روايات

رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل الثامن والأربعون 48 بقلم سارة علي

رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل الثامن والأربعون 48 بقلم سارة علي

رواية حبيسة قلبه المظلم الجزء الثامن والأربعون

رواية حبيسة قلبه المظلم البارت الثامن والأربعون

حبيسة قلبه المظلم
حبيسة قلبه المظلم

رواية حبيسة قلبه المظلم الحلقة الثامنة والأربعون

وقفت حياة في منتصف المطبخ تعد الطعام لنديم الذي كان بدوره يأخذ حماما يزيل من خلاله تعب الليلة الماضية …!!
إنتهت من إعداد طعام الفطور سريعا وبدأت في إعداد المائدة ثم اتجهت بعدها الى الغرفة لتجده يجلس على السرير بملامح واجمة وشعره ما زال مبللا تتساقط منه قطرات الماء بينما المنشفة مرمية جانبه …
رفع بصره نحوها ما إن شعر بوجودها في الغرفة فإبتسمت له برقة وهي تجلس جانبه ، فتسأله وهي تضع كفها فوق كفه :-
” أعددت طعام الفطور لك … تعال معي لتتناول الفطور ثم عليك بالنوم بعدها فأنت متعب جدا وهذا واضح عليك ..”
رمقها بنظرات غريبة قليلا …
بدا حائرا جدا ومرهقا جدا …
شعرت بحيرته بل ضياعه عندما سألته بنفس النبرة الرقيقة :-
” هل أنت بخير يا نديم …؟!”
تنهد بصوت مسموع ثم أجاب بلهجة ثابتة وهو يقر بواقع حال :-
“كلا يا حياة .. انا لست بخير ولن أكون بخير حتى يخرج عمار من حياتي الى الأبد …”
كان معه حق وهي تعلم ذلك …
أخوه لن يتركه وشأنه مهما حدث ..!
ما حدث البارحة مجرد تنبيه مبدئي …
تنبيه لما هو قادم وكم تخشى ما سيقدم عليه ذلك العمار …!!
حاولت أن تخفف عنه وهي تبتسم له :-
” لا تفعل ذلك … أنت مظلوم… الله معك دائما يا نديم … لا تنسى هذا أبدا ..”
هتف بنبرة متألمة :-
” تعبت يا حياة … نفذ صبري ولم يعد لدي قدرة على التحمل …. ”
أخذ نفسا عميقا ثم أضاف ببوح مختلف محمل بكم هائل من الوجع والضعف :-
” إلى متى سأدفع ثمن أخطاء غيري ..؟! إلى متى سأتحمل ما يحدث معي …؟! كل شيء ينحدر نحو الأسود … كل شيء يا حياة …”
ابتسم بمرارة وهو يضيف :-
” لقد كُتِبت التعاسة عليّ الى الابد … تعاسة لم يعد بمقدوري تحملها ولا التعايش معها … ”
تهدجت أنفاسه وهو يسترسل :-
” أنا أيضا بشر … بشر ولدي طاقة تحمل … وطاقتي نفذت … لم يعد بمقدوري التحمل أكثر … يجب أن ينتهي كل هذا … يجب أن ينتهي بأي شكل …”
هتفت حياة بخفوت :-
” معك حق … والله معك حق ولكن ما الحل برأيك …؟! ”
أضافت وهي تنظر الى عينيه بقوة :-
” عمار لديه أساليبه الخاصة وهو لن يتوانى عن إستخدامها في اي لحظة لذا لا حل أمامك سوى تجاهله والصبر وإلا …”
أخذت نفسا عميقا ثم قالت بصراحة :-
” وإلا ستدخل في حرب علنية معه … حرب لن تخرج منها سالما حتى لو إنتصرت … فأنت إذا خسرت في حربك معه ربما ستخسر حياتك كلها وإذا إنتصرت ستخسر إنسانيتك لإنك ستضطر في حربك معه أن تتخلى عن إنسانيتك بل وتلجأ لأساليبه كي تنتصر عليه …”
غامت عيناه بنظرة بعيدة المدى وعقله يؤكد كلامها…
وفي داخله حروب متضادة ما بين قلب يرفض الخوض في معركة نتائجها محسومة وبين عقله الذي يطلب منه المحاربة لأجل مستقبله مجهول المعالم ولأجل إستعادة الماضي ولأجل الكثير …
شعر بكفها تضغط على كفه بخفة فوضع كفه الأخرى فوقها يضغط عليها بلين بينما عينيه ما زالتا شاردتين كأفكاره تماما …
سمع همسها له وهي تطلب منه أن ينهض ويذهب معها لتناول الطعام فأطاعها بصمت وهو ينهض من مكانه ويسير معها نحو المطبخ ليجدها أعدت المائدة حيث وضعت عدة أشكال من الطعام وصنعت له العصير البارد …
سمعها تردد وهي تضع العصير أمامه بعدما جلس على كرسيه :-
” لم أصنع القهوة اليوم كالعادة … تناول العصير فهو أفضل والأهم إنك يجب أن تخلد الى النوم بعد تناول الطعام ….”
وجدته يقبض على كفها بعدما وضعت العصير أمامه فنظرت له بتعجب ليرفع عينيه نحوها يخبرها :-
” تناولي الطعام معي …”
ابتسمت برقة قائلة :-
” سأفعل بالطبع …”
ثم اتجهت نحو الثلاجة تخرج قنينة الحليب البارد لها وتصب لها كأسا كبيرا من الحليب …
جلست قباله ترتشف الحليب وتتناول القليل من الطعام بينما توقف عن تناول طعامه وأخذ يتأملها للحظات دون أن تنتبه …
كان يعلم جيدا إن قراره سيؤذيها ولكن لا حل آخر أمامه …
يجب أن يقصيها من حياته تماما حتى تنتهي هذه المرحلة الصعبة من حياته ثم بعدها سيقرر ما يفعله ..!
رفعت عينيها نحوه لتجده يطالعها بنظرة غريبة فسألته بعدما إبتلعت لقمتها :-
” لماذا تنظر إلي هكذا …؟!”
أجاب بصدق :-
” أحب أن أنظر إليك دائما … النظر نحوك يمنحني شعورا بالراحة دائما ما أفتقده …”
توردت وجنتيها وهي تحمل كأسها وترتشف منه القليل عندما عاد يسألها بجدية :-
“موعد الطبيبة بعد ساعتين ، أليس كذلك ..؟؟”
أومأت برأسها وهي تجيب :-
” سأعتذر عنه وأؤجله ليوم آخر …”
هتف بصوت قاطع :-
” بل سنذهب بعد ساعتين …”
هتفت بجدية :-
” أنت متعب يا نديم والموعد يمكن تأجيله … ”
قال بإصرار :-
” سنذهب يا حياة …يجب أن نطمئن عليك وعلى الطفل …”
ابتسمت مرددة :-
” ما بالك يا نديم ..؟! انا بخير الحمد والطفل كذلك …”
سأل بتذمر :-
” لا أفهم لماذا تعاندين يا حياة ..؟! أين المشكلة في ذهابنا اليوم الى الطبيبة ..؟!”
ردت بحيادية :-
” لإنك متعب وتحتاج الى الراحة .. منذ البارحة وأنت لم تنم …”
قاطعها ببرود :-
” عادي … منذ البارحة وأنا في مركز الشرطة بعد إتهامي بشيء لا أعلم عنه شيئا … ”
أضاف وهو يحمل كأس العصير مجددا :-
” الأمر عادي بالنسبة لي فوق ما تتصورين …”
همست بخفوت :-
” أنت لست بخير يا نديم …”
أضافت بتمهل :-
” أتفهم إن ما حدث صعب بل …”
قاطعها بدوره :-
” أنت لن تتفهمي أبدًا طالما لم تعيشِ التجربة بنفسك لكن عليك أن تستوعبي الحقيقة وتعترفي بها وتتصرفي على أساسها …”
سألته بتردد :-
” ماذا تعني ..؟!”
رد بهدوء :-
” يعني أن تقصي عواطفك جانبا وتفكري في مصلحتك أنتِ وطفلك …”
بهتت ملامحها فأكمل بقوة :-
” وإذا لم تفعلِ فأنا من سيفعل …”
” أنا لا أفهم …”
سألته بملامح بدأت بالشحوب عندما أجاب بثبات غير آبها بقسوة ما يقوله :-
” سننفصل يا حياة … سنتطلق …”
نطقتها والرجاء في عينيها ألا يفعل يقتله :-
” أنت تمزح …”
هز رأسه ينفض العاطفة من قلبه لأجلها هي :-
” انا لا أمزح يا حياة .. ”
أكمل بنفس القسوة :-
” وجودك في حياتي يعيقني عن إتخاذ أي خطوة حقيقية … ”
همست مدهوشة :-
” أنا يا نديم …”
تجاهل الضعف في عينيها ونبرة صوتها وهو يقسو أكثر :-
” نعم أنت يا حياة …”
أضاف بتمهل ونبرة باردة :-
” أنت يجب أن تخرجي من حياتي … لأجلي أنا ولأجلك أنت ايضا …. المرحلة القادمة من حياتي لا تناسبها وجودك … انا لدي مخططات ووجودك معي سيمنعني عن تحقيق ما أريده …”
هتفت بصعوبة :-
” المخططات تلك تتضمن الإنتقام من عمار …”
هز رأسه وهو يضيف :-
” نعم حتى لو كلفني ذلك الكثير ….”
أضاف مكملا :-
” طوال وجودك معي فأنا سأبقى مقيدا بك رغما عني .. ”
تمتمت بخفوت :-
” تريد التحرر مني كي تتصرف كما تشاء وتفعل ما تريد … كي لا تفكر في غيرك ولا تخشى على أي أحد قد يصيبه الأذى بسبب انتقامك …”
” نعم ، هو كذلك …”
تنهد وأضاف :-
” أنت تعلمين إن وجود في حياتي يعرضك للخطر ويعرض طفلك أيضا ..”
قاطعته من بين أسنانها :-
” طفلنا يا نديم … لا تتحدث وكأنه طفلي لوحدي …”
همس رغما عنه :-
” ليته لم يكن طفلي …”
شهقت بوجع عندما أضاف بثبات :-
” نعم يا حياة .. ليته لم يكن طفلي … ليتك لم تحملي به …”
صاحت بحدة :-
” توقف يا نديم ..”
همس بجمود :-
” لن أتوقف … أنا سأنجب طفلا للعالم لن يتحمل فقط ماضي والده التعيس بل سيتحمل حقد عمه الأسود على والده …”
إسترسل بخوف بل رعب يسيطر عليه :-
” عمار لن يتركني وشأني مهما حدث وعندما يصبح لدي طفل من صلبي ، لن يتوانى لحظة واحدة عن إستغلاله للإنتقام مني وهو يدرك إن هذا الطفل سيكون نقطة ضعفي … على العكس تماما بوجود هذا الطفل سيجد فرصة لإيلامي أكثر وتدميري أكثر …”
أخذ نفسا عميقا ثم قال :-
” أنت رأيتِ بنفسك مدى حقده وجنونه …. ”
قالت بتشبث :-
” ولكن هذا ليس حلا .. الإنفصال ليس حلا …”
قاطعها :-
” يجب أن نفعل ذلك حتى أنتهي من عمار او ينتهي هو مني .. وفي كلتا الحالتين سأضمن على الأقل سلامتكما …”
” نديم …”
قالتها بترجي تجاهله بقوة
” أنت يجب أن تغادري حياتي .. يجب أن تفعلي ..”
أكمل يقسو على نفسه قبلها :-
” أنا سأطلقك يا حياة … شئت أم أبيت سأفعل ..”
وقبل أن تتحدث مجددا كان صوت هاتفه يصدح في ارجاء المكان بإسم شقيقته ..
………………………………..
غادر الطبيب بعدما أخبرها بمدى صعوبة وضع والدتها التي أصابتها جلطة قلبية شديدة ستبقى على آثرها في غرفة العناية المشددة تحت الملاحظة الدائمة عسى ولعل تتحسن حالتها تدريجيا رغم صعوبة ذلك قليلا ..
جلست على الكرسي جانبها ودموعها بدأت تتساقط فوق وجنتيها بغزارة …
والدتها بين الحياة والموت وهي سببا رئيسيا في ذلك …
لقد قست على والدتها طوال الأيام السابقة وإذا حدث لها شيئا فلن تسامح نفسها أبدا ….
توقفت عن بكائها وهي ترى الممرضة تتقدم نحوها فإنتفضت من مكانها بهلع عندما سمعت الممرضة تخبرها :-
” المريضة تريدك يا آنسة … إدخلي إليها وتحدثي معها ولكن لا تطيلي الحديث من فضلك ..”
كفكفت غالية دموعها بسرعة وهي تردد :-
” حسنا …”
ثم همت بالدخول عندما أوقفتها الممرضة بحرص :-
” ملابس الوقاية يا انسة …”
تمتمت غالية معتذرة :-
” آسفة حقا لكنني نسيت …”
ابتسمت لها الممرضة مرددة :-
” لا بأس .. تفضلي معي لترتدي ملابس الوقاية …”
سارت غالية خلف الممرضة حيث سارعت ترتدي ملابس الوقاية المخصصة للدخول الى غرفة العناية المشددة عندما دلفت أخيرًا الى داخل الغرفة لتشهق باكية لا إراديا ما إن رأت والدتها ممددة بتلك الطريقة فوق سرير المشفى والأجهزة الطبية تحيط بها وترتبط بجسدها …
بالكاد سيطرت على دموعها وهي تتجه بلهفة نحو والدتها تهمس لها :-
” ماما حبيبتي …”
فتحت صباح عينيها ما إن سمعت نبرة إبنتها فتمتمت بصوت ضعيف :-
” غالية …”
غمغمت غالية من بين دموعها :-
” ستصبحين بخير يا ماما … ستعودين إلينا سالمة بإذن الله ….”
همست صباح بصوتها الضعيف وهي تبعد غطاء الأوكسجين عن وجهها :-
” لا يهم … ما يهم أن أرحل وقلبي مطمئن عليكما …”
كتمت غالية شهقة باكية كادت تصدر منها وهي تهتف بسرعة :-
” لا تفعلي يا ماما … انت ستصبحين بخير … انا متأكدة من ذلك …”
أكملت وهي تقبض على كفها :-
” سامحيني … لقد أحزنتك كثيرا … أنا آسفة يا ماما …”
غمغمت صباح بأنفاس متعبة :-
” بل أنت من يجب أن تسامحيني يا غالية … وكذلك شقيقك …”
أخذت نفسا طويلا ثم أضافت بترجي :-
” سامحيني ودعيه يسامحني إذا رحلت قبل رؤيته …”
هتفت غالية بجزع :-
” كلا لن ترحلي .. انت ستصبحين بخير باذن الله …”
همست صباح رغم تعبها :-
” اسمعيني يا غالية … انا تسببت بالأذى لجميع من حولي ….”
ترقرقت الدموع داخل عينيها :-
” وخاصة ديانا … انا كنت سببا في إنتحارها … لقد دمرت سمعتها و …”
توقفت وهي تشعر بأنفاسها تتثاقل فهمست غالية ترجوها :-
” لا تتحدثي أكثر … الحديث يتعبك …”
لكن صباح عارضتها وهي تمنعها من إعادة غطاء الأوكسجين فوق وجهها :-
” دعيني أقول ما لدي يا غالية … ”
أضاف بنبرتها الضعيفة :-
” أنا أحببت والدك حقا … أحببته أكثر من أي شيء .. لكنه لم يحبني بل لم يراني يوما …”
عادت تأخذ نفسا طويلا ثم تضيف وهي تشعر بعدم قدرتها على الحديث بعد :-
” ما قاله عمار صحيح … انا تسببت بإنتحارها … ”
سقطت دمعة فوق وجنتها وهي تضيف :-
” ومنذ ذلك اليوم وأنا أدفع ثمن خطيئتي تلك …”
” ماما من فضلك …”
قالتها غالية بتوسل باكي لتهتف والدتها :-
” انا آسفة على كل شيء .. سامحيني ودعي شقيقك يسامحني …”
قالت غالية بدموع حارقة :-
” انت من سامحيني يا ماما .. سامحيني على كل شيء … لقد تعاملت معك بطريقة سيئة .. انا نادمة حقا .. نادمة اكثر مما تتصورين …”
قالت صباح بصدق :-
” لم أغضب منك كي أسامحك … انت ابنتي الوحيدة .. ابنة قلبي وقرة عيني …”
ثم اخذت تبحث عن كفها عندما قبضت عليه بعدما وجدته وهي تخبرها :-
” عديني أن تكوني قوية دائما كما عهدتك … وأن تكوني سعيدة …. ”
أضافت بنبرة ضعيفة باكية :-
” شقيقك يحتاجك يا غالية .. لا تتخلي عنه وتذكري دائما إنني أحبك وسامحيني ….”
” ماما ….”
قالتها غالية باكية لتضيف صباح وقد بدأت أنفاسها تشتد :-
” دعي نديم يسامحني .. دعيه يسامحني يا غالية .. أخبريه إنني أحبه كثيرا وإنني آسفة على ما أصابه كثيرا … أخبريه أيضا إنني أريده أن يعيش مرتاحا سعيدا وينسى الماضي بكل ما فيه ويسامحني … دعيه يسامحني بالله عليك …”
” سامحتك يا ماما وهو كذلك .. والله سامحتك …”
ابتسمت صباح بألم مرددة :-
” كنت أريد رؤيته للمرة الأخيرة … تمنيت أن أراه وأرى طفلته ….”
تساقطت دموعها بغزارة فأضافت وهي تلهث :-
” أخبريه إنه سيحيا سعيدا وسيعوضه الله خيرا عما جرى له وسيمنحه الذرية الصالحة بإذنه تعالى … وصيتي له أن يحيا سعيدا مطمئنا وينسى الماضي بكل ما فيه وأن يسمي إبنته القادمة شمس فأنا حلمت منذ يومين إن الله عز وجل رزقه بفتاة جميلة كالبدر في تمامه أسماها شمس …”
” ماما …”
هتفت بها غالية بتوسل عندما شعرت بيد والدتها ترتخي تدريجيا وأنفاسها تختفي حتى صدح صوت الجهاز يخبرها إن قلب والدتها توقف فصرخت بفزع وهي تحتضن جسد والدتها بقوة وتشبث عندما تقدمت الممرضة راكضة نحوها هي وطبيب شاب في المشفى فسارعوا يحاولون إبعادها عنها وهي تتشبث بها وترفض أن تتركها ..!
لا تعرف بعدها كيف غادرت الغرفة بل كيف إستطاعوا إبعادها عن والدتها …
خرجت منهارة بجوار الممرضة عندما رأت شقيقها يتقدم راكضا نحوها وخلفه زوجته ليتجمد مكانه وهو يراها لأول مرة بهذه الهيئة …
كانت هيئتها وحدها دليل على ما حدث …
ودون وعي ولأول مرة تجد نفسها بحاجة لأحدهم فركضت نحوه تتشبث به وهي تصرخ دون وعي :-
” ماما ماتت يا نديم … ماتت …”
بينما بقي نديم جامدا للحظات دون أن يرمش بعينيه حتى وشقيقته تتشبث به وكل ما يفكر به في تلك اللحظة إنه فقد والدته .. فقدها للأبد …!
………………………………………………….
رمت هاتفها جانبا بحنق شديد …
لا تعلم لماذا تصر على مراقبته بعدما تزوج …؟!
بينما هو ينشر صورا يومية له تارة له وحده وتارة مع زوجته …!!
ربما هو يتعمد ذلك … هكذا فكرت رغم إنه معتاد على التفاعل يوميا في حسابه الشخصي …!!
انكمشت على نفسها بملامح مظلمة والحقد والغيرة والتعاسة يسيطران كليا عليها …
سمعت صوت طرقات على باب غرفتها فخرج صوتها مقتضبا وهي تردد :-
” ادخل …”
دلفت ليلى الى غرفتها تتأملها وهي تجلس بتلك الطريقة المتحفزة وعينيها تشتغلان بنظرات حادة تسبب القلق …
” مريم …”
تمتمت بها ليلى مدهوشة وهي تتقدم نحوها عندما جلست جانبها تسألها بإهتمام :-
” ما بالك تجلسين هكذا وملامحك تنطق بالغضب …؟!”
تدفق الكلام من فم مريم دون وعي بعدما تحكم بها إنفعالها كليا :-
” الخائن .. ينشر صوره يوميا مع الحمقاء التي تزوجها … كاذب ولعين …”
تنهدت ليلى وهي تستمع لحديثها عن خطيبها السابق وابن عمهما فقالت بجدية :-
” لا تحزني يا مريم … لو كان خيرا لبقى …”
نهضت مريم من مكانها تتحدث بإنفعال :-
“انا لا أصدق إنه نساني بهذه السرعة .. تجاوز حبي بل وتزوج أخرى غيري … وكأنني لم أكن شيئا يذكر …”
رغما عنها ابتسمت ليلى بتهكم فرفعت مريم حاجبها بإستفهام لتأخذ ليلى نفسا عميقا ثم تردد :-
” آسفة ولكن ما الغريب فيما تقولينه …؟! في النهاية هو رجل .. مثله مثل جميع الرجال … قلوبهم تنسى بسرعة خرافية تستحق الإعجاب … هذا إذا كانوا يمتلكون قلوبا تحب بصدق من الأساس …”
هزت مريم رأسها بعنف تنفي حديث شقيقتها :-
” كلا يا ليلى … أكرم كان يحبني بحق … انتظرني لسنوات طويلة … تحملني كثيرا وتقبل صفاتي المنفرة لكثير من الشباب غيره ….”
” هذا ليس مقياس يا مريم …”
قالتها ليلى بثبات لتسأل مريم بحيرة :-
” ما المقياس إذا يا ليلى ..؟!”
هزت ليلى كتفيها تجيب بجهل حقيقي :-
” لا أعلم ولا أعتقد إنني سأفعل….”
اتجهت مريم نحوها وجلست جانبها تهمس بضعف نادرا ما يظهر عليها :-
” انت تعلمين إنني أحببته حقا وإنني خططت لحياتي كاملة معه …”
هزت ليلى رأسها وهي تخبرها بشفقة صادقة :-
” أعلم يا مريم لكنه ليس نصيبك …”
قاطعتها مريم بوجع :-
” لو أخبرني فقط … لو لم يفعل بي هذا … عندما تحدثنا لآخر مرة كان طبيعيا للغاية و …”
كتمت دموعها بصعوبة وهي تردد :-
” كيف فاجئني هكذا ..؟! كيف تزوج فجأة بعد بضعة أيام ..؟! لماذا فعل بي هذا ..؟! انا لا أفهم حقا …”
سألتها ليلى بتردد وعي تتذكر تلك الصور من جديد :-
” هل أنت متأكدة إنه لم يحدث شيء جعله يتصرف كذلك ..؟!”
عقدت مريم حاجبيها تردد بتعجب :-
” شيء مثل ماذا ..؟! لا يوجد اي شيء اساسا …”
ابتلعت ليلى بقية حديثها داخل حلقها وهي تربت على كف شقيقتها تخبرها :-
” لا بأس يا مريم … هو الخاسر بالتأكيد …”
أضافت وعيناها أظلمتا كليا :-
” هذا الواقع للأسف … نحن في حياة الرجال لسنا سوى محطات لا بد أن تنتهي يوما ما وتأتي محطة جديدة في الحياة بدلا عنا …”
نظرت لها مريم مرددة بحيرة :-
” لا أصدق إنك من تقولين هذا .. منذ متى وأنت تمتلكين هذه النظرة …؟! ”
أضافت بخيبة :-
” لا سامحك الله يا نديم … هو من تسبب بذلك …”
ابتسمت ليلى بسخرية مريرة فقط :-
” نديم وغيره أيضا …”
نظرت لها مريم بتأهب بينما ليلى تضيف بببوح مخنوق :-
” نديم وبعده والدك العزيز وغيرهما … هل تصدقين إن صدمتي بوالدي تحديدا لا توازيها صدمة ..؟!”
نظرت مريم بأسى لها فأكملت ليلى بخفوت :-
” انا عايشت قصة حبه مع والدتي طوال سنوات عمري السبعة والعشرين … عايشت قصة حبهما لحظة بلحظة … كنت أرى العشق الجارف في عينيه والإهتمام وكل شيء … عشقه لها كان ظاهرا للجميع دون مواراة لدرجة إنني كنت أسأل نفسي مرارا إذا ما سيكون نديم مثل والدي ويحبني بنفس الطريقة حتى بعد عشرين عاما من زواجنا واكثر … ”
تشكلت إبتسامة مريرة فوق ثغرها وهي تهمس :-
” وفي النهاية لا نديم ولا والدي نفسه بقيا على مشاعرهما …”
سألتها مريم بتردد :-
” وكنان ..؟! ما وضعه معك ..؟! لماذا قبلت الزواج منه وهذا رأيك بالحب والرجال عموما ..؟!”
ردت ليلى ببساطة :-
” لإنني إخترت بناء على عقلي …”
أكملت تشرح لها :-
” علاقتي مع كنان بعيدة عن الحب والمشاعر عموما .. ليست علاقة عاطفية … علاقتي به مختلفة … إرتباط عقلاني بحت … انا لا أحبه ولا أمتلك مشاعر خاصة نحوي وهذا يكفيني تماما ويحميني من أي خذلان مستقبلا … ”
نظرت لها مريم بدهشة لتضيف ليلى وهي تبتسم بثقة :-
” أعتقد إن راحة الأنسان الحقيقة عندما يحمي قلبه من التعلق بأحدهم … عندما يحافظ على توازن مشاعره دائما .. مشاعري ناحية كنان حيادية وهو يعلم ذلك ولا يعترض لإنه هو الآخر مشاعره حيادية نحوي …لكنه في نفس الوقت رجل جذاب وثري وذو مكانة محترمة ويمكنني الإعتماد عليه دائما .. يعني هو يصلح ليكون زوجي وأب لأطفالي وفي نفس الوقت لن أحزن إذا ما خانني يوما او خذلني بأي طريقة كانت .. علاقة مريحة تماما ونتاجها عائلة وأطفال أحتاجهم في حياتي …”
سألت مريم بجدية :-
” هل أنت متأكدة من حيادية مشاعره نحوك ..؟!”
هزت ليلى رأسها بإيجاب وهي ترد :-
” بالطبع .. كنان ليس رجلا عاطفيا أبدا … هو أرادني زوجة لإنني أناسبه وأشبه ما يريده في زوجة المستقبل …”
تنحنت مريم تردد :-
” برأيي ألا تتعجلي في قرار زواجك منه … ”
نظرت لها ليلى بإستنكار فأضافت مريم بجدية :-
” أنت إمرأة عاطفية يا ليلى .. عاطفية بالفطرة وهذا شيء لا يعيبك بالمناسبة …. إرتباطك بهذه الطريقة التي لا تشبهك هي نتيجة تجربتك السابقة وما تعرضت له وهذا خطأ كبيرلإنك مهما حاولت أن تغيري من نفسك وطريقة تفكيرك ووجهات نظرك سيأتي يوم وتحتاجين الى الحب الذي تتجاهلينه حاليا عن عمد … لا بد أن تغلبك عاطفتك يوما يا ليلى مهما حاولت ترويضها … وعندما يحدث هذا ستشعرين بالورطة لإنك تزوجت بتلك الطريقة من رجل لا تحملين أي عاطفة نحوه … ”
تغضن جبين ليلى للحظات لكن سرعان ما ابتسمت وهي تخبر مريم بتهكم :-
” منذ متى وأنت تتحلين بكل هذا العقل يا مريم …؟!”
فهمت مريم رغبتها بالهروب من الحديث فضحكت مشاغبة رغم الألم الذي ما زال يسيطر عليها :-
” انت لم ترِ شيء بعد …”
ابتسمت ليلى وهي تربت على كتفها عندما رن هاتفها لتخبرها بجدية وهي تنظر نحو الهاتف المضيء بإسم خطيبها :-
” كنان وصل .. يجب أن أغادر الآن ..”
سألتها مريم وهي تنهض من فوق سريرها معها :-
” ستذهبين الى قصره …”
أجابت ليلى :-
” نعم ، سأراه لإننا غالبا سنعيش فيه بعد الزواج ..”
رفعت مريم حاجبها تردد مستهجنة :-
” وشروطك عن منزل قريب من هنا ..”
ابتسمت ليلى مرددة بخفة :-
” كان نوع من الاختبار ليس الا …”
غمغمت مريم بمكر :-
” اختبار أم محاولة لإفشال الخطبة ..؟!”
تجاهلت ليلى حديثها وهي تقبلها من وجنتها وتخبرها :-
” إعتني بنفسك ولا تحزني لأجل أي شخص … حسنا …”
احتضنتها مريم بحب قبل أن تتابعها وهي تغادر غرفتها فتتنهد بصوت مسموع وهي تعاود الجلوس فوق سريرها بملل لا يخلو من الكآبة ..
………………………………………………..
بعد حوالي نصف ساعة هبطت ليلى من سيارته بعدما فتح لها الباب لتتأمل بوابة القصر الفخمة بإعجاب لحظي سرعان ما إختفى وهي تتذكر إنها لم تسأله إذا ما كان يعيش لوحده هنا أم هناك خدم في المكان غير الحرس في الخارج ..
ورغم كونها باتت زوجته لكنها لن تدخل الى الفيلا معه لوحدها مهما حدث ورغم تأكيد وجود خدم في القصر الضخم فهو لا يمكن أن يعيش لوحده لكن هواجسها سيطرت عليها فقررت السؤال رغما عنها بسبب شكوكها الغبية ..!!
” هل تعيش لوحدك ..؟!”
سألته بتعجب ليجيب وهو يفسح لها المجال لتسير أمامه :-
” نعم …”
تراجعت الى الخلف للحظة ترمقه بملامح أباحت بما فكرت به عندما أدركت إنه يعيش وحيدا في هذا القصر الشاسع ليبتسم بخفة مضيفا :-
” يوجد في الداخل مدبرة منزل وأكثر من خادمة …”
أضاف متأملا إحراجها :-
” إطمئني يا ليلى .. أعرف جيدا إنك لن تدخلي هذا القصر لو لم يكن فيه أحد سواي انا وانتِ ..”
حدقت به بصمت للحظات قبل أن تشمخ برأسها وتسير الى الداخل مرددة :-
” جيد إنك تعلم ذلك …”
إستقبلتها مدبرة المنزل بإبتسامة واسعة عندما أشار كنان نحو ليلى يعرفها عليها قبل أن يعرفها على مدبرة منزله والتي كانت تمتلك وجها هادئا لطيفا للغاية بسنوات عمرها التي تجاوزت الأربعين :-
” صوفيا … مدبرة القصر والمسؤولة عن كل شيء …”
إبتسمت ليلى بود مماثل وهي تحييها عندما سارت جانبه تتأمل القصر شديد الفخامة بغرفه الواسعة وأثاثه الراقي الذي تم إنتقاؤه بحرص شديد ..
لم تستطع منع فضولها من سؤاله :-
” لماذا لا تعيش مع عائلتك ..؟!”
رد بإعتيادية وهو يقف جانبها في صالة الجلوس الواسعة جدا :-
” لا يمكنني التأقلم تماما مع عادات شريفة هانم نصار ..”
معه حق ..
هكذا فكرت وهي تتذكر تلك المرأة كبيرة السن بكل قوتها وصلابتها وتسلطها …!!
