روايات

رواية بيت البنات الفصل التاسع عشر 19 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات الفصل التاسع عشر 19 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات الجزء التاسع عشر

رواية بيت البنات البارت التاسع عشر

بيت البنات

رواية بيت البنات الحلقة التاسعة عشر

نتحررُ من قيدِ أحزاننا بعد مرور فترة قصيرة من الوقت، نُبصرُ ضوءَ الأمل الذي يخترقُ ظلمةَ الحزنِ فنتحركُ بضعَ خطواتٍ للمستقبل، فنُرَى برداءِ القوةِ وهيئةِ الإصرارِ والعزيمة، لا ينظرون سوى لتخطينا الأمور وتجاوزها ولا أحد يرى الجروحَ الداميةَ التي تركتها تلك الأحزان، لا يطلعون إلا على ظاهرِك أما عن أعماقِك وقلبِك فهم لا يفقهون شيئًا؛ رُفعت الغشاوة عن عينِك أنت فقط، لترى تلك الجروح وندباتها، وتتألم … بمفردِك.
كانت جنى تتحرك في مكتبها بخفة وحماس، لقد قررت بأن تعيده لما كان عليه وأفضل بكثير، ستنفق وتُهدر الكثير ولكنها تعلم أن الله سيعوضها بما يُهلل قلبها ويعيد إشراقته للحياة.
وكان “عمرو” و “جميلة” يتابعونها من على بُعد بدهشة وزهول؛ كيف تكون بهذه الحيوية كأن لم يصبها شيئًا.!! تتحرك في المكان منذ الصباح تقوم بهذا وذاك دون أن تجلس لدقيقة واحدة!
تحسست جميلة ظهرها الذي آلمها وهي تنظف المكان رفقتهما وقالت ولازالت عيناها مثبتة على جنى التي حملت صندوق كبير أخفى وجهها خلفه وتحركت لإحدى الغرف: اللهم صل على النبي!!
وقال عمرو الذي يحمل بين يده كوب من الشاي أعده خلال الدقائق الصغيرة التي يستريح بها: بتتنطط ولا الديك الرومي الهربان من صاحبه!
أمالت جميلة وجهها جانبها تنظر ضاحكة بعد هذا التشبيه الذي وإن علمت جنى بأمره ستثور غضبًا، القى عمرو الكوب البلاستيكي في سلة صغيرة أمامه ووقف مقتربًا من جنى التي تربعت أرضًا أمام صندوق كبير مليء بالأقمشة وتحدث: دول الحاجات اللي هتترمى، أكدنا عليهم أنا وجميلة.
رفعت جنى رأسها له ثم نظرت لجميلة التي ابتسمت هاتفة: Done يا فنانة.
وعادت لتنظر للصندوق أمامها بتفكير وصمت قطعه فجأة دخول بسنت المبتسمة وبسملة التي كانت بدون أي تعبيرات.
– السلام عليكم.
قال بسنت وهي تنظر للموجودين واللذين تعرفوا عليها وعلى بسملة ثم اقتربت من جنى أرضًا وجلست بالمقابل على الأرض هي الأخرى: أنا قولت نيجي نساعدكم عشان أكيد مش هتعرفوا تخلصوا لوحدكم.
أجابت جميلة بمرح وهي تقف ململة بعض الأوراق والأكياس أرضًا: لأ فنانتنا قايمة بالواجب وزيادة جِدًّا.
أكد عمرو على حديثها بتعب مصطنع وهو يفرك عنقه: حصل والله، أنتوا لو شوفتوها وهي بتطلع من أوضة وتخش التانية وتطلع برة وتدخل هتتخضوا، ربنا يعينك ويقويكِ أكتر وأكتر.
تحرك عمرو بالمكان يستكمل ما كان يفعله قبل استراحته وكذلك جميلة وتركوا الأخوات معًا، ضحكت جنى ضحكة صغيرة على حديث عمرو دون أن ترفع رأسها ولازالت تفكر بأمر تلك الأقمشة البالية التي قام هؤلاء البلطجية بقطعها، لقد كانت تلك الأقمشة جديدة بأكياسها لم تُفتح لمرة حتى! ابتاعتها بفرحة عارمة بعد أن قررت أن تبدأ بصنع تصاميمها وتحويلها من مجرد رسومات على الأوراق لواقع ملموس ولكن قبل أن تصنع التصميم الأول حتى حدث ما حدث.
كانت بسنت تراقب قسمات وجهها التي انكمشت بحزن، تنهدت وتحدثت بإبتسامة وهي تخرج قطعة من القماش وكأنها قرأت ما يدور بعقل الأخيرة: فيهم حاجات حلوة لسة.
رفعت جنى وجهها لتنظر لها بحيرة وتابعت الأخرى وهي محتفظة بالبسمة على ثغرها: عارفة إن متبقاش منهم غير قطع صغيرة بس مش القطع الصغيرة من القماش بتكون في أوقات مفيدة!!
أخذت تخرج تلك الأقمشة من الصندوق الذي سبق وقرروا أن يتخلصوا منه وهي تستأنف شرحها وحديثها المبطن بمعانٍ ذات مغزى: مش معنى إنهم اتبهدلوا شوية إننا نرميهم، الحاجات الصغيرة دي ساعات بنحتاج ليها أكتر من قطعة القماش الأساسية، أوقات كتيرة هي اللي بتدي للتصميم الجمال والطلة، ماترميهمش وماتيأسيش!
– حِتة الهِدمة الزرقا دي لو هترميها هاتيها لأمك تمسك بيها الحِلل السخنة بدل ما هي بتقطع في فلنات أبوكِ كل شهر واحدة كدة.
اقتحمت بسملة جلستهم بتلك الكلمات التي جعلتهم يضحكون، أشارت لها جنى لتجلس هي الأخرى جانبهم أرضًا فجلست وهي تتصنع اللامبالاة: رغم إني مبحبش قعدة الأرض دي ورغم إن العباية هتتعك بس هقعد.
ضحكت بسنت ضحكة رقيقة جِدًّا تشبهها وقال وهي تربت على قدم بسملة: كرمِك مغرقنا يا بسكويتة.
ضاقت المسافة بين حاجبي جنى وهي تردد بإبتسامة: بسكويتة؟؟
انفجرت بسنت ضاحكة وهي تتذكر ذلك الموقف الذي حدث أثناء قدومهم لهنا وأخذت تقص على جنى والضحكة لا تغادر وجهها: وإحنا جايين واحد كان راكب على موتوسيكل غمزلها وقال أيوا يا بسكويتة يا عسل، مش قادرة والله كل ما افتكر بسملة وهي بتخلع الكروكس ومُصرة تجري وراه بموت على نفسي من الضحك.
ضمت بسملة ذراعيها لصدرها واشاحت بوجهها جانبًا مغمغة بغضب: عيل هُزُق..
ونظرت لشقيقتيها وصرخت بهم: اصطبحوا وقولوا يا صبح منك ليها.!
ضحكت جنى مع بسنت وأخذت تردد ذلك اللقب الجديد على مسامع بسملة المتذمرة، ثواني وابتسمت وتحولت تلك الإبتسامة لضحكة وهي تشاركهم وتندمج معهم بالحديث متنساية همومها ولو للحظات صغيرة.
أحاديثهم العشوائية وضحكاتهم الخارجة من قلوبهم وتلك الذكريات التي أخذوا يستعدونها معًا، كل هذا كان بمثابة عقارٍ مؤقت تناولته بسملة لتعيش معهم اللحظة قبل أن تعود لكربها.
عاونت الفتاتان أختهم في إعادة التنظيم مع كل من جميلة وعمرو الذي لم تهبط عينُه عن بسنت، كانت رقيقة في كل شيء، رقيقة في أفعالها، حديثها، ابتسامتها وحتى في ضحكتها الرنانة!
تمتلك وجه دائري وبشرة فاتحة على عكس بقية أخواتها اللاتي ورثن السمرة من والدهن، عينُها بنية اللون ووجهها ممتلئ بشكلٍ جذاب – رغم أنها لم تكن سمينة جسديًا -، أنفٌ كبير لم يُنقص من جمالها شيئًا، شِفتُها السفلية ممتلئة أكثر بكثير عن الأخرى وتمتلك ايضًا غمزة صغيرة في المنطقة العقلية وهي آخر جزء من منطقة الوجه تحت الشفة السفلية.
كانت جميلة جِدًّا مقارنة ببسملة وجنى، هذا ما دار بعقل عمرو الذي اختلس بعض النظرات لها وهن يدور من حولهم متحججًا بالتنظيف.
وانتهوا في تمام الخامسة والنصف بعد العصر، كانت جميلة قد غادرت عند آذان العصر وكذلك عمرو فأغلقت جنى المكان بالنسخة معها ووقفت رفقة بسملة تنتظر عودة بسنت من البقالة المجاورة بعد أن قررت شراء حلوى مثلجة للجميع.
نظرت جنى لأختها وظلت ترمقها بصمت حتى انتبهت لها الأخيرة، ابتسمت وطالعتها بغرابة: بتبصيلي كدة ليه؟؟
زفرت جنى الهواء وتحدثت بنبرة حانية وهي تُميل رأسها قليلًا: دبلانة ليه كدة يا بسبوسة!
ارتبكت وتأرجحت نظراتها في كل الأماكن عدا عين تلك القابعة أمامها والتي لاحظت هذا، جف حلقها وخرج صوتها بتوتر: دبلانة إزاي يعنى؟؟
اومأت جنى عدة مرات واقتربت منها: مخبية حاجة، بتحاربي لوحدِك ليه لما ممكن أحارب معاكِ.
صمتت،
وارتجفت شفتيها رغمًا عنها.
اقتربت منهم بسنت تعطي كل واحدة الطعم التي تحبه فحمدت بسملة الله سرًا على مجيئها الذي قطع الحوار بينها وبين جنى التي عزمت على معرفة كل شيء ومساندة أختها.
وساروا معًا في الطريق المؤدي لمنزل الشيخ محمد بعد أن أخبرتهم جنى بموافقة والدهم على حضوره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أصعب ما قد يتذوقه الإنسان هو فراق ما يحب ومن يحب، فراق مكانًا زرته، شخصياتِ قصة قرأتها، أبطالَ فيلم شاهدته، صديقًا غالي على قلبِك قرر أن ينتقل لبلد آخر، وحبيب جمعتك به الدنيا لتقضيا معًا أسعد لحظات حياتكما.
ولكن تلك المواجهة بعد الفراق هي الأصعب والأكثر إيلامًا.
انضمت “ولاء” طليقة مصطفى لعائلة القاضي على الغداء، بعد أن أصرت رضوى أم مصطفى على ذلك فجلست تتصنع أنها تأكل في حين لم ترفع المعلقة لمرة واحدة حتى يصدقوا أنها تأكل.
كان كل تركيزها منصبًا على ذلك الذي يجلس جانب شقيقته “جهاد” والتي تجلس بجانبها، تختلس النظر له بين الثانية والأخرى؛ تروي عطش شوقها وحنينها له بتلك النظرات السارقة، ولم يخفى حالها عنه.
كانت “ولاء” بعالمٍ آخر لا ترى فيه سواه ولا تستمع لتلك الأصوات حولها، تفكر … تُرى هل ستجتمع القلوب يومًا؟ تلك الرابطة بينهما والتي مزقتها بنفسها بقسوة هل يُمكن أن يُعاد عقدها؟؟
– وبابا my Super hero عرف يفتح الباب وينقذ وَسومة العسولة.
قالت صغيرتها “وسام” تلك الكلمات تختتم بها سردها لما حدث بتلك الدقائق الفائتة قبل مجيئها فلم تتلقى الرد من والدتها التي بدت وكأنها لم تستمع لكلمة واحدة، مطت الصغيرة شفتيها للأمام بتذمر طفولي: ماما.!!
حركت رأسها بحركة تلقائية بعد أن انتشلها صوت الصغيرة من بئر أفكارها لتنظر لها مبتسمة بحب: نعم يا روحي.
عقدت ذراعيها واشاحت وجهها بعيدًا عن والدتها دون أن تنطق بأي حرف، تنهدت ولاء بحزن لتلك الحالة التي كلما داهمتها تفتح لها ذراعيها بترحيب فتنغمص روحها في بحار الماضي والذكريات فتصبح غير واعية لواقعها وحاضرها.
كان الجميع يلتزم الصمت بحرج ولا علم لهم بكيفية الحديث في هذا الموقف المحرج الذي وضعتهم به السيدة رضوى، رفع عثمان وجهه ينظر لوالدته بغيظ بينما تمتم بشيء لم تستطع رضوى قراءته ولكنه بدى كوعيد!
تحدثت بحدة دفينة وهي تلتقط صحن الطعام من أمامه: ليه بس كدة يا عثمان دي مش أكلتك خالص، دانت مجتش ناحية الفراخ المشوية اللي بتموت فيها.
توسعت عيناها دهشةً وفتح فمه ليخبرها أنه لازال يأكل فتفاجئ به تلقي بطعامه في صحنها متحدثة بيأس: يلا هاكله أنا ووسام بقى وامرنا لله، خدي يا وسومة صباع المحشي ده، هَمْ يا جمل!
قالت الأخيرة وهي تطعم الصغيرة بينما فلتت ضحكة جهاد شقيقته التي لم تستطع أن تكتمها أكثر من ذلك وانطلقت ضحكة الصغيرة التي فهمت الأمر هي الأخرى.
وابتسمت ولاء على ضحكة صغيرتها، تطلعت لها بسعادة وتمنت أن تظل البسمة ترين وجهها هكذا طيلة حياتها.
وبين كل هذا لم يرفع وجهها عن الطعام أمامه، يأكل ببرود وثبات وكأنه يجلس بمفرده على تلك الطاولة، دفع مقعده للأمام ووقف متحركًا ناحية المرحاض دقائق وخرج يرمقها دون أية مشاعر: لو خلصتي يازين تحصليني على تحت.
ابتلعت ريقها واومأت بهدوء برأسها دون أن ترفع وجهها عن الأرض وخرج هو من البيت صافعًا الباب خلفه..
– بابا متعصب.
نطقت وسام بعفوية وهي منشغلة بتناول ما تعطيه لها جدتها رضوى، ابتسمت ولاء بخجل ووقفت نلحق به بعد أن أخبرت صغيرتها أنها ستعود بعد دقائق.
تنهدت جهاد وقال وهي تترك ما بيدها بغيظ: هما بيعملوا في بعض كدا ليه؟؟ ما يخلصوا وخلصونا معاهم!
– هما مين يا عمتوا؟؟
انتبه عثمان لها فرمى شقيقته بنظرات محذرة قبل أن ينظر لوسام متحدثًا باستفزاز: شوف البت حشرية إزاي؟؟ مناخيري الكبيرة دي خليها لنفسك ياختي مش للناس.
– local.
ضرب الطاولة صارخًا بوالدته: قولتلكم دخلوها حكومي قولتوا هتتعلم احسن تعليم، هو ده احسن التعليم ياست الحجة؟؟
رفعت رضوى حاجبها بسخرية: مش أحسن ما تسبِلَك يا روح أمك؟؟
خارج البناية وأمام سيارته تحديدًا، استند مصطفى عليها متصنعًا الإنشغال بهاتفه بينما يحترق هو لأفعالها التي تقوده للجنون، ابتعد كما أرادت وتركها وشأنها كما صرحت هي برغبتها بهذا، وبدلًا أن يعيشوا معًا ينعمان بدفء العائلة يعيش كلٌ منهم حياته وحيدًا.
رآها تهبط ادراج العمارة تستند بيدها على السور جانبها، اقتربت بتمهل وخزي، عيناها مليئة بالندم والحزن، ترجوه سرًا أن يعيد لهما حياتهما التي هدمتها بيدها.
– مصطفى!
نطقت إسمه بصوتٍ هادئ، لم تفشل يومًا في جعل قلبه يتأرجح بسعادة عند نطقها لإسمه، شعر بغصة في قلبه عندما رفعت وجهها ليرى لتلك الطبقة الرقيقة من الدموع التي غلفت عينيها، اشاح بوجهه عنها وتحدث بخشونة وغلظة يخفي خلفها رغبته القوية في جذبها لأحضانه ومعاتبتها على ما وصلوا إليه
: إيه اللي جابِك يا ولاء؟
مسحت أنفها بمنديل وتحدثت بصوتٍ خافت تعمدت ألا ترفعه كي لا يرى اختناقها: الأسبوع ده أسبوعي، جيت آخد وسام.
– ما أنا كل أسبوع ببعتهالك من غير طلب ومن غير ما تيجي، إيه اللي جَد؟؟
هبطت أول دمعاتها تشق طريقها فوق وجنتها فأخفضت وجهها بسرعة ترفض أن يرى هو هذا، أجابت بنبرة هادئة وكلمات متفرقة بسبب كتمانها لبكائها: عادي … حبيت آجي عشان … عشان أشوف طنط وجهاد.
تنهد ولم يعد يحتمل تلك اللعبة السخيفة، إن كانت تحبه وهو كذلك فلما فعلت ما فعلته!!! لما هما هنا بعده بهذه النقطة؟!! لم تلك القيود التي تمنعه من مد يده وتجفيف تلك القطرات التي لا تتوقف عن الهطول؟!! لم ذلك الحصن المنيع بينهما والذي هو بالأساس سبب بكائها.
تحدث بيأس وهو يتطلع لها بلوم: عايزة إيه يا ولاء، أفعالِك ليه متناقضة بالشكل ده؟؟ فضلتِ تطلبي الطلاق في الرايحة والجاية، ويوم ما طلقت شوفت في عينك كسرة وخذلان وعتاب وكأني أنا الغلطان.
سمحت لنفسها بالبكاء وبأعلى صوتٍ لديها، رفع حاجبيه بدهشة يعتدل بوقفته ينظر حوله بريبة متفحصًا المكان قبل أن يعاود النظر لها متحدثًا بضيق: لو سمحتِ اهدي عشان صوتِك والناس..
– أنت ماتمسكتش بيا.
قالتها من بين بكائها فتوسعت عيناه بصدمة ليشير بيده على نفسه بإستنكار وغضب: أنا؟؟ أنا يا ولاء ماتمسكتش بيكِ؟!! دانا فضلت أعدي وادادي وأقول هرمونات وستات وعديت طلبك للطلاق بدل المرة ألف وأقول أكيد بسبب عصبيتها أو زعلها بس أنا مقدرتش أقبل على نفسي دا كله…
صمت لبرهة من الزمان قبل أن يستأنف بهدوء يشرح لها: مفيش راجل يقبلها على نفسه ولو فكرتِ فيها شوية هتفهمي، طريقة طلبِك للطلاق في كل وقت وأي وقت وأسلوبِك الفظ مفيش راجل يتقبلهم، حسستيني إني وحش وغير مقبول وإنك مش عايزاني، كأنك كنتِ بتنفري مني!
رفعت وجهها بسرعة تنفي كل تلك الأحاسيس التي أوصلته له بسبب أفعالها: لا والله أبدًا…
نظرت ليديها التي تعرقت لفرط فركها لهما وتابعت بصدق: عمرك ما كنت تقيل عليا يا مصطفى، عمرك ما كنت غير مقبول ولا وحش…
رفعت وجهها ببطئ تسترسل بحب تنبض به عيناها قبل قلبها الذي تسارعت دقاته: أنت الحاجة الوحيدة الحلوة في حياتي، كنت…
قالت الكلمة الأخيرة بألم وغصة ولم تنطق ببنت شفة بعد هذا أمام صمته القاتل، قالت وهي تمسح انفها لازالت ترمق الأرض أسفلها: أنا هطلع آخد وسـ…
بترت حديثها عندما قاطعها بصوت مليء بخيبة الأمل: طب ليه؟؟
نظرت لعينيه بغرابة فأوضح: ليه وصلتينا لهنا؟؟ كام مرة حاولت أفهم منك سبب اللي بتعمليه وفي كل مرة كنتِ بتقابليني بنفس الأسلوب وكأنِك قاصدة تكرهيني فيكِ.
اهتز جسدها وارتجف وهي تبكي، والتزم هو الصمت وظل يتطلع لها بمحاولة لفهمها، وكأنها أخرى غير تلك التي عاش معها أسعد أيام حياته.
وبالنهاية لم يحصل منها على اية حديث يريح قلبه الساذج، انتظر أن تبرر وتخبره أنها فعلت هذا لسبب ما، كان سيسامحها ويعيدها له فورًا لكنها التفت وأولته ظهرها تعود لأعلى مجددًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– ورب العرش العظيم لأوريها بنت توفيق، بقى أنا على آخر الزمن إبني يخش الحبس!! وعلى يد مين؟؟ بنت وجيهة وتوفيق الزبالة دي؟!!!
صاحت وولولت بتلك الكلمات والدة عصام (السيدة دعاء) التي ما إن وصلها هذا الخبر صرخت تندب حظها وكأن الله عز وجل توفاه.
وكان يجلس هو لجانبها يحترق داخله لتلك الليلة التي قضاها بين وجوه اجرامية مقززة، وكأنه يختلف عنهم كثيرًا ذلك الحقير!
جز فوق أسنانه وتحدث من بينهم وهو يتطلع للفراغ أمامه بوعيد: اصبري يامّا، اصبري الأيام طويلة والزمن طويل.
اقترب منهم أخوه الأكبر “عادل” يرتشف من قنينة المياه بين يديه، جلس أمامهم وتحدث بلهجة يشوبها الكِبر: طلعت منهم المرة دي عشان أخوك محامي شاطر، مش كل مرة هترمي نفسك في البحر هتلاقي اللي يشدك ياخويا.
صرخت دعاء بذلك المتعجرف الذي يعكر مذاق مدللها: وأنت جاي تزيد الطين بلة بكلامك السم دة ولا ايه؟؟ هو ناقص القرف اللي بتقوله ده؟؟؟
رفع عادل أكتافه ببرود: أنا بس بعرفكم، أنا مش كل شوية هتوسط للبيه، فلوسي بتروح بسبب عمايله وأنتِ بتسقفيله على الغلط وبتتضربيله تعظيم كمان!
قال الجملة الأخيرة بسخرية قبل أن يتركهم ويلج لغرفته، ارتمى على فراشه والتقط هاتفه يبعث برسالة لأحدهم..
“هتفضلي معلقاني كدة كتير ولا ايه؟؟”
إبتسم بمكر وهو يبعث بأخرى..
“أنا عارف إنك عايزاني”
“لو مش كدا على الأقل كنتِ عملتِ بلوك!”
“ولا إيه يا هايدي؟!”
أرسل الأخيرة مُرفقة بوجه يغمز وآخر يضحك، تنهد وألقى برأسه للخلف يطالع السقف بينما يحادث نفسه بهيام: جارتي القاسية!
وعلى الجانب الآخر بمنزل عائلة ناصر تحديدًا غرفتها، تأكدت أن الباب مغلق بإحكام وأخذت تطلع لتلك الرسائل ببسمة سعيدة لهذا الإهتمام.
بسمة سرعان ما تلاشت عندما تذكرت زيجتها الأولى، تلك التي زفت فيها وهي بعمر الخامسة عشر لرجل في أوائل الأربعينات، كانت تلك عادات عائلتها التي لم يكسرها سوى شقيقها ناصر الذي تزوج بمن أشار عليه قلبه.
عادات وتقاليد لم تفعل شيئًا سوى أنها أخذت قطعة من روحها ودفنتها مع طفولتها تحت التراب، عاداتٌ مُدمرة وتقاليد قاسية، جعلتها اليوم شخصية منبوذة خارج إطار العائلة، صنعت منها شخصًا لا تعرفه هي، فتاةٌ باردة متسلطة لسان، تفعل ما لا يُرضي صغيرًا أو كبيرًا.
لازالت بقلب ذات الخمسة عشر أعوام ولكن بهيئة ذات الخمسة والعشرون، ترتكب الكثير من الأخطاء بحق الجميع وذلك النابض بداخلها لا ينفك عن الصراخ بها؛ أنتِ لستِ كذلك، أنتِ لست بهذه القسوة، استعيدي ذاتكِ يا هايدي!
رأت تلك الرسائل ولم ترد كما فعلت مع غيرها من رسائله، يريدها اليوم قبل الغد ولكنها ترفض، طلب يدها من إيمان والدتها ولكن هي من رفضت ولا علم له سبب هذا الرفض ولكنه لن ييأس!
بالخارج،
فوق ادراج السلم، تصعد لجانبه متشبثة بيديه بقوة وكأنه سيفر ويتركها، نظر ناصر لندى التي تنظر لكل انش بالمكان بألم واعين زائغة، مر طيف ذكرى هذا اليوم أمامها مرة أخرى وقبل أن تتعمق ضغط بخفة على يدها التي تحاوطها يده.
نظرت له والدموع تترقرق داخل مقلتيها فابتسم يشجعها على مواصلة السير، توقفت أمام السلمة التي جلست يومها عليها تحتضن صغيرتها التي فارقت الحياة بين يديها فارتجف جسدها وشعر هو بهذا.
حاوط كتفها بذراعه وتابعوا صعودهم بمعاناتها في كل خطوة، كانت وكأنها تسير فوق أرض مليئة بالشوك حتى وصلوا أخيرًا لبر الأمان؛ باب منزلهم.
فتح الباب ودخلوا، وقفت تنظر لكل ركن من أركان المكان وعيناها تذرف الدمع كلما تذكرت ابنتها خلود، هُنا حملتها، هُنا داعبتها، هنا تشاركوا الطعام وهي لجانبهم، كل ركن هنا يذكرها بها.
وقف لجانبها وتحدث وهو ينظر حيث تنظر وبصوت هادئ يحمل الحزن بين طياته: ربنا يرحمها يا ندى.
بكت،
التفت يجذبها إليه، عانقها وشدد على عناقه راغبًا بإدخاله بين ضلوعه، مسد على رأسها وظهرها وهي تبكي داخل أحضانه بحنين لصغيرتها: وَحشِتْني أوي يا ناصر.
وأنا أيضًا يا قلب ناصر، وأنا أيضًا اشتقت لها أكثر من اشتياقِك لها، ود لو قال هذا لكنه التزم الصمت وأخذ يبثها حنانه ودفء أحضانه حتى استكانت وهدأت تمامًا..
أسند رأسه على كتفها وتحدث بصوت دافئ وابتسامة صغيرة تلوح على ثغره: البيت كان فاضي من غيرِك، وحشتي البيت وصاحبه يا ندى!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بيت البنات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى