رواية جحر الشيطان الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم ندى ممدوح
رواية جحر الشيطان الجزء السابع والثلاثون
رواية جحر الشيطان البارت السابع والثلاثون
رواية جحر الشيطان الحلقة السابعة والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ” [ رواه مسلم ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت صدمة ساحقة ماحقة لـ ماهر إن لمار لا تزل على قيد الحياة.
لقد حسبها أنتهت ..
وإنه إنتهى منها إلى الأبد ..
ونفذ ما كان يحلم به يومًا ..
لكن أن يراها أمامه هكذا!
تسمر جسده وشحب وجهه وجحظت عيناه، وهوى قلبه بين قدميه من فرط الرعب الذي ملؤه.
وقال بعد ما خارت قواه وسقط على ركبتيه بنبرة ملؤها الخوف والحسرة والإنكسار في آن :
_ أنتِ .. أنتِ.
أرتج عليه فبكى قبل أن يسترسل عبارته، كان يريد أن يسألها كيف ما زلتِ على قيد الحياة؟!
كيف نجوتِ!
ماذا ستفعلين بيّ الآن!
وقرأت لمار كل هذا في عينيه، وتحركت لتجلس على المقعد بعد ما أفسح لها خالد الطريق.
تنهدت لمار في عمق ومالت للأمام وهي ترشقه بنظراتها شزرًا، وقالت في هدوء بارد آثار الرهبة في قلب ماهر :
_ لا ريب إنك تتساءل، كيف إنني ما زلت على قيد الحياة؟
صمتت لحظة وهي تمعن النظر فيه وتسترجع لحظة أنفجار السيارة التي لم تكن لها ..
ولنعود معها نحنُ أيضًا، بالتحديد حينما كانت تقود السيارة، ويلحق بها القاتل الذي أرسله ماهر، ربما يظن المرء إنها كانت تفر منه هاربة، لكنها ابدً لم تكن كذلك، فما أن أصبحت سيارة القاتل إزاءها مباشرةً وألقى قنبلة يدوية داخل سيارتها بعد أن سحب فتيلها، إذ راقبت لمار كل هذا بعينين كالصقر وما إن رمى القنبلة، إذ تلقطتها في كفها وفي غمضت عين كانت تعيدها مكان ما جاءت، وضغطت دواسة الوقود، لتنطلق في سرعة، ودوى الأنفجار قاتل .. رهيب، قبل أن تنالها ألسنة اللهب، وتوقفت بعيدًا عن مكان الأنفجار تراقبه حتى انكعس في حدقتيها، وغمغمت في أسف :
_مكنتش أفضل يحصل كده، بس قاتل متسلسل زيك يستاهل.
ودار بصرها على السيارات التي توقفت عن السير عبر الطريق بسبب الأنفجار.
” وهكذا يا عزيزي نجوت بفضل الله عز وجل وعنايته ”
أتممت لمار روي قصتها بتلك العبارة، فتيبس جسد ماهر تمامًا حتى صار أشبه بالصم الصلاب يكفيه إنها لا تعرف هويته الحقيقية!
وما كاد هذا الخاطر يخالج صدره، إذ استمع صوت لمار تقول في قسوة مخيفة :
_ هلا تفكرت قبل أن تفعل بيّ وبعائلتي كل هذا يا ..
لا يدرِ ماهر لماذا انتفض قلبه مرتجفًا، خائفًا وقد خُيل إليه إنها تعلم من يكون، ولم يدُم تساؤله هذا في أعماقه فقد قست نبرة لمار، وفاضت شراسة مع استرسالها :
_ ولا ماذا يا عزيزي مراد؟!
تدفقت الدموع من عيناي ماهر بغزارة وهو يحدق فيها ذاهلًا، مصدومًا ومرت لحظات طوال وهو يحدق في لمار وهي كذلك، لم يقطع تلك اللحظة إلا خالد وهو ينزع تنكره :
_ يا الله كدتُ أختنق.
والتفت إلى آجار متابعًا :
_ وجهك يخنق يا روحي.
_ لماذا ارتديته إن لم تكن تطيقه؟
قال خالد بهم مصتنع :
_كنتُ مضطرًا، لم يكن هناك حلًا آخر.
مط آجار فمه متهكمًا فضحك خالد، وقال وهو يضرب على كتفه :
_ إني امزح يا صاح لا تأخذ على خاطرك.
نبهتهما لمار في صرامة :
_ هلا توقفتهم عن هزلكما؟
أدى خالد التحية العسكرية وهو يضرب كعبيه في الأرض مغمغمًا بثبات :
_ عُلم.
انسكب دمع ماهر أكثر، وقال بشفاة مرتجفة و أحرُف متلعثمة :
_ كـ .. كـ .. كيف .. عر..
لم يستطع إكمال جملة من شدة رعبه، وتراجعت لمار في مقعدها، وعقدت ساعديها أمام صدرها، وراحت تحدجه في صمت، في حين غمغم حمزة في ازدراء :
_ ياللرجال حين تنهز رجولتهم!
قال له عاصم في برود :
_ ويحك يا حمزة! وهل تُطلق على هذا لقب رجل؟
تدخل خالد معهما في الحديث، قائلًا ببساطة :
_ صَه أنتما الاثنين، إنه أشبه بطفلٌ صغير تبول على نفسه ويختبئ خيفة من والدته كي لا تضربه.
أنطلقت الضحكات من افواههم جميعًا حتى لمار تبسمت.
فردد آجار من بين ضحكاته :
_ عجبًا! لماذا إذن يبدو ليّ كالجرو الساذج؟!
رد عليه إسلام متهكمًا :
_ على رِسلكم يا شباب، لن نختلف في هذا الآن الموضوع نحتاج إلى قرعة لنحسم الأمر.
غمغم خالد متبسمًا باتساع :
_ فليكن!
افتر ثغر لمار عن بسمة، وزجرتهم قائلة :
_ ما خطبكم يا فُتيان اليوم هل اكتفيتم؟ ألن تدعوني أنبس ببنت شفة أم ماذا! ألزموا الصمت دعوني أخبر عزيزي مراد كيف عرفت هويته الحقيرة.
اقشعر جسد مراد، وهو يراقب لمار تنهض بتؤدة، وتقول بنبرة هادئة يخامرها غضبٌ طفيف في كلماتها :
_ أتدري كيف عرفت يا عزيزي …
صمتت مستلذة برعبه، و وأضافت بصوتٌ خفيض وهي تضغط على حروف كلماتها :
_ أنت من أخبرتنا بكلُ بساطة.
اتسعت عينا مراد، وتراجع للخلف في حدة عندما مالت لمار نحوه فجأة، مستطردة :
_ أخبرت حفيدي خالد وهو ينتحل شخصية نجيب، كان من الخطأ أن يسمع نجيب آراس يخبر أخته بما علمه بخصوص ماهر، كان خطأ فادح يا رجل كشف أمره ببساطة بالنسبةً ليّ.
مال خالد على اذن حمزة هامسًا :
_ مال جدتك يا حمزة تبدو مخيفة!
رمقه حمزة بمقت وهو ينظر له بطرف عينه، متمتمًا :
_ اصمت بدلًا من أن تثور عليك كهذا الرجل.
أطبق خالد شفتيه ونصب قامته باعتداد عندما حدجته لمار بنظرة صارمة، وكتم ضحكته وإن اعرب وجهه عنها فأنفلتت ضحكة بسيطة جعلت لمار تعتدل هاتفة :
_ اخرج يا خالد!
قال خالد ببساطة :
_ خالد لم يتكلم ليخرج.
وسألها في اهتمام :
_ ثم بالله عليكِ آترين من العدل أن تحرميني مما يدور هنا ولولاي لم يكن شيئًا لينجح.
قالها مزهوًا، فلم تعره لمار اهتمامًا، والتفتت إلى ماهر، الذي جلس القرفصاء، وهم الكون كله تجلى على وجهه، كأنه استسلم تمامًا لمصيره، قبضت لمار فجأة بكل قوتها على عنقه لتلصق رأسه في الحائط، ولم تبال به وهو يقاوم دون جدوى، بل قالت بغضب يقطر من كل حرف تلفظ به :
_ أتعلم يا عزيزي مراد أكثر شيء أندم عليه في حياتي ما هو؟
واحتد صوتها وإن أختلج لذكرى موت شقيقها يوسف مضحيًا بحياته لحياة أبنتها :
_ إني علمت حقير مثلك، وتدرب على يدي، فهذه اليد قتلت أغلى ما عندي.
اختنق مراد بشدة، وجحظت عيناه وهو يقاومها بكل بسالة، لكن قبضتها بدت له أشبه بكلابة تنشب في عنقه، وضغطت لمار بأصابعها وهي تتذكر لحظة موت يوسف، جنون ابنتها عائشة، ألمها، وحزنها، وتشتت عائلتها الصغيرة.
غمغم خالد متوترًا :
_ ستقتله، هل نتدخل؟
وهم بالاقتراب لولا أن منعه ذراع حمزة الذي امتد امامه، متمتًا :
_ قف مكانك، لا تقترب دعها تنفث عما بداخلها.
فوجئ مراد بكف لمار يتخلى عن عنقه، فمسك عنقه وهو يسعل بقوة، وقد ظن إنه آخر نفس له، ولم يتوقع أن تتركه ..
لكنها فعلت ..
اعتدلت لمار واقفة و دفنت كل حزنها بداخلها، وهي تسير في أرجاء المكان لتسترد انفاسها وهدوءها، ثم تابعت في هدوء كأنها لم تكد تقتله توًا :
_ آهٍ يا مراد لم أتوقع منك كل هذا، لقد تعبت حتى علمت بحقيقتك الحقيرة، عندما ابلغني خالد إن ثمة من عرف هويته وأرسل من يقتله لم يأتي على بالي إلا نجيب لقربه من اراس، ولإني اعلم إنه محال إن اراس يخبره فقد خمنت إنه تصنت عليه خفية دون علمه،
وبيَّد إن نجيب هذا معك يشاركك كل شيء، فلا ريب إنه يعلم عنك كل شيء، وكانت الخطوة الثانية من عائشة ابنتي فقد تصنعت إن سيارتها قد تعطلت بجانب الطريق بعد ما علمت وقت عودته من خديجة، واستوقفته و وقف نجيب ليمد يد العون، ألست غريبة؟.
تنهدت بحرارة قبل أن تتابع :
_ فالأوغاد امثالكم هل يساعدون!!
هذا ليس شأننا الآن، لقد تسللت إلى منزل نجيب وقلبته رأسًا على عقب بحثًا عن اي شيء يدلني على هويتك، ويا للعجب لا تتخيل ماذا وجدت!!
ضاقت عيناي مراد في تساؤل حائر ..
فهو على يقين إن نجيب لا يملك دليلًا واحدًا لهويته الحقيقة.
وبرغم كل ثقته بهذا كان يدرك إن لمار وجدت شيء حتمًا.
لم يطل تساؤله في أعماقه، فسرعان ما أجابته لمار فورًا كأنما تقرأ أفكاره :
_ وجدت على إحدى الوريقات ” مراد سليم القاضي ”
مراد الإبن الغير شرعي لـ سليم عم زين، مراد الذي لم أعلم حقيقته هو و والده إلا متأخرًا .. متأخرًا جدًا، وظننت إن كل منهم أخذ جزاته، فتعود أنت لتتابع انتقام لا أجد له سببًا.
صاح مراد وهو يهب واقفًا كالمعتوه :
_ لا يوجد ماذا؟ لا يوجد سبب! بحققك ألا يوجد؟ لقد عشت طيلة حياتي مع والدتي دون أن أرى والدي إلا نادرًا ليلقي ليّ ببعض المصاريف ويرحل، ويدخلني كلية الشرطة، علاوة على إن زين يتمتع بكل شيء بمفرده هو وابنتك وأخته وانا النكرة! لكن انتقامي منك كان لموت أبي الذي قتلتيه غرقًا، كان انتقام منكم جميعًا .. كلكم دون أسثناء.
وقهقه وهو يتقدم من آجار مشيرًا إليه بفرحة تغمره غمرًا :
_ لكني فلحت في الأنتقام منك، وأوجعتك أعلم إنك تتوجعي إن إبن ابنتك من المافيا.
وصاح وهو يلوح بكفيه في شماتة :
_ لمار الشرقاوي التي قضت عمرها تحارب الإجرام ها انا ذا فلحت في صنع حفيدك مجرمًا بحق.
صرخ آجار وهو ينقض عليه ليلكمة في فكه :
_ أيها الوغد.
سقط مراد على وجهه إثر لكمة آجار التي اودع فيها كل قوته، وهم أن يهجم عليه مجددًا، لولا إن منعه خالد بقوة.
وقف مراد مترنحًا وهو يمسح الدماء بكمه من طرف شفتيه، وتابعت لمار شاردة :
_ بالفعل فلحت وكان خبر قاسي على قلبي، نجحت في أوجاعي يا مراد، ولكن هذا ليس موضوعنا ابدًا، لقد أبهرتني خطتك في الهرب.
تبسم مراد في زهو، بينما هي تواصل :
_ كان الأمر عسير ذا نوائب لا مناص منها، فمن ناحية أنا على يقين إن تم شنقك حينما حكم عليك بالإعدام شنقًا، ومن ناحية فسليم قد لقى حتفه أمام عيني غرقًا.
سكتت لمار هنيهة، مضت خلالها نحو المقعد، وجلست باسترخاء، وتابعت في هدوء :
_ لذا لم يخطر على بالي إلا أمرٍ واحد، ألا وهو إن ثمة شخص يشتت أنتباهي، وهذا الشخص لا اعرفه قط، وهنا كانت متاهة ظننت إنني لن أحور منها.
وفجأة! ترقعت بسبابتها وإبهامها، وهي تستطرد :
_ هنا وجلست جلسة هدوء استغرقت فيها تفكيرًا عميق، تفكيرًا وضعت نفسي في محلك أنت و والدك وكان أيضًا من المحال أن يظل احدكم حيًا، وذادت حيرتي، و وثبت على عدت إتصالات ومقابلات ساعدتني أكثر على التذكر فقبيل شنقك أنت مرضت فجأة وتم نقلك للمشفى.
وصمتت لحظة، ثم أردفت تقول :
_ وبما إنك أنت و والدك ذا علاقات بالمافيا فقد وضعت خطة محكمة .. خطة تستحق الأعجاب.
صفقت بكفيها، وقال خالد فجأة :
_ لا تقولي هذا! فأنا من انتحل شخصية نجيب وذهبتُ لهذا الحقير وعلمتُ كمالت القصة، وطلع استنتاجك في صحيح مائة بالمائة، وهذا الغبي وقع في الفخ.
أومأت لمار برأسها تؤكد قوله قائلة :
_ بالفعل هذا هو ما حدث يا خالد لقد فعلت المافيا عملية تجميل لشخص قريبًا بدنيًا من مراد فأصبح نسخة منه وهكذا تم ابدالهم ومن تم أعدامه هو رجل المافيا وليس مراد قط، و لقد ساعدني معرفة هذا مستشفى جومالي ففي أثناذ بحثي وجدت ملفًا لعملية تجميل أجريت لشخص ليشبه مراد مباشرة.
عقدت لمار ساعديها وهي تتطلع في عيناي مراد، قائلة :
_ ما رأيك يا عزيزي مراد؟!
فوجئت لمار به يثب إلى السلاح الملقي ويرفعه في وجوههم، قائلًا :
_ لن تنجين، سأقتلك، أقسم بأني سأقتلك!
أسترخت لمار في مقدها اكثر، وهي تغمغم في بساطة :
_ حقًا؟! فليكن، ها أنا ذا اقتلني يا عزيزي.
وعلى الرغم من إن ماهر هو من يمسك السلاح، ويهدد، إلا أن قول لمار هذا جعل أصابعه ترتعش حتى كاد السلاح ينزلق من يديه، وبدا له الموت أقرب من حبل الوريد، وسحب إبرة سلاحه وقال بإرتجاف وسبابته على الزناد :
_ أستعدي الموت، أنا اعلم أنكِ لن تقتليني هذا ليس من شيمك، ستتجهين للقانون حتمًا.
هزت لمار كتفيها في استهتار، وقالت ببساطة متهكمة :
_ الضرورات تبيح المحظرات يا عزيزي مراد.
صوب مراد السلاح على رأسها، وقبض عليه بقبضتيه، ورغم إنه يرتعش من قمة رأسه حتى اخمض قدميه، بالفعل هم بإطلاق النار، وتفاجئ فجأة بقدم آجار تطيح بذراعه فطاشت الرصاصة، ودار آجار دورة مدهشة، ولكمه لكمة كالقنبلة حطمت انفه، وهو يردد :
_ ليس بعد يا عزيزي، فأنا أشتهي رؤيتك تتوجع.
تراجع مراد من عنف اللكمة وارتطم في الحائط وارتد عنه للأمام فأستقبله آجار بركلة كالقنبلة هشمت بقايا أنفه، وجذبه من تلابيبه ليقف وكالمجنون راح يلكمة في وجهه، لكن فجأة أمسكت لمار بذراعه، وقالت في صرامة :
_ كفىٰ.
أفلت آجار ذراعه، واستشاط غضبّا وتميز غيظًا، وصرخ في وجهها :
_ كفىٰ! اتجرؤين علىٰ إيقافي؟
دفعتهُ لمار من صدره، وهي تهتف قي حزم :
_ أنا بالفعل أفعل.
صاح آجار وهو يميل عليها بحركة حادة :
_سأقتله يا لمار يا شرقاوي، سأقتله و ..
لم يتم عبارته إذ فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، ولم يخطر علىٰ بال، ففي غمرة انشغالهُم بـ مراد تسلل نجيب إلىٰ الخارج، وها هو ذا يحضر مُنتفخ الأوداج، مُحاط برجالُه إحاطة السوار بالمعصم، كأنهم سيحولون بينه وبين الموت، و وقف في تباهي ورجاله يعدون داخل الحجرة ليكتفوا الشباب من الوراء على غرة، بينما اقترب احدهم ليسند مراد الذي أوشك على السقوط، فسند على ذراع الشاب، ورمق آجار بنظرة مقيتة وهو يتحرك، قائلًا بتشف :
_ لن اموت اليوم يا فتى، ستدفع ثمن هذا، سأعود لأقضى عليكَ.
جن جنون آجار وهو يقاوم الرجلان بشراسة ورأى مراد ونجيب يستقلان سيارة وينطلقان، فهاج أكثر وهو يصرخ :
_ لن أسمح لك، سأقتلك اليوم.
والتفت إلى لمار الهادئة يقول في ثورة :
_ ما بكِ هادئة وكأن الفريسة لا تزل بين يديكِ؟!
هزت لمار كتفيها في بطء، وهمست غير مبالية :
_ لقد انتهى امره بالفعل، فالشرطة أصدرت امرًا بالقبض عليه، إما نجيب فيأسفي لن ينجو من رجال الأب الروحي للمافيا الذي كان نجيب يخطط هو وبعض المنظمات باغتياله هو وكل نسله، إننا لن نلوث إيدينا في دماء حقراء مثلهم.
ذادت ابتسامة آجار غموضًا وهو يقول :
_ أما أنا يا جدتي العزيزة فأحب ان ألوث يدي بمن قتل والدي.
انهى عبارته وهو يرفع قدميه عاليًا وفي حركة بارعة مدهشة كان ينقلب جابرًا ذراعي الشاب على تركه، وتفادى لكمة من الآخر، وهو يميل جانبًا، ويعتدل مصددًا له لكمة كالصاروخ في معدته اعقبها بأخرى في أنفه، وأخرى في فكه فمال الشاب متألمًا فهوى آجار بحافة يده على مؤخرة عنقه فهوى الشاب متكومًا، وتلقى آجار لكمة الشاب الآخر على ساعده و وثب ليركله وهو يسحب منه المدفع ويهوى بكعبه على وجه الرجل ليفقد الوعى..
كانت لمار حينها تهتف في ذعر :
_ لا تفعل يا آجار بالله عليكَ، لا تضيع نفسك ..
ضاع كلامها هباءًا حين تحرر آجار في غمضة عين من الشابيين وأنطلق يعدو بالمدفع الآلي خلف السيارة.
فجذبت لمار رأس إحدى الرجال من وراءها لتسقطه وهي تصيح :
_ لن نسمح له.
وكان قولها بداية إعلان حرب شعواء، فدبت الحياة فجأة والحماسة في احفادها الذين كانوا مستسلمون، ودارت حربًا ضروس، ولإن الرجال لم يأمرهم أحد بقتلهم لم يطلق أحدهم رصاصة واحدة.
أنطلق آجار يعدو خلف السيارة، كأنه آلة ركض صُممت خصيصًا لهذا، وأمام عينيه كانت السيارة تتلاشى مبتعدة، فتوقف لحظة غارقًا في تفكير عميق وأنطلق مجددًا لينحرف إلى زُقاق ضيق.
التّفَتْ نجيب إلىٰ مُراد، لم يكونا قد لاحظ أيٍّ منهم آجار بسبب بعُد المسافة، وقال وهو مرتكز البصر علىٰ الطريق أمامهُ :
_ أأنتِ بخير يا رجل، كادوا يقتلونك.
أجابه مراد وهو يحاول كتم الدماء التي تسيل من وجهه :
_ بخير لا تقلق بشأني إلبتًا، إهتم بطريقك ..
وألتقىٰ حاجباه وهو يقول مستدركًا :
_ مهلًا إلىٰ أين سنذهب؟
رمقه نجيب بنظرة سريعة، وهو يردُ عليهِ قائلًا :
_ سنبتعد، الطائرة في انتظارنا وإلا فلنقُل رحمة الله علينا فمن الطبيعي إن تلك العائلة لن تدعُنا نحيا، فلا بُدّ أن نفر بأرواحنا.
وأشار بإبهامة على عنقهُ، بمعنىٰ الذبحِ وهو يغمغم :
_ وإلا ذبحونا كالنعاج.
فجأة! دوىّ ثقلٌ ما علىٰ سطح السيارة، أجفلهما وأرعبهما فهذا يعني إن أحدًا ما من شباب الشرقاوي قد بلغهم.
وارتجفت اوصالهم، وصرخ نجيب بإنفعال :
_ ماذا يحدث؟ يا إلهي .. يا لهُم من شياطين.
وكان آجار في الأعلىٰ يعتدل على سطح السيارة جالسًا بعد ما سقط من أعلىٰ البناية فوقه، وتحرك إلىٰ طرفها، صارخًا :
_ لن أتركما أحياء لآخر نقطة دماء في جسدي، سأريق دمائكم مهما كلفني هذا ..
اتسعت عينا نجيب وهو يستمع إلىٰ كلمات آجار، واقشعر جلده من نبرة آجار المخيفة التي تتفعم بالغضب الأعمىٰ، وضغط على دواسة الوقود أكثر، وسار في مسار متعرج ليوقع آجار، لكنَّ آجار كان يتشبث بحافة السيارة بكل ما يملك من قوة وهو مستلقى على بطنه.
أستل مراد سلاح نجيب من غمده، و وجه فوهته على سطح السيارة وهو يقول :
_ أنت مستغني عن روحك يا آجار يا ولدي؟! فليكن .. لك هذا ..
وأطلق رصاصته بغزارة في البقعة التي يتشبث بها آجار، وكانت الإصابة حتمية لا مناص منها، فإمَّا أن يهوى في الفراغ أو يبقى فتصيبه الرصاصات.
💮اللهم اجعلني من أصحاب اليمين 💮
رفعت منة عينيها الدامعتين إلىٰ خديجة، وهمست بتهالك :
_ خديجة، ألن يأتي آجار، ألن يجلس معيّ قليلًا قبل دخولي العمليات؟
ثُم أضافت بتهدج :
_ أخاف ألا أخرج منها حية.
كان الخوف ينهش في قلبها من فكرة الغياب.
أن تموت وربها لم يغفر لها بعد.
هل سيكون مأواها الجنة، أم النار؟
هل سيعفو عنها؟
هل ستخرج حية من غرفة الموت تلك؟
هل سيزول هذا الألم وتتحرر منه؟
أم الألم سيظل ملازمها إلىٰ الأبد!
نهرتها خديجة في صرامة وهي تجلس بجوارها على طرف الفراش :
_ صَه، ما الذي تقوليه؟ عمليتك ستنجح وستخرجين بخير، ونعود كلنا إلى مصر ولن نفترق أبدًا.
قالت منة بعبوس :
_ ما زلت لا أصدق إنك وآجار من عائلة واحدة، ولم يدخل عقلي كل ما اخبرني به آنِفًا.
شوحت دارين بكفها، وهي تقول :
_ بلىٰ صدقين فأنا أخته .. واسمعي يا عزيزة قلب أخي كفاكِ نواحًا مثل الأطفال ستخرجين بخير وإلا بحثت لأخي عن زوجة من الآن.
حدجتها منة في غضب وكادت تدخل في مشاحنه معها، لول إن لحقت لمياء الأمر، وقالت وهي تضع كفها على منكب منة برفق :
_ جميعنا سنكون في انتظارك وأثناء العملية سندعوا ونقرأ القرآن خارج الحجرة إلى أن تخرجين لنا بخير.
أدمعت عين منة بحنان، وقالت وهي تسطتير فرحًا :
_كم يسعدني هذا، رائع أن يكون للمرء في عز مرضه أُناسٌ يقفون معه لا لشيء إلا لحبهم له.
داعبت خديجة شعرها بحنو، وهمست كأم تريد أن تنسي ابنتها خوفها :
_ هل تشتاقين إلى الرسول؟
تجمعت العبرات في مقلتين منة، وقالت بصوتُ يقطر حزنًا :
_هل هذا سؤال يا خديجة! يا له من سؤال غريبُ جدًا، ألا اشتاق إلى رسولي! إني أشتاق إليه إلى الحد الذي يجعلني أحسد من نالوا صحبته وانا لا، من جلسوا معه وأنا لا، من رأوه وأنا لم أحظى برؤيته قط.
سكتت لـ هنيهة وأردفت تقول :
_ ربما في الماضي كنتُ فتاة لا تعرف عن نبيها شيئًا، ولم تغترف من سنته قطرة، الآن وبكِ ومعاكِ ومنذُ عرفتك وأنا لا يغمضُ ليّ جفن قبل أن ادعو الله أن يرزقني رؤيته، ولا يمر بيّ يوم إلا وأنا أتعلم سنة من سنته.
قالت خديجة وهي تعبث في هاتفها :
عظيم، استعدي فأنتِ الآن ستعرفين وصف الرسول من صحابته.
انبعث صوت الشيخ سمير مصطفى للدرس الـ 6 من دروس ( السيرة النبوية) فغشاهم الصمت كإن على رؤوسهم الطير، وافترت الثغور عن بسمات كنسماتُ الفجر أو انبلاجه، وأنصتت الآذان، وترقبت القلوب وهي تخفق في شغف، إما خديجة فأسبلت عينيها وأسندت رأسها علىٰ الحائط تتخيلُ حبيبها _صل الله عليه وسلم_شعرهُ، لحيته، عيناهُ، وأهدابه، وثغرهُ، وجبينه، طوله، وعرضه .. يصفُ الشيخ وهي تتصوره، تتخيله.
هي في معية الحبيبُ آمنة ..
وفي رياض الجنة مستروحة ..
والقلب يبكي يُناجي خالقه، بصحبة الحبيب يجمعه.
والروح ترفرفُ في السعادةُ غارقة.
وبجوار الحبيب راجية.
تتوسلُ من يديه أن تشربُ شربةً تروي ظمآها
والعينُ تفيضُ شوقًا بالعبرات متضرعة ألا تحرم من كوثره.
فيا عين مهلًا توقفي، رويدك بالبكاء تمهلي فحاشا ربُ العباد يحرمك من صحبة الحبيب المصطفى.
🍃 اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا وشفيعنا محمد 🍃
كان موقف خطير، رهيب، هائل لا بُدّ منه، فإما أن يسقط على الأسفلت بتلك السرعة الخارقة التي تسير بها السيارة، والتي توحي بعدم نجاته قط، أما أن يبقى فتخترق الرصاصات جسده.
وأطلق مراد رصاصات سلاحه على سقف السيارة حتى جعله كمصفاه من كثرة الثقوب التي سببتها، وانبسطت أساريره ، وبرقت عيناه وهو يهللُ قائلًا :
_ لقد فلحت، أنتهىٰ آجار تمامًا .. لقد مات؛ فمن المحال أن ينجىٰ حتمً..
لم يستطع إتمام عبارته، فقد تلقىٰ لكمة كالصاعقة على فكه جعلته يسقط على نجيب، فأختل توازن السيارة لثوان، وعاد نجيب بالتحكم فيها، واعتدل مراد سريعًا وهو يحدق في صدمة هائلة علىٰ آجار الذي كان يتشبث بكل قوته على حافة السيارة، تاركًا جسده يتأرجح في الفراغ وهو يغمغم ساخرًا :
_ مفاجأة!! لم أمت بعد أيها الوغد، فمحال أن اذهب بدونك!
صرخ مراد مغضبًا، مذهولًا :
_ يا لك من شيطان!
بينما هتف نجيب وهو يتميز غيظًا :
_ سُحقًا لك.
قال قوله وتحرك بالسيارة محاولًا إخلال توازن آجار ليتخلىٰ عنها، وهم مراد أن يفتح الباب ليجبر آجار على ترك تعلقه، وامتدت يده بالفعل وكاد يفلح لكن قبضة آجار بادرت بالقبض علىٰ عنقه عبر النافذة وراح يخنقه بكل قوته، وهو يردد كمن أصيب بمسٌ من الجن :
_ سأقتلك أقسم بأني سأفعل، سآخذ بثأري منك عن كل ما عشته، وعن فراقي بعائلتي، وقتلك لـ أبي.
كان عسير علىٰ نجيب أن يمد يد العون وهو يقود، وكان عصيبُ عليه ان يرى مراد يختنق وعيناه تجحظان، ويهرب لون الحياة عن وجهه وهو يحاول إفلات أصابع آجار التي نُشبت في عنقه ككلابة صلبة، فولاذية، فحاول ان ينزع كف آجار الوحيد المتشبث بحافة السقف، وفطن آجار لهذا، وكانت محاولة مذهلة، مدهشة، بارعة تلك التي فعلها فقد و وثب فجأة بجزعه عبر النافذة وهو ما زال قابض على عنق مراد الذي بدا كإن موته عسير، واستقر آجار في السيارة بالتحديد قُرب مراد مباشرةّ، وأنطلقت قبضته في وجه مراد بلكمات متعددة، وهذا الأخير لم يقو على تفادي ذلك او حتى المدافعة عن نفسه، وخنقه آجار مجددًا في تلك المرة بأصابعه العشرة، رغم محاولات نجيب العديدة أن يتقاتل معه لكنه لم يبالِ كأن عيناه لا تريان إلا مراد أمامه، علاوة علىٰ إنه هكذا كان بالفعل وهو يتذكر تلك اللحظة البعيدة جدًا منذُ طفولته، وقتما كان داخل السيارة مع والده وأخيه، وراقب دون فهم أبيه يخفض من سير السيارة ليدفعهم خارجها وهو يردد بكلمات لم يفقها
بعض لحظات الطفولة، تلك اللحظات التي تمر علينا سواء بفرحة غامرة، أو حزنٌ يسلب منا شيئًا لا تنساه روح الطفولة قط، فتلك اللحظات تبقى في مكانٍ عميق داخل القلب إيًا كان في خانة الحزن، أما الفرح، ومع هذا وذاك يكون الطفل متشتتًا، ضائعًا، وتلك اللحظات حاضرة أبد الدهر.
فجأة!
وفيما آجار يخنق ماهر..
وهذا الآخر يشعرُ إنه سيموت وإنها فقط لحظاته الأخيرة ..
دفعهما نجيب بكل قوته خارج السيارة وهي تنطلق، وإنقلبا خارجها، وتدحرج جسديهما بقوة رهيبة وراح ينزلقان حتى استقرا.
فلهث آجار وهو يعتدل كانت الدفعة قوية، ومباغتة، والرسيف أثخنه بالجراح في كل جسده، وبدا متهالكًا وهو ينهض في ترنح طفيف، والدماء تسيلُ من بعض الجروح في وجهه إثر السقطة، وتمزق قميصه ظاهرًا صدره بالندوب النازفة، وتطلع على جسد مراد الساكن تمامًا، متراخيًا وقد وافته المنية، فأطلت صدمة هائلة في مقلتيه، واندفع صوبه، وهو يصرخ :
_ لا، لن تموت هكذا أنا من سيقتلك، أنا من سيقتلك حتى تلفظ نفسك الأخير.
كان وصل إليه، وجثى بجواره، وقاس نبضه المتوقف، وطفق يضرب فيه وهو يهتف مصدومًا، هائجًا :
_لا تمت يا مراد، لا تمت، قم انهض ليس الآن، لم أشفي غليلي منك بعض.
وتسمرت كفيه فجأة، وتوقفت الشفاة، وأومضت حدقتاه.
لقد علم إنه لا فائدة ..
مراد قد فارق الحياة ..
لا جدوى من الثوران ليس الآن ..
فقاتل آراس ما زال حيًا وهرب من بين يديه ..
لكنه لن يسمح له بالفرار..
سيقضي عليه حتمًا ..
سيأخذ ثأر آراس ..
آراس الذي لم يحزن عليه بعد ..
فقد أقسم إلا يبكي او يحزن قبل أن يقتل قاتله ..
قبل أن يثلج قلبه ..
ثُم يبكي كأنه لم يفعل قط ..
علىٰ آراس سيبكي، إن لم يبكي عليه فعلىٰ من يبكي؟
إنه الصديق، وإنه الحبيب، وإنه الأخ، وإنه السند، وإنه المأمن، والمأوى وقد راح سُلب منه بغتة دون سابق إنذار.
كم هي غريبة تلك الحياة حين تختطف الأحبة من أمام أعيننا ..
والذين كنا نراهم كما يحلو لنا، نغدو لا نراهم مهما فعلنا ..
وقاسي الأشتياق لمن غادر عالمنا ..
فهذا هو الأشتياق الوحيد الذي لا ينطفئ لهيبه أبدًا.
نهض آجار بتؤدة وعيناه تدوران في المكان الذي بدا خاليًا، فارغًا رغم السيارات التي تروح وتجيء دون أن يتساءل راكبيها أن يعلم ما أصابهما ..
أين سيذهب نجيب؟
وعلىٰ أيّ شطر سيتجه!
لا ريب إنه سيحاول إنقاذ نفسه وسيغادر البلد!
لكن ماذا سيستقل؟
حتمًا طائرة إنها أسرع طريقه ستنقذه لا مرية في هذا!
إذن ينبغي عليه أن يصل إلى المطار بأقصى سرعة..
دار كل هذا في عقل آجار، وعيناه تدوران علىٰ مواصلة سريعة تقله، حتى راقب دراجة نارية تقترب، فتحرك للأمام واعترض طريقها وهو يحرك كفيه للشاب، هاتفًا :
_ قف يا فتى قف!
توقفت الدراجة بإحتكاك عال قبالته، فحث الخطى إلى الشاب، وقال في لهجة توحي بخطورة الأمر :
_ اسمع أيها الشاب، أنا مفتش وفي مهمة عاجله، لذا أعرني دراجتك لألحق بالرجل الذي سأقبض عليه .
قال الشاب في توتر:
_ لكن يا سيدي، كيف اصدقك..
قاطعه آجار بعجل، ونبرات صارمة :
_ ما لك أيها الشاب دولتك في حاجة إليك، هل ستتخلى عنها؟ إننا نقوم على حمايتكم ليلٌ ونهارٌ، ما اسمك.
صاح الشاب مذعورًا وهو يتخلى عن الدراجة :
_ لا يا سيدي لا، تفضل إنها لك، كلها لك إننا ..
فوجئ بـ آجار يدفعه بعيدًا قبل أن تستقرا قدميه على الأرض وينزع خُوذته، وركب الدراجة وانطلق في سرعة والشاب يهتف خلفه :
_ مهلًا يا سيدي تمهل ..
وضرب كفيه في فخذيه وهو يخفض صوته مغمغمًا بأسف :
_ لم تأخذ الخوذة ولم تخبرني متى آتي لأستلم دراجتي ..
بلغ آجار بوابة المطار ودون حتى أن يهتم بالأمن أو بأحد و ولج بالدراجة محدثًا ضجة هائلة في الوسط، فراحت الناس تتطاير في كل مكان وشاع الذعر، وحاول رجلين أمن أن يعترضا طريقه، لكنه لم يتوقف قط، أو يقلل من سرعته فقفزا في آخر لحظة يمينًا ويسرًا وانطلقا يعدوان خلفه وهما يهددانه.
كان نجيب في تلك اللحظة قد أنهىٰ بعض الأوراق، وفي طريقه إلى الهليكوبتر الخاصة به، وتناهى له الزعر والضوضاء التي احدثها آجار وما إن لمحه لم يلبث إن ركض بكل قوته إلى الطائرة و وثب داخلها وهو يصرخ في الطيار :
_ أقلع با رجل بسرعة اقلع، هيا.
وانصاع الطيار وارتفع بالهليكوبتر، وراقب نجيب من النافذة آجار الذي انطلق بالدراجة نحو الهليكوبتر التي ترتفع عن الأرض بقلق وتوتر بالغيين، ورجال الأمن يعدو خلفه، و وابل الرصاصات ينطلق خلفه لكن أيّ منهم لم تصبه بسبب خط سيره الغير منتظم، وتنهد نجيب مرتاحًا عندما انقلبت الدراجة، وظن لوهلة إن آجار قد لقىٰ حتفه، لكنَّ..
قبل لحظةٌ واحدة، وقبل أن تسقط الدراجة لتنزلق على أرض المطار، كان آجار يقفز من عليها، قفزة هائلة، بارعة، مدهشة، مرنة، ويتعلق بها، واختل توازن الطيارة بغته من الثقل الذي تعلق فيها على حين غرة، وتأرجحت لثانية قبل أن تحلق في السماء.
وغمغم نجيب شاحب الوجه :
_ يا للشيطان .. لقد تشبث بالطائرة.
في الأسفل كان ثمة شاب يركض محاولًا إلحاق بآجار، وصرخ ليمنعه من التعلق بالطائرة وهو يهتف :
_ توقف يا آجار لا تفعل .. لا تفعل هذا أنا.
لكن هتافه ضاع هباءً ونثرته الرياح مع هدير مروحة الهليكوبتر، وقف بجواره رجلٌ يرتدي حُلة سوداء ومن وراءه وقف عدد لا بأس به من رجال الحراسة ذو بدل سوداء، وتابع ببصره الطائرة :
_ يبدو إننا وصلنا متأخرًا.
وفي دقائق معدودة كانت لمار والشباب قد اجتمعوا في المطار، وخالد يصرخ بثورة عارمة :
_ أريد طائرة .. أريد طائرة سألحق به.
تفاجئ نجيب بإندفاع جسد آجار داخل السيارة، وقفز آجار واقفًا، وهو يواجه نجيب، الذي غمغم في غضب :
_ احدنا سيموت أليس كذلك؟ لكن هذا الشخص لن يكون أنا قط، لن يكون.
هتف آجار وهو يقترب منه :
_ولن يكون أنا أيضًا.
تراجع آجار تلقائيًا، عندما رفع نجيب السلاح في وجهه، وهو يهتف :
_ إذن قُل وداعًا للدنيا، فأنت من ستذهب للجحيم.
في سرعة مذهلة وقبل أن يستوعب نجيب، وثب آجار راكلًا السلاح وهو يهتف ساخرًا :
_ الجحيم لا يأوى إلا أمثالك يا عزيزي نجيب، وكم يسعدني أن أرسلك إليه.
أطلق نجيب صرخة متعصبة لفقده لسلاحه الذي طار في آخر الطائرة، وركله آجار في معدته فتقهقر للخلف، وهم بركله مجددًا في عنقه مباشرةً، لكن نجيب مال برأسه للخلف متفاديًا إياها، واعتدل وهو يقبض على قدم آجار ويسقطه على ظهره، واستدار مسرعًا نحو سلاحه، لكن آجار قبض على قدمه فأسقطه على وجهه، وما كاد يعتدل نجيب على ظهره فوجئ بـ آجار يجثم على صدره بإحدى ركبتيه وقبضته اليمنىٰ كأعصار مدمر يدمر وجهه، فجعل أنفه كتلة من اللحم المفري، وتورمت عيناه، وسالت الدماء من فمه وقد فقد بعض أسنانه، وآجار لا يسمح له حتى بإلتقاط نفسه، فكانت قبضته كآلة لا تعرف إلا اللكم على وجهه، فتوجب أن ينقذ نفسه من براثنه، وإلا سيموت في يده حتمًا.
فرفع ذراعيه وهو يجذب آجار ليطيح به خلفه، وجاءت الدفعة مفاجئة لـ آجار وقريبة من السلاح فتناوله وهو يثب واقفًا ويطلق النار بسخاء تجاه نجيب الذي انحنى للأسفل فطاشت الرصاصات في جانب الطائرة، والطيار بهتف في زعر :
_ ماذا تفعلان بالله عليكما ماذا تفعلان، هل اصابكم الجنون، سنموت معًا.
هجم نجيب كالثور الهائج على آجار، وحاوط وسطه بذراعيه، وإندفع ليضربه في ظهر الطائرة، وصرخ آجار من الارتطام، وجأر كالأسد وهو يضرب بحافة كفه ظهر نجيب، فتراخت ذراعي هذا الأخير عن وسطه وتركه، فصدد له آجار ركلة دفعته للخلف، وقبض على تلابيبه وراح يلكمه مجددًا، وتارة يتلقىٰ هو اللكمات، او الركلات، ومع ذلك لم يتوقف إيًا منهما لثانية واحدة.
وفي الخارج حلقت طائرة في محازة الهليكوبتر وبابها مفتوح، و وقف شاب يصرخ وهو يشاهد نجيب وآجار على الأرض يبرح كُلًا منهما الآخر ضربًا :
_توقف يا آجار، توقف بالله عليك.
وأيضًا صرخته ذهبت هباءً، فالتفت إلى خالد صارخًا :
_اقترب يا خالد سأقفز عندهما و …
اتسعت عيناه، وأطل رعبٌ هائل منهما، وحدق في نجيب الذي كان توًا أسفل آجار الذي يضربه بوحشيه فإذا بـ نجيب كمن كان يفعل هذا عمدًا وفي لحظة دفع بذراعيه آجار الذي تدحرج جسده، وتخبط وهوى من باب الطائرة، وصرخ الشاب بإسمه وفي هذه المرة وصلت صرخته مسامع آجار، الذي اسرعت قفيه لتتعلقان بالطائرة، وتأرجح جسده من باب الهليكوبتر، ورغم ذلك كان يبتسم بإتساع، بسمة اشرقت أسايره، وتألقت عيناه وهو يهتف متلعثمًا :
_ آر .. آراس!
وصرخ فجأة وهو يوجه وجهه يمنى ويسر:
_آراس هذا أنت، أنت بخير، على قيد الحياة، يا هذا هل تمازحني؟
هتف آراس وهو يكاد يموت ذعرًا من الهليكوبتر الأخرى :
_ هذا أنا ايها المعتوه، تماسك سأنقذك.
تراجع نجيب في هلع وهو يحدق في آراس، ويردد :
_ محال، مستحيل، لقد .. لقد أصابتك الرصاصة في جبهتك، انا متأكد من هذا، كيف هذا..
وصرخ :
_ كـــــــــــــــــيف.
كان في نفس اللحظة آجار يحاول القفز داخل الطائرة، ودفع بالفعل جسده بداخلها، مع قول نجيب الذي فطن لفعلته :
_ إن كان هو لا يزل حي، إذن فلتمت أنت.
وفي غمرت غضبه التي تفاقمت إلى ثورة هادرة إندفع وهو يمد كفيه ليدفع آجار الذي استقر لتوه داخل السيارة، وعلت صرخة آراس وخالد تنبأنه، فما كاد آجار يرفع رأسه إلى نجيب حتى مال قافزًا جانبًا بجانب جسمه في اللحظة الأخيرة، وبدلًا من أن يدفع نجيب آجار اندفع جسده إلى الأمام، واتسعت عيناها حتى كادتا تخرجان من محجريهما، وهوى جسده للخارج، في الفراغ ودوت صرخته ترج المكان وهو يهوى ومد آجار له كفه، لكن جسد نجيب راح يهوى ..
ويهوى ..
ويهوى ..
حتى سقط جثة هامدة من السماء على الأرض في بركةٌ من الدماء حوله، ومنظره بدا مخيفًا، واختفت معالم وجهه التي كستها الدماء.
استلقى آجار على ظهره داخل الطائرة متسع العينين، متلاحق الأنفس، خافق القلب، وردد مبهوتًا :
_ يا الله نهاية لا اتمناها حتى لعدوي..
وبلغه صوت الطيار يصرخ في ارتياع وهو يرفع كفيه :
_ لم افعل شيئًا، لم افعل!
فالتفت له آجار ورمقه في حنق، و وثب واقفًا وهو يتجه إليه، فذاد خوف الطيار وهو يردد شبه باكيًا :
_ أقسم بإني لم أفعل شيئًا.
ابتسم آجار في تهكم، وهو يعقد كفيه، ويرتكن بجانبه على المقعد، قائلًا ببساطة :
_ عُد أدراجك يا رجل واهبط.
هز الطيار راسه وهو ينفذ، قائلًا :
_ فليكن فليكن، ما تؤمر به.
رمى آجار جسده على المقعد وهو يهمس شاردًا والأرتياح والفرح يغمرانه :
_ حمدًا لله آراس حي.
واستدرك في خفوت :
_ اتمنى ألا أكن تأخرت عليكِ يا منة، أتمنى يا حبيبتي .
ما كادتا الطائرتان تهبطان حتى كان آجار وآراس في آن يقفزان منهما ويركضان تجاه بعضهما ويتعانقان في حُب اخوي، وآجار يسأل في اهتمام :
_ كيف، كيف هذا! كيف ما زلت..
قاطعه آراس وهو يجيبه في بساطة :
_ لقد كانت رصاصة زائفة من تلك الرصاصات التي تُستخدم في عالم التمثيل ما أن تنصدم في أي جسد تطلق سائل لزج بلون الدم فيظن المرء إنه دمًا؛ وما هو بذلك.
وزفر وهو يضيف :
_ كل هذا لم يكن ليمر بخير لولا لمار الشرقاوي، فهي من أخبرتني عن نجيب عندما انقذت خديجة وكنت اجلس معه في الأنتظار فإذا برسالة منها تأتيني وحينما ذهبت إليها اخبرتني بأن نجيب سيحاول قتلي، وكان حمزة وعاصم يراقبته وغيرا السلاح.
أطلق آجار ضحكة صافية، وهو يقول :
_ رائع، ولكن لماذا كل هذا؟
اردف آراس وهو يغمز بعينه :
_ كان يجب فعله، وإلا ما كنت حيًا للآن قط.
واستطرد يسرد عليه الأمر :
_ نجيب قد تعاون مع بعض المنظمات التي أرادت اغتيال الاب الروحي للمافيا بكل عائلته وبعض الرجال ومن ضمنهم أنا او على قائمتهم، لذا زيفنا امر موتي، وسافرت لأبلغ السيد كوان، في ذات اللحظة التي اخذت فيها هاتف نجيب وعملت خدعة على المنظمات وتم القبض عليهم مع غلق كل امر يخصني.
قاطع حديثه صوت صارم ينبعث من الخلف :
_ هذا صحيح.
أبتسم آراس لـ كوان، والتفت آجار له، في حين قال كوان مبتسمًا في هدوء :
_ لا أعرف إن أحمل لك الأمتنان أو ماذا! لكن اتعلم لقد أنقذت هذا النجيب من عذاب كان سيتمنى خلاله إن يموت ألف مرة قبل أن يفكر في اغتيالي..
هم آجار أن يقول شيئًا، انحسر بداخله مع مجيء بعض رجال الشرطة الذين احدقوا به، وقائدهم يقول :
_ أنت رهن الاعتقال لقتلك اثنيين من الرجال ومخالفة القواعد.
فصاح خالد مدافعًا :
_ آجار لم يقتل أحد لتقبضوا عليه، الرجل سقط من الطائرة امامكم.
لم يعره المفتش اي اهتمام وهو يقول :
_ لم يفعل شيء، او فعل نحن من سنحدد هذا!
وكاد أن يكبل آجار، اوقفه صوت كوان بصرامة :
_ توقف أيها الظابط، هل تعلم ما أنت بصدده، كيف تجرؤ على أحد من رجالي.
توتر الظابط وهو يدافع عن نفسه قائلًا :
_ اهو إحدى رجالك يا سيد كوان؟ لم اكن اعلم! ولكن ..
تهدج صوته بإرتجاف وهو يتابع:
_ لا يمكنني فعل شيء في هذا الأمر، يجب أن نقبض عليه.
غمغم كوان في لا مبالاة :
_ فليكن خذوه ولكني أعرف كيف أخرجه من القانون ورجاله ..
كور قبضته أمام وجهه وهو يتابع :
_ في قبضتي.
كانت لمار تقف تراقب كل هذا بصمت عجيب، ودون ان تتدخل كأن الأمر لا يعنيها، وقاد الظابط آجار دون أن يكبل ذراعيه، وفتح باب السيارة وهو يقول بنبرة هادئة مخافة من كوان :
_ ادخل.
أومأ آجار برأسه في بطء، وفوجئ رجال الشرطة بآجار يدور حول نفسه وهو يغلق باب السيارة ويركل الظابط، وتنقض قبضته على معدة أحد الجنون، ودفع آخر على الباقيين ودار حول مقدمة السيارة، وجلس وراء عجلة القيادة وأدار محركها وانطلق متجهًا إلى المستشفى، وكل ما يشغل باله هو ان يفى بوعده إلى منة ويرآها قبل دخولها العمليات، وإلا لن يسامح نفسه إن اصابها مكروه.
وكان الظابط يصرخ وهو يعدو إلى سيارة أخرى :
_ أمسكوه، امسكوه بأي ثمن لا تدعوه يفلت.
واستقل السيارة هو وجنوده ولحقوا بسيارة آجار.
ركن آجار السيارة امام المستشفى وغادرها راكضًا إلى الداخل، وانطلق يعدو عبر الممرات، وتوقفوا الفتيات ما أن وقعت ابصارهن عليه ونهضت منة واقفة، وهي تقول ببكاء حار:
_ لقد اخبرتكم محال ألا يأتي ليرآني.
تبسم لها آجار وهم ان يواصل سيره إليها، وقبل ان يدركها هوى كعب إحدى مدافع الشرطة على مؤخرة رأسه فسقط على ركبتيه من هول الضربة المباغتة، وشهقت الفتيات، وصرخت دارين بإسمه، وركضت منة وهي تكاد تسقط نحوه، وضمته وهي تبكي، وقبل أن يحاول الجنود إبعادهما صرخ آراس وهو يقبل :
_ حاول لمسهما يا رجل أن كنت مستغني عن عمرك.
وهتف كوان في أمر صارم :
_ تراجعوا.
ما كاد يأمرهم حتى كانوا رجاله يدفعون جنود الشرطة ويشكلوا دائرة حماية حول آجار الذي كان يضم منة في حضنه وهي ساكنة في تهالك ودموعها تنهمر على وجنتيها، وهمست بوهن :
_ لقد، خُفت الا تأتي، لكن قلبي كان يخبرني إنك ستأتي، فـ ربما اموت ولا أخرج حية ..
أرتج عليها وراحت دموعها تصبح نحيب عال، أجابها آجار بدموعه وهو يشدد من ضمها ..
هل يخسرها ..
أيفقدها!
لو فقدها كيف يحيا من بعدها؟
كيف يكون له حياة بدونها، وهي حياته!
لقد أكتملت حياته منذُ وجدها، بدونها كانت ناقصة، ليس لها معنى!
أيعاقبه الله عن كل ما اقترفه ببعدها؟
كانت الأفكار تدور في عقله وكفيه تحاوطنها أكثر، حتى أحس بتراخي جسدها بين ذراعيه.
كانت في تلك الأثناء خديجة تقف في ذهول أمام آراس، دموعها فقط كانت تتكلم اسفل نقابها، تتأمله بعينين لا تصدقان إنه هو ذاته أمامها، وقد مات بين ذراعيها.
وتبسم آراس ضاحكًا وهو يلتهم الخطوات التي تفصله عنها، ليمسك بكفيها، قائلًا :
_ ها أنا ذا.
تهدج صوت خديجة بالبكاء وهي تردد :
_ آراس، أنت .. أنت.
ضمته فجأة، فقال هو في جذل :
_ لم أكن أعلم إن موتي سيجعلك تحبينني هكذا.
ابتعدت خديجة عنه مع صوت آجار وهو يحمل منة بين ذراعيه مناديًا عليها، فأسرعت لتدخله غرفة العمليات، ليضعها على الفراش، ورفع عيناه إلى خديجة يقول بتهالك :
_ستكون بخير .. صحيح؟
اومات له خديجة وهي تقول بإطمئنان :
_ ستكون بخير بإذن الله عز وجل، نأمل هذا .. والآن هيا أخرج.
خرج آجار، وتجمع الأطباء في غرفة العمليات، واحقنوا منة بالمخدر، وركبوا جهاز الأكسجين على أنفها، وقياس نبض القلب .. وبدأت العملية.
ومرت الساعات قاسية على قلب آجار الذي كانت عائشة تضم رأسه في صدرها، والبنات بجواره يقرؤون القرآن، بينما ذهبت لمار لتصلي، وتوقفت أفراد الشرطة قُرب آراس بعد ما أجرى كوان اتصالته التي اجبرتهم اكثر على الرضوخ له ..
وأخيرًا وبعد طول أنتظار، خرجت خديجة منهارة في البكاء وتوقف قلب الجميع رعبًا، وقلقًا، ولم يقو آجار على الوقوف وأن اختنقت انفاسه و..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية جحر الشيطان)