامن
رواية خطايا بريئة الحلقة الثامنة
كي لا نسمح لِلخُذلان بِالتسرُب إلينا، علينا ألا نَرفع سقف توقعاتنا بأحد.
————————-
– انسه “ميرال” تحت أمرك
لم يأتيه غير صوت نحيب قوي من الجهة الأخرى وتلاه قولها بنبرة مرتعشة واهنة لا تنبئ بالخير بتاتًا :
– ألحقني ……………..
فرت الدماء من عروقه وتسارعت وتيرة أنفاسه وتساءل بوجل :
-خير حضرتك أنتِ كويسة؟!
أجابته بِضياع وبنفس النبرة المرتعشة الواهنة :
-انا مش كويسة….أنا…..كُنت…أصل مش عارفة اسوق …..ارجوك تعالا
مسد جبهته بإبهامه وسبابته وكأنه يحاول يستوعب شيء من حديثها الغير متزن كي يتدارك الأمر وخاصةً عندما سقطت عينه على ساعة الحائط و وجدها تعدت الواحدة صباحًا:
-قوليلي أنتِ فين؟دقايق وهبقى عندك
قالها بِعُجالة شديدة وبكامل صوته الأجش وهو يأخذ حافظة نقوده و يتناول ملابسه يرتديها مهرولًا و يخرج من منزله غير عابئ بتلك الأسئلة التي تنهال عليه من شقيقته، فقط كل ما يشغله هو أن يصل لصاحبة الفيروزتان البائسة ويطمئن عليها
———————
استقل سيارة أجرة كي يصل لها في أقل وقت ممكن وها هو وصل لتوه لتلك المنطقة النائية بعد الشيء التي أوصلها بالقرب منها سابقًا، ولسوء حظه رفض السائق أن يدخل بها متحجج بتأخر الوقت وكونها غير آمنة، تفهم موقفه وهو يلعن تحت انفاسه غاضبًا فماذا تفعل هي بذلك المكان وبذلك الوقت؟
تدلى من السيارة بعد ان أعطاه أجرته كاملة ثم خطى خطوات واسعة يبحث عنها وسط ذلك الهدوء المريب و عتمة المكان، ضوء قوي لفت نظره من الخلف ليلتفت يرى موتور يقترب و يجلسون على ظهره أثنان يبدو عليهم عدم الاتزان يرددون كلمات تلك الأغنية الشعبية الركيكة الصادرة من المسجل خاصتهم، مروا من جانبه ولكن شعر بالريبة عندما وجدهم يبطئون سرعتهم بقرب سيارة تصطف بِجانب الطريق وتدلوا يحومون حولها، زفر بقوة وهو يدعوا الله أن تخيب ظنونه ولكن بالفعل صدقت عندما اتضح لون السيارة بفضل الضوء الصادر من الموتور وتأكد انها هي، مما جعله يطلق العنان لقدمه كي يصل لها
بينما على الجانب الآخر قال أحدهم يخاطب الآخر وعينه مصوبة تخترق زجاج النافذة المغلق على تلك المنكمشة بوهن والذعر يحتل معالم وجهها :
-دي هتبقى ليلة أخر روقان يا زميلي
ليؤيده الآخر بنبرة ثقيلة تدل على عدم اتزانه وهو يطرق على زجاج نافذتها المغلق :
– افتحي العربية يا مُزه أنتِ بتاعتنا الليلة
نفت “ميرال” برأسها وهي تنتفض من شدة رعبها وهي قاب قوسين أو ادنى من أن تفقد وعيها لولآ صوته الأجش الذي تسربل لمسامعها طمئنها:
– استهدوا بالله يا شباب العربية تخصني واللي جواها دي تبعي وهاخدها وامشي من غير مشاكل
قالها بكل رزانة دون ذرة تهور واحدة كي لا يعرضها للخطر ولكن لسوء حظه لم يعجبهم حديثه ودفعه أحدهم بصدره قائلًا :
– نعم ….انت مين ياض دي منطقتنا والمُزة دي تلزمنا ….غور من هنا
لم يتزحزح شبر واحد من موضعه وقال بنبرة محذرة قوية وهو بالكاد يتحكم بنفسه كي لا يفتك بهم:
– مش همشي وقولتلك العربية باللي فيها تبعي خلينا نمشي والطيب أحسن
حانت من آحدهم بسمة إجرامية يعلمها جيدًا واتخذ حذره منها حين أشهر أحدهم مديته الفضية بوجهه يهدده بها وحينها حقًا لم يشعر بذاته إلا وهو يقبض على رسغ الأول ويلويه خلف ظهره ويضغط عليه بكل قوته حتى سقطت المدية من يده ويعاجل الثاني الذي يكاد يهجم عليه بركلة قوية استهدفت معدته وجعلته يتهاوى على الأرض يتلوى من شدة الألم، ليدفع الأول عنه و يباغته بركلة قوية جعلته يغتاظ ويهجم عليه يسدد له عدة ضربات في أماكن متفرقة جعلت “محمد” يتفاداها قدر المستطاع ولكن مع ذلك نال جسده العديد منها قبل أن تثور ثورة غضبه واصبح اعنف واشد أصرار حين سيطر هو بحركة مباغتة و اعتلاه وظل يكيل له حتى أنهكه على الأخير و أصبح نتيجة الشجار حتمية له ولكن في غفلة منه كان يتناول الثاني المدية ويجرحه بها بذراعه كي يترك زميله وبالفعل ذلك ما حدث عندما زمجر بقوة يلعنهم ونهض عنه يتفقد ذراعه ليستغلوا الأمر وفي لمح البصر كانوا يفرون من أمامه بالموتور الخاص بهم مثل الجذران المذعورة
لينظر هو لآثارهم بغضب قاتل وهو يلعنهم بصوت جهوري ويتوجه لها صارخًا:
– افتحي الزفت العربية خلاص مشيوا
نفت برأسها بطريقة هستيرية وبهيئة مذرية للغاية فكان بؤبؤ عيناها متسع وترتجف بشكل جعله يتفهم ما بها
ليتناول نفس عميق كي يهدأ ثم قال بعدما أجلى صوته كي يصدر لين كي لا يفزعها أكثر:
– أنسة “ميرال” أهدي أنا معاكِ وهما خلاص مشيوا ……أفتحي العربية وخلينا نمشي من هنا
قال آخر جملة وهو يهز رأسه يحفزها بنظرات مطمئنة جعلتها تنصاع له وتفتح بابها بأيدي مرتعشة، ليمد لها يده كي يساعدها على النزول كي تفسح المجال له لقيادة السيارة وتجلس بالجهة الآخرى ولكنها همست بنبرة واهنة ضعيفة للغاية:
– مش قادرة اتحرك
ضاقت بندقيتاه يحاول ان يستشف ما بها وكم أراد أن يصرح بتلك الشكوك التي تعصف برأسه نحوها ولكنه اكتفى بسؤالها :
– حاسة بأيه طيب تحبي نروح مستشفى نطمن عليكِ
نفت برأسها بطريقة هستيرية وقالت برفض قاطع وهلع ظهر جلياً على ملامحهاولسوء حظها بطريقتها تلك أكدت له ظنونه :
-لأ ملوش لزوم …… أنا هبقى احسن بس روحني
مهلًا الآن تفهم ما بها، هي ليست بكامل وعيها ويبدو أنها تعاطت شيء ما يفقدها السيطرة على جسدها، زفر انفاسه دفعة واحدة واحتل الغضب معالم وجهه وهدر منفعل :
-حاولي تنقلي على الكرسي اللي جنبك
أومأت له وبالفعل أزاحت جسدها للجهة الآخرى ، ليتخذ هو موقعه خلف الموقد و بعصبية مفرطة أدار السيارة وباشر بالقيادة غير عابئ بجرح يده فقد كل ما كان يشغله كيف خانه حدسه نحوها وخالفت كافة ظنونه وعند وصوله لتلك الفكرة تذكر حديث زوجة أبيها الذي يبدو أنه صادق ليعلن تحت انفاسه وهو يرمقها شذرًا وهي تسند رأسها وتغمض عيناها ولا يعلم هل سقطت في سبات عميق أم فقدت وعيها
——————-
بعد عدة ساعات وبعد بزوغ الفجر رمشت بعيناها تحاول جاهدة أن تسترد كامل وعيها لتجد ذاتها مازالت داخل السيارة المصفوفة جانب الطريق قرب منزلها، وتراه هو يستند على مقدمة السيارة وشاخص بنظراته لبعيد
أعتدلت بِجلستها وهي تمسد جبهتها لعلها تخفف ذلك الألم الذي يفتك برأسها ولكن دون جدوى، ليصدر منها آنه متألمة جعلته ينتبه لها ويعود أمام المقود قائلًا بوجوم شديد دون ان ينظر لها:
– كويس انك فوقتي علشان معرفتش ادخلك القصر ازاي وانتِ بالحالة دي
صوته أعادها لرشدها وجعل الأحداث تتوافد أمام عيناها مما جعلها تنظر له بِضياع بأعين متسعة قائلة:
– أنا آسفة ….اعصابي كانت بايظة و مكنتش عارفة اسوق ومفيش غيرك جه في بالي اكلمه
هز رأسه بِملامح ثابتة وأخبرها بعملية شديدة:
– انا تحت امرك بس لازم “فاضل” بيه يعرف باللي حصل
نفت برأسها بقوة وتمسكت بذراعه ترجوه غافلة عن جرحه الذي آلمه حين فعلت :
– لأ ارجوك يا” محمد” …..بلاش تقول ل بابا
جز على نواجذه بقوة ولم يعد يتحمل أكثر ليحتل الألم معالم وجهه ويسحب ذراعه من قبضتها مما جعلها تستغرب فعلته ولكن عندما انتبهت ولاحظت شق قميصه وتلك القطرات الحمراء التي جفت عليه صرخت بهلع :
– أيدك مالها انت اتعورت؟!
نفى برأسه واخبرها من بين اسنانه بنفاذ صبر:
– بسيطة خليني اوصلك واخلص من اليوم ده ……
قالها وهو يشعل المقود ويشرع بالقيادة ولكنها منعته راجية:
– استنى ارجوك …..اوعدني متقولش لبابا عن اللي حصل
زفر انفاسه دفعة واحدة وهو يمسد جبهته بسبابته وابهامه قائلًا :
– مقدرش اوعدك بحاجة
أغمضت عيناها بقوة ثم أجهشت بالبكاء وهي تعتدل بِجلستها وتخفي وجهها بكفوفها وكأنه بجملته تلك قطع خيوط أملها، ولكنه باغتها :
– غير لو قولتيلي كُنت بتعملي ايه في المنطقة دي بعد نص الليل؟!
هو خمن السبب ويكاد يكون متأكد منه مليون بالمائة، ولكنه أراد أن يستمع لتبريرها التي كانت عاجزة هي عنه الآن ولم يصدر منها شيء غير صوت شهقاتها التي ظلت تتعالى دون انقطاع
شعر بالضيق لرؤيتها هكذا ولكن لا يستطيع ان يخالف ضميره وقد أخذ قراره ولن يتراجع، فحقًا هو لا يريد أن يقحم ذاته بشيء لا يعنيه، تفعل ما تفعله ومن المفترض أن والدها هو من يتخذ إجراء معها، أما هو لا يخصه هو فقط مجرد سائق يقوم بعمله لا أكثر :
– أنا هرجعك القصر و لما يرجع” فاضل” بيه هبلغه بنفسي وهو يتصرف أنتِ خالفتي أوامره وخرجتي لوحدك ده غير انك مكنتيش في وعيك نهائي وانا مينفعش أخالف ضميري واسكت
أزاحت يدها تطالعه بِضياع وبعيون كلون الدماء قائلة بنبرة مختنقة باكية:
– بلاش ارجوك واوعدك مش هتتكرر تاني
نفى برأسه بعدم اقتناع مما جعلها تهمس بنبرة واهنة يائسة لأبعد حد وهي تنظر له نظرات غريبة لم يتفهمها ولكنها زلزلت قاع قلبه :
– على العموم شكرًا انك ساعدتني ……..انا عارفة إني غلطانة واستاهل كل اللي يجرالي
ذلك آخر ما قالته قبل أن تنكمش تستأنف وصلة نحيبها وهي تستند برأسها على زجاج نافذتها بوهن شديد وبوجه شاحب يحاكي الموتى، أما هو كان يطالع هيئتها بملامح متأثرة متعاطفة وخاصًة بعد أن استشف صدق نبرتها المغلفة بالندم مما جعله يكاد يخرج عن ثباته ويتراجع عندما داهمه ذلك الشعور الغريب تجاهها ولكنه لعن غبائه ولعن كل شيء حوله وتلك الهواجس التي تراوده ويستحيل حدوثها، ليزيح كل شيء جانبًا و ينطلق بها جهة القصر وهو ينوي أن لا يتراجع عن قراره
———————–
أما داخل ذلك المنزل الذي يعج دائمًا بالمشاحنات فقد
كانت هي باهتة ليس ككل يوم تتحرك بحركات متهدلة إلى طاولة الطعام مما جعله يلاحظ ذلك بوضوح ليضيق عينه وكأنه يحاول سبر اغوارها بينما هي جلست بعيون منتفخة قليلًا أزعجته وجعلته يسألها بِقلق حقيقي :
– كنتِ بتعيطي ليه ؟؟؟
نفت برأسها وهي تتناول قطعة من الخبز وتباشر فطورها مما جعله يزفر بضيق و يشيح بنظره عنها فرؤيتها هكذا تألمه بل تعتصر قلبه، لتنظر” ثريا “لها وتسألها بِود حقيقي:
– إيه اللي مزعلك يا بنتي قوليلي انا زي أمك
نفخت اوداجها وصرخت بها بِعجرفة وقوة تخالف ما تشعر به :
– مفيش حد زي أمي …..وياريت كفاية تمثيل لغاية كده انا زهقت منك انتِ وابنك
زمجر لاعنًا ثم صرخ بها كي يردع تمردها :
– نااااااادين كفاية كده اسكتِ
لتعترض وهي مازالت محتفظة بتمردها :
– مش هسكت …..مش هسكت يا “يامن” واعلى ما في خيلك اركبه
شهقت “ثريا” بينما هو كان يشعر أن كل خلية به تنتفض من فرط عصبيته ليجذبها من ذراعها ويدخلها غرفتها تحت مضضها وتلويها بين يده ومناجاة “ثريا” له كي تمنعه تخوفًا أن يؤذيها، ولكنه طمئنها بنظراته وهو يدفع الآخرى ويغلق الباب، طالعته هي بغيظ وبنظرات مشتعلة حين صرخ بها بنفاذ صبر:
– أنتِ عايزة ايه ؟؟؟؟؟
ارحميني انا اعصابي تعبت ومبقتش مستحمل …….قوليلي بتعملي ليه كده؟!
اجابته منفعلة وهي تلوح بيدها :
– أنت عارف ….وامك كمان عارفة ….انا بكرهكم يا “يامن” ….بكرهكم
شعر وكأن خنجر مسموم انغرس بقلبه من تصريحها، ولكنه يحفظها عن ظهر قلب ويعلم أن يوجد شيء يعكر صفوها ولذلك تتحامل عليه وعلى والدته، ليحتل الحزن عينه ويقول بثبات اجاده:
– مطلبتش منك تحبينا ……انا وامي كنا بنحاول نواسيكِ مش اكتر
حانت منها بسمة ساخرة وردت بنبرة ممزقة :
-اللي يشوف كده يقول إنكم قلبكم عليا …..
كانت تكبت دمعاتها بصعوبة بالغة ولكنها بطبيعتها القوية هدرت بوجهه دون أي لباقة :
– اطلع بره وسيبني لوحدي
لا يعلم لمَ لم ينصاع لها بل وجد نفسه يقترب منها و يجذبها بقوة داخل أحضانه ويقول بحنو حقيقي :
– عيطي يا “نادين” يمكن ترتاحي
دفعته وارادت الخروج من بين يده ولكنه لم يعطيها فرصة لذلك وانزلق معها حين نزلت على ركبتيها على الأرض و شدد أكثر على جسدها وهو يهمس بنبرة مطمئنة و يطبع قبلة حنونة على منبت شعرها :
– اهدي …..علشان خاطري …..انا جنبك انا عارف ان انا أخر واحد في الدنيا عايزاه جنبك بس والله مش هضايقك …….. أهدي …
استكانت بين يده وأجهشت ببكاء مرير جعله يمسد على ظهرها صعودًا وهبوطًا بطريقة حانية جعلتها تغمغم من بين دمعاتها :
– النهاردة ذكرى وفاة ماما …..أنا عايزة اروح ازورها
زفر بضيق شديد وظل يلعن نفسه ربما للمرة الألف فكيف غفل عن ذلك اليوم وهو يعلم أهميته بالنسبة لها،
ليخرجها من بين يديه ويمسح دمعاتها بأطراف انامله قائلًا بأسف حقيقي:
– الله يرحمها …….حقك عليا والله نسيت ….هخدك دلوقتي ونزورها وهعملك كل اللي انتِ عايزاه بس بلاش أشوف دموعك دي تاني
أومأت له باكية بينما هو لم يتحمل رؤيتها هكذا ليجذبها مرة أخرى لأحضانه ويهمس بنبرة صادقة نابعة من صميم قلبه :
– دموعك بتقتلني يا “نادين ” ….. انا عمري كله فدى دمعة واحدة من عينك …..أهدي و انا والله مش هضغط عليكِ تاني ولا هضايقك …….
تشبثت به بقوة و دفنت وجهها بين ثنايا عنقه بطريقة أربكته للغاية وجعلت وجيب قلبه يتعالى، بينما هي كانت مأخوذة بتلك الطمأنينة التي تشعر بها الآن، ولكن ازعجها خفقات قلبه المتعالية لتضع يدها على موضعه وكأنها بتلك الحركة البسيطة تريد طمئنته دون قصد لتخرج من بين يديه ببطء مميت لكليهما وخاصًة عندما اشتبك بارود عيناها مع لهيب ناعستيه التي تفيض بمكنون قلبه الذي لم يجرؤ ابدًا عن الإفصاح لها به، بينما هي كانت نظراتها حائرة ، ضائعة، مشتتة، هائمة بوجهه القريب للغاية منها وهي تشعر بنبضة عاصية صادرة من خافقها تشارك صخب قلبه، دام تعانق عيناهم لعدة دقائق مما جعل وتيرة أنفاسه تتعالى شيء فشيء وهو يستغفر بسره فذلك القرب المهلك منها سيجعله يفلت زمام نفسه ويستغل تلك الحالة النادرة التي هي عليها ليزيح بعينه ويقول بتهدج وبثبات بالكاد تقمصه:
– أنا مقدر حزنك …..بس صدقيني البكى مش بيرجع اللي راح
هزت رأسها بحركة بسيطةودمعاتها مازالت تنسل على وجنتها تستغرب ذلك الشعور التي لأول مرة يراودها، ليمرر هو أبهامه على وجنتها يزيح تلك الدمعات النادرة ويقول ببحة صوته المميزة :
– هستناكِ برة عقبال ما تجهزي
اومأت له بطاعة يعشقها منها، ليبتسم بسمة حانية و ينزل يدها التي مازالت تستقر على موضع خافقه ويلثمها بحنو شديد تحت نظراتها الضائعة و ينهض ويغادر، لتظل هي تنظر لظهره بنظرات هي نفسها لاتعلم مكنونها ولكن كل ما تعلمه انها شعرت براحة غريبة بين يديه وبراحة أكبر من احتوائه لها وتفهمه سبب خروجها عن طورها .
————————–
– نورتي يا ماما “ثريا ” والله
قالتها “رهف “مُرحبة بتلك السيدة الحنون التي أتت خصيصًا لكي تطمئن عليها، ولكن “رهف”بطبعها اخبرتها ان كل شيء على ما يرام مما جعل “ثريا” تتسأل مشككة :
– يا بنتي اتكلمي انا زي أمك وقلبي واكلني عليكِ ده انا ما صدقت “يامن” خد
” نادين “وخرجوا علشان أجيلك
أبتسمت” رهف” ببهوت وأخبرتها وهي تناولها كوب العصير التي حضرته من أجل ضيافتها قائلة ببعض التردد وعدم ثقة زرعها بها :
-متحرمش منك يا ماما كل الحكاية بس أن حسن متغير …….
شهقت “ثريا “وتساءلت بتوجس:
– شوفتي عليه حاجة؟!
هزت رأسها كونها لا تملك جواب قاطع، رغم العديد من المواقف التي أثارت ريبتها نحوه ولكن لا يوجد لديها دليل قاطع يدينه، قطع صراع عقلها سؤال “ثريا” من جديد :
– انا عارفة انك عاقلة يا بنتي ومش عايزة تخربي بيتك بإيدك بس فضفضي يمكن ترتاحي …..ده انتِ خاسة النص و وشك أصفر زي اللمونة
أبتلعت” رهف” ريقها بحلق جاف وأصرت على موقفها كي لا تضعه بموقف سيء أمام خالته قائلة بثبات مصطنع:
-لو في حاجة كُنتِ انتِ أول واحدة قولتلها …..انا بس تعبانة شوية وفي دوخة غريبة كده بتجيلي
شهقت” ثريا” بقلق وقالت معاتبة :
-طب مستنية ايه؟ لازم تكشفي وتعرفي فيكِ أيه انا بكرة الصبح بعد ما توصلي الولاد هاخدك واخلي الدكتور يطمني عليكِ
أومأت “رهف” بامتنان حقيقي فكم اسعدها اهتمامها وقلقها الذي لم يخصها أحد به قط منذ وفاة اهلها، لتحتضنها قائلة بعيون غائمة متأثرة :
– ربنا يخليكِ ليا مش عارفة من غيرك كنت عملت ايه
تنهدت” ثريا “وهي تربت على خصلاتها بحنو قائلة بنصح:
-اسمعي مني يا بنتي محدش هينفعك هو اه “حسن” ابن اختي بس ميستهلش تهملي نفسك بسببه، لازم تاخدي بالك من صحتك محدش هينفعك
هزت “رهف” رأسها بتفهم وهي تخرج من احضانها وتجفف دمعاتها قبل أن يصل هو بمزاج رائق للغاية مرحبًا :
– اهلًا يا خالتي ايه المفاجأة الحلوة دي والله وحشاني
زغرته “ثريا” ثم لوت شدقيها وقالت معاتبة :
– المفروض الصغير هو اللي يسأل على الكبير مش العكس يا ابن اختي
تحمحم وبرر وهو يجلس بجوار” رهف” يحاوط كتفها بلطف مخالف لحالته السابقة :
– حقك عليا والله مشغول وعلى أخري المشروع لازم أسلمه كمان كام يوم هي “رهف” مقالتلكيش أن طالع عيني ولا ايه!
كانت جملته الأخيرة بمثابة معاتبة صريحة لها كونها لم تغطي عليه كعادتها مما جعلها تهدر بدفاع تؤيده وكانها مبرمجة على فعل ذلك:
– اه فعلًا كان مشغول اوي معلش اعذريه
أومأت “ثريا “بمسايرة وحستها بعيناها أن تتركهم لحالهم وبالفعل نهضت قائلة وهي تنظر لساعة يدها :
– انا هنزل استنى الولاد تحت البيت الباص زمانه على وصول
وما أن غادرت قالت “ثريا “بحدة دون أي تهاون :
– اسمع يا ابن اختي من غير لف ولا دوران …………مراتك أصيلة وبتحبك اتقي الله فيها وارجع لعقلك
ابتلع رمقه بوجل وتسأل بعيون زائغة :
– هي اشتكت ليكِ؟
نفت “ثريا” وقالت مدافعة :
– انت عارف انها كتومة ومش بتتكلم بس انا اللي مش عاجبني شكلها مطفية كده على طول سرحانة حتى الكلام بيطلع منها بالعافية
زفر بارتياح قائلًا بسخط:
– هي مهملة في كل حاجة حتى صحتها مترميش اللوم عليا يا خالتي
وضعت “ثريا” يدها على فمها بغير رضا وهدرت منفعلة تنهره :
– مهملة ازاي يعني ده جزاتها أن بيتك وعيالك زي الفل دي قايدة صوابعها العشرة شمع لجنابك وانت ولا مقدر
– بلاش تتحاملي عليا يا خالتي الله يخليكِ انا مش ناقص ويعلم ربنا أنا مش مقصر معاها في حاجة واللي بتطلبه بيجلها
– مش بالمجايب مراتك عمرها ما كانت مادية واظن انت اكتر حد عارف ده، هي محتجاك انت؛ تشاركها وتقرب منها، دي ملهاش غيرك ولازم تكون أحن واحد في الدنيا عليها وتحتويها وتساعدها في مسؤولية عيالك
تأفف هو وقال بنبرة ساخطة وبفكر رجل شرقي مازال متمسك بعرفية أفكاره:
-والله انا راجل ومش فاضي للملل ده انا كل اللي عليا أجيب فلوس وألبي كل طلباتهم، وبعدين هي مش بتعمل حاجة زيادة لا ليا ولا لعيالها ده واجبها وشغلها المفروض عليها والستات كلهم بتعمل كده المفروض تحمد ربنا
تنهدت” ثريا” وهي تشعر بالغيظ من تفكير ابن شقيقتها العقيم لتهدر بجدية شديدة:
-صوابعك مش زي بعض، وأنت مش عارف قيمة النعمة اللي في ايدك مراتك أصيلة و راضية ومفتحتش بؤها بكلمة علشان بتحبك بس يا ابني، الواحدة مننا ليها طاقة و تقدر تغفر كل حاجة في الدنيا إلا الخيانة
هب واقفًا بتوتر بالغ ألتقطته” ثريا “فور قولها وجعلها تتيقن أنه مذنب لا محالة خاصةً عندما قال بعيون زائغة:
– أنا مش بخونها ويوم ما هفكر اعرف واحدة عليها هيبقى بالحلال
شعرت” ثريا” بوخذة بقلبها من حديثه وترأى أمام عيناها حياتها السابقة ومصير “غالية” الذي إلى الآن تشعر بالأسى عليها لتقول بنبرة حزينة وعيون غائمة على أثر تلك الذكرى البعيدة :
– وساعتها يبقى ليها حرية الأختيار يا تقبل يا ترفض تكمل معاك، وصدقني حتى لو كان بعلمها وبرضاها في الحالتين هتكون خسرتها ومش هتستحمل تشوفك مع غيرها
احتدت عينه من حديثها الذي لم يروقه بالمرة ولكنه على اقتناع تام انها لا تستطيع تركه مهما فعل ستتقبل خطيئته التي يظنها بريئة، مبررة، ومباحة له ولا يحق لها الاعتراض ولكن ماذا إن تركته هل سيتقبل هو ذلك، حقًا لم يفكر في ذلك الاحتمال من قبل
انتشله من شروده قولها بتحذير قبل ان تهم كي تغادر :
– أوعى تفتكر انها ملهاش حد وأنها ضعيفة تقدر تكسرها لأ أنا أول واحدة هقف في وشك وصدقني وقتها هتبقى أنت الخسران
ذلك آخر ما تفوهت به تاركته متخبط يلعن تحت انفاسه ويجلس وهو يمرر يده بخصلاته الفحمية في عصبية شديدة فهي نجحت وبشدة في أن تسربل شيء من التردد وربما الرهبة في نفسه بعد حديثها
—————————–
كان يطالعها بعيون حزينة وهي تذرف الدمعات أمام قبر والدتها و تشكوا لها بالكثير، تعمد أن يبتعد قليلًا ليترك لها مساحتها الخاصة ولكن رؤيتها منهارة هكذا يفقده صوابه لا يتحمل دمعاتها ولا هوانها ذلك بل تعود عليها متمردة قوية سليطة اللسان، انتشله من شروده صوتها المختنق أثر البكاء :
– انا خلصت ممكن نمشي
هز رأسه لها ببسمة دافئة وألتقط يدها برفق تحت نظراتها المشتتة وسار بها للخارج، لتغمغم هي بعد صعودهم للسيارة :
– أنا عايزة أروح
نفى برأسه وقال وحبات القهوة خاصته تشملها بدفء واحتواء لا مثيل له:
– لأ اليوم بتاعك اطلبي اي حاجة وانا انفذها من غير جدال
حانت منها بسمة عابرة وسألته بترقب :
– أي حاجة…. أي حاجة ؟
هز رأسه بتأكيد لتسترسل هي بمكر وكأنها تبدلت لتوها لتلك المتمردة من جديد :
– عايزة عربية انت عارف ان بابا كان معلمني السواقة
ابتلع غصة بِحلقه وهمهم بعدم اقتناع :
– بس انا بخاف عليكِ يا “نادين” ومش…….
قاطعته هي :
– هاااااا أنت وعدتني من غير جدال
تنهد بعمقٍ ومرر يده على ذقنه قائلًا بعدما تذكر نصيحة والدته:
-مش هخلف وعدي بس ليا شروط
ضحكت تلك الضحكة الآثرة للقلوب وصفقت بِحماس جعل قلبه يتراقص على صخبها قائلة بمكر وبعيون لامعة :
– أخيرًااااااااا ……. انا موافقة والله على كل شروطك بس انت نفذ
هز رأسه وابتسم ببشاشته المعهودة وهو ينطلق بسيارته إلى أقرب معرض للسيارات كي يلبي طلبها، بينما هي ظلت طوال الطريق تسترق النظرات له و تجاهد تلك النبضة العاصية بقلبها التي تنبأها بشيء لطالما تخوفت منه وتكاد تموت قهرًا إن حدث.
————————
اسدل الليل ستائره على ذلك الساخط الذي لا يعرف أين يكمن الرضا، فكان مُمدد بفراشه بجوارها يحاول ان يتوقع كافة الاحتمالات الواردة بشأنها فلا ينكر بعد مغادرة “ثريا” وذلك التهديد الصريح منها، شعر بشيء من الرهبة يتملك منه ليجد ذاته يتودد لها على غير عادته في الآونة الأخيرة قائلًا بلطف وهو يقترب منها يداعب وجنتها لتكف عن تصنع النوم:
– “رهف “……….”رهف “أنا عارف إنك سامعاني ومبتعرفيش تنامي قبلي ليتردد قليلًا ثم يقول بتقطع وكأنه يمَن عليها باعتذاره :
-أنا………آسف
رفرفت هي بأهدابها تؤكد له يقينه، وابتسمت بسمتها الناعمة التي رغم بهوتها الآن إلا أنها تجعله يشعر أن العالم خلى من كل مصائبه ولم يتبقى غير ربيعها و سلامها النفسي الذي ينفض دواخله ويعبث دومًا بأفكاره ونواياه.
لم تعقب هي بل ظلت تعاتبه بنظراتها مما جعله
يتنهد عميقٍ ويقترب أكثر منها مبررًا :
-انا عارف اني زودتها بس كنت مخنوق وأنتِ بتضغطي على أعصابي
ردت بنبرة متألمة تفيض بالعتاب:
– انا عمري ما قصدت أضغط عليك ….. انا كنت بحاول أشاركك واخفف عنك بس انت مش مديني فرصة
ليبرر من جديد بذلك السبب الواهي الذي يحاول ان يقنعها به ولا يمل من ذكره:
– اعصابي مشدودة من الشغل و اعذريني لو كنت بخرج عن شعوري
ليرفع يدها يلثمها ويستجديها بعينه ان تغفر له، فما كان منها غير أن تتهاون معه ولكن ماذا بشأن مكالمته وادعائه الغير منطقي حقًا لا تريد المجادلة معه ولكن وجدت ذاتها تتساءل من جديد بقلب يكاد يهوي بين ضلوعها :
-لما كنت بتتكلم وقلتلي “يامن ” كان هو فعلًا…..
ابتلع رمقه بحلق جاف وأخذ يمرر يده بخصلاته الفحمية وكأنه يبحث عن كذبة مناسبة تقنعها ثم قال بكل تبجح وثقة كي يسايرها :
-بصراحة …….كانت مكالمة شغل من واحدة من اللي بيشرفوا على تنفيذ المشروع بشركتي ومرضتش اريحك لما سألتيني علشان حسيت انك بتشكي فيا و كنت مخنوق منك ومن اسئلتك الكتير
حقًا كانت تستمع له مذهولة من تبريره ومن كيفية حياكته للأمر، المفترض أنها الآن تكون سعيدة كونه كشف لها حيلته واراح قلبها ولكن وجدت ذاتها مشتتة لا تعلم كيف استطاع أن يتقن كذبته لذلك الحد وكيف هي كانت غافلة عن مهارات التمثيل لديه لتضيف بإصرار وكأنها تود أن تسد كل الثغرات بعقلها حتى لا يثور عليها :
-بس انت قولت انه “يامن” حتى قولتله “رهف” بتسلم عليك؟!
تأفف في ضيق من اسئلتها التي تكاد تودي بثباته و تفضح أمره وهدر منفعل وهو ينهض يواليها ظهره :
-افففففف بقى مش هخلص من أسئلتك دي ….كانت قفلت ساعتها، وقولتلك كنت قاصد أضايقك زي ما ضايقتيني
أغمضت عيناها بقوة تحاول كبح أفكارها وتقبل الأمر دون جدال أكثر، فلا يوجد لديها خيار آخر على أي حال لتنهض تقترب منه وتقول بقلة حيلة وهي تضع يدها على ذراعه :
– أنت كل دنيتي يا “حسن” بلاش تعمل كده وتستغل إني مليش غيرك
التفت لها وهو يشعر بِشيء من تقريع الضمير ثم رفع يدها يلثمها مرة أخرى وقال برهبة بثتها به “ثريا “بجدارة:
-حقك عليا ……انا مقدرش استغنى عنك……أوعي تسبيني
كوبت وجهه بين راحتيها بعدما تدخل قلبها اللين كعادته :
– مقدرش انت روحي يا “حسن” ربنا ما يحرمني منك
أبتسم وهو يأمن على دعوتها، ثم احتضنها بقوة وكأنه يريد ان يكفر عن خطيئته بحقها، استكانت هي بين احضانه وكأنه هو مخبأها الوحيد وحصن أمانها متغاضية عن كل شيء بلين قلبها .
حمقاء هي بكل ما تحمله الكلمة من معنى ولكن دائمًا تجد له مبرر لكافة افعاله ولمَ لا وهي ليس لها أحد سواه، فقد نشأت ببيت عمها وربيت مع أبنته بعد وفاة عائلتها بحادث مروع اودى بحياتهم، وحين تزوجت هي توفى عمها وسافرت ابنته مغتربة مع زوجها بأحد بلاد الخليج لتبقى هي وحيدة دون ملجأ او سند غيره
————————-
تبسمت الشمس في كبد السماء معلنة عن يوم جديد يخبئ في طياته الكثير فقد
استعدت هي بنشاط على غير عادتها وقررت انها هي من ستقوم بإيقاظه اليوم، تجهزت مرتدية بنطال أزرق من خامة الجينز ويعتليها كنزة وردية ذات حملات رفيعة وحذاء رياضي يماثل لون كنزتها وقد اجلت سترتها لحين خروجها، لتنظر مرة أخيرة بالمرآة وتبعثر خصلاتها القصيرة كي تبدو هوجاء كما تفضلها ليلفت نظرها أضاءة هاتفها التي تتعمد ان تضعه على وضع الصامت طوال الوقت بسبب غباء “طارق” الذي لن يكف عن إلحاحه الذي حقًا كاد يصيبها بالسأم تجاهلت الهاتف تمامًا و توجهت بخطى واسعة نحو غرفته ودلفت دون حتى أن تطرق بابها، وحينها وجدت ما لم تحسب حسابه قط لتتعالى وتيرة انفاسها وظلت تتراجع للخلف وهي تشعر بأن كل خلية بجسدها تنتفض من شدة ذعرها حين سقطت عيناها عليه هو بطلته القاسية التي لا تعرف اللين وبعيناه التي يسطع بها المكر قائلًا :
– كيفك يا بنت “غالية” توحشتك؟
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خطايا بريئة)