مرة واحدة رآتها فيها كانت كافية لتدرك طبيعتها وتعنتها وفوقيتها المبالغ فيها وإعتدادها بنفسها وأصولها العريقة لتشعر بمدى صعوبة التفاهم مع شخص مثلها ..!!
أفاقت من شرودها وهي تسمعه يخبرها :-
” لنذهب الى الحديقة الخلفية .. ستعجبك كثيرا…”
خرجت من خلال الشرفة المطلة على الحديقة الخلفية لتتأمل الحديقة الواسعة بأشجارها الكثيفة وزهورها الخلابة بل إن كل شيء بها خلاب و رائع ….
سار بها نحو ذلك المنزل الصغير الخاص بكلبه الضخم والذي قفز من مكانه ما إن رأى صاحبه يتقدم نحوه ..
تأملت الكلب الضخم بمظهره الذي بدا مخيفا للوهلة الأولى عندما هبط كنان هو بجواره يمرر يده فوق رأسه مرددا وهو يعرفها عليه بفخر :-
” هذا روكَي .. ”
أشار الى الكلب الذي مال نحوه يلعقه وجهه بفرحة لقدومه :-
” وهذه ليلى يا روگي ..”
نظر روگي نحوها لا إراديا مستمعا لحديث صاحبه عندما أشار له يخبره والأخير يفهم عليه وكأنه صديقه :-
” سلم على ليلى يا روگي ..”
لكن الكلب تجاهل وجودها ولم يفعل ما إعتاد أن يفعله مع البقية وكأنه شعر بخطر وجودها حول صاحبه وإستحواذها على جزء أساسي من حياته وربما قلبه ..
كرر كنان حديثه بنبرة جادة :-
” سلّم عليها يا روگي …”
منحها روگي نظرة تظهر عدم رغبته بوجودها فكتمت ضحكتها بصعوبة عندما هدر كنان بنبرة حازمة قوية :-
” هيا يا روگي ..”
وأخيرا إستسلم روگي لأمر صاحبه ووقف أمامها يمد قدمه نحوها فإنحنت ليلى تبتسم برقة وهي تلتقط قدمه وتردد بينما عينا كنان تتأملها بقوة :-
” أهلا روگي ..”
ثم مسحت فوق رأسه ليستسلم الكلب لها على مضض عندما هتف كنان وهو يمسح فوق رأسه :-
” سيحبك .. هو فقط يحتاج الى فترة حتى يعتاد على الغرباء …”
هزت رأسها بتفهم وهو تردد كاذبة :-
” انه لطيف …”
قال بجدية :-
” هو ليس كذلك … ”
نظرت له بدهشة ليبتسم بمكر وهو يضيف :-
” روگي تحديدا لا تليق به كلمة لطيف أبدا .. هو شرس جدا ومشاكس جدا ومزعج في أغلب الأحيان …”
هزت رأسها بصمت عندما أضاف :-
” لكنه إذا أحب شخصا ما يتحول تماما … يفديه بروحه إذا إقتضى الأمر .”
أنهى حديثه بإقرار :-
” سيحبك وترين ذلك عندها …”
” ربما لن يحبني ..”
قالتها وهي تهز كتفيها ببساطة ليهتف مبتسما بغموض :-
” لا أحد يستطيع ألا يحبك …”
كسا الوجوم ملامحها وعاد الإضطراب يغزوها عندما أضاف وعيناه كانتا تحتضنانها كليا هذه المرة :-
” لا أحد يعرفك دون أن يُغرم بك …”
يوترها … وجوده يوترها .. حديثه يوترها .. كل شيء به يعبث بروحها دون رحمة …
منحته نظرة جاهدت لجعلها عادية وهي تهتف :-
” شكرا على هذه المجاملة اللطيفة …”
تمتم بهدوء :-
” انا لا أجامل .. لا أجيد المجاملة أساسا ..”
أضاف بقوة :-
” انا فقط أقول الحقيقة …”
” آية حقيقة ..؟!”
سألته بتلعثم جديد عليها ليمنحها إبتسامة شديدة الجاذبية وهو يهتف :-
” إنك رائعة .. جميلة و مثالية لدرجة تبدين وكأنك آتية من الخيال البعيد ولستِ واقعا حقيقيا…”
أخذ نفسا عميقا مضيفا بكلماته التي تعبث على أوتار أنوثتها رغما عنها :-
” أنت أميرة .. أميرة بحق .. محظوظ من يمتلكها وينال قلبها وروحها …”
قالت بحزم وعيناها تنظران له بتحدي :-
” أخبرتك إن هذا مستحيل .. لا تبني آمالا كاذبة … لا وجود للمشاعر بيننا و ..”
قاطعها ببرود :-
” انتِ قلتِ كلمتكِ وأنا إحترمتها … تفهمت هذا … إستوعبته … أنت قلتِ ما عندك أما القادم فهو عندي … انت لا تهتمي ولا تفكري … فقط إتركي نفسك للتيار وهو سيأخذك الى المكان الذي سيستقر به قلبك ويجد مرساه …”
أغاظتها كلماته بل وثقته المفرطة بنفسه فتمتمت ببرود متعمد يشابه بروده المغيظ :-
” أعتقد إننا تحدثنا عن هذا مسبقا وانت تعرف بعدم وجود العواطف بيننا أو من ناحيتي على الأقل … ”
ابتسم بهدوء رتيب متمتم :-
” أخبرتك إنني أعلم ذلك وأحترمه جدا ولكن …”
توقف قليلا وهو ينظر في عينيها بهدوء أربكها فأكمل ونفس الإبتسامة الهادئة ترتسم فوق ثغره :-
” ما زلنا في البداية وما زال طريقنا طويل .. انا لا أطلب منك العاطفة وأنت تعرفين ذلك لكن من حقي أن أسعى للحصول عليها يوما وهذا لن يضرك بشيء …”
ردت بإقتضاب :-
” لن تحصل على شيء كهذا مني وانت تعلم ..”
سألها بجدية :-
” لإنك لا تريدين ذلك …؟! أليس كذلك ..؟!”
تبادلا النظرات ليضيف :-
” لإنك ترفضين الحب أو لأكن أكثر دقة فأنت تخشينه … وأنا لا ألومك …”
احتقنت ملامحها بينما يضيف :-
” تجربتك الأولى في الحب كانت صعبة ومؤلمة لذا لا يمكنني لومك ولكنني أعدك إنك ستتجاوزين آلام الماضي بكل ما فيها وستجدين حبا جديدا ومختلفا معي … حبا صادقا ومريحا وقويا يصمد في وجه أي شيء مهما بلغت صعوبته …”
ابتلعت ريقها وهي تسأل بسخرية تخفي بها توترها :-
” ما كل هذه الثقة …؟! انت تتحدث بثقة غريبة ..”
” ثقتي في محلها وستعرفين هذا قريبا ..”
قالها وهو يبتسم بهدوء لترفع حاجبها مرددة بإستخفاف متعمد وغزوه مشاعرها بتلك الطريقة تزعجها :-
” انت تحلم بالتأكيد …”
تقدمت بخطوتين نحوه وهي تضيف :-
” لم أكن أعلم إنك تسعى لإمتلاك قلبي في هذ الزيجة .. لم يكن هذا منطوق حديثك قبل الخطبة …”
هتف ببساطة :-
” أليس من الطبيعي أن أسعى لإمتلاك قلب زوجتي يا ليلى …؟! ما الغريب في حديثي …؟!”
تمتمت بإرتباك :-
” انت قلت …”
لكنه قاطعها ببرود :-
” انا لم أقل شيئا بخصوص هذا الأمر حسب ما أتذكر …”
همست بجمود :-
” دعنا نغادر ….”
أوقفها وهو يقبض على كفها يمنعها من التحرك :-
” توقفي لحظة …”
أضاف وهو يلتقط نظراتها الرافضة لما يحدث :-
“يجب أن تري القصر كاملا …”
أزاحت خصلة من شعرها خلف اذنها وهي ترد :-
” لا داعي لذلك … أعجبني أساسًا وهو مناسبا حقا لنسكن فيه بعد الزواج …”
كتمت شهقتها وهي تراه يجذبها نحوه وينحني نحوها مرددا بثبات :-
” انت شجاعة يا ليلى بل محاربة … الهرب لا يليق بك …. ”
تلعثمت وهي تنطق :-
” ماذا تقصد ..؟!”
ابتسم بهدوء وكفه تحرر كفها بينما تتحرك فوق خصلاتها الشقراء :-
” لا تهربين مني يا ليلى .. انا زوجك وقريبا سنكون سويا … لا الهروب حاليا حل ولا محاولة نأي قلبك عني هو الحل .. أخبرتك أن تتركي كل شيء كما هو .. لا تضغطي على نفسك ولا تتصرفي بطريقة لا تشبهك والأهم لا تهربي لإنك قوية بما يكفي لتجابهي أي شيء بثبات ….”
أنهى كلماته وهو يتأمل الخوف والرهبة في عينيها فمال أكثر نحوها يلتقط قبلة خفيفة من ثغرها ثم يبتعد عنها مجددا لترمش بعينيها بعدم إستيعاب ويغزو الإحمرار وجهها الذي توهج كليا بشكل أشعل الرغبة فيها داخله بقوة لكنه تجاهلها بثبات يحسد عليه وهو يطلب منها ان تتحرك معه ليريها غرف القصر …
……………………………..:…………….
دلف سيف الى جناحها بعدما سمحت له جيلان بالدخول فنهضت من مكانها فورا وهي تراه يبتسم لها بهدوء قبل أن يلقي التحية :-
” صباح الخير يا جيلان …”
ردت جيلان بخفوت :-
” صباح النور …”
تنهد بصوت منخفض ثم تقدم نحوه يلقي نظرة عابرة على بطنها المنتفخة قليلا قبل أن يقول :-
” إنظري يا جيلان .. سبق وعدتك إنني لن أعيدك الى عائلتك حتى تريدين ذلك … ”
إرتبكت كليا وهي تحرك رأسها بإيماءة بطيئة ليضيف وهو يصل لها مرددا :-
” وأنا سألتزم بوعدي ولن أتراجع عنه مهما حدث …”
شكرته بصوت متردد :-
” شكرا ….”
ابتسم برحابة وهو يضيف بعدها :-
” عائلتك في الاسفل يا جيلان …”
جحظت عينيها برعب حقيقي فقبض على كفها يخبرها بصدق :-
” لن يأخذونك حتى تريدين أنت ذلك … لقد وعدتك يا جيلان .. ”
أخذ نفسا عميقا وهو يكمل :-
” لكن دعيهم يرونك اولا .. هم يبحثون عنك منذ هروبك دون توقف … دعيهم يرونك ويتحدثون معك ثم سيكون القرار لك بكل الأحوال …”
ظهر التردد ممزوجا بالخوف في عينيها …
الخوف من رؤية عمها وراغب والبقية بعد هروبها بتلك الطريقة …
” لكنني أغضبتهم بعدما فعلته وربما يعاقبونني ….”
هتف يطمأنها :-
” لن يفعلوا ذلك ابدا يا جيلان …”
اكمل بجدية :-
” هم يحبونك للغاية ويخافون عليك كثيرا ولا يريدون سوى رؤيتك سالمة …”
أضاف وهو يشد من عزيمتها :-
” وكي تطمئني فأنا سأكون معك وسأظل اتابع وضعك حتى إذا قررت المغادرة معهم … ”
بللت شفتيها بارتباك فسألها مجددا :-
” هل توافقين على رؤيتهم إذا ..؟!”
هزت رأسها ببطأ رغم الخوف البديهي داخلها فعاد يبتسم لها بحنو وهو يطلب منها أن تتبعه …
سارت خلفه بخطوات بطيئة مترددة عندما هبطت درجات السلم ومنه الى صالة الجلوس حيث يجلس كلا من عمها عابد وولديه راغب وراجي مع كمال والد سيف الذي بدوره إستقبلهما بترحيب شديد وهو الذي يعرفهم جيدا فقد سبق وتعاون معهم في عدة صفقات وما زالت هناك علاقات معرفة أقرب للصداقة بين العائلتين …!
نهض عابد من مكانه بسرعة ما إن رأى جيلان تتقدم خلف سيف نحوهم ليهتف بسعادة :-
” جيلان حبيبتي … وأخيرا رأيتك بخير …”
ثم سار نحوها وهي التي توقفت قباله برهبة ليحتضنها بحنو خالص وهو يتمتم بالحمد والشكر لله …
ابعدها من بين احضانه يردد معاتبا :-
” كيف تفعلين بي هذا يا جيلان ..؟! كدت سأموت من قلقي علي يا حبيبتي … لو تعلمين ما حدث معي طوال الأيام السابقة …”
تمتمت والكلمات بالكاد تخرج من فمها :-
” أنا آسفة …”
قال عابد بصدق :-
” لا عليك يا صغيرتي .. المهم إنك بخير .. هذا كل ما يهم …”
تقدم راجي نحوها يبتسم لها بحنو مرددا :-
” الحمد لله على سلامتك يا صغيرة … أرعبتنا عليك حقا يا جيلان …”
ثم عانقها بمحبة خالصة فاستجابت له للحظات قبل أن تبتعد عنه وهي تبتسم بإرتعاش لترمش بعينيها وهي تنظر الى راغب بهيئته الرزينة الهادئة عندما سار نحوها هو الآخر ومنحها إبتسامة هادئة مرددا بصدق :-
” لم أكن لأسامح نفسي أبدا لو أصابك أي مكروه …”
ثم فتح لها ذراعيه لتنظر له بتردد قبل أن تعانقه بتحفظ فوجدته يطبع قبلة خافتة فوق جبينها مرددا :-
” الحمد لله على سلامتك يا صغيرة آل هاشمي ….”
ارتعش جسدها بقوة وهي تسمع تلك النبرة الحانية لأول مرة منه وهو الذي كان دائما صلبا قويا وشامخا …
ابتعد راغب عنها وهو يبتسم لها بينما قال عابد بجدية :-
” تعالي وإجلسي جانبي يا جيلان .. يجب أن نتحدث …”
أطاعته جيلان وهي تجلس بحذر على الكنبة فيجاورها عمها بينما يجلس كلا من راغب وراجي على الكرسيين جانبها اما كمال وسيف فجلسا على الكنبة المقابلة لها هي وعمها ..
ابتسم عابد مجددا وهو يخبرها :-
” صغيرتي جيلان ، انا لن أعاتبك على هروبك أبدا … أتفهم سبب تصرفك ولكن عديني ألا تكرريها …”
نظرت له بصمت فأضاف بتروي :-
” انا عمك يا جيلان يعني بمثابة والدك … أخبرتك سابقا وسأخبرك مجددا … انا دائما معك وبجانبك .. ثقي بي يا صغيرتي … كان عليك أن تلجئي إلي بدلا من الهروب …”
تمتمت بخجل :-
” أنا آسفة يا عمي …”
” لا داعي للاعتذار يا صغيرتي … الجميع يخطئ وانت لك عذرك …”
قال راجي بدوره :-
” نحن جميعنا معك يا جيلان … سنفعل لك ما تريدنه … انت ابنة عمنا الصغيرة يعني بمثابة شقيقتنا لذا كوني على ثقة إننا دائما معك ندعمك وسندا لك في كل خطوة تخطيها …”
تحدث كمال بدوره وهو ينظر لها :-
” انت لديك عائلة كبيرة ورائعة يا إبنتي … تمسكي بعائلتك فهم سندك وعكازك في هذه الحياة .. ربما الآن لا تدركين ذلك لكن عندما تكبرين ستفهمين مدى أهمية العائلة … عندما تحتاجين شيء ما وتجدينهم دائما خلفك وفي ظهرك حالما تحتاجينهم … عندما يكونون هم السند الذي تحتمين به من اي شيء … حينها ستدركين مدى اهمية وجودهم في حياتك….”
سألتها عابد بجدية :-
” هل توافقين على العودة معنا يا صغيرتي …؟!”
نظرت له بصمت للحظات قبل أن تهز رأسها موافقا فابتسم عمها وهو يعانقها متمتما :-
” حفظك الله لي يا ابنتي وبارك لي فيكِ …”
نهض بعدها الجميع حيث ابتسم كمال لجيلان عندما تحدث عابد :-
” أشكرك حقا يا كمال بك على إستضافتكم ابنتنا عندكم .. ليس غريبا عليكم شيء كهذا .. دائما ما كنتم أصحاب كرم ونخوة ..”
صافحه كمال مرددا :-
” لا داعي للشكر يا بك … لم نقم سوى بواجبنا .. ”
ربت عابد على كفه قبل أن يتقدم نحو سيف وجواره جيلان بينما اخذ كمال يودع راغب وراجي …
أشار عابد لسيف :-
” جميلك لن أنساه أبدًا يا ولدي … أنت حافظت على ابنة أخي حتى عادت إلينا سالمة …”
قال سيف بجدية :-
” لا شكر على واجب يا عماه .. جيلان بمثابة شقيقتي الصغيرة وانا تصرفت بما يمليه علي الواجب …”
أكمل بجدية ونبرة خافتة :-
” انا سعيد بعودتهما معكم وأتمنى حقا أن تراعوها فهي صغيرة وتحتاج للكثير من الرعاية والإهتمام …”
ربت عابد على ذراعه مرددا :-
” لا تقلق يا سيف .. جيلان في عيني … إنها صغيرتنا التي سنحرص دائما على العناية بها ….”
استدار نحو جيلان التي تتابعهما بصمت حتى نظرت الى سيف وابتسمت برقة مرددة :-
” أشكرك كثيرا .. انت ساعدتني وأنقذتني من بقائي وحيدة في الشوارع ..”
هتف سيف مبتسما :-
” على الرحب والسعى يا صغيرة .. اعتني بنفسك جيدا … ”
ثم همس لها دون ان يسمع اخذ :-
” ومتى ما إحتجتني ستجديني معك رغم إن لديك ماشاءالله بدل ابن العم الواحد اربعة …”
ضحكت بخجل فقال وهو يربت على ذراعها :-
” أعتني بنفسك يا جيلان ولا تفعليها وتهربي مجددا..”
هزت رأسها بصمت عندما ودع سيف البقية وهو يسير معهم خارج القصر حتى غادرت جيلان مع عمها وولديه القصر فتنهد براحة بعدما إكتملت مهمته على خير وأعاد الصغيرة الى احضان عائلتها ..
………………………………………………..
” أنت هنا يا مهند …”
قالتها توليب وهي تتقدم نحو شقيقها الذي يجلس في الحديقة الخلفية للقصر داخل تلك الغرفة التي أُعدت للجلوس فيها بشكل عائلي بين الحين والآخر …
رفع مهند عينيه نحوها مرددا :-
” نعم يا توليب .. انا هنا …”
اتجهت تجلس جانبه وهي تتأمل ملامحه الهادئة تماما فمازحته :-
” تبدو شاردا في أمر مهم جدا …”
ابتسم مرددا بسخرية :-
” ولم سأفعل وحياتي والحمد لله مثالية وخالية من أية مشاكل او تعقيدات ..؟!”
هتفت توليب بتروي :-
” لا تفعل يا مهند .. لقد وجدوا جيلان والحمد لله …”
تنهد بصوت مسموع وقال :-
” وهل هذا يكفي من وجهة نظرك ..؟!”
ردت بصدق :-
” كلا ولكن سنرتاح قليلا بعدما كنا نموت خوفا بسبب غيابها …”
تمتم مهند :-
” ما عداي بالطبع … فأنا لم أدرك غيابها الا بعد أيام وما إن أدركته حتى علمنا بمكانها …”
ابتسمت تشاغبه :-
” هذا دليل على إن وجهك خير علينا يا مهند …”
ابتسم بتهكم قائلا :-
” على العكس تماما … كيف سيكون وجهي خير وأنا لا أتسبب سوى بالأذى لجميع من حولي …”
نظرت له بشفقة وهي تقول :-
” لا تقل هذا من فضلك …”
” أليست هذه الحقيقة يا توليب ..؟! أنا السيء دائما … الشرير الذي يؤذي جميع من حوله … انا الذي يتسبب دائما بالفوضى والمشاكل دون توقف …”
قالها بإنفعال مكتوم فهمست تخبره :-
” لا تفعل هذا .. انت تحمل نفسك فوق طاقاتها …”
غمغم بتعب :-
” هذه الحقيقة يا توليب …”
هتفت معترضة :-
” كلا ليست الحقيقة .. صحيح أنت عصبي ومتهور وحانق دائما … لكنك طيب وقلبك أبيض والجميع يدرك هذا ….”
تأملها للحظات .. شقيقته الجميلة الدافئة … ذات الكلمات الرقيقة المحببة … دائما ما تفعل هكذا … تحب الجميع وتدعمهم ..
هاهو رغم كل ما فعله وتدركه جيدا وما زالت تحاول التخفيف عنه …
لطالما كانت توليب هكذا .. حانية ودافئة … تحاول أن تحتوي الجميع وتساندهم … دائما ما وقفت جانبه ولم تتخلَ عنه في عز أزماته وفي أسوء تصرفاته الحمقاء …!!
ابتسم لها مرغما وهو يردد :-
” انت جميلة جدا يا توليب … محظوظ من ينالك …”
ابتسمت مرددة برقة :-
” وانت كذلك يا مهند .. ”
هزأ من حديثها :-
” توقفي عن المجاملة بالله عليك … انت كما يقولون تعرفين البير وغطاه ..”
هدرت بحنق تعترض على حديثه :-
” بل انت من لا تدرك ميزاتك يا مهند .. انت شاب وسيم وثري ومن عائلة محترمة يحلم الجميع بمصاهرتها ..مهندس متخرج من اعرق الجامعات في العالم … ”
قاطعها :-
” ولكنني أحمق … مستهتر وغبي … لا توجد فتاة تستطيع تحمل طبعي … ”
قاطعها بدورها :-
” ليس تماما … أنت فقط لم تجد الفتاة التي تستطيع لجم تمردك وترويض أعصابك الهائجة دائما … ”
” حقا ..؟! من المستحيل أن أجد فتاة كهذه أساسا …”
قالها ببرود لترد بحالمية :-
” انت مخطئ يا مهند … لا بد أن يأتي يوم وتجد الفتاة التي تغير حياتك بل تغيرك كليا .. انت لم تجرب الحب بعد .. عندما تعشق إحداهن يوما ستتغير لأجلها وهي ستنجح في تغييرك لإنها تحبك ولإنها تستحق ذلك أيضا …”
رفع حاجيه يتأملها بتهكم لننتبه على نظراته فتحمر وجنتيها وهي تردد بتململ :-
” المهم ..انا لا أريدك أن تفكر بهذه الطريقة …”
أكملت وهي تنهض من مكانها :-
” هيا تعال معي الى الداخل … جيلان ستصل بعد قليل …”
رد وهو يعود بظهره الى الخلف :-
” دعيني هنا .. من الافضل ألا تراني فور عودتها …”
عادت تجلس جانبه تردد برفض :-
” خطأ يا مهند … ما تفعله ليس حلا … جيلان أم طفلك او طفلتك القادمة … عليك أن تستوعب هذا …”
قال بصدق :-
” ولكنني إستوعبت هذا فعليا … مثلما إستوعبت إنه لا ذنب لها فيما حدث ولا يحق لي تدمير حياتها كلها نتيجة خطأ انا المسؤول الوحيد عنه …”
سألته توليب بحيرة :-
” مالذي تريده يا مهند ..؟! علام تنوي بالضبط ..؟!”
رد بجدية :-
” جيلان من حقها أن تعيش الحياة التي تناسب عمرها وأحلامها … من حقها أن تعيش المستقبل الذي يناسبها … لذا سأتصرف بما يقوله المنطق … سأنتظر ولادتها كي أخذ الطفل منها وأتحمل مسؤوليته كاملة لوحدي وهي ستعيش حياتها كما تريد وإذا أرادت ألا تعترف به ولدا فهي حرة …”
” مالذي تقوله انت ..؟!”
سألته توليب مصعوقة ليرد مهند ببساطة :-
” جيلان لا تريد الطفل يا توليب وانا لا ألومها على ذلك .. من الأفضل أن يعيش الطفل معي ولا تنسي إنها صغيرة جدا .. ستكبر فيما بعد ويصبح لها حياتها وربما ستتعرف على احدهم عندما تكبر وتحبه وحينها سيكون هذا الطفل عقبة في طريقها وهذا ما لا أريده … أريدها أن تمضي في حياتها قدما وتنسى هذا الطفل … لا أريد ذنبا جديدا فوق كاهلي وأنا أراها تعاني بسبب أمومتها لطفل في هذا العمر الصغير إجبارا عنها …”
صمتت توليب ولم تعلق فشعر مهند بعدم رضاها عما يقوله وأكد ذلك حديثها وهي تخبره :-
” والطفل ..؟! ألم تفكر به ..؟! كيف سيعيش دون أمه ..؟!”
رد مهند بجدية :-
” سأعتبره يتيم ..”
نظرت إليه توليب بإستنكار فقال بجدية :-
” نعم يا توليب .. سأفعل ذلك وانا سأوفر له ما يحتاجه وسأكون معه دائما …”
” مهما وفرت له فلن تستطيع تعويضه عن والدته يا مهند …”
قالتها توليب بحنق ليردد مهند بأسى :-
” هذا قدره يا توليب وعليه أن يرضى به ..”
……………………………………….
عادت ليلى الى منزلها بعدما أوصلها كنان لتفتح الخادمة لها الباب مرحبة بها …
ابتسمت ليلى بود لها وهي ترد تحيتها قبلما تهم بالتوجه الى الطابق العلوي لكنها توقفت وهي تسمع صوت والدها الغاضب يرتفع بطريقة أشبه للصياح …
تحركت بقلق نحو صالة الجلوس حيث يأتي صوت والدها عندما سمعته يهب بأحدهم :-
” كيف هربت ..؟! بأي حق تفعل ذلك ..؟! هناك إتفاق بيننا …”
دلفت ليلى بسرعة نحو صالة الجلوس تهمس بخوف :-
” بابا .. ماذا حدث ..؟!”
أغلق أحمد الهاتف وهو يردد بعصبية :-
” الحقيرة سهام …”
سألته ليلى بخوف :-
” ماذا فعلت سهام يا بابًا ..؟!”
أجاب بأعصاب متشنجة :-
” هربت يا ليلى … أخذت عبد الرحمن والطفل الآخر وهربت بهما …”
اتسعت عينا ليلى وهي تردد بعدم تصديق :-
” كيف يعني هربت … أليس هناك اتفاق بيننا ..؟! هي حتى لم تأخذ باقي الاموال ..”
أضافت :-
” وكيف أخذت عبد الرحمن .. ؟! انا لا افهم شيئا …”
جلس أحمد بتعب على الكرسي خلفه مرددا :-
” لقد إتصلت بي صباحا وأخبرتني عن رغبتها برؤية عبد الرحمن قبل ولادتها التي ستكون اليوم ظهرا .. رفضت ذلك وأخبرتها إن هناك اتفاق بيننا لأتفاجئ بعبد الرحمن يرجوني أن يراها بعدما اتصلت به عن طريق المربية الحقيرة .. لم أستطع الرفض أمام دموع الطفل وتوسلاته فسمحت للمربية أن تأخذه مع السائق كي تراه مبدئيا ثم ألحق بهما قبل موعد الولادة كي أستلم الطفل وأمنح بقية الاموال لسهام بعدما تتعهد ب تنازلها رسميا عن الطفل الآخر لأصدم بهروبها مع الطفلين بمساعدة المربية ..”
صاحت ليلى عدم تصديق :-
” كيف تفعل هذا يا بابًا .. كيف ترسل عبد الرحمن لها ..؟! كيف تثق بتلك المربية ..؟! كيف ..!”
اغمض احمد عينيه مرددا بتعب :-
” لا أعلم يا ليلى .. كنت متعبًا ومتوترا بعدما علمت بخبر ولادتها وما زاد من وضعي السيء حديثي مع والدتك والجدال الذي حدث بيننا لذا لم أطق صبرا على دموع الصغير المتشبث برؤية والدته فأخبرت المربية بسرعة أن تأخذه ..”
ضغطت ليلى على شفتيها تمنع نفسها من قول شيء آخر وتأنيبه وهي تلاحظ مدى تعب والدها وهو على ما يبدو يلوم نفسه على تصرفه الخاطئ الأقرب للساذج ..
هتفت بخفوت :-
” ولكنها لم تأخذ بقية الأموال بعد …؟! أم إنها إكتفت بذلك المبلغ وستربي الطفلين بهما وتنتقم منك بأن تحرمك منهما…”
غمغم احمد بتهكم :-
” سهام تتنازل عن الاموال لأجل ولديها .. على ما يبدو إنك لم تعرفيها جيدا بعد رغم كل ما فعلته …”
أضاف بغضب :-
” الهانم هربت بعدما أرسلت لي رسالة تخبرني عن هروبها بالطفلين وإنها لن تعيدهما إلي حتى أمنحها مبلغ مقداره عشرون مليون دولار كحق مشروع لها ولطفليها …”
هتفت ليلى مصعوقة :-
” انا لا أصدق … هذه لا يمكن أن تكون انسانية طبيعية … إنها ..”
توقفت وهي تبتلع كلمة غير لائقة كادت أن تصدر منها عندما همس والدها بضعف :-
” ماذا أفعل يا ليلى ..؟! لقد أخذت ولدي .. ”
أكمل يتسائل بأنفاس مضطربة :-
” خسرت ولدي يا ليلى .. أضعتهما ولن أستطيع رؤيتهما فيما بعد …”
هتفت بتوسل :-
” إهدأ يا بابا من فضلك ….”
امتدت يد أحمد نحو يسار يصده يدلكه ببطأ فسألته ليلى بقلق :-
” هل تشعر بألم في صدرك ..؟! ماذا يحدث معك ..؟!”
تمتم بصوت خافت :-
” أريد ماء يا ليلى .. بسرعة …”
صاحت ليلى على الخادمة قبل أن تركض بسرعة كي تجلب الماء لولدها ..
عادت وهي تحمل قدح الماء تقدمه نحو والدها الذي لم يستطع حمل القدح بكفه المرتعشة لتنظر ليلى له بهلع وأنفاسه تتثاقل تدريجيا …
حملت القدح نحو فمه تحاول أن تجعله يشرب القليل من الماء لكن سرعان ما اندفع القدح من يدها وتحطم أرضا وسقط والدها معه وهو يحاول التنفس دون فائدة …
………………………………………
في المشفى …
وقفت ليلى تبكي ووالدتها تجلس جانبها بملامح جامد تماما تنتظر خروج أي شخص يطمئنها على حالة والدها …
سمعت والدتها تهمس بصوت خافت :-
” انا السبب …”
نظرت لها ليلى بتأهب لتكمل فاتن بدموع :-
” تشاجرت معه وتحدثت معه بقسوة .. تناسيت إنه مريض بالقلب و …”
جلست ليلى بجانبها تخبرها :-
” انت لا دخل لك يا ماما .. سهام السبب … ”
نظرت لها فاتن تسألها بعدم فهم :-
” ما علاقة سهام ..؟! ماذا فعلت ..؟!”
همست ليلى تجيبها :-
” خطفت عبد الرحمن والطفل الآخر وهربت …”
شهقت والدتها بينما تساقطت دموع ليلى وهي تضيف :-
” لم يتحمل بابا ما عرف فسقط فورا …”
” كيف يعني هربت ..؟! كيف حدث هذا ..؟! ألم يكن هناك إتفاق بينهما ..؟!”
تمتمت ليلى من بين أسنانها :-
” الحقيرة … تريد عشرين مليون دولار من بابا كي تتركهما …”
أضافت ودموعها تتساقط فوق وجنتيها بحرارة :-
” هذه ليست أم … من الظلم أن تحمل لقب أم …”
غمغمت فاتن بشروده:-
” سامحك الله يا احمد .. ألم تجد غيرها لتتزوج بها ..؟! كان عليك على الأقل أن تختر أما جيدة لأبنائك …”
همست ليلى من بين بكائها :-
” كل ما أراده الولد وتجاهل أي شيء آخر وهذه النتيجة ..! ما ذنب الطفلين المسكينين ليكون لديهما أم كهذه …”
ثم أخذت تبكي بصمت عندما جذبت والدتها نحوها تحاول تهدئتها رغم وجعها الشديد هي الأخرى ..
سألتها والدتها بعدما هدئت قليلا :-
” ألن تخبري مريم ..؟!”
ردت ليلى وهي تمسح دموعها :-
” أنتظر خروج الطبيب أولا والإطمئنان عليه …”
ثم سألت والدتها بأمل :-
” سيكون بخير ، أليس كذلك …؟!”
ارتعشت ابتسامة والدتها وهي تحاول طمأنتها فعادت ليلى تبكي بإنهيار بين احضان والدتها عندما خرج الطبيب بعد دقائق فنهضت ليلى بسرعة تسأله على والدها ليجيب :-
” ذبحة صدرية .. لن أخفي عليكم وضعه خطير جدا … نسبة النجاة ضعيفة…”
شهقت ليلى باكية بينما تراجعت فاتن وهي تستند على الحائط خلفها عندما تحرك الطبيب بعدها لتأتي طبيبة أخرى صغيرة تعمل تحت إشرافه وهي تخبرهم إنه سيبقى حاليا في نفس الغرفة حتى ينتظرون تحسن وضعه رغم صعوبة ذلك …
حاولت أن تطمئن ليلى وتشد من أزرها خاصة عندما رأتها وحيدة مع والدتها ….
حاولت ليلى التماسك بعدها واتجهت نحو والدتها الساهمة بصدمة حقيقةً فربتت على كتفها بدعم لتسألها فاتن بذعر حقيقي :-
” هل سيموت والدك يا ليلى ..؟!”
ارتعش جسد ليلى بخوف عندما أضافت فاتن بعينين باكيتين :-
” لا أريده ان يموت … لا يمكنني تحمل ذلك ..”
تساقطت دموع ليلى بغزارة وهي تندس بين احضان والتها تحتمي بها من الفكرة نفسها …
نهضت بعدها بقليل وهي تهم بالاتصال بشقيقتها لكنها توقفت وهي تسمع صوت صفارة الجهاز فأخذت تصرخ وتنادي على الاطباء غافلة عن تلك الطبيبة الموجودة في الداخل معه وبدأت الإجرائات اللازمة محاولة إنعاش قلبه الذي توقف عندما جاء طبيين ومعهما ممرضة وسارعوا الى الداخل فبقيت ليلى تتابع ما يحدث بعينين جاحظتين وقلب يكاد يخرج من مكانه وهي ترى الاطباء يحاولون إنعاش قلبه والدها الذي يرفض الإستجابة لمحاولاتهم ..
مرة .. مرتين … ثلاثة …
مع كل محاولة كانت تشعر بروحها تسحب تدريجيا والأمل يتضائل بينما جلست والدتها مجددا وقد فقدت قدرتها على رؤية ما يحدث مع زوجها وحبيبها وهي تبكي بنحيب صامت …
صرخت ليلى حالما رأت النبض يعود مجددا بينما انتفضت والدتها من مكانها تركض نحو الزجاج تلمسه وهي تبكي وترجو الله عز وجل أن يعيده لها سالما ..
خرج الطبيب بعدها وهو يتمتم :-
” إدعوا له … وضعه حرج للغاية ..”
ثم غادر بعدما أعطى وصاياه الطبيبة الصغيرة بينما ابتعدت ليلى قليلا عن المكان تاركة والدتها لوحدها فأخذت تبكي دون توقف والخوف من خسارة والدها ينهش روحها دون رحمة …
نظرت الى هاتفها بعد لحظات بتردد وهي تشعر بحاجة ملحة لوجود شخص ما جانبها …
إنها المرة الأولى التي تشعر بها بهذا الكم من الضعف والوحدة .
وفي الواقع لم يكن أمامها سواه لتتصل به …
ولا تعرف لماذا ترددت وهناك رفض بديهي داخلها رغم كونه بات زوجها ..
رغم التردد … رغم رفضها البديهي لم تستطع إلا أن تتصل به وهي تهمس بتلقائية :-
” أحتاجك …”
أكملت وهي تتشبث به دون وعي :-
” بابا …!”
ثم ختمت حديثها بأنفاس مرتعبة :-
” بابا يموت …”
شعرت بإنتفضاته من مكانه وهو يسألها :-
” أين أنتم الآن ..؟!”
أخبرته بإسم المشفى وأغلقت الهاتف بعدها تبكي مجددا والخواء يملأ روحها ..
بعد اقل من عشر دقائق وجدته أمامه يتقدم نحوها بلهفة لترتمي بين ذراعيه منهارة فإحتضنها بسرعة محاولا التخفيف عنها …
جذبها بعدها وأجلسها على الكرسي خلفها ثم أخفض جسده أرضا جالسا أمامه كالقرفصاء يسألها محاولا تهدئتها :-
” اهدئي وأخبريني ماذا حدث …”
همست بدموع غزيرة :-
” أصابته ذبحة صدرية .. وضعه خطير جدا حتى منذ قليل توقف قلبه … لقد عاد النبض لقلبه بعد عدة محاولات والطبيب يقول إن وضعه حرج ….”
انها كلماتها وهي تبكي مجددا فقال بجدية :-
” حسنا اهدئي من فضلك … ”
أكمل يسألها :
” من معك هنا ..؟!”
ردت :-
” ماما ولكنني تركتها لوحدها و …”
انتفضت من مكانها تردد :-
” يجب أن أذهب لها …”
نهض بدوره مرددا :-
” تعالي معي … ”
ثم قادها حيث تجلس والدتها فوجدتها ليلى تجلس في نفس المكان بوجه باكي فسارعت تجلس جانبها وهي تقبلها من كتفها …
وقف كنان انام فانت يشير لها :-
” سيصبح بخير ان شاءالله … ”
اكمل مشيرا لزوجته :-
” سأتحدث مع الطبيب يا ليلى ثم أعود …”
همست ليلى :-
” انتظر لحظة …”
نظر لها بحيرة فوقفت أمامه تفرك يديها وهي تردد :-
” هناك مشكلة بل مصيبة ..”
سألتها بقلق :-
” مصيبة ماذا ..؟! تحدثي يا ليلى …”
أجابت بحزن :-
” زوجة والدي خطفت عبد الرحمن وطفلها الآخر والذي ولد اليوم ولا نعرف أين أخذتهما …”
اتسعت عينيه مرددا :-
” ماذا ..؟! كيف حدث هذا ..؟!”
اخذت تشرح له ما حدث وكيف إستطاعت الهرب بالطفلين وما طلبته مقابل عودتهما لتظلم عيني كنان وهو يردد من بين اسنانه :-
” يا لها من إمرأة عديمة الضمير والأخلاق …”
أكمل بجدية :-
” لا أريدك أن تقلقي … سأتصرف أنا …”
“حقا يا كنان ..؟!”
سألته بلهفة وهي تضيف :-
” هل تستطيع إعادتهما ..؟!”
رد بثقة :-
” إطمئني .. الطفلان ووالدتهما سيكونون عندكم غدا مساءا بالكثير …”
أخبرها بعدها :-
” أريد الاسم الكامل لزوجة والدك والمربية وعنوان المشفى وبعض المعلومات ..”
هزت ليلى رأسها ومنحته بعض المعلومات التي تعرفها عندما أخبرته عن جهلها بعنوان المشفى ليهتف ببساطة :-
” لا مشكلة .. سيبحث رجالي عن المشفى الذي ولدت به طفلها ويجدونه بسهولة …”
توقف عن حديثه وهو يستمع الى صوت رنين هاتف زوجته التي نظرت الى والدتها تهتف :-
” خالو جمال .. تحدثي انت معه …”
نهضت فاتن تهتف بقلق :-
” لماذا يتصل جمال بك يا ليلى ..؟!”
ثم حملت الهاتف وأجابت عليه لتتسع عيناها بينما هبط قلب ليلى أرضا وهي تسمع والدتها تصيح بإسم شقيقتها بأعلى صوتها …
…………………………………….
دلفت مريم الى النادي الليبى بصحبة زميلها في الجامعة والذي لطالما ما تودد إليها وحاول لفت انتباهها لكنها تصده في كل مرة وهي تخبره بتبجج إنها مرتبطة …
لكن اليوم عاد يتودد اليها وعلى ما يبدو كان لديه علم بأمر إنفصالها عن خطيبها فوجدت نفسها تستجيب له وتوافق على صحبته الى احد النوادي الليلة رغم إن الليل لم يأتِ بعد …
كان ضربا من الجنون أصابها بعدما ظلت طوال الصباح تفكر بأكرم حتى كادت أن تصرخ بجنون من أفكارها تلك وهي تسبه وتلعنه دون توقف …
أشارت نحو البار لتجلس عليه فيهتف الشاب بمكر :-
” الحماس واضح عليك اليوم …”
ابتسمت ساخرة وهي تردد :-
” لم يعد هناك ما يستحق التعقل لأجله ….”
وهي تقصد أكرم فهي لطالما لجمت رغباتها في تجربة الكثير من الأمور وروضت تمردها فقط لأجله ..
جلست جانبه امام البار عندما اشار لها يسألها :
” ماذا تشربين …؟! أم إنك لا تتناولين المشروبات الكحولية …”
نظرت له للحظات وشعرت بروح التمرد تتلبسها فأخبرته وهي تمط شفتيها :-
” لأجرب كأس واحد فقط …”
أشار الشاب للنادل الذي ابتسم بمكر وهو يقدم الكأس لها لتلتقطه وتشرب محتواه دفعة واحدة عندما تجهمت ملامحها وهي تردد بإمتعاض :-
” طعمه غريب …”
سألتها الشاب :-
” هل تريدين آخر …؟!”
رفضت بسرعة :-
” كلا لا اريد … انا اساسا أردت التجربة فقط فأنا في العادة لا أشرب الكحوليات …”
ابتسم الشاب مرددا :-
” لإنك لا تفهمين …”
نظرت له بحدة فقال وهو يضع كأسه أمامها :-
” هذه المشروبات تمنحك شعورا لذيذا وممتعا جدا … ”
أضاف وهو يضع الكأس أمامها :-
” صدقيني … جربي ولن تندمي ….”
نظرت الى الكأس للحظات قبل أن تبعده عنها وهي تردد برفض :-
” لا أريد العودة الى منزلي مخمورة …”
عاد يضع الكأس أمامها قبل أن يرفعه وهو يحاول إجبارها على شرب محتواه وهي ترفض عندما فوجئ بيد تقبض على الكأس بينما صاحبها يردد :
” أخبرتك إنها لا تريد … ألم تسمع …؟!”
نظرت مريم له بعدم تصديق وهي تتسائل :-
” ماذا تفعل هنا يا عمار ..؟!”
بينما نهض الشاب يسأله :-
” من أنت وما علاقتك بنا ..؟!”
رد عمار بعدما إرتشف الكأس دفعة واحدة :-
” لقد ذكرت إسمي منذ ثواني أم إنك لم تسمعه أيضا …؟!”
ثم أشار الى مريم :-
” هيا بنا يا مريم…”
أوقفه الشاب يخبره بغلظة :-
” لا شأن لك بها ..مريم اتت معي وستغادر معي … ”
ابتسم عمار ببرود لثواني قبل أن يلكم الشاب على وجهه وأسقطه لتضحك مريم بصوت عالي فمنحها نظرات حادة وهو يقبض على ذراعها يجرها خلفه مرددا :-
” هيا …”
ثم خرج بها من البار متجها نحو سيارته حيث فتح باب السيارة وألقى بها داخلها لتصيح وهي تفرك ذراعها :-
” آلمتني أيها المتخلف …”
تجاهلها وهو يتجه نحو الجانب خاضته حيث ركب السيارة وشغلها ثم قادها مبتعدا عن مكان البار حتى توقف بعد حوالي عشر دقائق قرب البحر فوجدها تنظر له بتركيز ليرفع حاجبه متسائلا :-
” ما بالك تنظرين إلي هكذا …؟!”
سألته بنبرة غريبة قليلا ويبدو إن الكأس الوحيد الذي شربته بدأ يظهر مفعوله عليها :-
” كيف عرفت مكاني ..؟! انت تراقبني …”
رد بإيجاز :-
” تقريبا …”
ابتسمت ساخرة ليسألها بعصبية :-
” كيف تأتين الى هنا يا مريم …؟! منذ متى وأنت ترتادين البارات الليلة …؟!”
ردت ببرود :-
” منذ اليوم وكل يوم بعد الآن…”
ابتسم بتهكم وقال :-
” ماشاءالله … تقولينها بكل ثقة وكأنني سأسمح لك بذلك …”
هتفت بعناد :-
” انت لست ولي أمري … ليس من شأنك ما أفعله كما إنه ليس من حقك أن تراقبني ..”
شهقت عندما قبض على ذراعها يجذبها نحوه مرددا بعينين ناريتين :-
” بل من حقي .. حقي انا فقط … أنتِ كلك حقي يا مريم … وعليك أن تفهمي هذا جيدا …”
” وإذا لم أفعل ..؟!”
سألته ببرود ليرد بصلابة :-
” سأجبرك أن تفعلي …”
تأملته بصمت …
تأملت تلك النيران المشتعلة داخل عينيه …
رأت فيهما ما لم تصدقه رغم إقراره به مرارا ..
رأت العشق … الشغف … اللهفة ..
4
” أنت تحبني يا عمار …”
همست بها وهي تبتسم بجاذبية فتكت بقلبه …
تنهيدته الحارة كانت كفيلة لتوضيح ما يحمله داخله نحوها …
هو لا يحبها .. بل يهيم عشقا بها ….
في كل مرة يتأكد من شعوره ذلك ..
عشقها إستوطن قلبه وروحه دون أمل للفكاك …
يسئل نفسه دائما ، لم هي دونا عن غيرها ..؟!
فلا يجد إجابة محددة ..
هو فقط يعشقها ..
هكذا بكل بساطة ..
دون قيد … دون تردد .. ودون أمل …
مال نحوها وزرقة عينيها تتشبثان به دون إدراك …
غرق في زرقة عينيها وشردت هي في خيالها وصورة مختلفة تتجسد أمامها دون يدرك فمالت نحو تطالبه بقبلة صريحة وهو لبى ندائها دون تردد…
نال قبلة من شفتيها تمناها طويلا وغرقت هي معه في قبلته …
تجاوبت بشكل آثار جنونه دون أن يعي إنها في تلك اللحظة لم تكن تراه هو بل كانت ترى أخرا نال هو قلبها بدلا منه وغدر بها ..
الحقيقة كانت عمار والخيال كان أكرم وبين كليهما تاهت هي ..
تبعثرت وفقدت ثباتها وإنهارت حصونها كليا …

بعد مرور ثلاثة أيام …
عاد الى منزله أخيرا بعد غياب امتد لثلاثة ايام في مهمته التي إنتهت على خير وبنجاح كالعادة …
ما إن دلف الى داخل المنزل حتى وجد ابن شقيقه يركض نحوه مرحبا به بسعادة فسارع فادي يعانقه بنفس اللهفة …
لطالما كان لتميم مكانة خاصة لديه لم يصل إليها أحد قبله فهو ليس ابن شقيقه فقط بل بمثابة ابنه الروحي ..!
حمل الصغير الذي تمتم متذمرا :-
” أنزلني يا عمو ..”
ابتسم فادي مشاكسا :-
” دائما ما كنت تحب أن أحملك وأدور بك ..”
قاطعه الصغير ذو السبعة أعوام برفض :-
” كنت صغيرا يا عمي … الآن كبرت …”
ابتسم فادي مرددا بفخر :-
” بالطبع كبرت وأصبحت رجلا أفتخر به …”
هتف تميم بجدية :-
” وهل يجوز أن تحمل رجلا هكذا يا عمي ..؟!”
وضعه فادي أرضا مرددا وهو يعبث بخصلات شعره :-
” بالطبع لا يا حبيب عمك …”
هتف تميم بحماس :-
” سأقضي اليوم بأكمله هنا …”
أضاف يسأله بجدية :-
” أنت ستبقى معي اليوم ، أليس كذلك ..؟!”
قال فادي :-
” من حسن حظك إنني متفرغ اليوم وغدا ايضا بعد المهمة الأخيرة …”
اضاف وهو يجره معه :-
” تعال لنرى جدتك …”
ثم قاد الصغير حيث صالة الجلوس ليجد والدته تتحدث مع شقيقه الذي رفع وجهه نحوه بملامح هادئة غير معتادة منه خاصة في الفترة الأخيرة ..
نهضت والدته تستقبله وهي تحتضنه مرددة :-
” الحمد لله على سلامتك .. كدت أن أموت من قلقي عليك … لم أتوقف عن الدعاء لك طوال الأيام السابقة …”
قبل فادي جبينها مرددا بحنو خاص لا يظهر سوى لها :-
” أخبرتك ألا تقلقي فالمهمة بسيطة …”
تمتمت باسمة بعدم رضا :-
” متى سنتخلص من هذه المهنة التي تسبب القلق بل الذعر لي طوال الوقت …؟!”
تمتم فادي ساخرا :-
” هذا ما لن يحدث أبدًا …”
تحدث فراس بهدوء وهو يناظره بعينيه :-
” ماما معها حق … لا أفهم سر تمسكك بهذه المهنة المليئة بالمخاطر … سأخبرك مجددا يا فادي … اترك عملك في الشرطة وتعال معي تشاركني في إدارة الشركة …”
هتف فادي وهو يجلس قباله بعدما جذب تميم نحوه :-
” تحدثنا مسبقا لمرات لا تنتهي في هذا الموضوع … انا سعيد بعملي ولا يمكنني العمل بأي مجال غير الشرطة …”
صاح تميم بحماس :-
” وانا أيضا سأصبح شرطيا مثل عمي عندما أكبر …”
اعترضت باسمة برفض :-
” إياك يا تميم … يكفيني عمك …”
قال فراس ببرود :-
” تميم سيعمل معي في الشركة .. لست مجنونا لأجازف بحياة ابني في عمل خطر كهذا …”
تنهد فادي مرددا :-
” أنتما تبالغان … لي سنوات وانا اعمل في الشرطة ولم يحدث لي شيء والحمد لله … هناك غيري من يعملون في مهن عادية لا مخاطر فيها وخسروا أرواحهم لأسباب مختلفة .. العمر واحد والرب واحد ..”
دلفت لوجين الى الداخل تصيح إسمه بحماس وهي تحتضنه فعانقها بمحبه وهو يسألها عن أحوالها فتجلس جانبه بعدما قبلت تميم بحب وأخذت تثرثر معه …
نهض فادي بعدها مرددا بتكاسل :-
” سأصعد الى غرفتي وأرتاح قليلا … لا توقظوني حتى العشاء …”
أضاف وهو يسأل فراس :-
” تميم سيبيت الليلة هنا ، أليس كذلك ..؟!”
أجاب فراس وهو يتأمل ابنه :-
” من المفترض أن يعود مساءا بعد العشاء ولكن …”
قال فادي بإيجاز :-
” أخبر عهد برغبتي في مبيته معي الليلة وهي لن تعترض …”
ابتسم تميم بسعادة بينما قال فراس بجدية :-
” جيد إرتح أنت حتى المساء فأنا أريد التحدث معك بعد العشاء …”
نظر له فادي بتساؤل تجاهله فراس متعمدا فهز فادي رأسه متفهما وهو يتحرك نحو غرفته حيث سارع يأخذ حماما ينعش به جسده قبل أن يتجه للنوم مباشرة …
استيقظ من نومة بعد عدة ساعات حيث غير ملابسه وخرج من غرفته بنشاط متجها الى الطابق السفلي ليجد شقيقه جالسا مع لوجين وتميم يرتشف عصير البرتقال ويبتسم بهدوء بات يريبه ..
ألقى التحية عليهم وهو يجلس على الكرسي فتنهض شقيقته وهي تخبره :-
” سأعد لك العصير …”
سألها بجدية :-
” أين والدتك ..؟!”
ردت وهي تتحرك خارج المكان :-
” تقرأ القرآن في غرفتها …”
التفت نحو شقيقه الذي أخبره :-
” يجب أن نتحدث يا فادي ..”
تمتم فادي :-
” حسنا … ”
عادت لوجين بالعصير فأخذه فادي منها وهو يشير لفراس :-
” لنتحدث في الحديقة …”
نهض فراس بدوره وسار خلف شقيقه عندما وقف جانبه في الحديقة الخلفية للفيلا يتسائل بنبرة هادئة :-
” ماذا هناك يا فراس ..؟!”
حل الصمت المطبق بينهما فلاحت منه نظرة نحو شقيقه ليجد الصمت يغلف ملامحه …
ملامحه كانت مبهمة تماما لا توحي بشيء مما يعتمل داخل صدره ..
تنهد فراس أخيرًا تنهيدة طويلة ثم قال بجفاء مقصود :-
” أنا آسف …”
لاحت دهشة سريعة على ملامح فادي ثم سرعان ما تسائل وهو يلوى فمه بتهكم :-
” فراس بنفسه يعتذر … أنت بخير أم مصاب بالحمى ..؟!”
ردد فراس بغلظة :-
” لم أعهدك سخيفا من قبل …”
قال فادي ببرود :-
“وأنا لم أعهدك تجيد الإعتذار يا فراس …”
أضاف وعيناه تظلمان :-
” وإذا كنت تنوي التهرب من تلك الزيجة بهذه الطريقة …”
قاطعه فراس بإقرار :-
” سأتزوجها …”
استدار فادي نحوه يتأمله لثواني محاولا سبر أغواره بينما أضاف فراس بنفس الثبات :-
” وغدا أيضا … ”
تسائل فادي بدهشة خفية :-
” لماذا ..؟! مالذي غير رأيك فجأة ودفعك للقبول ..؟!”
رد فراس بتعب :-
” مللت … ”
منحه فادي نظرة تنم عن عدم إقتناعه فبادله فراس نظراته بأخرى ثابتة مضيفا :-
” لا أريد خسارتك يا فادي …”
تجهمت ملامح فادي مما يسمعه فأضاف فراس بتروي :-
” أعلم إنني شخص سيء للغاية … ومؤذي كذلك .. خسرت العديد من الأشخاص حولي بسبب أذيتي لهم ولكن …”
أخذ نفسا عميقا ثم أردف :-
” لا أريد خسارتك أنت الآخر .. انت شقيقي الوحيد وسندي في هذه الحياة … ”
إسترسل بصوت مختنق :-
” أعلم إن نظرتك نحوي تغيرت تماما بعدما حدث … بعدما فعلته مع فرحة وحتى غالية .. لا ألومك على ما فعلته معي وما زلت تفعله … ”
عاد يتنفس بعمق وهو يضيف :-
” لكنني أحاول للمرة الأخيرة أن أنقذ ما تبقى من روابط بيننا … ”
قاطعه فادي بقوة :-
” الرابط الذي يجمعنا أعمق من أن ينفلت تماما أيًا كان السبب .. ربما تأثر بأفعالك التي لا يمكن غفرانها لكنك تظل شقيقي الوحيد .. شقيقي الأكبر وعكازي الذي أستند عليه …”
أضاف فادي بجدية تكسو ملامحه :-
” وعليك أن تعلم جيدا يا فراس إن ما فعلته وما سأفعله هو لأجلك أنت أولا .. انا أريد تطهيرك من ذنوبك ولو قليلا … أنت ستتزوج الفتاة وتطلقها فورا … واقعيا لن تخسر شيء … لكنك أنت ستخفف من وطأة ذنبك في حقها وهذا مكسب عظيم لا يقدر بثمن …”
” انت لا تشبهني أبدا …”
قالها فراس بخفوت وهو يضيف :-
” سبحان من جعلك إبن خليل الطائي بهذه الصفات يا فادي ..”
عادت ملامح فادي تتجهم مرددا :-
” وأنت تستطيع أن تكون مثلي بدلا من التشبه به …”
هتف فراس بجمود :-
” انا لا أتشبه به .. أنا أشبهه فعلا .. انا ولده فالنهاية وهذا ليس بشيء غريب …”
قال فادي بهدوء :-
” نحن من نختار طريقنا يا فراس .. نحن من نختار الهداية او الضلال ..”
” هناك أشياء فطرية يا فادي … ”
قالها فراس ببرود ليقاطعه فادي بحزم :-
” حجة غبية .. نحن من نصنع ذنوبنا يا فراس … نحن من نصنع خطايانا … ”
أضاف بنفس القوة :-
” انت حتى لو كنت ولده … لكنك تربيت بعيدا عنه في حضن والدتك التي هي نفسها والدتي والتي ربتنا جميعنا بنفس الطريقة ولم تقصر في حق أيا منا … ”
إسترسل بقسوة :-
” أنت من جعلت والدي وماضيه شماعة تعلق عليها أخطائك في حق جميع من حولك وقبلهم نفسك … لم تكتفِ بخسارة المرأة التي أحببتها … أم ولدك فسعيت لخسارة غيرها أيضا وما زلت تفعل … ”
هدر فراس بغضب مكبوت :-
” أنت لم تكن شاهدا على ذلك الماضي يا فادي … ”
قاطعه فادي بصوت شديد :-
” لكنني أعرفه جيدا .. سمعته منك ومن غيرك … ”
توقف ملاحظا بؤس ملامح شقيقه فأضاف :-
” أنت لديك تميم يا فراس …. لا تنساه في خضم صراعك ما نفسك … لا تجعل من الصبي نسخة مصغرة عنك .. أنا أعلم مقدار حبك لولدك …”
هتف فراس بعنفوان :-
” تميم هو أغلى شيء عندي … ”
تنهد فادي وقال :-
” إذًا أصلح من شأنك لأجله هو على الأقل …”
هز فراس رأسه متمتما :-
” وهذا ما سأفعله .. سأتزوج الفتاة … ليس لأجل تميم فقط بل لأجلك يا فادي … كي لا أخسرك …”
تأمله فادي بصمت وهناك شيء ما داخله أخبره أن يحذر لكنه نحى أفكاره هذه جانبا فجل ما يهمه الآن أن يتزوج فراس الفتاة ويطلقها كي يكمل بعدما ما أراده بشأن الفتاة ثم يبحث خلف شقيقه ويفهم سبب هذا التغيير الغير مفهوم بالنسبة له ..

جلست هايدي أمام صديقها الذي سألها بإهتمام :-
” ما الموضوع الهام الذي تريدنه لأجله يا هايدي ..؟!”
ارتشفت هايدي القليل من عصيرها البارد ثم سألته وهي تتراجع الى الخلف قليلا في مقعدها :-
” ذلك الشاب .. صديقك الأحمق .. ماذا كان إسمه ..؟!”
فكر الشاب للحظات قبل أن يتمتم :-
” فوزي ..”
قالت هايدي بسرعة :-
” نعم هو .. فوزي .. ”
سألها مجددا بدهشة :-
” ومالذي تريدنه من فوزي يا هايدي ..؟!”
ردت هايدي ببساطة :-
” أريد رقم هاتفه او عنوانه …”
هتف ساخرا :-
” عنوانه مرة واحدة ..!! على أساس إنك سوف تستطيعين دخول المنطقة الشعبية التي يسكن فيها …”
تمتمت بجدية :-
” أنا أحتاجه في أمر هام … ساعدني للوصول إليه …”
عقد حاجبيه يتسائل مستهجنا :-
” فوزي مجرم يا هايدي … مالذي تحتاجينه من مجرم مثله ..؟!”
هدرت به :-
” وما شأنك أنت ..؟! أحتاجه فقط .. وأريد رقمه وعنوانه منك …”
زفر الشاب أنفاسه بملل ثم قال :-
” حسنا لا تغضبي هكذا … سأتصل به وأخبره إنك تريدنه فهو لا يمنح رقمه لأيا كان ولا يجيب على الأرقام الغريبة أساسا …”
تهكمت وهي تردد :-
” يتصرف كوزير حضرته ….”
تجاهل سخريتها وهو يجري اتصالا به عندما أخبرته بسرعة :-
” أريد رؤيته حالا إذا كان متفرغا …”
مط شفتيه بعدم رضا عما تريده لكنه تجاهل الأمر مقررا أن يخبر فوزي برغبتها ويتركها هي تتصرف معه …
وبالفعل وافق فوزي على موافقتها بعدما عرف هويتها فهي تلك الحسناء الثرية والتي تكون صديقة مقربة لصديقه الثري الذي تعرف عليه بالصدفة أثناء شجاره مع مجموعة من الشباب فساعده بضربهم ومنذ وقتها تولدت صداقة بينهما رغم الفارق المذهل في كل شيء …
جلس فوزي أمام هايدي بعد أكثر من ساعة مرددا بسخرية :-
” من كان يصدق إنك ستحتاجيني أنا يوما ما ..؟! سبحان الله ..”
تأملته هايدي بعدم رضا فهي تجلس أمام شخص لا يرتقي ليعمل تحت أمرتها حتى …
شخص سبق وأهانته عندما غازلها بفجور أثار إشمئزازها …
لكنها وللأسف الشديد مضطرة للتعامل معه لتأديب الأحمق الآخر والإنتقام لشقيقتها المسكينة التي ما زالت تعاني بسببه ..
تنحنحت تصدر صوتا وهو تضيف :-
” دعك من هذه الأحاديث السخيفة يا فوزي وإسمعني فهناك ما هو أهم … ”
تجاهلت النظرة المستفزة في عينيه وهي تضيف :-
” سأمنحك مبلغا من المال بقدر ما تريد .. ”
ذكرت المال وتراجعت تسترخي في جلستها وهي تدرك إنها جذبت إنتباهه كاملا نحو الشيء الذي يبيع نفسه لأجله وهو الذي يعشق الأموال ويفعل أي شيء مقابلها …
” تفضلي يا هانم … ماذا تريدين مقابل المبلغ ..؟!”
ردت وهي تبتسم بإتساع :-
” هناك شخص ما … أريد تقلينه درسا لن ينساه طوال عمره …”
هتف فوزي بحماس :-
” حسنا … أنت تأمرين يا هانم وأنا أنفذ .. هل تريدين التخلص منه نهائيا أم ..”
قاطعته بسرعة وهي التي كادت تغص في العصير داخل حلقها :-
” كلا لا تقتله .. أنا أريد تأديبه فقط … سأمنحك المبلغ الذي تريده .. فقط نفذ لي ما أريده ..”
عقد حاجبيه يتسائل :-
” هل هو حبيبك السابق وتريدين الإنتقام منه ..؟!”
هتفت من بين أسنانها :-
” ليس من شأنك .. ما شأنك إذا كان حبيبي او حتى أخي …”
” حسنا لا تغضبي .. أخبريني كيف تريدين تأديبه …؟! ”
سألها بفضول لتعقد حاجبيها مرددة :-
” هل أنت أحمق ..؟! أنت من تعرف ذلك ولست أنا .. أنا فقط أريد تلقينه درسا على أفعاله الحقيرة بحق أقرب الناس إليه … مثلا أخطفه ليومين وعنفه قليلا ثم أطلق سراحه…”
” نعم نعم فهمت …”
تمتم بها فوزي بتململ قبلما يخبرها بالمبلغ الذي يريده ويطلب منها معلومات عن الشخص وصورة له والأهم أماكن تواجده فشعرت هايدي إنها في مأزق لإن صلاح متغيبا منذ مدة لا تذكرها ولا تعرف عنه شيئا ..
أعطته المعلومات الأساسية وهي تخبره بإختصار عن إختفائه هذه الفترة مع تأكيد إنها ستخبره بمكانه حالما يظهر لينفذ ما تريده …
غادرت المكان بعدها بتوعد خفي لصلاح الأحمق وهي لا تشعر بأي ندم على هذه الخطوة فذلك التافه عديم النخوة يستحق القتل …
اتجهت الى شقيقتها التي غادرت المشفى وهي تمكث حاليا في شقة منعزلة أخذها شريف إليها ..
شريف الذي بدا لها النقيض التام من شقيقه فهو رجل جاد ورزين ذو شخصية شديدة الرقي والإحترام …
وصلت الى الشقة لتفتح لها الممرضة الذي جلبها شريف لشقيقتها كي تمكث معها لرعايتها كاملا خاصة مساءا عندما تعود هايدي الى منزلها …!!
رحبت الممرضة بهايدي التي تقدمت نحو شقيقتها ببطنها المنتفخ وهي تهمس بمرح مقصود محاولة إخراج شقيقتها من حالة البؤس المسيطرة عليها :-
” كيف حالك يا حلوتي ..؟!”
ردت نانسي بإبتسامة مصطنعة :-
” الحمد لله ، بخير …”
جلست هايدي جانبها تخبرها بمرح :-
” هل تحرك الصغيران كثيرا اليوم ..؟!”
ظهرت لمحة من الحزن على ملامح نانسي سرعان ما أخفتها وهي تجيب بنفس الإبتسامة المصطنعة :-
” نوعا ما …”
هتفت الممرضة وهي تتقدم نحويهما مشيرة لنانسي :-
” ما رأيك أن تتناولي الطعام الآن مع الآنسة هايدي أيضا …؟؟”
قالت هايدي بسرعة نيابة عن شقيقتها :-
” نعم ، أخبري الخادمة أن تعد الطعام لنا …”
ابتسمت الممرضة وهي تضيف :-
” حسنا كي تتناول مدام نانسي دوائها بعد الطعام ..”
ثم تحركت الى المطبخ تطلب من الخادمة اعداد الطعام بينما سألت هايدي شقيقتها الساهمة :-
” بمَ تفكرين …؟!”
ردت نانسي بخفوت وهي تنظر اليها :-
” لا شيء …”
قالت هايدي بجدية :-
” تحدثي يا نانسي ولا تخفي عني شيئا …”
ردت نانسي بخفوت :-
” خائفة يا هايدي بل مذعورة …”
” ماذا حدث ..؟!”
سألتها هايدي وهي تربت على كتفها بدعم لتجيب نانسي بقلق :-
” كلما يتقدم حملي يوما كلما أزداد خوفا من القادم … هواجسي لا تنتهي .. تارة أفكر فيما سيحدث بعد ولادتي وكيف سيعيش الطفلين معي دون أب وتارة تأتيني هواجس تخص الولادة … أخشى أن يصيبني شيئا أثناء الولادة فيأتي الطفلان بلا أب وأم …”
قاطعتها هايدي منتفضة :-
” توقفي عن قول هذه الحماقات ارجوك … ستتم الولادة على خير وتنجبين طفلين رائعين وستكونين أم رائعة …”
قاطعتها نانسي بقهر :-
” بلا أب … سيأتيان الى هذا الحياة بلا أب …”
هتفت هايدي بثقة :-
” يكفي وجودك معهما .. لن نحتاجه أبدا .. اساسا لا نريد شيئا منه سوى اسمه وبعدها سيصبح الطفلان مسؤوليتنا …”
” لكنها مسؤولية صعبة جدا والأهم ماذا ذنب الطفلان ليتحملان كل هذا ..”
قالت هايدي برفق :-
” حبيبتي انت تفكرين بطريقة مبالغ فيها والأهم إنك تسبقين الأمور فعليا … ربما صلاح يتغير عندما يرى الطفلين … لا أحد يعلم … ”
تمتمت نانسي بقهر :-
” أتمنى ذلك يا هايدي … أتمنى أن يلين قلبه قليلا عندما يرى الطفلين …”
ربتت هايدي على كتفها مجددا تخبرها :-
” توكلي على الله وهو لن يخذلك مهما حدث ..”
هزت نانسي رأسها بتفهم بينما انتبهت هايدي لرنين هاتفها فنهضت مبتعدة قليلا عن نانسي تجيب شقيقها الذي يتصل بها بينما أتت الخادمة بالطعام لتجيب على شقيقها الذي فاجئها بقوله :-
” أين أنت يا هايدي .. ؟! لقد وصلت البلاد منذ قليل … ”
اتسعت عينا هايدي مرددة بعدم استيعاب :-
” ماذا ..؟! انت عدت الى هنا ..”
ثم تداركت نفسها وهي تضيف مدعية الفرحة :-
” الحمد لله على سلامتك يا كرم …”
جاءها صوت شقيقها مرددا :-
” نعم عدت الى البلاد وانا حاليا في طريقي الى المنزل … انتظرك هناك فأنا أخمن إنك غير متواجدة في المنزل كعادتك في الفترة الأخيرة ..”
حاولت هايدي السيطرة على توترها وهي تخبره إنها ستذهب الى المنزل حالا لأجله قبل أن تودعه سريعا وتغلق الهاتف مفكرة عن سبب قدوم شقيقها فجأة بهذه الطريقة ..

دلف الى مكتبه بعد يوم صعب مليء بالعمل الذي لا ينتهي…
ما بين العمليات الجراحية وتفقد المرضى ومتابعة الحالات الجديدة والكثير من الاشياء الأخرى ….
جلس فوق كرسيه بتعب قبل أن يتصل بالعامل يطلب منه قهوة سريعا وهو الذي لديه مناوبة ليلية …
جاء العامل بالقهوة فشكره بإبتسامته الهادئة وهو يتناول القهوة منه يرتشف منها تدريجيا ويغمض عينيه محاولا الحصول على ساعة واحدة من الهدوء والإسترخاء قبل العودة الى عمله الذي سينتهي صباح الغد ليذهب بعدها مباشرة الى بيت عمه كي يرى نديم وغالية والبقية فيقضي القليل من الوقت هناك كما تستوجب العادة ثم يغادر بعدها الى المنزل ليأخذ قسطا لا بأس به من الراحة …
استرخى في جلسته اكثر وهو ما زال مغمضا عينيه عندما صدح صوت طرقات على الباب يوقظه من غفوته اللحظية ليتنهد بتعب وهو يردد بصوت مقتضب :-
” ادخل …”
دلف صلاح الى الداخل فنهض شريف من مكانه مسرعا مرددا بدهشة من قدوم شقيقه المختفي :-
” صلاح ….”
تمتم صلاح بصوت خرج بطيئا للغاية :-
” سمعت إن الخالة صباح توفيت …”
تنهد شريف وهو يهز رأسه بأسف فيتقدم شقيقه الى الداخل بملامح واجمة كليا قبل أن يجلس على احد الكراسي متمتما :-
“اليوم علمت بالخبر … ”
أضاف بجدية :-
” بعد انتهاء العزاء …”
قال شريف مسرعا :-
” بكل الاحوال لم تكن لتحضر العزاء …”
قال صلاح بصوت محتقن :-
” ولكن كنت سأتصل بنديم وغالية على الأقل ….”
” لماذا لم تتصل بهما …؟!”
سأله شريف بجدية ليجيب صلاح :-
” سأفعل … فقط أردت أن أراك قبلها …”
تأمله شريف بصمت وهو الذي يدرك حالة شقيقه الذي يحمل داخله عقدة غير مفهومة من فكرة الموت التي لطالما تركت عليه آثرا مؤلما ….
كان شقيقه يتأثر بخبر موت أحدهم ويظهر ذلك عليه بشدة اضافة الى خوفه من الفكرة نفسها والذي لا يجد شريف له تفسيرا واضحا لكن ما يعرفه إن صلاح الآن يعيش أسوء حالاته بعدما فقد شخصا يعرفه عن قرب ما بين خوف وحزن يتشكل داخله بقوة ويسيطر عليه لمدة لا بأس بها …
تنهد شريف وهو يتقدم نحوه بشفقة تملكت منه فيسأله صلاح بصوت متأثر :-
” كيف توفيت ..؟؟ ”
رد شريف بنبرة حزينة :-
” جلطة قلبية للأسف …”
زفر صلاح أنفاسه بقهر مكتوم وهو يسأل من جديد :-
” ماذا عن غالية ..؟؟ ونديم ..؟!”
هتف شريف متذكرا جمود كليهما المريب :-
” كيف سيكون حالهما مثلا يا صلاح ..؟؟ كان الله في عونهما …”
فرك صلاح جبهته بتعب ليسأله شريف محاولا تغير الموضوع :-
” أين كنت طوال الفترة السابقة يا صلاح ..؟!”
رد صلاح بخفوت :-
” إحتجت الى الإبتعاد عن الجميع قليلا ..”
هز شريف رأسه بتفهم وهو يضيف :-
” وهل فكرت في وضع نانسي والطفلين القادمين..؟!”
ظهر الرفض في عينيه فباغته شريف بسرعة يضيف :-
” شئت أم أبيت فهذين الطفلين منك يا صلاح .. من صلبك وأنت والدهما …”
غمغم صلاح بجدية :-
” لا أريدهما يا شريف … إفهمني من فضلك … ”
قاطعه شريف بقوة :-
” انت مجبر ولست مخير يا صلاح .. متى ستفهم ذلك ..؟؟”
ردد صلاح ساخطا :-
” هذا يعني إنني مجبر على تنفيذ رغبة نانسي .. أليس كذلك …؟!”
هتف شريف مهادنا إياه :-
” هما طفلاك ايضا يا صلاح وليسا طفلي نانسي فقط …”
رد صلاح بمقت :-
” هذه مسؤولية لا أريدها يا شريف ….”
نظر اليه شريف بغضب مكتوم ليتأمل صلاح شقيقه المتحفز بصمت امتد للحظات قبل أن يجيب :-
” حسنا سأعترف بهما .. ولا تطلب مني شيئا عدا ذلك …”
” ما هذا الجنون ..؟!”
صاح به شريف منفعلا وهو ينهض من مكانه مرددا :-
” أنت بكل الأحوال ستعترف بهما … هذا شيء ليس بجديد .. انا اتحدث عما يلي الاعتراف …”
نهض صلاح من مكانه مرددا بثبات :-
” سأطلق نانسي وستتحمل هي مسؤوليتهما كونهما المسؤولة عن إنجابهما …”
هدر شريف به :-
” انا لا اصدق ما أسمعه .. ألا تلاحظ إنك تتحدث عن طفليك ..؟! طفليك يا هذا …”
قال صلاح لا مباليا :-
” أنا أخبرك الواقع وما سيحدث دون تزويق .. لا تنتظر مني أن أكون أبا لطيفا مراعيا و زوجا مقيدا بإمرأة لا يريدها وطفلين إعترف بهما مجبرا لا مخيرا كما قلت قبل لحظات …”
تمتم شريف وهو يجلس فوق كرسيه بتعب :-
” هذا كثير حقا …”
ردد صلاح بهدوء مستفز :-
” هذا ما لدي وعليكم جميعا أن تقبلوا به ..”
قال شريف بجمود :-
” بغض النظر عن الحماقات التي تفوهت بها فعليك أن تعلم إنك يجب أن تسافر مع نانسي خارج البلاد وتبقيان هناك حتى يولد الطفلان وتمر فترة على ولادتهما ثم تعودان بهما الى البلاد ..”
” لماذا ..؟! ما الداعي لكل هذا ..؟! ”
سألته صلاح بضيق ليرد شريف بعدم تصديق :-
” لإن الطفلان سيولدان بعد ثلاثة اشهر تقريبا اي بعد زواجكما بأقل من أربعة أشهر … ماذا سنقول للناس …؟!”
زفر صلاح أنفاسه مرددا بملل :-
” هذا ما كان ينقصني …”
بالكاد سيطر شريف على اعصابه وهو يهتف :-
” بالله عليك يكفي .. لا تسقط من نظري اكثر يا صلاح .. انت تثير نفوري بطريقتك هذه …”
تمتم صلاح بسخرية :-
” لإنني صريح ولا أجيد اللف والدوران …”
قال شريف ساخرا :-
” نعم انت الصريح ونحن المنافقون والأوغاد …”
هتف صلاح متهربا من الحديث الممل من وجهة نظره :-
” سأغادر الآن .. يجب أن أتصل بنديم وأعزيه وكذلك غالية …”
لم يجيه شريف عندما سأله صلاح :-
” ماما ما زالت هناك ، أليس كذلك ..؟!”
رد شريف بفتور :-
” نعم ومعها زوجة عمك رحاب وابنتها نرمين …”
هز صلاح رأسه بتفهم ثم تحرك مغادرا المكان تاركا شريف يتطلع في آثره بحسرة على حال شقيقه قبل أن يحمل هاتفه ويتصل بهايدي كي يطمئن منها على وضع شقيقتها فهو لم يستطع التواصل معها اليوم بسبب العمل ..

جلست ليلى فوق الكرسي ترتشف قهوتها بصمت …
الأيام الثلاثة الفائتة كانت ثقيلة عليها بما يكفي بل كانت تفوق قدرة تحملها ..
صدمتها بتصرف زوجة أبيها وما تلاه من سقوط والدها المدوي ثم وفاة خالتها الصادمة للجميع …
ستكون كاذبة إن قالت إنها لم تحزن عليها …
بحق سنوات العشرة بينهما يجب أن تحزن …
جاء الخبر صادما لها ربما لإنها لم تتصور أن تكون نهايتها قريبة الى هذا الحد …
بعدها وجدت نفسها تبتلع صدمتها بسرعة وتدعم والدتها في مصابها …
والدتها التي قضت الايام الثلاث الفائتة في منزل خالتها حتى انتهى العزاء فإضطرت للمغادرة معتذرة بسبب وضع زوجها الصعب مكتفية بإخبار الجميع بشكل مختصر عن إصابته بذبحة صدرية متجاهلة الأسباب وما حدث قبلها تماما …
أغمضت عينيها بتعب وهي تتذكر حزن والدتها المتفاقم على كلا من شقيقتها وزوجها ولم يخفَ عليها رعب والدتها من خسارتها لوالدها وقد تفاقم هذا الرعب بخسارة شقيقتها التي كانت مقاطعة لها تماما في آخر أشهر …
والدتها التي تحاول الوقوف بصلابة خادعة للجميع عداها هي حيث أخذت مكانها في عزاء شقيقتها كما يقتضي الواجب تساند غالية والجميع وهي بدورها ذهبت الى العزاء لكن كضيفة فقط لا أكثر …
تذكرت ذلك الشعور الذي داهمها ما إن دلفت الى المنزل ..
لم يكن شعور الحنين وما شابه بل على العكس شعرت بالرهبة وإنكماش روحها ما إن وطأت ذلك المنزل بقدميها وقد تفاقمت رغبتها بالمغادرة سريعا ..
ورغم ذلك ذهبت في اليوم التالي الى العزاء ايضا وتحدثت مع غالية الجامدة بطريقة مريبة دون أن يخفي عليها ذلك البركان الخامد خلف جمودها …
كان هناك شيء مبهم في ابنة خالتها …
شيء جعلها تعجز عن البكاء حتى …!!
تنهدت بصمت وعادت ترتشف من قهوتها بعدما فتحت عينيها وذكريات الأيام الفائتة ببؤسها تزورها مجددا …
شعور الشفقة ملأها اتجاه غالية وهي التي فقدت والدتها …
كيف لا تشعر بذلك وهي تجلس الآن بقلب مرعوب من خسارة والدها التي تهددها في أي وقت …؟!
خسارة الوالدين أقسى شعور يمكن أن يمر به أي أحد وهي تدعو ربها مرارا وتكرارا ألا تخسر والدها …!!
عادت ترتشف من قهوتها وتتذكر نديم هو الآخر ..
لقد رأته بالصدفة البحتة …
كان صامتا هو الآخر رغم تعب ملامحه الواضح والألم الشديد الظاهر في عينيه ….
ألم صامت فقط …
يومها تقدمت نحوه تعزيه برسمية فشكرها بنفس الرسمية رغم ذلك الإمتنان الذي ظهر في عينيه ونبرة صوته على مبادرتها بتعزيته وهو الذي بدا غير متوقعا لمبادرة كهذه منها …
أخذت نفسا عميقا وهي تضع القدح البلاستيكي جانبا قبل أن تقرر الإتصال بالمربية للإطمئنان على شقيقها لكنها فوجئت بالممرضة تخبرها عن رغبة الطبيب برؤيتها في مكتبه …
شعرت بقلبها يكاد يسقط أسفل قدميها وهي تتقدم نحو غرفة الطبيب الذي إستقبلها بإبتسامة ودودة قبل أن يخبرها عن حالة والدها وما وصلت إليه …
وبعد حديث مختصر عن وضع والدها وقلبه المتعب و ما أصابه وأسبابه أنهى الطبيب كلماته بجملة جمدتها كليا فوالدها وحسب قول الطبيب غاب في غيبوبة إختيارية رافضا الإستيقاظ منها وكأنه وجد في تلك الجلطة التي أصابته فرصة للهرب من كل المشاكل المحيطة به دون رجعة …
خرجت ليلى بعدها مصدومة ولم تشعر بنفسها الا وهي تنهار باكية …
بكت لمدة لا تعلمها قبل أن تقرر المغادرة والعودة الى منزلها …
عادت بعدها الى المنزل بسرعة قياسية وشعور الإختناق يملأ صدرها ….
والدها في غيبوبة لا أحد يعلم متى سوف يستيقظ منها ..
وصلت الى الفيلا ودخلت بوجه هادئ جامد عندما وجدت المنزل هادئا تماما فصعدت الى الطابق العلوي ومنه الى غرفة أخيها …
دلفت الى الداخل تتأمل عبد الرحمن النائم بسلام فتقدمت نحوه تلمس شعره برقة ثم تخرج من الغرفة فتسقط عينيها على الغرفة الأخرى حيث يوجد شقيقها الآخر مع مربيته ….
عادت بذاكرتها الى الخلف وهي تتذكر ما حدث في اليوم التالي من مرض والدها حيث نفذ كنان وعده وأتى بزوجة والدها والطفلين بطريقة لا تدرك عنها شيئا ولم تهتم أن تعرف كيف فعلها …
تذكرت مجيئه الى المشفى وهو يخبرها ان الطفلين في طريقهما الى منزلها بينما سهام معه وهي ستقرر ما سيحدث بعدها ….
طلبت منه أن يأخذها بسرعة الى المنزل لترى عبد الرحمن وتطمئن عليه تاركة مريم في المشفى لوحدها …
ما إن وصلت الى المنزل حتى وجدت الصغير يستقبلها فركضت تعانقه بلهفة والدموع تغطي وجنتيها ….
ثم انتبهت اخيرا الى ذلك الصغير الذي تحمله مربية عبد الرحمن فتقدمت نحو بقلب مضطرب تتأمله بحذر فتنصدم بلون عينيه الأخضر الجذاب وشعره الأشقر لتبتسم لا إراديا عندما سمعت كنان يهتف :-
” لقد أخذنا كلا الطفلين الى المشفى للإطمئنان على حالتهما اولا وهما بخير تماما .. ”
التفتت نحوه ترمقه بإمتنان شديد وهي تخبره بصدق :-
” لا اجد شيئا أقوله يناسب ما فعلته معي .. حقا لا أعرف ماذا أقول …”
حينها فاجئها وهو يردد بإبتسامة ثابتة :-
” لا تشكريني يا ليلى .. ما فعلته شيء طبيعي جدا … انت زوجتي ولن أسمح بحدوث أي شيء لك او لمن يخصك مهما حدث .. ”
أضاف بلهجة قوية واثقة آسرتها للحظات :-
” لا تخافي من أي شيء طالما أنا معك فلا أحد يمكنه إيذائك بوجودي …”
حينها لم تستطع قول شيء فاكتفت بإبتسامة هادئة آسرته بدوره دون أن تدري ..
طلبت بعدها من الخادمة أن تعتني بعبد الرحمن بينما تخبر المربية أن تعتني بالطفل الصغير ريثما تجد مربية مناسبة له عندما سمعت عبد الرحمن يسألها وهو ينظر نحو شقيقه بإنبهار :-
” ماذا سنسميه …؟!”
لتنظر ليلى الى الرضيع لثواني قبل أن تجيب بأمل :-
” بابا هو من سيسميه عندما يستيقظ سالما باذن الله …”
غادرت بعدها الفيلا مع كنان الذي طلبت منه أن يأخذها الى زوجة والدها لتتفاجئ بها موضوعة في بناية قديمة متهالكة في منطقة تقع عند اطراف العاصمة وحولها رجال كنان …
لم تشعر ليلى بنفسها الا وهي تنقض عليها وتصرخ بها بغضب بينما وقف كنان بعيدا فقليلا بعدما طلب من رجاله المغادرة يمنحها الفرصة لتفريغ ما في جوفها …
وأخيرا صفعتها على وجهها بشكل أثلج صدره وهو لأول مرة يرى هذا الجانب منها …
” حقيرة … ناكرة الجميل ..”
قالتها ليلى بأعصاب مشدودة عندما هتف كنان بجدية :-
” ماذا سنفعل الآن بها ..؟! القرار لك …”
خل الصمت المطبق عندما اضاف كنان :-
” يمكنك حبسها إذا أردت …”
نظرت له بصمت وسهام تتأملها بحقد لا ينتهي عندما أشارت له ليلى ليتحركا خارج المكان فوقفت بعيدا تخبره بتشوش :-
” بالنسبة لي اريد حبسها لكن ماذا عن الطفلين..؟! هذا سيؤثر على سمعتهما مستقبلا … ”
هتف كنان بتأكيد :-
” للأسف هذا صحيح …”
أضاف يسألها بحذر :-
” هل تريدين إبعادها عن الطفلين فقط..؟!”
سألته بلهفة :-
” هل تستطيع ..؟! انا لا أريد شيئا سوى إبعادها عن طريق الطفلين بل عن طريقنا جميعا … ”
هتف بثقة :-
” لا تقلقي من هذه الناحية … أعدك إنها لن تجرؤ على الإقتراب من الطفلين بعد الآن …”
هتفت بجدية :-
” لا تؤذيها يا كنان … هي والدتهما وأخاف أن يكبران و…”
قاطعه بسرعة :-
” انا لست مجرما يا ليلى … انا فقط سأضمن سلامة الطفلين بعد الآن …”
أضاف بجدية :-
” هاتي أوراق التنازل عن أخيك الأصغر من المحامي لتوقع عليها حالا …”
” والمال المتفق عليه ..؟!”
سألته بتردد ليجيب بجمود :-
” لا يوجد اموال .. وإذا أردتِ يمكنني إعادة المبلغ الذي أخذته من والدك مسبقا ..”
قالت بسرعة :-
” كلا لا داعي … فقط أريدها أن تبتعد عنا ..”
وحدث ما أرادت حيث أتى كنان في اليوم التالي ومعه عدة اوراق يخبرها بسلاسة :-
” يمكنكِ أن تطمئني الآن … سهام تنازلت عن الطفل الأخر بشكل قانوني ونهائي فلا يحق لها بعد الآن رؤيتهما بل ووقعت تعهد بعدم التعرض للطفلين لأي سبب كان وإذا ما أصاب الطفلين شيء ما لا سامح الله ستكون هي المسؤولة عما أصاب أيا منهما …”
تأملته لثواني بدهشة تحولت الى فرحة غامرة وهي تأكدت أخيرا إنها ضمنت سلامة أخويها …
نظرت له بعينين مليئتين بالفرحة غير مصدقة ما فعله وكيف ساعدها وقدم لها معروفا لن تنساه له مهما حدث وفي النهاية وجدت نفسها تعانقه بعفوية ودون وعي وهي تشكره داخلها دون توقف ..

وقف أمام الموقد ينظر الى دلة القهوة بشرود بات رفيقه طوال الأيام السابقة ..
مرت ثلاثة ايام على رحيلها ..
انتهى العزاء وغادر الجميع بإستثناء بعض المقربين جدا حيث زوجتي عمه ونرمين ابنة عمه وغيرهم من اقرباء والدته ….
ثلاثة ايام التزم فيها بالصمت التام …
الصمت ولا شيء سواه …
لم يذرف دمعة واحدة حتى …
كتم جميع مشاعره داخله وبقي جامدا ، ثابتا يستقبل المعزيين بهدوء وثبات لم يكن يدرك إنه يمتلكه في ظرف كهذا …
ما زال هناك البعض في المنزل كواجب مفترض …
ايام العزاء انتهت ولكن عزاء قلبه لا نهاية له …
أفاق من أفكاره عندما وجدها تمد يدها وتطفئ الموقد بسرعة فوجد القهوة غلت تماما وكادت أن تتجاوز الحد العلوي للدلة …
حملت حياة الدلة واتجهت نحو الكوب الضخم الذي أخرجه وصبت القهوه قبل أن تمد الكوب له ليأخذه منها بصمت تام دون أن يشكرها حتى وهو الذي ينأى بنفسه عن الجميع متباعدا عنهم جميعا دون إستثناء …
تنهدت بحزن على حاله وهو الذي يلتزم الصمت ويغرق في عزلته تماما بعيدا عن الجميع …
تتمنى لو كان بمقدورها اختراق تلك العزلة ومواساته والتخفيف عنه ..
لكنه لا يسمح لها بذلك ولا لأي أحد …
الجميع قلق عليه وعلى غالية التي لا تختلف عنه كثيرا …
فهي الأخرى تعتزل غرفتها ما إن يغادر المعزين لتبقى هي لوحدها مع الموجودين من الأقارب ….
غادرت المطبخ بصمت بعدما وجدت نفسها عاجزة عن التفوه بشيء فوجدت رحاب زوجة العم تتقدم نحوها وهي تسألها :-
” متى ستهبط غالية من غرفتها يا حياة …؟!”
ردت حياة بخفوت :-
” لا أعلم يا خالة … ”
قالت رحاب بجدية :-
” إذهبي إليها حبيبتي وتحدثي معها قليلا .. عسى ولعل تنزل وتتناول العشاء فهي لم تأكل شيئا طوال الأيام السابقة كما رأيت ….”
هزت حياة رأسها بتفهم عندما وجدت نادر يتقدم وهو يسألها :-
” أين نديم يا حياة …؟! لقد أتى صديقه وسام …”
أجابت حياة :-
” في المطبخ ….”
ثم تحركت بعدها الى الطابق العلوي وتحديدا الى غرفة غالية …
طرقت على الباب ثم دلفت بعدما أتى صوت غالية المبحوح يسمح لها بالدخول …
تقدمت حياة الى الداخل تتأمل غالية التي تجلس بصمت فوق السرير وساقيها مرفوعة نحو صدرها تحيطهما بذراعيها …
ملامحها جامدة تماما كعادتها وعينيها محتقنتين كليا رغم عدم ذرفهما الدموع …
جلست حياة جانبها تهتف بتردد :-
“تعالي وتناولي العشاء يا غالية … انت لم تتناولِ شيئا طوال الايام السابقة ..”
تمتمت غالية بصوت مبحوح :-
” لا أريد … لا شهية لدي لتناول أي شيء …”
قالت حياة بترجي :-
” لا يمكن يا غالية .. الإمتناع عن تناول الطعام ليس حلا … ”
أضافت بتروي :-
” حبيبتي أنت تؤذينها بما تفعلينه …”
تمتمت غالية بصوت محتقن :-
” لقد أذيتها أساسا … أذيتها كثيرا ..”
غمغمت حياة بخفوت :-
” لا تفعلي يا غالية …”
” بل سأفعل …”
قالتها بصوت باكي وهي تضيف :-
” انا السبب .. انا من قتلتها .. انا من قتلت والدتي …”
قالت حياة بسرعة وهي تضمها :-
” لا تفعلي هذا ارجوك .. هذا يومها يا غالية … انه قدرها ولا يمكننا الاعتراض عليه … ”
هتفت غالية بدموع لاذعة :-
” لقد جرحتها كثيرا .. لن أسامح نفسي على ما فعلته بها …”
قالت حياة وهي تجاهد للسيطرة على دموعها :-
” من فضلك لا تفعلي … انت لم تقصدي أيا مما فعلته وهي تدرك ذلك …”
هزت غالية رأسها نفيا بعدما ابتعدت من بين أحضان حياة وقالت :-
” لقد تماديت معها … تماديت كثيرا .. لكنني لم أكن أعرف إن هذا سيحدث .. ملأني الحزن والغضب على نديم و …”
كتمت شهقة كادت ستصدر منها وهي تضيف بأنفاس متعبة :-
” والله لم أكن أعلم ما سيحدث … ”
حاولت حياة تهدئتها من جديد عندما سمعت صوت طرقات على باب الغرفة لتسمح للطارق بالدخول فتتحدث الخادمة بلهجة مترددة :-
” عمار بك وصل قبل قليل و ..:”
وقبل أن تنهي حديثها انتفضت غالية من مكانها واندفعت خارج الغرفة بسرعة شديدة لتركض حياة خلفها محاولة إيقافها عندما اندفعت نحو صالة الجلوس تصرخ بصوت جهوري صدم جميع الموجودين وهي تنقض عليه بشكل صدمه هو شخصيا ….
نهض نادر من مكانه بسرعة ومعه وسام صديق نديم عندما صاحت غالية وهي تخنقه بقسوة :-
” انت السبب .. انت السبب …”
جذبها نادر بكل قوته بينما هتف وسام محاولا تهدئتها :-
” اهدئي يا غالية من فضلك …”
صاحت غالية بإنهيار :-
” لا سامحك الله .. لا سامحك الله ولا وفقك يوما يا عمار ….”
وقبل أن تنقض عليه مجددا صدح صوت شقيقها مرددا بصلابة :-
” غالية … ”
توقفت غالية بعدما سمعت نبرة نديم القوية قبلما يتقدم نحوها متجاهلا عمار الذي نهض يعدل هندامه فربت على كتفها عندما صاحت وهي تشير نحو عمار :-
” أخرجه من هنا .. أخرجه فورا قبل أن أقتله ….”
حاولت زوجة عمها تهدئتها وكذلك حياة التي قبضت على ذراعها بمساندة عندما سار نديم نحو عمار الذي هتف بنبرة متهكمة :-
” البقاء لله يا نديم … ”
وقف نديم يتطلع اليه بصمت تام ..
اخذ الجميع يتابع ما يحدث بتوتر …
حياة تربت على كتف غالية بدعم ونادر ما زال ممسكا بها ….
نرمين انكمشت على نفسها بينما وسام يقف متحفزا مستعدا للدخول في عراك مع عمار لأجل صديق عمره …
ولكن نبرة نديم التي صدحت هادئة ألجمت الجميع :-
” أشكرك يا عمار .. ”
ثم أضاف وهو يقبض على كفه بقسوة وعينيه تلمعان ببريق حاد متوعد :-
” عقبال التعزية بك قريبا ان شاءالله …”

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية حبيسة قلبه المظلم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى