روايات

رواية بيت القاسم الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم ريهام محمود

رواية بيت القاسم الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم ريهام محمود

رواية بيت القاسم البارت الخامس والعشرون

رواية بيت القاسم الجزء الخامس والعشرون

رواية بيت القاسم
رواية بيت القاسم

رواية بيت القاسم الحلقة الخامسة والعشرون

” لا تقلب الصفحة، أحرقها”..

..الذكرى فوهة تبتلعك بداخلها حد الألم، وذكراها كانت سوداء اللون.. بمرارة العلقم.. ورائحة وجع الرفض وانتهاك الجسد..
وهي تركت نفسها لألم الذكرى تبتلعها فتشعر بالاختناق..
شعور مؤذي أن تكون مُدان وأنت ضحية..!
يرتجف جسدها بشدة وخبر وفاة ابن خالها يعيد لها ماعانته بذاك اليوم.. وما تبعه.. وفاة والدها من شدة قهره وانعدام حيلته، ومرض والدتها والذي إزداد بقهر ما رأته..
غامت عيناها بسيل الذكريات.. وجود أكرم ومعرفته، معاملته الجافة ، واهاناته المبطنة، جلده المستمر لها بسوط كلماته..
نظرات الندم التي كانت تلاحقه كلما اقترب منها.. ذكرى اول مرة لهما بذات الفراش ولم يستطع مقاومة أن تكون أنثى بحيزه ويتجاهل شعوره كـ رجل..
قبلاته واحتضانه.. همساته ….. حتى اتساع حدقتيه وقتها
تتذكره…. “أكان ينتظر دماء شرف”!!
وكأنه للحظة قد نسا… ومن وقتها يعاملها كزوجة

فقط لرغبته ومن ثم يعود لسوء طبعه.. يأخذ مايريد ويتبعها بمنّ وأذي.. وندم يتفاقم بعينيه…
والتهمة أنها وبسببها حُرم من حبيبته.. وما ذنبه بأن يحمل حمولة غيره
كما كان يخبرها كلما اختنقت واشتكت..
تتساقط دموعها على وجنتيها كأنهار تحرقها بحرقة ذلك اليوم والذي بسببه لم تعد هي..
تجلس على فراشها تثني ساقيها أسفلها.. لا تعلم مايجب عليها فعله كي تتجاوز ألمها.. لو كانت أمها موجودة لأخبرتها.. طمأنتها بضمة من صدرها الطيب.. ولكنها وحيدة….
دون شعور أمسكت بهاتفها القديم تضغط على ازراره بتيهٍ وقسوة، ثم ترفعه على أذنها بشرود مقلتيها.. وأتى الرنين فانتبهت لما تفعله..
وقبل أن تنهي الاتصال نادمة انها اتخذت تلك الخطوة بغباء ودون وعي كان صوته القلِق يجيب..

-ألو…
كان نائم.. وانتفض على رنين هاتفه مذعورًا، لم يمهل نفسه فرصة الاستفاقة وهو يرى رقمها…
لم تجب كان الصمت حليفها.. وشعر هو فسأل بقلق صادق النبرة..
– نورهان…. في إيه انتِ كويسة..!

-لأ..
قالتها بنبرة متحشرجة من أثر البكاء. ثم عادت للصمت ثانيةً، وتركته يغلي من قلقه الزائد..
– في إيه؟!

لم تترفق به.. تريد أن يشعر بالنيران التي تتأجج بداخلها.. عادت صورة ابن خالها لعقلها وخالها وبعض الجيران يحملون جثته المليئة بدماءه بعد أن صدمته إحدى الشاحنات على الطريق السريع…
-ابن خالي مات….

واحتبست الكلمات بحلقها.. يزداد نحيبها، وتركت له حيرته..
يعقد حاجبيه بحيرة يحاول تذكر من ابن خالها هذا… سرعان ماتذكره لتتجهم قسماته.. أنفاسه تتسارع بهياج قبل أن يهتف بحدة..
– في داهية…

نحيبها الرقيق يثير حفيظته، وصمتها المغيظ.. ولا يجد تفسير
يسألها ونبرته تشتعل بها الغضب ولا يبذل مجهود ليخفيه..
-بتعيطي ليه..!

تجيبه بصوت مكتوم بسبب اختناق أصابها..
-كان نفسي اخد حقي منه…. أنا اتظلمت وهعيش بظلمي وهو مات وارتاح…

أطلق تنهيدة طويلة، اخرج بها غضبه وثورته.. يود تحطيم اي شئ بتلك اللحظة..
تكلم بهدوء اللحظة..
-إنتِ اتظلمتي وخدتي حقك…. وهو بين ايدين ربنا بيتسأل ع اللي عمله…

ثم يتابع بثبات النبرة..
-المفروض بموته تكوني مرتاحة وتعرفي إن آخرة الظلم هلاك…

أغمضت عينيها بشدة.. وداهمتها ذكرى معاشرتها له..
تصرخ به بضيق ونبرة مرتجفة..
– انت كمان ظلمتني.. كنت بتعاملني وحش..

هو لن يضع نفسه بخانة الدفاع.. كان حقير معها ويعترف بداخله..
رد بضعف وانهزام..
-كان غصب عني… كنت غبي..

يعترف ولن يخجل، يرمي الكرة بملعبها علها بيومٍ ما تسامحه، تعطيه فرصة يرى أنه يستحقها…. وبالفعل يستحقها
ثم استكمل باستطراده يشير بعينيه على الفراش الواسع، وجهة نومها الباردة منذ أن تركته وغادرت وكأنها تراه ..
– واديني بتعاقب أنا كمان..
يبتسم بسخرية مريرة، ويبدو أن كلامه هدأ من حالتها فلم يسمع صوت بكائها ولا حشرجة صوتها..
يتبادلان الصمت.. عدا عن نبضة قلب حائرة تصيبه وتصيبها بالمقابل..
احس بتشتتها، ضياع نبرتها.. فقرر قطع الصمت بينهما..
يغمغم بصوت ثابت رغم اهتزاز قلبه ودواخله..
-عيزاني…….. أجيلك..؟!

ينتظر ردها، يعتدل بجلسته بتحفز.. لو طلبت مجيئه فورًا سيكون أمام بابها..
يفسر سكوتها كتفكير بعرضه.. ولكنها لا تعرف بما تجيب..
ترعبها فكرة ان تتعلق به مرة أخرى وتعود خائبة الرجاء
أن تتعشم بكرمه الزاخر ووقت أن يزهدها يحرقها بمعايرته..
كفى.. ستفيق، هي قررت الافاقة والعودة لذاتها القديمة..
– لأ.. أنا هنام.. تصبح على خير…

.. لم تغلق وهو أيضًا.. مر وقت عليهما لم تحسبه..
نداها بدفئ نبرته..
– نور…

يأسرها نطقه لاسمها بتلك الطريقة، – نور- لفظ تحببي،
على يقين بأنه طالما نطق باسمها هكذا، سيقول مايعجبها من حديث..
ترد بعذوبة متنهدة.. بقلبٍ سيرتوي بعد صيام دهر..
– نعم..

همهمتها الناعمة والوقت المتأخر يثير شعور داخلي بأنه يريد عناقها بتلك اللحظة.. يهمس بخفوت صادق.. ينقر بكلماته على مسامعها..
-أنا فخور انك أم ملك… ولو رجع بيا الزمن بين إني أختارك أو أختار جيلان…….. كنت هختارك إنتِ…. تصبحي على خير…

……………………………

“آخرة العبث… مرمطة ”
ولفظ ” مرمطة” لما يعانيه منذ الأمس بسيط..
“آخرة الفاسد.. قندلة”..
“نهاية الشمال..إذلال”
.. يقف بجوار ماكينة قطع الأخشاب يتغنى بـ “ظلموه”… ويتبع ” بهدلوه”
ويسترسل ببداية بكاء مصطنع ” مرمطوه”..
يقطع الأخشاب بحذرٍ بالغ، يعاني.. جبينه يتصبب عرقًا، ولكنه يقاوم
بالأمس أعطاه قاسم مكنسة خشبيه وجاروف كبير وأمره بكنس الدكان و “ترويقه”..
حينها صرخ به
-أنا زياد الدالي عايزني اكنسلك الدكان…. انت اتجننت!!

فيهز قاسم رأسه بلا مبالاة.. يمسك بهاتفه وعدة ضغطات وهو يحدثه ببرود..
– براحتك…. عمومًا نيرة هتفرح أوي برفضك ده…

ليختطف هاتف قاسم من يده.. ويغلق الاتصال.. يرجوه..
– أي حاجة ياقاسم الا أني اكنس واعمل الكلام ده..!

فيصحح قاسم برفعة حاجب مستفزة..
– اسمي الريس قاسم… طول ما أنت هنا.. تقولي ياريس.. مفهوم..!

تمتعض ملامحه.. يمسح على وجهه بـ غل وضيق، وقد ندم أشد الندم أنه
استمع لعقابها وجاء هنا..

-مفهوم…

-خلاص هعفيك من الكنيس… روح أملي كام جردل مية وادلقهم اودام الدكان يللا…

يحدثه بسماجة، كان الله بعون من ستتزوجه، يستشيط غضبًا يهدر به..

– إنت اتجننت والله العظيم.. انا مستحيل أعمل اللي بتقول عليه ده.!

ليسحب قاسم هاتفه مرة أخرى.. ينوي الاتصال..
-أحسن بردو… أما أعرف نيرة بقى..

.. بعدها.. كان يمسك بدلو ملئ بالمياه يسكبه أمام باب الدكان بعشوائية..
والدلو يتبعه بآخر.. حتى تعب.. جلس يلتقط أنفاسه ليأتي قاسم، يقف فوق رأسه يطلب، أو يأمر بالمعنى الأصح..

قوم حمّل الخشب ده كله ع العربية مع الصبيان…

.. واليوم ظهره يتعبه.. جسده يصرخ يريد الراحة.. كان بسابق عهده أقصى مجهود يفعله أن يفتح نافذة غرفته..
.. مر يومان ولازال الأسبوع بأوله، “المفترية” ألم تجد عقابًا آخر له..
جاء قاسم بجواره.. يمسك إحدى الأخشاب التي قام بتقطيعها ونشرها..
يوزع نظرات حانقة بينه وبين الخشب بيده.. يهدر به قاسم

-ولا خشبة واحدة قاطعها صح.. ايش حال لو مكنتش معلملك عليه..
عشان متنيلش الدنيا..

يرد عليه بصوت أعلى..
-والله ده اللي عندي… لو مش عاجبك مشيني..
– لا والله عايزني امشيك.. عشان تقول لنيرة إن العيب مني… ده بعينك..

يتوسله بعينيه.. بطريقة مضحكة..
– اعتقني لوجه الله ياقاسم.. وانا والله هظبطك..

يقف قاسم أمامه، يتفحص هيئته، واليوم أيضًا أتى بثياب بسيطة عملية،
عقد ذراعيه أسفل صدره العريض.. يتلاعب بحاجبيه..
– وهو دخول الحمام زي خروجه..

قالها ثم دفعه من كتفه بخشونة..
-يللا روح أعملي كوباية شاي..

يرد زياد ببلاهة..
-مين اللي هيعمل الشاي..

يجيبه قاسم ببساطة
– هو فيه غيرك هنا.. يللا بسرعة.. وعايزه شاي تقيل..

يشير بسبابته لجانب به رخامة متوسطة يعلوها أشياء لم يتبينها من وقفته واسطوانة غاز صغيرة..
يعود بأنظاره لقاسم.. يسأله بتوجس ..
– أنا هعمل الشاي فين..؟

يفهم مقصده.. فيستفزه، يكتم بداخل صدره ضحكة شامته
– هناك… ع الامبوبة اللي هناك دي، البراد والكوبايات عندك..

حينها رفع زياد حاجبيه.. يسأله من بين أسنانه..
– قاسم.. انت مسمعتش عن الكاتيل؟!!..

……………..

.. يقف عاصم أمام المدخل بانتظارها ويديه في جيبي سرواله الضيق، وقد قرر اليوم أن يرتدي بذلة كلاسيكية بلون العسل الغامق وقميص بدرجة أفتح ولم يكلف نفسه عناء غلق أزاراره العلوية..
يعلم أنها ستأتي، لا مجال للهرب، وقد أرسل لها اسم المكان وحدده جغرافيًا في رسالة نصية مع تهديد مبطن بإن لم تأتِ… سينزعج وبشدة، وبالتأكيد هي في غنى عن إزعاجه..!
لم ينتظر كثيراً.. كانت أمامه كالبدر وقت تمامه، هكذا يراها..
ملابسها خفيفة سراول من القماش الأسود وكنزة بلون القهوة ذات اكمام واسعة.. ملابسها كانت لاتليق بكلاسيكيته ولا بالمكان… ولكن العيب منه هو لم يخبرها…
ملامحها مشدودة وحاحبيها معقودان.. صوت زفراتها القوية يصله..
اقتربت منه.. فمد يده يصافحها.. توزع نظراتها الحانقة بين كفه وبين وجهه
ثوان معدودة ومدت يدها تصافح.. مجرد تلامس للأنامل وكان هو يريد احتضان الكفوف..
سحبت يدها سريعًا.. تضعها بجوارها.. واعتلى ثغره ابتسامة بلا معنى
همس وهويشير إليها بأن تتقدمه..
– اتفضلي..

بتردد كبير تقدمت خطوة تبعتها بخطوة أخرى، وكان هو خلفها ورائحة عطره المخصص له تسبقه، رائحته أصبحت ثقيلة جدًا كرؤيته..
تزكم أنفها، وتعطل باقي حواسها عن العمل..
تكتم غضب بداخلها منه ومن تصرفاته.. رسائله العديدة، إلحاحه بمقابلتها
وكأن رفضها لا يعني شيئًا..
انتهى المدخل وكانت تتوسط بوقفتها الذاهلة منتصف المكان..
مكان مفتوح آخره البحر.. تراه بوضوح
أضواء المكان خافتة تبرز حُمرة السماء وقت الغروب وتواري الشمس خلف غيوم المساء…
طاولة مستديرة مزينه بورود حمراء متناثرة .. وشموع صفراء باهتة لها رائحة عطرية خفيفة.. وبالخلفية أغنية أجنبية هادئة.. هدأت ملامحها بفضل سماعها..
يفاجأها… هو رجل المفاجأت بلا منازع..
جذبها من تأملها وشرودها وهو يسحب كرسي لها..
جلست على مضض، واستدار يجلس على الكرسي المقابل..
ابتسامته كانت واسعة حقيقيه.. لا يدّعي السعادة بتلك اللحظة..
هي لحظة انتظرها.. ونالها، ولن يفرط بها…
يفتح زر بذلته.. يرتاح بجلسته، ونظرته مثبته عليها.. رغم اعتراض واهن بداخله على ثيابها.. وكان يريد كمال اللحظة بفستان يبرز نعومتها..
ولكن لابأس بالمرة القادمة..
..يتنهد قبل أن يتحدث بإبتسامة مشتعلة..
– أول Date لينا .. وإنتِ يارا… وأنا عاصم كالعادة يعني..

رفعت حاجب بالمقابل.. ثقته وملامح وجهه الشامخة تستفزها،
ردت بما ينافي كلامه..
-إنت ليه مش قادر تفهم إني كرهتك!!

زفر بضيق.. اخفاه سريعًا ودفنه.. يسأل وكأنه لم يسمع منها شئ..
-إيه رأيك ف المكان؟!

يشير بكفيه على ماحوله.. خلو المكان وهدوئه
لا تُجيب.. واكتفت بنظرات جليدية يفهمها ويتجاهلها..
استرسل بحديثه..
-أنا بقول بردو إن المكان أكيد هيعجبك.. ولسه لما تشوفي الاكل اللي مختاره هيعحبك أكتر…

-بكرهك..
نطقتها بـ غل أصاب غروره بمقتل.. ليعتدل بجزعه وقد تجهمت قسماته
يسأل بغضب..
-بتكرهيني عشان إيه .. المفروض أنا إللي أكرهك مش إنت ِ..

تُسارع بالقول..
-طب ماتكرهني ياريت تكرهني..

يمرر كفه على وجهه مرورًا بلحيته الشقراء الخفيفة، سحب نفس عميق يحاول الهدوء..
-أنا عاصم نفسه اللي إنتِ حبتيه.. وعملتي إللي عملتيه عشان تكوني معاه
إيه أتغير دلوقتي؟!

تهكمت..
-إيه اتغير…. لأ مفيش حاجة بسيطة أوي اتغيرت ياعاصم.. انت حاولت تغتصبني..!!

يبرر.. يُفند الأسباب، والوضع خرج عن سيطرته..
-وقتها كنت مضايق و…..

تقاطعه بحدة..
-وانت كل ماتتضايق بتتهجم ع للي أودامك..

ثم تابعت بسخرية..
– بداية مش مبشرة خالص بالنسبة لأول Date وكدة ياعاصم كالعادة ..!

أسبل أهدابه قبل أن يرفع عيناه يتوسلها بنظراته..
-أنا عايز نبدأ من جديد.. يارا وعاصم….

تعدّل الرد..
-قصدك يارا أخت زياد!! وياتري هتقول لزياد ايه؟

-مش لازم زياد يعرف.. ده سر هيفضل بينا..
-أنا مش موافقة..

يضرب على الطاوله بكفه فأجفلت..
-مش بمزاجك..

استقامت تتحرك..
-أنا عايزة أمشي ..

ألحق بها.. يمسك مرفقها بعنف.. يغمغم بانفعال..
-قولتلك مش بمزاجك..

-لأ همشي..
وبحركة سريعة جذبت يدها من قبضته.. تنسحب من أمامه بخطى أشبه بالهرولة… تركته بجوار الطاولة يرمقها بغضب وثورة تأججت بداخله…

…………………

.. يصعد درجات السلم بتعب.. ملامح وجهه متغضنة من ألم بجانبه الأيمن .. يمسك أعلى خاصرته يضغط بشدة عله يخفف الوجع ولو قليلًا..
ببطئ الخطوات يتأني عند كل درجة يصعدها، وكأنه يأبى الوصول.
يصله صوت شجار .. يركز بأذنيه ليتبين أنه صوت أبناؤه.
وصل إليهما وحينها كانت مقدمة قميص مراد – ابنه الأكبر – في قبضة حاتم
-الأوسط-
يزعق به بنبرة طفولية ساخطة دون أن ينتبه لوصول أبيه..
ابيه الذي هدر به بقوة أرعبته فابتعد بعد أن ترك قميص أخيه..
-في إيه.. بتتخانقو مع بعض ليه..!

ليجيبه مراد ببراءة..
– أنا مش بتخانق يابابا.. هو اللي بيخانقني..

التفت بجسده لحاتم يسأله بحدة ونظرات غاضبة
– بتخانق أخوك ليه..!

صمت الصغير لحظات وهو يبتلع ريقه.. وزحف الخوف لوجهه.. يهمس بتلعثم بسيط..
– عشان بيشيل ملك كتير وعمتو بتزعق..

فيصيح مراد مستنكرًا..
– انت اللي بتتضايق لما بشيلها وبتفضل تزعق..

فصل كمال بينهما. يفض النزاع.. بحدة نبرته الموجهه لحاتم..
– حاتم إنت مش صغير ع الحركات دي..

-بابا أنا…
كاد حاتم أن يتحدث ليقاطعه كمال بصرامة وملامح حازمة..
-حاتم إنت معاقب.. هات موبايلك..
وكمان مفيش فُرجة ع التي في لمدة يومين… هديلك قصة هتقراها وهسألك عنها…

قُطب حاتم بضيق..
-اشمعني أنا إللي دايمًا بتعاقب ومراد لأ..!

هدر كمال يحذره..
– حاتم…

طأطأ رأسه برهة.. ثم عاود رفعها وقد تغيرت نظراته لأخرى راكدة ..
واغتصب إبتسامة غريبة على طفل في السابعة من عمره.. يتمتم مطيعًا..
– اللي تشوفه يابابا..

.. وتركهما مع نظرة تحذير مشددة لكليهما، يدلف منزل والدته بعد أن رأى الباب مفتوح..
أمه بالمطبخ ونيرة تجلس أمامه على الأريكة وأمامها طبق كبير من حبوب الذرة.. تتناول منه وهي تركز مع الفيلم..
يقترب ويجلس دون أن تلتفت له حتى.. فيلتفت للتلفاز يرى ماتشاهد وقد كان فيلمها الأفضل والمفضل – الشموع السوداء – فيهز راسه بيأس منها
حتى وإن شاهدت ذلك الفيلم للمرة المليون فالمرة المليون وواحد ستتابع بنفس التركيز والانشداه…
آهة حارقة خرجت من بين شفتيه رغمًا عنه.. ليجذب انتباه المنسجمة بجانبه..
تسأله باهتمام وقلق وقد رأت تغضن ملامحه..
– مالك ياكمال.. فيك إيه؟!

ليجيب بنبرة متهدجة وهو يضغط على شفتيه..
– الألم اللي كان بيجي ف جمبي اليمين رجع تاني بس أقوى المرادي ..

أمسكت لجهاز التحكم تغلق التلفاز ثم اقتربت منه تتحسس جبهته وخصلاته..
– ممكن تكون لبخت في الأكل؟!
-مكلتش حاجة انهاردة أصلا..

وحضرت فاطمة تحمل كوب من الليمون بالنعناع المثلج تناوله لنيرة، تقول لكمال..
– استنى ياكمال. أما اعملك لمون بالنعناع انت كمان..
-لأ ياماما بلاش ساقع.. كمال جمبه وجعه..

عندها اقتربت فاطمة منه تجلس بالأريكة الملتصقة به.. تخبره بنبرة طبيب..
– عشان بتنام في التكييف وانت لابس خفيف..

يضحك بخفة رغم تعبه..
-خلاص شخّصتي حالتي.. ناقص تديني العلاج..!

ترفع ذقنها وتجيبه بتأكيد..
-علاجك عندي.. هقوم اغليلك شوية لبان دكر ومعاهم….

وقبل أن تستكمل وصفتها الخزعبلية هتفت نيرة باستياء رقيق..
– ماما أرجوكي بلاش وصفاتك اللي مش عارفة بتجيبيها منين دي..

لم يتمالك كمال نفسه ليضحك رغمًا عنه.. يتناقل ببصره بين جلسة أمه المتحفزة لتنتيف شعر نيرة على مقاطعتها والتقليل من دهاء وصفاتها..
ونيرة المسترخية بجلستها ولم تعيرها انتباه..
خفتت ضحكته شيئًا ف شيئًا.. ليخبر نيرة..
-زياد كلمني انهاردة.. بيقول ان قاسم مزهقه وبيضغط عليه..

أخفت وجهها عن أخيها تضحك خِلسةً.. تحاول أن تكتمها فتفشل.. فينهرها..
-حرام عليكي انتِ عارفة ان قاسم بيكره زياد.. ده هيبهدله..

زمت شفتيها تدعي الجدية..
-الله… وانا مالي هو اللي عمل فيها سبع رجالة في بعض يستحمل بقى..

-عمومًا أنا هكلم قاسم يخف عليه شويه.. زين خليه ينام هنا انهاردة..

قالها وهو ينهض من مكانه ينوي الصعود لشقته، فتبعته شقيقته تسير خلفه،..
استوقفته عند الباب..
-مش عايز تحكيلي اللي مضايقك..!؟

يحضتن وجهها الصغير براحتيه، يقول بصدق وابتسامة مجهدة
-لو حسيت إني عايز أحكي هجيلك…

.. وخرج ، تقف على الباب ترمقه بحزن من تبدل حاله..
صعد عدة درجات ثم توقف بالمنتصف يستدير بجزئه العلوي يسألها بشرود نظراته..
– نيرة لو إنتِ واحدة غريبة… وشوفتيني واتعاملتي معايا… ممكن تحبيني!!

سؤاله آثار استغرابها وزاد حزنها من أجله .. ولكنها لم تمهله وقت لتقول باندفاع صادق ونظرات مُحبة..
– هحبك… ده أنا هموووت فيك…

لم يزد اكتفي بإبتسامة وايماءة بسيطة، يعلم بأن ردها يأتي بـ عين الشقيقة المحبة.. ليس أكثر…

………………..

-خُد..
يزعق بها زياد بنزق بينما يضع كوب الشاي بعنف على الطاولة الخشبية الصغيرة بجوار قاسم..
فيلتقطها الآخر بأطراف أصابعه.. وامتعاض ملامحه..
يرتشف ببطء وتأني.. وحذر، وزياد يقف فوق رأسه منتظرًا رأيه..
فيومأ قاسم برأسه دليل ان الشاي نال استحسانه..
– ممممممـ مش بطّال… احسن ١٠٠ مرة من بتاع امبارح.

وشاي الأمس كان كارثة بكل المقاييس.. كوب يحتوي ماء ساخن حد الغليان بسكر، وحبوب الشاي قليلة بدرجة اصفرار الكوب الشفاف..
كاد قاسم أن يسكبه فوق رأسه، ولكنه اكتفى بزعيق وعقاب مكثف كمشاوير للفرع الآخر وحضور بعض طلبات وكل ذلك سيرًا على الأقدام..
يسب نفسه بداخله.. تبًا لطيبة قلبه..
-عملتلك الشاي اهو… وطلع تمام سيبني أروح بقى..
هتف بها بسخط وهو يمسد عنقه المتعب.. يحرك جزعه قليلا يحاول فك فقرات ظهره..

-لسه بدري.. هتروح ازاي وانت منقلتش الخشب زي ماقولتلك..

اتسعت فتحتي أنفه من الغيظ.. يهدر متذمرًا
-وهو الخشب وهو محطوط هنا مضايقك في ايه؟

يشير بذراعه على صف طويل من الأخشاب المتصافة فوق بعضها ملتصق بالحائط،
فيلوح قاسم بيده.. وكوب الشاي باليد الأخرى.. يقلب ثغره
-مش مرتاح والخشب محطوط هنا.. شيله دخله المخزن جوة..

ينهي أوامره ويعطيه ظهره، تملؤه الشماتة، والنية إغاظة الآخر ووصوله للانتحار..
يقترب زياد من الأخشاب، يمسك باحداها.. يتلمسها.. يتحسسها وقد اغمض عيناه، يجز على ضروسه بعصبية.. وقد أتى بخياله هيئته وهو يضرب قاسم بتلك الخشبة على رأسه.. ورؤية دماؤه جلبت السكينة قليلا إليه..
يضع الخشبة مكانها فوق الصف بتساوٍ مع الأخريات..
ثم يقترب من قاسم.. يهتف بانفعال لم يستطع كبته..
-بدل ماتعمل راجل عليا أنا.. روح شوف الهانم أختك…

يعقد قاسم حاجبيه، يهدر بقوة..
-أنا راجل ع أي حد يالا..

قال زياد متهكمًا بسخرية حانقة..
-لأ واضح… راجل ازاي وأختك سايبها تروح جيم مختلط..!

ضاقت عينا قاسم باستفهام.. يسأل
-يعني إيه جيم مختلط..؟

وجهل قاسم بتلك الأمور جعل العابث بداخله يستيقظ.. يضرب على الحديد وهو ساخن يعلم بأن قاسم هو من سيمنعها..
-مختلط.. يعني بتتمرن أودام الرجالة.. بتوطي وتقوم وتقف…
إيه أوضحلك أكتر من كدة..؟

يزوي مابين حاجبيه بتجهم الملامح.. وعرق الرجولة لديه قد انتفخ..
– وأنا إزاي معرفش حاجة زي كدة..!

يربت زياد على كتفه بقوة.. يُحرضه..
– اديك عرفت وريني هتعمل إيه..؟

وضع قاسم الكوب بحدة أصدرت صوتًا مزعجًا، يتحرك للخارج بخطى ثائرة، هائجة وقد تلبسه قرينه من العصر الجاهلي..
يصعد على دراجته الناريه بعد أن أدارها.. يسأل الآخر المُراقِب..
-انت عارف مكان البتاع ده فين..!
فيومأ برأسه يركب خلفه وتلك المرة الأولى له لركوب دراجة نارية وخلف من.. خلف قاسم…

…. وعند وصولهم للمكان بعد وقتٍ ليس بقصير.. يترجل قاسم ويتبعه زياد..
يشير له على المكان.. فيأمره قاسم..
– خليك واقف هنا جمب الموتوسيكل..

يطمأنه.. ويهتف بخفوت له يحذره .
– بص لو لقيت نيرة جوة متكلمهااش… سيبني انا هعاقبها بطريقتي..

والماجن تخيل العقاب.. سيسحبها من خصلاتها سحبًا لغرفة نومه ثم إلى فراشه إلى أمد الآمدين..
وسار قاسم بعد أن تركه مسرعًا يدخل النادي.. ينوي افتعال شِجار
استند زياد على الموتور خلفه.. منتشيَا بمافعل وسيفعل..
يضيق عينيه.. يتذكر شئ قد نساه أو تجاهله..
يضرب بكفه أعلى جبهته شاهقًا..
-نسيت أقوله انه بيضرب بالدماغ…
ضحك بداخله شامتًا يتخيل ضربة الآخر بمنتصف أنف قاسم.. فتبتهج قسماته.. وبداخله قد ضرب عصفوران بحجر واحد…

…. وطال انتظاره.. من وقت لآخر يرمق الساعة بهاتفه، تأخر قاسم بالداخل..
تحرك ينوي اللحاق به.. ولكنه توقف حين شاهد قاسم يخرج ويسير نحوه بهدوء عكس مادخل… هدوء آثار ريبته، وضيقه..
يهتف بقاسم تزامنًا مع اقترابه بنفاذ صبر..
-ها عملت إيه..

يقابله قاسم بوجهٍ ضاحك ونبرة هادئة..
-تخيل الكابتن جوة بيقولي أن جسمي كويس جدا.. مع التمارين والممارسة هبقي رياضي أكتر…

وامتعاض ملامح زياد واتساع حدقتاه ولسانه الذي تحرك دون إذن منه..
– يافرحة أمك بيك..

هتف قاسم يوضح له ..
– علفكرة بقى.. مش زي ما انت قولتلي.. البنات بتدرب بمكان والرجالة في مكان… اهدي شوية يابوتوجاز..

.. يركب والآخر يركب خلفه على مضض، يتلبسه الغيظ والغضب
وللتو تذكر قاسم شيء فهتف بصوت مستفز ..
-آه م الحق يارا بتروح الجيم ده..

عقد زياد حاجبيه، يسأل
-يارا مين؟!

-يارا أختك…
قالها وانفجر ضاحكًا.. يقطع الطريق بدراجته وترك للأخر خلفه ندب حظه
– أختي ومراتي… ناقص المرة الجاية أخرج أمي من هناك.!!

………………..

.. قررت الخروج مبكرًا.. استنشاق هواء الصباح النقي سيساعد على تحسين نفسيتها..
ملّت من الاضطهاد وكون أنها باتت منبوذة.. الوحيد الذي يعاملها بالحُسنى هو جدها… والآخرون يتجاهلو عودتها.. وجودها.. كأنها عدم..
ليتها ماعادت… معاملة قاسم الجافة لها تجلب الدموع لعينيها
تسير على غير هدى.. أي طريق والغرض الابتعاد عن البيت
الابتعاد عن مكان بات يخنقها كالسابق..
ماذا يفعل المرء وقت ان تضيق به الأماكن.. وينبذه الجميع..!
تسير بطرق لا تعرفها.. تسلك طريق آخر ظنت أنه مختصرًا للعودة..
ملابسها الرياضية تساعدها على السير بحرية مع خلو الطرقات من المارة..
توزع نظراتها بالشارع أمامها بشرود.. أحست بالتيه فالتفتت يمنةً ويسرةً،
وللخلف….
تصطدم بآخر.. تدقق.. تتسع عيناها، وتعود خطوتان للوراء..
ولسانها ينطق بصدمة..
– رامي..!

.. وبوقاحة متأصلة، عينان تشعان جرأة.. يهمس بفحيح..
– وحشتيني….

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بيت القاسم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى