رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم حسناء محمد
رواية بنت المعلم الجزء الثاني الجزء السابع والثلاثون
رواية بنت المعلم الجزء الثاني البارت السابع والثلاثون
رواية بنت المعلم الجزء الثاني الحلقة السابعة والثلاثون
فتحت جفنيها بصعوبة لا تدري ما أصابها، نظرت إلى سقف الغرفة بتعجب ومن ثمّ حاولت الجلوس وهي تبحث عن ابنتها، شعرت بألم شديد في رأسها عندما تحركت من مكانها، آخر شيء تتذكره دخولها في غرفة البواب تنتظر باقي سكان البناية… خطت بضع خطوات وكأنها مغيبة تتمايل بجسدها بغير توازن، توقفت عندما وجدت صوت خارج الغرفة، ثوان وظهرت صغيرتها وهي تمسك شطيرة بيدها وكوب من اللبن بالأخرى!
: إحنا فين يا لوجينا؟
ركضت الصغيرة وهي تقول بلهفة:
ماما أخيراً صحيتي بابا سأل عليكي كتير
تطلعت إليها بعدم تصديق وهي تحرك رأسها يمينًا ويسارًا بذعر، تهتهت اسمه عدة مرات تستوعب ما كانت تخشاه وأصبحت به.. وكأنه يريد تأكيد شعورها وما يدور داخل رأسها، ولج وعلى شفتيه بسمة صغيرة قائلاً بعبث :
اكيد من غيابي معرفتيش تنامي عشان كده ما صدقتي
همست بصوت مرتعش وهي تعود للخلف برعب :
عــز
نظرته كفيلة بجعلها تفهم رده دون أن يتفوه بكلمة، جف حلقها مع خطواته التي قلصت المسافة بينهما، وهي تفكر في أبشع ما ستتعرض إليه.. تسمرت محلها وتشنج جسدها مع عناقه الحار وهو يدفن رأسه بين خصلاتها يستنشق رائحتها بشوق ولوعة، توسعت مقلتيها بصدمة طاغية حتى أنها شعرت بعجزها عن الحركة، لو أنه ثار وغضب أهون من مستقبل مجهول بين يديه..
: وحشتيني يا ليلى
اعتدل في وقفته واسمك وجهها بين راحة يديه متمتمًا بعاطفة:
مش قادر اسامح اللي كانوا سبب في بُعدكم عني
أصابها دوار حاد غير مصدقة أنها بين حصاره، ليزيد من صدمتها بكلماته الشغوفة، سرت رجفة في أوصالها مع قربه وهو يطبع قبلة على جبينها .. رفعت عينيها تحدجه بذهول وهمست بضعف:
أنت مش زعلان مني عشان مسافرتش
: أكيد زعلان لكن المهم أنكم معايا
تهدجت أنفاسها وهي تسأله بتوجس :
إحنا فين؟؟ سافرنا بره مصر!!
هز رأسه بالنفي مردفًا باقتصار:
هيحصل قريب
واسترسل يسألها وهو يسحبها للجلوس بجانب وعلى طرفه الآخر اجلس ابنته :
دلوقتي عرفيني ليه مسمعتيش كلام المحامي وسافرتي!؟
مسحت قطرات العرق فوق جبينها بيد مرتعشة ثم ردت عليه بصوت مهزوز بعض الشيء وكأنها لا تبالي عقاب فعلتها التي كسرت إحدى قوانينه وهذا لا يوجد في قواعده:
مكنتش هقدر أعيش لوحدي مع لوجينا في بلد غريبة من يوم وليلة
: لكن أنتِ عارفه أن منتصر كان في استقبالك لحد ما احصلكم
بلعت لعابها وهي توضح مقصدها :
من يوم ما عرفتك وأنا مش بتعامل مع ناس غير البواب ومراته، إزاي هقدر ادي الأمان لواحد عمري ما شفته!! غير إن المحامي موفقش يقولي أنت هتخرج ازاي أو أمته وسيف قلقني اكتر
علمت خطأها عندما دار يرمقها بثبات متسائلاً بفضول :
وهو فين سيف؟! وسيف هيخاف عليكي اكتر مني؟!
واستكمل بهدوء بث داخلها السكينة والاطمئنان:
ليلى دا أخويا وأنا عارفه كويس ميعرفش مصلحته أساساً، لو تعرفي عنوانه بلغيني لأن لازم ألم شمل عيلتي ونبدأ من جديد في بلد جديدة ومع ناس جديدة وأكيد مش هسافر من غير أخويا الوحيد
وهل يوجد برهان يثبت حسن نية الصياد لفريسته!! أم يصبح الذئب حيوان أليف يومًا ما؟؟.. ولكنها لم تكن بحاجة لشئ سوى شعورها الأبله الذي دفعها من أعلى قمة التهور، ابتسمت بسعادة وكأنها استعادة وعيها للتو :
أنا كنت عارفه أنك حنون ومش قاسي أبداً، ودا اللي فضلت أقوله لسيف بس دايما قلقان وخايف من ردة فعلك
: هيغير رأيه من بعد ما أشوفه
استشفت من لهجته شعور متناقض بالنسبة إليها، بسذاجة تصورت أنها تستطيع التأثير عليه فقالت بتوتر :
ما هو مرتاح في المكان الجديد وعايز يكمل فيه
لم يرد عليها وأخرج هاتفه كي تدون العنوان دون جدال أكثر.. قدمه إليها بنظرات لا تحمل لنقاش فارغ لا جدوى منه، أمر بدر دون أن يتحدث فقد نفذ صبره ولا يتمكن من رسم الهدوء على تعابيره مجددًا
: معرفش مكانه وبعدين أنت قولت المهم أن احنا مع بعض
قاطعها بصرامة وقد تبدلت ملامحه ليظهر على حقيقته المرعبة :
ليلى مش بحب أعيد كلامي مرتين
وهمس بجانب أذنها بتهديد صريح :
دا لو عايزه تكوني مع لوجينا لما تسافر
انتابتها القشعريرة من أنفاسه التي لفحت بشرتها، زاغة نظراتها وهي تترجاه بصوت متلجلج :
بلاش تأذيه دا كان بيحاول يساعدني على قد ما يقدر
ضيق ما بين حاجبيه باستنكار قائلاً بضجر :
كلامك بقا كتير وملوش لازمه
كتبت العنوان بالتفصيل فأخذ الورقة عنوة من بين يدها،أرسل العنوان في رسالة نصية إلى رقم ما، ثم تطلع إلى لوجينا وهتف مبتسمًا:
حبيبة بابا هتجي معاه عشان تشوف جبلها ايه
تعلقت الصغيرة في حضنه فنهض عز موجه حديثه إلى ليلى:
استني هنا لحد ما نرجع
وكأن لديها خيار آخر بعد أن أوصد الباب بالمفتاح من الخارج، كان سجنه أمانها قبل أن تعلم حقيقته الكاملة من سيف، كيف سيكون نتيجة قرارها إذا كان عقاب أماني الموت خوفًا منه؟! استحوذ تفكيرها أسوأ مصير مجهول بين يده، جالت تبحث عن مخرج فوجدت حقيبتها ملقاة بجانب الفراش، ابتسمت بخفوت ونهضت مسرعة لتجلب هاتفها… ولكن ما فائدة قطعة الحديد التي نزع منها شريحة الاتصال؟! شحب وجهها فقد اتضح نوايا عز وكل شيء يؤكد أنها حبيسة أو في عداد المفقودين، وكأخر محاولة للاستنجاد تمنت أن تجد الشريحة الذي جاء بها سيف منذ عدة أيام وضعتها بين ملابسهم كي تحافظ على وجودها ولحسن حظها لم يفتح عز حقيبة الملابس، وحتى وإن لم تستطع الفرار عليها تحذير سيف من بلاهة عقلها التي أودت بحياتها إلى حافة الموت…
؛*************
: ليه بتزعق مع الأمن ؟؟
أخذها للداخل وهو يقول باقتضاب:
متشغليش بالك يا أمي لازم يتشدوا كل شوية عشان يصحوا لشغلهم
لم تقتنع كوثر برده فسألته بشك :
أنت عرفت مين عمل كده مع عليا ومش عايز تقول؟؟!
حرك موسى رأسه بالنفي مردفًا بشرود :
لسا معرفتش بس هيجي يوم وأعرف
: بلاش تقلقني عليكم يا موسى
استغرب قلقها الواضح على قسمات وجهها فهتف بتعجب :
وليه القلق!! إحنا كويسين وبخير وطبيعي الحصل مع عليا يكون عيل مش عارف يسوق ومقدرش يسيطر على العربية لما طلعت قدامه
أومأت بتفهم وهي تسير معه للداخل، ومن ثمّ صعد الإثنين إلى غرفة عليا الغافلة في سبات منذ أن عادت من المشفى.. اطمأن عليها وتأكد من المساعدة أنها تناولت طعامها وأخذت الدواء، فاتجه إلى غرفته يبدل ثيابه ويستعد لمقابلة رئيس أمن المجمع السكني، عليه أن يفهم كيف دخل ذلك الملثم إلى منزله دون أن يلاحظ أفراد الأمن الموجودين على البوابة، وأين كاميرات المراقبة عندما هبط أسفل سيارته يفك المكبح؟!
توقف عن إغلاق أزرار قميصه يمسك هاتفه عندما صدح صوت رنينه، بالأمس هي والآن والدها!! أجاب موسى على اتصال المعلم سالم بفضول في معرفة أسباب المكالمة، ألقى التحية فوجد نبرته المقتضبة ترد عليه باقتصار :
عايز أشوفك في خلال يومين
قطب موسى جبينه باستفهام من لهجته الصارمة، تغاضى عن شعوره بعدم الارتياح وغمغم بتلقائية:
عليا تعبانه أول ما تخف هكون عند حضرتك
استمع إلى إنذار إغلاق المكالمة بدهشة طغت على تعابيره، وضع الهاتف على الطاولة باستغراب وبدأ في تصفيف شعره وهو شارد الذهن في طريقة المعلم سالم.. تسمر محله وقد خطر على باله أن يكون أصاب هند مكروه؟؟ أم أنها قصت إلى والدها عن محاولاته التي لا تنتهي؟!
؛*********
في مكان آخر داخل شقة ابراهيم الخولي وابنه
ما يقارب نصف ساعة وهو يجلس ممسك بتلك الورقة يقرأ محتواها كلما شك في نظره، أعطاه المعلم سالم ظرف مغلق قبل مغادرته القرية، ولانشغاله في وعكة صحية ظهرت على والده فجأة عند عودته، وضع الظرف دون أن يفتحه.. قرأ المبلغ المدون بجانب اسمه بذهول غير مصدق التفسير المكتوب على الورقة الأخرى والتي كانت بواسطة كبير آل سويلم جده عثمان!!
استمع إلى صوت التلفاز فعلم باستيقاظ والده، خرج وهو يمسك الورقتين بوجه مقتضب، تطلع إبراهيم إليه دون أن يلاحظ تغيره قائلاً باستفسار:
مش رايح الشغل انهارده
: بابا أنت ليه مرجعتش البلد بعد موت ماما؟؟؟
ابتعد بنظره عن التلفاز يرمقه بتعجب :
مروحتش الشغل عشان تسألني السؤال ده!!
جلس على الأريكة بجانبه وهو يقدم إليه الاوراق :
يهمني أعرف دلوقتي بعد ما الورق ده بقا معايا
: خالك سالم صح ؟!
رفع يونس حاجبيه بدهشة وهو يتمتم بذهول من ملامح والده الطبيعية التي تدل على معرفته السابقة:
معنى كده أنك عارف ؟؟! من أمته؟
التفت إليه وهو يقول بلامبالاة:
مش مهم ولا هيفرق كنت عارف ولا لا، كله في أيد خالك من يوم ما جدك مات
سأله يونس بعدم فهم :
وليه معرفش منك لحد دلوقتي
واستطرد باستنكار والشك يأخذ مجراه في عقله :
وازاي مرجعتش البلد مادام عندك علم باللي جده عمله، ولا حبيت تندمه وتحسره بعد موت بنته بغياب حفيده
ضحك ابراهيم وهو يهتف بتهكم :
وأنا ايه يهمني في اللي عمله عثمان بعد موت مراتي
: مراتك اللي هي بنته يا بابا
انكمشت قسمات وجه ابراهيم وهو يسأله بضيق:
وأنت جاي تحكم عليا من يومين روحتهم زيارة عندهم؟؟
هز رأسه بالنفي وأردف بتوضيح:
حقي أزعل لما أعرف بحاجة زي دي وإن..
قاطعه بحده طفيفة:
وأنت مستني فلوس منهم ولا أنا حرمك طول حياتك عشان كده ما صدقت
تعجب من حدته الغير مفهومة حتى دون أن يفهم مقصده من الحديث:
طبيعي جداً أفكر في كل اللي بيحصل وخاصة بعد موت الحاجه مبروكه وأنا متأكد أن في كلام كتير يخصني عندها
حرك رأسه بلا اكتراث وهو يهتف بحنق :
البلد مش بعيدة عليك وورث أمك بقا ليك روح عيش هناك وأعرف كل اللي يخصك، سالم مختلفش كتير عن أبوه وعرف يخدك لصفه من مرتين
احتدت نبرة يونس وهو يغمغم بكدر :
بابا أنا مش عيل صغير عشان حد يضحك عليا
رمقه بجمود ورد عليه بسخرية بالغة:
لا ما ده مش اي حد، وأكبر دليل على كلامي أنه طلع روق الورث في الوقت اللي ظهرت فيه مع أنه قادر يدور عليك السنين الفاتت دا لو كان نيته تاخد ورثك أساساً
صمت يونس للحظات يجد أسلوب نقاش هادئ، ومن ثمّ أفصح عن معرفته ببحث خاله عنه طيلة السنين الماضية:
خالي فعلاً حاول يدور علينا واخر مره لجئ لعامر ابن عمي، وبعدين تقريباً حصل سوء فهم بين جوز عمتي واخوالي ودا سبب اتصال خالي جابر بيا ونزولي البلد آخر مره
أومأ إليه وقال باقتصار :
طيب وادي سوء الفهم اتحل ومعاك ورث أمك ياريت منفتحش الموضوع تاني
زفر بملل وأمسك الورق يضعه في الظرف وهتف ببرود :
ما هو الموضوع لسا هيبدأ لأننا المفروض نرجع البلد
دار برأسه ببطيء يحدجه بذهول:
وايه اللي فرضه يا يونس!!
رفع الآخر كتفيه بلامبالاة ورد بعدم اهتمام:
أننا مثلا مش هنفضل طول عمرنا لوحدنا
واستكمل بحيرة:
أو على الأقل أخد فكرة عن وجود عيلة كبيرة أنا منها
قطب ابراهيم جبينه من استهتار ابنه إلى هذا الحد وهدر بانفعال :
أنت هتفضل لحد أمته عندك لامبالاة في كل حياتك، عايز تهد مستقبلك وتسيب شغلك بكل برود عشان أفكارك
ألقى جهاز التحكم بعنف على الأريكة ونهض يغادر إلى غرفته يبرطم بغيظ، زفر يونس بملل وأخذ كوب الشاي الخاص بوالده يرتشف منه وهو يقول بهدوء:
أهو انفعالاتك على اتفه الأسباب السبب في مرضك
؛******* بقلم حسناء محمد سويلم
احتضنت فنجان القهوة بين كفيها وهي تنظر إلى الأطفال بشرود، عقلها فارغ من الأفكار ولكنه أرهقها من التفكير في اللاشيء.. منذ فترة وجيزة أصبحت حياتها هادئة، روتين طبيعياً معتاد، ذاد وقت فراغها بشكل كبير، حاولت استغلاله في التعلم وصفات طبخ جديدة وبعض المخبوزات بالإضافة إلى تخصيص وقت محدد لإنجاز واجبات الأولاد بالترتيب، لكن لازال هناك شعور غريب يسيطر عليها، عدم ارتياح أو ملل يكدر صفوها،
أفاقت من عالمها على صوت ربيع وهو يلقي التحية، ردت عليه بخفوت وظلت محلها تتابع الأطفال.. أخرج ربيع أكياس حلوى وقسمها على أولاده، ثم قدم إليها شكولاتة وعلبة من مشروب الماتشا المفضل لديها، ابتسمت مي وهي تتفصح المشروب باستغراب :
عرفت تجيبه ازاي ؟؟!
: وصيت حد يجيبه معاه من اسكندرية، حكم عارفك بتحبي تشربي الملوخية دي كتير
“ملوخية!!” رددتها باستنكار ومن ثمّ قالت بهدوء:
بعيداً عن الملوخية شكراً أنك لسا فاكر إني بحب الماتشا
حرك رأسه وأردف غامزًا :
هو أنا عندي أغلى منك يا عجل فريز أنت
ضغطت على فكها بغيظ وهي تهتف من بين أسنانها :
ياخي كمل حاجه حلوه مره من غير دلعك
ضحك وهو يتأمل وجهها المنزعج، فأدركت أنه نجح في استفزازها كما يفعل دائمًا، عقدت يدها أمام صدرها والتفت للجهة الأخرى تتجاهله.. ولكن سرعان ما عادت ترمقه بعدم عندما قال بجدية :
قومي غيري هدومك بسرعة لأني عازمك على الغدا
ضيقت عينيها بشك متسائلة بترقب:
عازمني فين؟؟ ولا دا مقلب من بتوعك؟!!
: لا أبداً دا أنا حتى بلغت مؤمن ميخدش العربية لأنك مش بتحبي فرهدت الموصلات
ابتسمت بخفة وهي تسأله مجددًا:
مش ملاحظ أنك متغير بقالك فترة ومهتم بتفاصيلي زيادة ؟!
نظر إليها لبرهة يتذكر حديثها مع صديقتها، أراد أن يخبرها عن سعادته البالغة عندما استمع إلى مدحه من شفتيها، وعن تفكيره الدائم للبحث عما يسعدها منذ هذا اليوم..
: منا قولتلك معنديش أغلى منك
اكتفت ببسمة صغيرة ونهضت إلى غرفتها تبدل ثيابها بتعجب من أسلوبه الجديد ولكنه في كل الأحوال طريقة لطيفة راقت إليها كثيرًا .. بينما أرسل ربيع أولاده إلى الأسفل فقد أخبر والدته بأنهم سيكونوا معها حتي يعودوا، ثم ولج إلى إحدى الغرف يخرج ثيابه الجديدة الذي ساعده مؤمن في اقتنائها،
بعد نصف ساعة خرجت من غرفتها بطلة جذابة جعلتها كأميرة مستعدة الذهاب في العربة الملكية مع أميرها.. رمشت بأهدابها مرات متتالية ترمقه بذهول، تدلى فمها وهو يقترب منها برائحة عطره النفاذة، لو أنها لا تعلم بوجوده لكانت ظنته رجلاً آخر ولج إلى شقتهم، ابتسم ربيع بزهو من نجاح خطته الواضح نتيجتها على تعابيرها المنصدمه، لأول مرة منذ زواجهم تراه يرتدي ثياب مناسبة إليه، جعلته يظهر وسيم لينافس طلتها الجذابة، بالإضافة إلى ساعته المعدنية وحذائه اللامع، وطريقة تصفيف شعره الشبابية والمختلفة على هيئته،
رغمًا عنها ضحكت بعدم تصديق وهو يرفع يده بحركة رومانسية يأخذ كفها بين راحته ويسير معها للأسفل قبل أن يتأخر عن موعدهم في المطعم الذي حجزه قبل يومين في المركز التابعة إليه قريتهم،
؛************
على صعيد آخر أمر المعلم سالم بإغلاق المصنع لمدة أسبوعين بعد تسليم كافة الطلبات الجاهزة ودفع أجور العاملين كاملة، أثار هذا الخبر بلبلة ضجة كبيرة في القرية والقرى المجاورة، انتشر حديث خشية المعلم سالم من هروب عز واختباءه داخل منزله مع النساء!! وكثر الهرج مع إغلاق جابر وعبده لمحلات الأدوات الصحية الخاصة بهم وتشدد الحراسة على المخازن بناءً على طلب كبيرهم،
تقبل المعلم سالم غضب عبده بنوبة من الضحك، على انزعاجه لأسباب تافهة وأحاديث تقصد استفزازه .. وكان رأي جابر يؤيد سالم، عليهم التحلي بالصبر والحكمة كي لا يقعوا في شباك الغدر من الأقارب قبل الأغراب،
: على آخر الزمن بقينا نكتة البلد
أبتسم المعلم سالم وقال بهدوء:
والشاطر اللي يضحك في الآخر يا عبده
قبل أن يرد عبده بتبرم قاطعه بجمود :
دلوقتي خلينا في ابنك اللي عايز شقته
ضحك جابر بصوت مرتفع وأردف بمزاح :
عيب عليك يا عبده لما تاخد الشقة من سعد وتضحك عليه
: هو ابن رحاب مش هيرتاح غير لما يفضحني في البلد
رمقه المعلم سالم قائلاً بتهكم :
يعني هو ابن رحاب لوحدها وكلامك كان واضح لما قولت هيتجوز في الدور الأرضي لحد ما حالته تخف
أضاف جابر بمراوغة قاصد استفزازه :
نزل سحر مع رحاب ورجع الشقة للواد
توسعت مقلتي عبده وهو يتخيل مكوث سحر ورحاب في شقة واحدة :
لا سحر غلبانه مش قد رحاب وعمايلها
: أنت اللي جبته لنفسك
احتقن وجه عبده بضيق وهو يتمتم باقتضاب:
ما بتصدق يا جابر تقطم فيا
نظر إلى سالم وتسأل بتذكر :
تعرف أن الحاج اسماعيل شيخ الغفر خلف؟؟؟
هز رأسه بمعني أن الأمر لا يخصه، فقال عبده بتعجب :
قرب على السبعين وبيقولوا عمل عميلة ونفعت مع مراته الجديدة وخلف ولد وبنت!!
شعر جابر بما ينوي فعله عبده فأردف بوجوم :
ربنا يبارك ليه البلد مش بتبطل كلام في اللي ميخصهاش
لم يفهم عبده نظرات جابر المحذرة، فهتف بعفوية:
طيب ما سالم أصغر منه يعني العملية مضمونه وام حسناء لسا صغيرة ويمكن ربنا يكرم بالولد
ابتسم بخفة وغمغم متسائلاً بهدوء ونبرة طبيعية:
وافرض جات بنت ؟؟
كاد أن يرد فأشار إليه بالصمت وهو يسترسل برزانة:
ربما كرمني بدل المرة سبعة والحمدلله على عطاؤه
لا يعلم أحد بأن نجاة أجرت عملية استئصال الرحم بعد ولادة حسناء سوى نساء منزله فقط، لذلك اكتفى برد شمل رفضه والتوضيح.. أما جابر فانتظر لحظة خروجهم وانفجر في وجه عبده يوبخه بحده على حديثه السخيف، فشرح عبده أنه أقترح لأجل مصلحة المعلم سالم ولم يقصد ازعاجه أبداً،
؛؛؛؛
في الأعلى
ابتسمت بثقة عندما رأت اتصالاته التي تعد عددها العشرون مرة، لم يجيب عليها بالأمس فأرسلت رسالة تعلم أن محتواها سيجعله يهتم رغمًا عنه.. أشفقت عليه وردت ببرود وجفاء، فكان سؤاله الحاد دليلاً على ضيقه من فعلتها:
وليه تردي ما كنتي تستني نقفلها ٥٠ مره ؟!
: صدعت من الزن وقولت اريح دماغي
تغاضى يعقوب عن أسلوبها وسألها مستفسرًا بانزعاج:
ايه الرسالة اللي وصلت ليا امبارح دي؟؟
أجابته بنبرة مقتضبة عجزت عن إخفائها:
قولت مادام مش عايز ترد اخليك ترد غصب عنك
هتف بحنق من طريقتها الطفولية والتي لا تناسب وقته أبداً فالمصائب لا تأتي فردى:
تقومي تلبسيني في حيط وتكتبي رد يا بتاع خديجه، أنتِ هبلة ولا بتستهبلي!!
أزاحت قناع البرود وهي تتمتم بضجر :
أنا شيفاك بعيني وأنت بتحسب ناعم مع البنت في بيتنا ومرتضى بيقولك طلعها من دماغك
: لو صحيح متأكدة من كلامك مظنش كان زمانك بتكلميني دولوقتي
واستكمل بسخرية :
اكبري واعقلي بقا لاني مش فاضي للشغل ده
صمتت ثوان وأردفت بضيق :
أنا مش صغيرة عشان تكلمني بالطريقة دي
شعر بنبرتها المختنقة فعاد إلى هدوئه كي لا تبكي، ليس ذنبها ما يحدث معه ولا يتعمد أن يعاملها بقساوة، وكأن كي شيء حوله يجبره على أن يخرج أسوأ ما فيه أمامها.. زفر بصوت عالٍ وقال باقتصار:
يومين وهجي أقعد معاكي وافهمك كل حاجه
لم تُعقب عليه فاستكمل برجاء :
الأيام دي كله ملطش معايا بلاش تكوني مع الدنيا عليا
: لا خالص اعتبرني مش موجوده أصلاً
أغلقت المكالمة دون سابق إنذار، حذرها مرارًا من تكرار هذا الأمر معه وها هي تعيده غير مهتمة.. ألقى الهاتف بعنف ونظر إلى شاشة الكمبيوتر يراجع سجل كاميرات المراقبة الذي وضعها خلسة في المحجر، سيصاب بالجنون أن لم يكشف هوية تلك الفتاة في أسرع وقت، أوقف التسجيل فجأة وهو يتذكر رسالة حسناء ويعيد صوت الفتاة المنتقبة على أذنه، انتفض من مقعده وهو يهمس بصوت مذهول وعينيه تقرأ اسم خديجه!!!!!!
على الجهة الأخرى
أغلقت حسناء الهاتف ونهضت إلى والدتها تساعدها في تجهيز حقيبتها لأنها ستسافر لزيارة خالها غداً.. في الطابق الأسفل وقفت هند أمام رحمه وهي تهتف بعتاب:
متعرفيش أنا شكلي كان ايه قدام بابا، يعني أنا مردتش أقوله من خوفي عليكي تروحي أنتِ تقوليله وتطلعني بالشكل ده
: خوفت عليكي يا هند من موسى يكون بيعشمك بس..
قاطعتها باقتضاب :
مش مبرر برده يا رحمه
أخفضت رأسها وصمتت بقلة حيلة، كلما أردت أن تصلح موقفها أمام الجميع يحدث شيء عكس تخطيطها ..
: خلاص متزعليش أنا هتكلم مع بابا تاني
ابتسمت بسعادة واندفعت تعانقها بقوة وهي تهمس بحب :
بحبك اوي أنتِ اكتر واحدة فهماني
ضحكت هند وهي تبادلها العناق غير مصدقة أن أختها تخطت العقد الثاني من عمرها بذلك التفكير، ابتعدت رحمه عنها وهي تردف بتذكر :
عايزه أخد رأيك في موضوع يخصني أنا وعلاء
جلست معها على الأريكة وهي تنظر إليها بثبات، فقالت رحمه بارتباك :
علاء اتكلم معايا امبارح وطلب مني بعد كده نتكلم فيديو كول، وهو أساساً من يوم ما سافر مكلمنيش وحتى أنتِ شوفتي ليلة سفره أنا كنت مجهزة كل حاجه بس مجاش
: تقصدي أنه مش متهم
أومأت إليها بهدوء فأردفت هند بلامبالاة :
عادي حبيبتي لسا في الأول وغير سفره وطبيعي يكون بيجهز نفسه للشغل وكده
واسترسلت بحكمة:
لو عايزه تتكلمي فيديو حددي يوم معين وجهزي نفسك زي ما تكوني خارجه بره البيت يعني حجاب وفستان وعرفي بابا قبلها وبالنسبة ليا عادي
اقتحمت مروه الغرفة دون أن تطرق وجهها لا يبشر بالخير، ثوان واندفعت ناديه خلفها وهي تصيح بغضب:
انتو ناويين تشلوني واخرتها معاكم يا بنات سالم
نظرت هند إلى مروه متسائلة بقلق :
في ايه ؟؟ عملتي ايه يا ملاك الرحمة ؟؟
هدرت ناديه بكدر وهي تشيح بيدها :
الهانم ليه وليه أم طلال تطلب أيدها تاني ومرفضش والست بتكلمني في التلفون تاخد معاد
علقت مروه على حديثها ببرود :
تالت يا ماما دي تالت مره ونفسي ردي برده مش هتجوز الشخص ده لو آخر واحد
صفقت ناديه بحركة سوقية من غيظها :
ياختي ومين هيستحمل لسانك ده
أشارت مروه بسبابتها بتحذير :
هقول لابويا المره دي وهيطلق فيها خودي بالك
جحظت أعين ناديه من وقاحتها وقبل أن تمسكها من خصلاتها كانت هند ورحمه يفصلوا بينهم ومروه تختبئ خلفهن وهي ترد على ناديه بلامبالاة.. أرتفع أصواتهن بشكل ملحوظ وصل إلى الجالس في مكتبه مع خيرية يسمع ردها الأخير،
؛***********
وضع كيس بلاستيكي وهو يهتف بخفوت كي لا تسمعه مها التي اتبعت والدته للمطبخ :
دي فلوس كمالة بيت خليل
قطب والده جبينه باستفهام متسائلاً باستنكار:
يابني أنت مُصر على البيت ده ليه!! ميستهلش المبلغ وام نسرين بتستغل أنك عايزه
حرك مرتضى رأسه بتفهم وهو يقول بتبرم :
يابا هو مش بيت والسلام، بلاش تضيع البيعة من أيدينا
أبتسم والده وغمغم بمكر :
دا كله عشان تضمن أن البنت بنتها ماشيه من البلد
اصطنع عدم الفهم وسأله بتعجب :
بنت مين ؟؟ كل الحكاية إني عايز أخويا يكون بيته جنبي
: على أبوك برده، على العموم تغريد أختك مش بتستر
تطلع مرتضى إلى تغريد الجالسة على المقعد المقابل لهما وهي تبتسم بزهو، ولدت لتفشي وتذيع كل الأخبار داخل منزلهم وكأنها نشرة إخبارية يومية .. رتب والده على كتفه وهو يهتف بمزاح :
رجع فلوسك وأنا أدفع كل اللي ورايا وقدامي في البيت لجل راحة عيال ابني
اقتربت مرتضى يقبل جبينه وهو يتمتم بعاطفة :
ربنا يخليك لينا يابا ونعيش في عزك دايما
انضمت مها إليهم وهي توزع أكواب الشاي بعد أن ساعدت والدة زوجها في تنظيف المطبخ، كانت جلسة عائلية هادئة إلى أن ولج خليل وعلى وجهه كدمات متفرقة وأنفه ينزف بغزارة، وثباته ممزقة وكأنه كان في صراع مع ثور هائج…
ضربت والدته على صدرها بفزع، ووقف مرتضى متسائلاً بصدمة:
ايه اللي عمل فيك كده؟؟
مسح خليل أنفه وهو يشير على مها ويصيح بحده :
ابن عم المدام وأخو خطيبتي
شهقت مها وهي تضع يدها على فمها بصدمة، استقام والده يأمره بأن يدخل للمرحاض يغسل وجهه ويبدل ثيابه، ومن ثمّ طلب من مرتضى أن يذهب ويفهم ما حدث قبل أن يسمعوا من خليل ويحكموا من طرف واحد!!!
؛************
في نفس التوقيت
صدح صراخ ذعر من شفتي سمر وهي ترى محمود يدخل وعلى جلبابه بقع حمراء.. خرج سالم وسعد من غرفة المعيشة على صوتها المرتفع وهي تنادي عليهم بخوف، أمسك محمود يدها يطمئنها لكن دون جدوي، وفي ثوان اجتمع كل من في المنزل حتى ندى التي هبطت برفق مع ميادة بقلق بالغ..
: ايه اللي على هدومك ده ؟؟
رد محمود على والدته بخفوت :
عادي مفيش حاجه
توقف سالم إمامه يرمق الدماء متسائلاً بجمود:
هو ايه اللي عادي؟ ايه الدم ده ؟!!
: دا دم خليل
قالها بسلاسة وهدوء وكأنه أمر لا يستحق، انكمشت قسمات وجه سالم وهو يسأله بترقب :
خليل اخو مرتضى؟؟؟
حركت رحاب فمها بطريقة سوقية وهي تصيح بحنق :
اتخانقت مع خطيب أختك يابن الفقرية
رد عليهم باقتصار وهو يغادر لشقته :
شدينا مع بعض في الكلام
منعه سالم من الحركة عندما قبض على مرفقه متسائلاً بوجوم :
وليه شديتوا مع بعض!! وايه بينك وبينه عشان تتكلموا فيه؟؟
أضاف سعد بتبرم وعدم استعاب:
ياخي كنت أعمل حساب لي مها
حدجه محمود بحده وسالم يعلق على حديث سعد :
اسمع كلام الصغير يا كبير يا عاقل
أبعد يد سالم وتحرك من أمامهم يصعد إلى شقته دون أن يوضح سبب العراك، جلست رحاب تندب حظها التعيس مع أولادها، وخرج سعد مع سالم يبحثوا عن مرتضى لفهم ما حدث، قبل أن يعلم والدهم وتلك المرة لن يكون لمحمود طريق عودة مجددًا…
؛*********
أسدل الليل ستاره واحتل الهلال السماء الصافية، فرصة جيدة عند وصوله للاختباء مع الظلام .. قادته قدميه إليها فلا يوجد شخص آخر يثق به، طرق على باب الصالون بخفوت وهو يلتفت حوله بحذر، خرجت فتاة لا يعرفها طلب منها أن يقابل صاحبة الصالون..
: أؤمر يا عسل
رفع رأسه فظهر وجهه من أسفل القبعة الشبابية، توقف فهما عن مضغ العلكة وهي تهمس بصوت منخفض:
يخربيتك أنت ايه اللي جابك هنا
: محتاج مساعدتك يا ساره
ضربته في كتفه بغيظ وهي تقول بكدر :
ياوش المصايب هو أنت بيجي من وراك خير
جال بنظره في الإرجاء بخوف وهو يتمتم بخشية :
المرة دي بس، واوعدك مش هتشوفي وشي تاني
: ســاره
التفت الإثنين على جهة الصوت بفزع، تنفست براحة وردت على ضياء بتلقائية :
ايه جابك دلوقتي مش قولتلك لما أخلص هرن عليك
رمق الشاب الذي دار للجهة الأخرى وهو يردف بشك:
ايه موقفك كده ومين ده؟
ضحكت بميوعة وهي تضرب سيف بخفة على كتفه :
دا ابن عمتي وجه يسلم عليا
استكملت بشكل طبيعي كي لا تثير شكه :
دا ضياء يا سيف اللي حكتلك عنه خطيبي
: وايه وقعك الوقعة السوده دي
قالها سيف بعفوية وهو يتأمل ضياء بانبهار، كانت الإضاءة خافته لذلك لم يدقق ضياء في ملامحه بحرص.. ضحكت ساره على حسه الفكاهي وهي تتوعد إليه، ومن ثمّ على بعد خطوات قريبة تحدثت مع ضياء خمس دقائق وعادت بعد أن تأكدت من مغادرته:
دا أنت اللي وقعتك سوده معايا لو مختفتش حالا
توسل إليها بأسلوب مخزي وحاول تقبيل يدها :
أبوس ايدك عز عرف مكاني وبعت رجالته يصفوا عيني التانيه دخليني البلد عند عمر وبعدها مش هتشوفي وشي
حدقت في عينه اللامعة بدموع الخوف وهي مترددة في التدخل لشأن يخصه، لا تضمن ردة فعل المعلم سالم إذا ساعدته ولن تسمح بخسارة ثقته من أجل معتوه أحمق.. ظلت تفكر قليلاً ثم أردفت بتلجلج :
هوصلك لحد بيت عمر وبعد كده مليش دعوة
هز رأسه وهو يشكرها بامتنان.. ولجت ثوان وخرجت ترتدي عباءتها وتلقي الحجاب فوق رأسها بإهمال:
رسيني على الحوار قبل منوصل
خطى بجانبها وهو يقص إليها منذ أن هرب مع ليلى إلى أن وصلت رسالة في صباح اليوم من رقم ليلى الجديد تخبره بأن ابنتها استمعت إلى عز وهو يتفق مع رجاله بأن يعثروا عليه ويحرقوا المنزل، بعد ربع ساعة وقفت أمام منزل ما وهي تردف بتهكم:
عيلة مش بتتهد غير بالموت
طرقت على الباب مسترسلة بتحذير:
البيت أهو ولا كأنك شوفتني
فتحت والدة منير فأخبرتها ساره أن سيف أحد أقارب عمر وجاء لزيارته.. أفسحت إليه الطريق وهي تدله على طريق غرفة عمر في الطابق العلوي، تقدم بتردد بعض الشيء إلى أن وصل أمام غرفة بسيطة على سطح البناية :
عمر !!!!
شاش طبي حول رأسه وكدمات متفرقة في وجهه، ويده اليسرى تحاوطها ضمادة بيضاء، طال الصمت بينهما للحظات دون أن يبدأ أحدهما التفوه، تقدم سيف بضع خطوات فصاح عمر بغضب:
أنت بتعمل ايه هنا؟! جاي تخلص عليا زي الباقي؟؟
هز سيف رأسه بالنفي وهو يتمتم بارتباك:
اسمعني الأول أنا مبقتش عارف اروح فين ولا لمين
حاول عمر النهوض بصعوبة لآلام جسده، أسرع يساعده متسائلاً بفضول :
ايه عمل فيك كده؟؟
نفض يده بقرف دون أن يرد عليه، فاعتدل سيف وهو يحكي بداية قصته إلى وصوله هنا.. لا يريد أن يرى شعور النفور في أعينهم، يكفيه استحقار نفسه إلى أن فكر أن ينهي حياته ولكن لا يعلم ما يمنعه لتلك الخطوة..
خراب حل عليه دمر حياته للأبد، يدفع ثمن باهظ لكل أفعاله الطائشة والمتهورة، انتحر والده وتركه يحاسب تربية سوء جعلت منه مسخ لا يتقبله أحد، والان يفر من أخيه بحثاً عن طوق نجاة قبل أن يخسر ما تبقى
: تقدر تحكي كل ده قدام المعلم سالم
نبرة شك احتلت لهجة عمر الغير مصدق ما رواه من الأساس، فقال سيف بتأكيد :
أقوله تاني وتالت بس وفرلي مكان اقعد فيه بدل الشارع
أشفق على حاله وإلى ما وصل إليه، فلم يتمكن من السيطرة على دموعه وبكى بحرقة دون سابق إنذار.. كبركان خامد وانفجر يفرغ لهيبه، ارتفع صوت شهيقه وصدى نحيبها يجلجل في المكان بضجة، وضع وجهه بين يده وأخرج كل ما كتمه خلال الأيام الماضية، ندم، حسره، خوف، لوم، مشاعر متضاربة تحوم في صدره وكأنها خناجر تغرز بداخله ليموت كل دقيقة وهو على قيد الحياة،
وقف عمر يحدجه بثبات دون أن يتحرك، هل فاق من غفلته الآن!! أم يشعر بضيق الحال بعد أن دمرت حياته!!
أعطاه وقته حتى استجمع قواه ومسح وجهه براحته، وكطفل صغير يشهق بعد بكاء طويل .. لم يشعر عمر بنفسه إلا وهو يرتب على ظهره برفق، مهما اصطنع قساوة القلب لن يفسد نبته زرعت في أرض صالحة.
؛؛؛؛
بعد ساعة ونصف في مخزن بعيد عن القرية، عم سكون مخيف حين انتهاء سيف من حديثه مقابل المعلم سالم وبعض رجاله وعمر الذي بدأ يربط الأحداث كلها..
: أنت عارف أنك مطلوب في القسم من وقت هروب أخوك
بلع سيف لعابه وتمتم بتوجس :
معرفش لأني كنت في بورسعيد ورميت الخط القديم
استقام المعلم سالم وهو يشير إلى رجاله :
هيستنى معاكم للصبح لحد ما يروح القسم ويبلغهم بكل اللي قاله
أبتسم سيف ببلاهة وكأنه حصل على إقامة فندقيه خمس نجوم، فخرج المعلم سالم وخلف عمر يتساءل بشك:
ليه عز عايز يولع في البيت؟؟؟ وهو كده يسافر بعد ما خد مراته وبنته؟!
: الخيال اللي أنت شوفته مكنش توهم منك، ويمكن خناقة الشباب معاك كتبت ليك عمر جديد
صمت عمر لبرهة يفكر في شيء ما ثم هتف بقلق :
معقول هيكون عايز زياد ويزيد معاه
نظر المعلم سالم إلى الطريق المظلم مردفاً بشرود:
أو يكون عايز يخلص حسابه
ترك عمر في منتصف الطريق واتجه للجهة المعاكسة، فأسرع عمر بكل قوته إلى المنزل يطمئن على أولاد أخته بخوف …. ليلة عسيرة سوف تقلب الموازين، وتغلق صحف البعض للأبد، وتكون بداية اخرى بعد حرب دامت لفترة طويلة..
الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل، توقيت اتفق عليه اتباع الشيطان لتنفيذ كل ضرباتهم في آن واحد ..
هبط موسى من مكتبه مع صديقه دون أن يلاحظ اي شيء وعلى حين غرة شعر برصاصة اخترقت صدره وسقط أرضاً أمام صديقه المفزوع؟؟
في مكان آخر وعلى إحدى الطرق الزراعية جلس يتأمل الفراغ أمامه وهو يشاهد من حين لآخر صورة نيره باشتياق، استمع إلى خرفشة اتيه من خلفه وقبل أن يدير رأسه، غُرز سكين في ظهره بقوة جعلته يتألم بصوت مرتفع .. بدأت الرؤية مشوشة فشعر بمن يمسك شعره يشده للخلف، جاءت عينه عليها وهو يهمس بضعف:
خديجه!
ضحكت خديجه بكبر وهي تردف بلا اكتراث:
معلش أصلك آخر واحد المفروض اخلص منه قبل ما امشي، ومعلش بقا معرفتش ارد ليك مساعدتك ليا
دفعته بعنف للأمام وهي تخبئ السكين في حقيبتها، ثم اتجهت إلى سيارة تقف على بعد عينها من الطريق .. تقدمت بعجلة بحماقة لتكون نهايتها هي الأخرى على يد من كانت تعمل لصالحه منذ أن جاءت للقرية؟!!
هلع وذعر أصاب أهل القرية بعد أن استيقظوا على أصوات صراخ في شوارعها، حريق نشب في منزل ساره، وآخر في محجر آل الجبراوي، وآخر في سيارة انفجرت أمام منزل آل سويلم ؟؟؟؟
؛*******
تكملة الفصل السابع والثلاثون (37):
كلما ضاقت بك أعلم أن الفرج قريب، يأتي فصل الصيف ببهجته يمحو كآبة الشتاء، وستار الليل يزال بضوء النهار، فلن تطول عليك وتجد شاطئ النجاة، وتقف تلوح لكل ما مررت به بفخر واعتزاز لنفسك التي تحملت حتى النهاية.
؛******
فقد السيطرة على انفعاله وثار في الغرفة يحطم كل ما يقابله، انكمشت ليلى على نفسها وهي تحتضن ابنتها بخوف من ذلك الثور الهائج.. صاح بحرقة وعروق يده البارزة ولونه وجه الأحمر خير برهان على النيران المتأججة لفشله الذريع في كل تخطيطه، لم يذق طعم الراحة منذ ليلة أمس تشوقًا لسماع أخبار تسره، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن وكسرت آماله إلى فتات تحت قدميه، وتحول الحلم إلى سراب..
: يعني ايه محدش فيهم مات
تمتم بها إلى نفسه بعدم تصديق، ومن ثمّ أخرج هاتفه يجري اتصالاً بمحاميه الذي رد بامتعاض:
كويس أنك اتصلت عشان تسمع آخر الأخبار
أصغى إليه وهو يروي عليه آخر مفاجأة التي كانت بمثابة الضربة القاضية لِما تبقى من وجوده:
رئيس قسم الشرطة نزل على العزبة يفتش ومسك الولد اللي مغازي بعته يحرق البيت قبل ما يولع فيه واكتشفوا هاديه عايشه ونقلوها على المستشفى
واستطرد بتحذير:
لو عايز تفضل بره السجن أهرب حالا لأن مغازي هيتسمك دلوقتي أو بكره ووقتها مش هيكون فاضل عليك غير تحصله
صمت حل على عقله قبل أن يقيد لسانه بالعجز، التفت إلى ليلى ولوجينا وهو يقول بشرود :
ابعت حد ياخد لوجينا وأنا هحصلهم بالليل
: ليه بليل ؟؟ لازم تيجي معاها عشان نقدر نشوف سفينه تسافر فيها بأسرع وقت
أغلق المكالمة دون أن يرد عليه، لم يغير قراره مهما كانت العواقب.. وقفت ليلى ترمقه بتوجس وهي تسأله بقلق :
إحنا هنروح فين؟؟ وليه مش هتيجي معانا دلوقتي!!
أبتسم بسخرية وهو يهتف بتهكم :
أنا قولت لوجينا يا ليلى ومجبتش سيرتك
كذبت إحساسها وهي تسأله مجددًا ببصيص من الأمل:
يعني لوجينا هتمشي دلوقتي وأنا هكون معاك صح؟؟
اقتربت منها وهو يغمغم بقتامة :
مش صح لكنك هتفضلي هنا لوحدك، خلاص مبقاش ليكي لازمه حبيبتي
تلعثمت وهي تضحك بخشية :
مش وقت هزارك يا عز
نظر إليها بتسلية وتحرك يغادر الغرفة مستمع بالرعب الظاهر على تعابيرها، أغلق الباب بالمفتاح متجاهل توسلها ورجائها لمعرفة ما ينوي فعله، في كل الأحوال سوف تعلم ما سيحل بها خلال الساعات القادمة!!
؛************
امتلأ الممر بالشباب الذين أتوا على الفور عندما علموا بحاجة سالم جابر للتبرع بالدم، تعرض لنزيف حاد عندما مر عليه أكثر من ساعتين ملقى على الطريق الزراعي، لولا عبور أحد الفلاحين لكان في عداد المفقودين الآن، ولحسن الحظ أن خديجه لم تكن قوية بالقدر الكافي لإصابته بعمق… جلس جابر على المقعد بتعب وأرق، لم تتحمل أعصابه خروج ودخول الممرضين من غرفة العمليات دون أن يشرح أحدهم حالة ابنه، وبالقرب كان عبده والمعلم سالم يستفسروا من الرجل الذي جاء بسالم إلى المشفى… انشغلوا في الحريق الذي نشب في سيارة أمام منزلهم ولم ينتهبوا إلا لمكالمة تفزعهم بالخبر،
: أكيد ابن منصور اللي ورا كل اللي بيحصل
نظر المعلم سالم إلى عبده وقال بصرامة:
محدش السبب غير ابنك وابن جابر في كل ده يا عبده
انكمش بين حاجبي عبده وهو يسأله باستغراب:
وهما ذنبهم ايه ؟..
قاطعه بحده :
مش ابنك اللي راح يزوره في السجن ولولا ستر ربنا أن العربية كانت مركونة بره البيت والتاني اللي راح اتفق مع الشغاله عندهم واهي كانت هتقتله
ظهر محمود من آخر الممر فانتظر المعلم سالم اقترابه واسأله بغضب :
أنت ايه اللي جابك مش قولت تفضلوا مع الحريم ؟؟
رد عليه محمود باقتصار:
استنيت لما كلهم اتجمعوا في البيت وسالم قالي اجي معاكم وهو هيفضل مع الرجالة
منذ أن جاءوا للمشفى أمر جميع نساء عائلته ومن ضمنهم دولت وابنتها بالحضور في منزله، أغلق جميع النوافذ والأبواب وأكد على رجاله المنتشرين حول المنزل وفي البهو عدم دخول أي حد من الباب الحديدي سواه، وكذلك منع محمود وسالم عبده من التحرك كي يضمنوا سلامة الجميع في غيابه..
: اطلع على بيت ساره شوفها فين وخدها مع والدتها للبيت
حرك محمود رأسه بانصياع وسألهم بقلق :
طيب سالم لسا مطلعش من العمليات ؟؟
رد عليه والده بقلة حيلة وهو يرمق جابر بحزن :
لسا وربنا ينجيه بإذن الله
في نفس الوقت أتى عزيز وأولاده للمشفى على عجلة، كانت ليلة عصيبة على الجميع ولم يفهم أحد ما يحدث للكل في آن واحد .. اعتذر من المعلم سالم بحرج لتأخرهم للمساعدة فقد كانت المشفى تضج بعدد كبير من المقربين إلا آل الجبراوي :
عارفين اللي عندك يا عزيز من غير ما تتكلم
رتب عزيز على كتف جابر وقال بحزن :
إن شاء الله هيقوم بالسلامة
تسأل يعقوب بوجوم :
لسا البنت دي متمسكتش ؟؟!
حرك جابر رأسه بقلة حيلة وهو يتمتم بأسى:
منها لله ما كان ما تكون
نظر عبده إلى عزيز وسأله بشك :
عرفت مين متفق مع البنت دي وولع في المحجر؟؟
تنهد عزيز بوهن وقال باستياء:
مبقاش محجر شقى العمر بقا كومة تراب
رد عليه المعلم سالم باقتضاب :
الحمدلله أن مفيش مصابين ولا عيالك كانوا هناك
: النار مسكت فيه حته حته لحد ما ولع كله والمطافي معرفتش تدخله فضلت النار تاكل فيه لحد ما طفت لوحدها
علق جابر على حديثهم بحزن عميق:
الواحد ما هو عارف مين يواسي مين بعد الليلة دي
خرج الطبيب فأقبل الجميع باتجاهه يتساءلون بلهفة، أخبرهم باستقرار الحالة إلى حد ما، وتم نقله إلى غرفة العناية المركزة .. حاول جابر أن يدلف إليه للاطمئنان عليه ولكن منعه الطبيب حتى تستقر الأوضاع تمامًا،
؛***********
في منزل المعلم سالم
أصرت ندى على المكوث مع زوجها في المجلس تاركه باقي النساء بالداخل.. ظلت تحدجه بخوف وهي تقبض على يده بقوة، فسألها بمزاح ليخفف فزعها:
هو أنا ههرب يا بنتي!! سيبي ايدي خليني أشوف الرجالة اللي بره دي ؟؟
سألته بخشية :
اللي ولع في عربيتك كان قصدك أنت صح؟؟
: حبيبتي قومي استريحي ومتشغليش بالك
لمعت مقلتيها بالدموع وهي تهمس بصوت محشرج:
يبقا صح أن عز كان قصدك أنت
ابتسم بخفة وغمغم برفق ولين :
قصد ولا مقصدش الحمدلله أن العربية ركنتها بالصدفة قدام البيت وكانت بعيد عننا وكلنا كويسين
بكت بقلق وهي تقول بتوجس :
هيحاول تاني يقتلك
رفع كفه يمسح وجنتيها مغمغم بلطف:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، قادرين نوقفه عند حده لكن تربيتنا واخلاقنا تمنعنا نتساوى مع بني آدم زي ده
استرسل بحنان :
ادخلي نامي شويه كانت ليله صعبه علينا
: وسالم مفيش أخبار عنه ؟؟
سألته بخوف وهي تمسح وجهها فرد عليها بهدوء:
طلع من العمليات الحمدلله وحالته مستقرة
بالداخل التفوا نساء العائلة حول زينب وخلود يهدأن من فزعهن، فشلوا في كل المحاولات ليكفوا عن البكاء والصياح حتى بعد أن علمتهن هند بأن سعد حدثها أخبرها بمستجدات وضع سالم،
؛؛؛؛
: خلاص بقا يا مي عشان مفيش خروج من هنا
هتف ربيع بحده عندما ضجر من إلحاح مي على المغادرة لمنزل والدها، بكت الأخرى وهي تترجاه بصوت مرتعش :
وصلني اطمن على أخويا وارجع معاك
أشفقت والدة ربيع عليها وأخذتها بين أحضانها وهي تقول بحزن :
يا بنتي عمك كلمنا وقال متطلعيش خوف عليكي
حركت رأسها بالرفض وهي تردف ببكاء:
عايزه اشوف اخويا
كاد ربيع أن يردعها بحده كي تكف عن العناد، فأشار إليه والده برفق وهو يهتف بحنو :
أنا هوصلك لحد المستشفى بس لما الدكتور يسمح بالزيارة، لكن دلوقتي مش هينفع تروحي على الأقل عشان أبوكي ميزعلش مننا
أومأت إليه وهي تضع رأسها بين أحضان والدة زوجها بوهن، بينما خرج ربيع وأخيه مع والده متجهين للمشفى،
؛***********
بعد مرور ساعة ونصف تقريبًا
ولج المعلم سالم إلى قسم الشرطة بناءً على طلب المأمور حضوره، وجد سيف يجلس في أحد الأركان ينتظر إنهاء المحضر بأقواله، وعمر الذي جاء على عجلة غير مصدق أن والدته عثر عليها داخل منزل عزب..
: حمد لله على سلامة ابن أخوك يا معلم سالم
رد عليه باقتصار وتسأل باستغراب:
شكرًا، ممكن أعرف ايه سبب وجودي هنا؟؟؟
أخرج الشرطي ملف ما وهو يقول بآليه:
عارف أن اللي حصل امبارح كتير في البلد بس لازم أعرف رأيك في خبر وصل ليا من ساعة بالظبط، يعني فجأة حريق في محجر وبعدين بلاغ بحريق تاني في بيت في البلد ونفس الوقت عربية تبعكم تولع ومجهول يحاول قتل ابن أخوك ملفتش نظرك لشئ معين يا معلم
: كله مربوط بكلام سيف واللي لقتوه في بيت عزب على ما أظن
هتف الشرطي بتفكير :
عشان كده مستني تتبع خط ليلى اللي كلمت منه سيف
واستكمل متسائلاً باستنكار:
تفتكر ايه خلى خديجه تسيب ورقة جنب سالم وتعترف فيها أنها اللي قتلته وهي اللي ورا حريق المحجر وتفجير العربية ؟؟!
تذكر حديث مرتضى صباح اليوم عن الموقف الذي تعرض له مع يعقوب منذ مدة قصيرة، وأن خديجه منذ ذلك وقتها لم تكن تتصرف بشكل طبيعي، بالإضافة إلى عدم تخطي يعقوب للموقف لشعوره بالريبة من تلك الفتاة..
: أكيد ضمنه أن عز هيصدق في وعده ويهربها
قطب الشرطي جبينه باستفهام متسائلاً بتعجب:
يعني ايه يصدق في وعده ؟؟
هتف المعلم سالم بحنكة:
اللى زي عز مش بيفرق معاه غير مصلحته، إذا كان أبوه انتحر بمساعده منه وحالياً بيدور على أخوه يقتله هيفرق معاه خديجه أو غيرها
قدم إليه الملف وهو يردف منبهرًا لشخص فطين مثله:
رأيك في محله دايما يا معلم سالم
فتح المعلم سالم الملف ليصدم بصورتها غارقة في دمائها بعد نحرها بوحشية.. أغلق الملف وهو يحوقل بأسى من بشاعة المنظر، انتبه إلى الشرطي وهو يضيف قائلاً:
لقينا الجثة على بُعد كام متر من مكان واقعة سالم تقريبًا العربية كانت مستنيها، لكن لحد دلوقتي جاري البحث عن والدتها وأختها ولما يجي تأكيد لرئيس المباحث الجنائية أن الورقة بخط ايدها وقتها هنقفل المحاضر
وقف المعلم سالم يصافحه فقال الشرطي بحرص :
مش هوصيك يا معلم سالم لو عز أو أي حد حاول يتواصل معاكم تبلغني فورًا
أومأ إليه بتفهم وخرج دون أن يهتم لأمر سيف الذي مازال يجلس محله، صعد إلى السيارة وأمر سعد بأن يتجه إلى المنزل بسرعة، شعوره بمجيء عز إليه ينتابه منذ الصباح، ربما لأنه كل فشل في نيل مراده أو لأنه يسعى لشئ آخر!!
؛*********
تسمر مكانه يستمع إلى تقرير الطبيب بعد إجراء التحاليل الطبية اللازمة:
للأسف مفيش حل في ايدينا العلاج منتشر في جسمها كله واللي عمل كده كان عايز يموتها بالبطيء، لازم تتعايش مع وضعها الجديد وأحمد ربنا أن والدتك لسا مستحملة وعايشه
رمش بأهدابه عدة مرات متتالية يستوعب حديثه، ثم سأله بحيره :
يعني كده حصل شلل أعصاب ولا في علاج؟؟
: الحالة متأخرة جدا، ولازم تفهم أنك هتتعامل مع صنم كل قدرته يغمض عينه فقط
قبل أن يغادر من أمامه قال بأسف:
آسف مش هتقدر تشوفها ولا تخرج غير لما يوصل تصريح من النيابة
نظر عمر إلى العسكري الواقف أمام الغرفة لدقائق، وعاد حيث أتى يجر خيباته خلف، وها هو يعود لنقطة الصفر بأحمال ثقيلة على عاتقه.. ترى كيف سيتعامل معها!! كيف سيعول أولاد أخته بالإضافة إليها؟ ما مصير علاقته مع عليا بعد أن ظهرت هاديه مجددًا؟!
جلس على الطريق وهو يخرج هاتفه يجيب على اتصال عليا والتي صاحت تصرخ به لعدم رده عليها منذ ساعتين، حكى كل ما حدث معه دون تردد فهو لي أشد الحاجة لثرثرة تخفف ما بداخله.. انتفض من جلسته وهي تقص إليه حادثة موسى والتي أكدت أن عز يحوم حولهم خلسة،
؛**
: ماما أنا متأكدة أن كل اللي بيحصل ده مش صدفه
نظرت كوثر إلى عليا وهي تسألها بقلق :
يعني ايه مش صدفه؟؟ وايه دخل اللي حصل لاخوكي باللي حكاه عمر؟؟!
أضاف صديق موسى الذي لم يتركهم للحظة واحدة:
عليا عندما حق يا طنط ممكن يكون كله مربوط بشخص واحد
تطلعت كوثر إلى موسى الذي مازال نائم بتأثير المخدر :
المهم دلوقتي موسى يفوق ويكون بخير
مسحت على رأسه وهي تستكمل بنبرة مهزوزة:
الحمدلله أن الرصاصة جات في كتفه وربنا نجاه منها
؛************
شهقت بصدمة وهي تقول بكدر:
كان المفروض اكون أول وحدة جنب سالم
انكمشت قسمات وجه ضياء وهو يردف بسخرية :
هو ده اللي همك يا ماما
ضغطت على الهاتف بغيظ وصاحت بحنق :
وايه يهمني يا روح امك دلوقتي، فضلتوا تزنوا واهو الدكتور قال إن أخوك زي الفل ومفهوش حاجه
: ولما هو زي الفل الهلاوس رجعتله تاني ليه؟!
أخذ محمد الهاتف من والدته يرد بدلاً منها فقد ظهر صوت ضياء واضح له :
وأنت شايفني ماشي احضن في ده وابوس في دي ولا ايه يا ضياء ولما أنت تقول كده الغريب يعمل ايه
زفر ضياء بملل وهو يهتف بتوضيح :
مفيهاش حاجه لما نطمن عليك يا محمد بعد ما وقفت العلاج من غير سبب
قبل أن يستمع إلى اعتراضه أكمل ضياء بلهجة أمر:
وعرف ماما اني هخلص مع خالي في آخر بيت عرضه علينا لانه مناسب وجاهز أننا نعيش فيه، ولحد ما ترجعوا ساره ووالدتها هيعشوا فيه بدل بيتهم الولع
استمعت هانم إلى صوت إغلاق المكالمة وهي تصيح باستنكار :
يعني ايه يخلص في بيت مش عجبني!! وازاي الجربوعه دي تدخل بيتي من أساسه
ألقى محمد الهاتف بجانبه وهو يرد عليها بلا اكتراث:
عادي يا ماما دلوقتي ولا بعدين هتكون مرات ضياء
فتحت عينيها على وسعهم مردفه بسخط :
انتوا هتجننوني معاكم
نهض من مقعده واتجه للثلاجة يأخذ علبة عصير يرتشف منها بتلذذ تحت نظرات هانم المندهشة لبرود أعصابه.. تحرك للطاولة يأخذ علاجه وغادر من أمامه بلامبالاة، عليه الاسترخاء كما طلب منه الطبيب لتكون نتائج الأدوية لصالحه، بينما ظلت هانم تحاول الاتصال بضياء مرارًا وعندما أيقنت عدم رده اتصلت على علاء ليكون رده جاف كعادته غير متهم لأمورهم التافهة من وجهة نظره،
؛***********
تذمر من طرق الباب المزعج الذي أفسد خلوته مع النارجيلة، زفر بضيق ونهض وهو يصيح بحنق.. تجمد محله وهو يرى المعلم سالم يقف يرمقه بجمود، اصطنع اللامبالاة وهو يتساءل بسخرية:
دا ايه سبب الزيارة الكريمة دي؟؟!
أبتسم المعلم سالم وهو يشير على سيارته:
السبب هتعرفه لما تيجي معايا دا لو مش هزعجك
تطلع مغازي إلى السيارة فوجد شاب يجلس أمام المقود، ظن أن لصالحه وجودهما بمفردهما داخل القرية فصاح بتهديد صريح:
ارجع مكان ما كنت يا سالم بدل ما تدفن أنت واللي معاك
ضحك المعلم سالم وغمغم بتهكم :
سالم مره واحده لا دا أنا لازم أخاف منك
ازدرد لعابه بتوتر مردفًا باضطراب:
جاي لحد بيتي في أرضي عايز ايه
: كلمتين اسمعهم منك وترجع بيتك
قبل أن يرفض وجده يعود لسيارته وهو يضرب بعصاه أرضًا مزمجرًا بجمود :
براحة عليه يا رجالة
قطب مغازي جبينه متعجباً من حديثه فلا يوجد سواه في الارجاء، لم يتمهل وأغلق الباب بقوة واوصده من الداخل يأمن نفسه من أي غدر .. عاد للخلف خطوتين فلاحظ ظل يسير وراءه، التفت بذعر ليجد أربع رجال يقفن حوله بداخل منزله، تمتم يسألهم بخوف كيف ولجوا إلى هنا، فاقترب أحدهم يشير إليه بالتقدم أمامهم دون أن يتفوه بحرف واحد وإلا:
بدل ما هتمشي على رجيلك هنمشيك زاحف
انصاع إليهم بهدوء وفتح الباب يسير معهم إلى سيارة تتحرك خلف سيارة المعلم سالم، تصور أنه سيعود إلى منزله بعد أن ينفذ ما سيطلب منه، لا يخمن أن مكانه في الحبس ينتظر أمثاله…
؛*******
اختفى صوتها من صراخها لطلب النجدة، خارت قواها وهي تصيح باسم ابنتها التي أُخذت من أحضانها بقوة إلى مكان لا تعلمه .. بكت بهستيريا تتوسل إليه بأن يعفو عنها ولا يتركها وحيدة، ولكن كالجماد لم يتأثر بحسرتها على ما فقدته في وجوده…
استمعت إلى صوت خطاه يقترب من الغرفة، وقفت تمسح وجهها وهي تناديه برجاء لعله يرحم ضعفها، وبالفعل فتح إليها محدجها ببرود.. مالت على يده تقبلها وهي تهتف بنبرة محشرج :
وديني لبنتي متبعدهاش عني ياعز
ابتسم وهو يراها تقبل يده فركعت أمامه تبكي بحرقة:
هموت لو بنتي بعدت عني سامحني واخر مره هكسر كلامك
رفع حاجبيه وقال بتسلية :
تفتكري اسامحك عشان بوستي ايدي بس
فهمت مغذى حديثه ولم تتردد لحظة ومالت تقبل حذائه ودموعها تتسابق على وجنتيها بإذلال، قهقه عز بسعادة ومن ثمّ دفعها بقدمه وهو يخرج محرمة يسمح حذائه بقرف:
للأسف مش بحب أعيد كلامي مرتين وأنتِ كسرتي أمري بدل المرة اتنين
استرسل وهو يمسك وجهها يرفعه كي ينظر إلى عينيها المنتفخة :
ساعة واحدة أحرق قلب سالم على بناته ومش هتشوفي خيالي قدامك، هتفضلي طول عمرك محرومة من بيتك وهي عايشة معايا ومتقلقيش بكره اجبلها أم تقضي مكانك يا ليلى
دفع وجهها بعنف وهو يهم بالمغادرة، وقفت تبحث بعينيها في المكان المجهور عن منقذ يساعدها.. ركضت تمسك زجاجة مياه فارغة لا يوجد سواها وكسرت جزئها السفلي عندما صدمتها بالحائط:
هقتلك يا عز
دار برأسه يرمق الجزء الحاد المدبب قائلاً بخوف مصطنع:
لا يا ليلى ارجوكي سامحيني
ارتعشت يدها الممسكة الزجاجة بخشية، فاسترسل بلامبالاة:
أنتِ أضعف من نملة يا ليلى عشان كده حبيتك، زيك زي أماني بالظبط بس هي عرفت حقيقة عز بدري وأنتِ لسا عارفه دلوقتي
قبضت على الزجاجة بحده وهي تصيح بانفعال:
أنت واحد خاين ومتستلهش أنك تعيش وجودك دمار للناس وأولهم أنا
ضحك بسخرية والتفت يغادر بلا اكتراث.. بكت بكاء مرير وهي ترى مصيرها وحيدة دون ابنتها، صرخت على كل ما شعرت به من خوف، وإذلال، وإهانة وهي تركض قبل أن يغلق الغرفة وتغرز الزجاجة في صدره بغتة، ضغطت بكل قوتها وهي تصرخ بفزع .. توقف الزمن وهي ترى لون جلبابه الأبيض يتلطخ ببقة دماء تزداد رويدًا، تسمر عز محله ينظر إليها تارة وإلى الزجاجة العالقة بين صدره تارة، رفع يده يبعدها عن صدره فأسرعت الأخرى تنتشلها وهي تعيد طعنه عدة مرات برعب، ثوان وركع على ركبته يتطلع إلى الدماء التي ملئت يده، وفجأة سقط على الأرض وهو ينظر إليها بوجه شاحب اللون .. جلست بجانبه وهي تلقي الزجاجة بعيدًا وهي تصرخ بحرقة:
قولتلك هقتلك ومصدقتنيش، ليه مسبتنيش أعيش مع بنتي
ضربته في صدره وهي تهتف بلا وعي :
رد عليا استفدت ايه لما وصلتنا لكده
أخذ أنفاسه الأخيرة وهو يسعل دماء من شفتيه، واغمض جفنيه ليرحل على يد من استهون بقدراتها.. انتهت حياته فجأةً دون أن يخطط لهذا اليوم مثلما يدبر المكائد، سعى مع والده للسلطة والثراء بشتى الطرق، واختار أن يكمل طريقه على نهج أبشع مما سبق، فسد قلبه بجحود أودى بحياته لعقل لا يعرف معنى مشاعر الإنسانية، خسر كل ما يملك لأجل الطمع والجشع فلحق بوالده وأغلقت صفحهم للأبد….
نصف ساعة تبكي على صدره وهي تترجاه بأن يستيقظ وينهي ذلك الكابوس المزعج، تهز جسده بقوة وتناديه باسمه.. نحيبها يجلجل في المكان بصدى مرتفع مرعب، إلى حين شعورها بأنها تفقد وعيها فوضعت يدها في جيبه تخرج هاتفه تتصل على النجدة وتفصح عن جريمتها، ومن ثمّ أعادت الهاتف في جيبه مجددًا وهي تستلقي بجانب جثة عز وتردد أنها قتلت زوجها عز منصور عزب إلى أن فقدت وعيها تمامًا.
؛*******
في إحدى أعمدة الإنارة العمومية بأول عزبة عزب، عُلَّق مغازي من يديه المقيدة وهو يصرخ بصوت جهوري لعل أحد المارة يحرره قبل وصول الشرطة، وعلى بُعد خطوات بسيطة جلس رجلان قويان البنية يرقبانه في سكون محذرين إذا تدخل أحد سوف يعلق مكانه ويسلم للشرطة بدلاً منه فقد أعترف الشاب بأنه من دفع إليه مبلغ مقابل حرق منزل منصور في الخفاء،
؛*****
: بابا أنا هسافر البلد يومين وارجع على طول
نظر ابراهيم إلى حقيبته الصغيرة وهو يسأله باقتضاب:
وايه سر الزيارة المستعجلة دي ؟؟!
وضع يونس هاتفه في جيبه وقال بسلاسة:
عامر كلمني بليل وبيقول سالم ابن خالي جابر في المستشفى وحالته خطيرة ..
قاطعه ابراهيم وهو ينتفض من جلسته متسائلاً باستنكار:
أنت بتكلم عامر ابن عمك؟!!! وهو أصلاً ايه علاقته بخوالك ؟؟
رد يونس باقتصار مستعد للرحيل :
ممكن لما ارجع نتكلم لأني متأخر ومصدقت عرفت امضي يومين اجازة من الشركة
اوفقه ابراهيم بنبرته الحازمة مردفًا بصرامة:
مش هتتحرك يا يونس غير لما أفهم ايه اللي أنت مخبيه
: مخبي ايه يا بابا!! من يوم ما كبرت وأنا وحيد عن الكل ومحترم رغبتك في البعد عن أهلي، صدفة جمعتني بابن عمي وكل فين وفين لما كنا نتقابل فيها ايه!!
رفع إبراهيم حاجبيه وسأله باستخفاف:
كذاب وبتبرر كمان؟؟ قولتلك كده أحسن لينا
قطب يونس جبينه متعجباً من هجوم والده منذ أن زار عائلته فسأله مستفسرًا:
هو مش غريب أنك تكون كاتبلي عنوان البلد من صغري ومديني حريتي إذا روحت ولا لا، ودلوقتي بعد ما زورتهم تكون منفعل كده ؟؟!
عاد لمقعده وهو يقول ببرود :
اديك قولت زورتهم يعني ملهاش لازمة كل يومين رايح جاي، دا غير أنك من مرتين جاي تقولي نرجع البلد
رفع يونس كتفيه وهو يهتف بلامبالاة:
وايه يعني لما نرجع ما خلاص أمي ماتت وجدي مات وكل حاجه اتغيرت
ضيق ابراهيم بين حاجبيه دون أن يعقب، ثم قال بوجوم:
أنا تعبان وعايز أروح للدكتور انهارده
رمقه يونس بثبات وهو يلقي الحقيبة من يده :
هأجل سفري لبكره بعد ما نروح للدكتور
يعلم ابراهيم أنه لن يتحرك من محله إذا كان الأمر يخص مرضه، وبالفعل هو من أعطاه حريته الكاملة للذهاب والتعرف على أهل والدته ولكن لم يتصور أن يعود في يوم ويخبره باقتراح الاستقرار في القرية.. فلن ينتظر حدوث فجوة بينهما ويصبح وحيدًا بسبب العائلة التي أجبرته على الفرار سابقًا،
؛**********
زفر محمود بضيق وهو ينهض من الأريكة الموجودة في بهو منزل عمه وهو يردف بسخرية:
اتمنى الخدمة تكون عجبتك سيادتك
رمقته ساره ببرود وأكملت سيرها متجاهلة وجوده فقال بحده :
أظن كلام عمي واضح إلا لو كان ليكي رأي تاني
: قوله إني رايحه أشوف ايه اللي الناس عرفوا يطلعوه من البيت بعد ما ولعوا فيه إلهي يولعوا وميلاقوا حد يطفوهم
انكمشت قسمات وجه محمود وهو يهتف بأمر:
ادخلي جوه بلاش وجع دماغ الواحد فيه اللي مكفيه
واستطرد بتهكم:
مش يمكن المره دي عز يولع فيكي ونخلص
انضمت ندى إليهما وهي تتساءل بقلق بالغ:
محدش اتكلم من المستشفى تاني
حرك محمود رأسه بالنفي وهو ينظر للجهة الأخرى، بينما ولجت ساره مجددًا وهي تجيب على اتصال ضياء .. فقالت ندى برجاء :
لو سمحت يا محمود كلم اي حد وأعرف لينا ايه الأخبار، سالم مش بيرد عليا ودا مش من عوايدة
هز رأسه دون أن يرد فلا يتجرأ على رفع رأسه وهو يتحدث إليها، أصبحت وسيلته للاستمرار هي الهرب من المواجهة في أبسط المواقف.. قبل أن تعود وكأنها تريد أن تهدم ثباته سألته بلطف رغم التعب البادي على ملامحها:
تحب اعملك شاي أو احضرلك أكل
ثبت محله لثوان دون أن يبدر منه أي رد، ومن ثمّ نظر إليها مغمغم بحده طفيفة:
أنتِ ليه بتتعاملي معايا كده، ليه بتقصدي تعذبيني أكتر
دهشت ندى من أسلوبه وأشارت على نفسها مردفه بذهول:
أنا عملت إيه!!!
واسترسلت مبتسمة بلطف :
على العموم متزعلش مني أنت أخويا وأكيد مقصدش
اعتقل لسانه مقابل قبح نفسه، تفاقم شعور الاحتقار ولم يعد يتحمل ندم يغرقه في بحر اللوم، يعصف به في دوامات تسحبه لظلام العتاب … آفاق على صوتها وهي تسأله بهدوء :
ممكن تقولي ليه اتخانقت مع خليل وأنا هحل الموضوع مع بابا عبده لأنه أكيد مستني اللي احنا فيه يعدي ووقتها مش هيكست
اختنقت أنفاسه وهو يهتف بصوت محشرج:
لو قادرة تتعاملي معايا طبيعي عشان محسش بالذنب فاللي أنتِ بتعمليه بيموتني ألف مرة بالذنب
أدركت ندى مقصده فقالت برفق :
ملاحظة تجاهلك ليا من يوم مرجعت وعايزه أقولك إن مفيش أخ بيأذي أخته واللي حصل قدر ومكتوب
ترقرقت العبرات في عينه مردفًا بهمس :
مكنتش أقصد صدقيني ولا عمري أقدر على أذية عيلتي
ابتسمت إليه فاسترسل بأسى:
من يومها بقعد قدام بنتي بالساعات خايف اتحرم منها زي ما حرمت أخويا من بنته
ما أن انتهى من جملته صدح صوت ارتطام قوي اتي من خلفهم، التفت الإثنين باتجاه الصوت فلم يكن واضح سوى آثار زجاج كوب الشاي والصينية.. نظرت ندى إلى محمود بخشية فقد استمع أحدهم إلى حديثه ونتيجة الصدمة ظاهر إليهما، وراء الحائط الفاصل بين البهو وباب المؤدي للطابق الأول تسمرت ميادة مكانها وهي تضع يدها على شفتيها بذعر..
: مالك يا ميادة
لم تجيب عليها وظلت جاحظة العينين محدجه محمود بصدمة فقالت ندى بتوضيح:
ميادة أنتِ فهمه غلط
نظرت إليها وهتفت بسخرية:
كنت بسأل نفسي ايه اللي قلب حال محمود الجبروت في يوم وليلة
واستكملت وهي تميل بجزعها تلملم بقايا الزجاج :
لازم أشكر عمتي صباح أنها طلبت مني اطلع الشاي ليه كان زماني مغفلة ومفكرة أن ربنا هداه
انخفضت ندى تساعدها وأردفت بضيق طفيف:
ملوش لزوم الكلام ده وأنا بقولك أنك فاهمه غلط
رمقتها بتهكم مغمغمه باستهزاء:
ضحك عليكي وأنتِ هبلة وبتصدقي
أمسكها محمود من مرفقها بقوة وهي تستقيم في وقفتها وهدر بانفعال:
ايه يا ملاك يا بريئة، بتحسبي مين وأنا سكت ومتكلمتش لما سمعتك بوداني وأنتِ بتعرضي نفسك على اخويا
: سالم!!!!
هتفت باسم زوجها بعدم تصديق وهي تنقل نظرها بينه وبينها بذهول، لم تكن بحاجة إلى تأكيد منهما فهيئة ميادة المضطربة خير برهان.. استجمعت شتات أمرها وهي تردف بجدية:
انتو شايفين أن الوقت مناسب لكلامكم
واسترسلت وهي تنظر إلى ميادة :
أنا داخلة البيت من قبلك وأعرف أهله اللي هما أهلي كويس جداً وبصراحة مش مستنيه اسمع اني هبله بعد العمر ده كله
رمقت محمود مستكملة بحنو :
محمود أخويا قبل ما يكون أخو جوزي، وكل الموضوع أنه حاسس بالذنب عشان شافني قبل ما أولد بيوم وقعت وحلفته ما يقول لسالم لأني كويسه لكن الحمدلله حصل اللي حصل تاني يوم وهو بيلوم نفسه على سكوته
انتظرت ميادة أن تسألها عن مغزى حديث محمود ولكنها تعجبت عندما وجدتها تأخذ بقايا الزجاج وتعود للداخل كما لو أنها لم تستمع إلى شيء، كاد محمود بالسير إلى مكانه فقد لاحظ مجئ سعد، لكنه توقف على صوت ميادة وهي تقول بنبرة بغيضة:
إلهي كانت العربية انفجرت بيك وخلصت منك
دار يحدجها بحده وقبل أن يمسكها فرت راكضة للداخل بهلع، تمتم بسخط بين نفسه وهو يقترب من سعد الذي قال بمراوغة:
مش صابر ترجع البيت وتلعب مع أم العيال برحتك
أنهى جملته غامزًا فزجره محمود بضيق شديد:
اسكت بدل ما اسكتك بمعرفتي
انكمشت تعابير سعد وهو ينظر للجهة الأخرى بامتعاض، لا يفهم كيف لعائلة كئيبة مثلهم تأتي بشاب وسيم، خفيف الظل، اجتمعت فيه كل الصفات المبهرة.. نظر إلى محمود بطرف عينه بغرور وهو يحاول تهوين نفسه للعيش مع هؤلاء الأشخاص رغم عنه.
؛********* بقلم حسناء محمد سويلم
في المشفى
حالة من السكون حلت على الجميع بعد توتر أعصاب دام لعشر دقائق عندما صدح صوت إنذار من غرفة سالم، ضجة كبيرة بين الممرضين والأطباء بين الطرقة والغرفة لمحاولة إنعاش قلب سالم بعد أن توقفت نبضاته للحظات .. لم يتحمل جابر القلق وسقط فاقد الوعي لارتفاع ضغط دمه فجأةً، نقلوه إلى إحدى الغرف وقدم الطبيب المختص العلاج المناسب، فأصر المعلم سالم على مكوثه في الغرفة عندما استيقظ كي لا تسوء حالته هو الآخر…
نبه عبده على الانتظار معه كي لا ينهض من الفراش، وخرج يبحث عن الطبيب المسؤول عن حالة سالم :
هنعيد التحاليل والأشعة تاني وأول ما النتيجة تطلع هبلغكم بالجديد
رد عليه المعلم سالم بعدم اقتناع :
ازاي مرة واحدة قلبه يقف وأنت قايل الصبح أن حالته بدأت تستقر، لو المستشفى مش مؤهلة بلغني وأنا أنقله
حرك الطبيب رأسه بتفهم وأردف بتوضيح :
توقف ضربات القلب ليها أسباب كتيرة والحمدلله حالته استجابة معانا بسرعة، والمستشفى مش مقصره واحنا فاهمين يعني ايه روح بين ايدينا
استأذن منه وعاد إلى غرفته مع الممرضة، فجلس المعلم سالم على المقعد بوهن، خارت قواه قبل جابر ولكنه تماسك بقدر استطاعته.. منذ أن بدأ منصور بألاعيبه المقيتة وهو يبتعد عن بؤرة الشياطين كي لا يمس أفراد عائلته أي ضرر، ترك الصراع يدور حوله دون أن يرد حفاظًا على الجميع، اختار أن يلاعبهم في نزاع البقاء خلسة كي لا يظهر على الساحة ويسمح إليهم باقتحام حصنه المتين، كان بإمكانه إعلان طبول الحرب وإزالة آل عزب من الوجود، ولكنه لم يريد سلك طريق الكراهية وإراقة الدماء مهما بلغ الأمر..
تقدم والد نيره يجلس بجانب وهو يقول بحرج :
نيره كانت عايزه تيجي بس أنا موفقتش وقولت استنى لما الزيارة تكون مسموحة
أومأ إليه بشرود فوقف والد نيره يدخل لزيارة جابر، لم يكن أمامه سوى اختلاق كذبة تحسن موقفه مع عائلة سويلم بعد رفض نيره لزيارة سالم في المشفى أو حتى تذهب تنضم للنساء لحين تحسن صحة زوجها، ولحرصه على ما تبقي لابنته في منزلهم قرر الاصغاء لزوجته وأخبارهم بمرض نيره حزنًا على ما أصاب زوجها،
نظر إلى شاشة هاتفه فوجد أحد أفراد الشرطة اتصل به عدة مرات متتالية منذ قليل دون أن يلاحظ.. ابتعد خطوات بسيطة واعاد الاتصال به، صدمة ألقيت في وجهه دون مقدمات من الشرطي الذي قال برسمية:
عز اتقتل ومتأكد بنفسي من الجثة قبل ما تطلع للمشرحة
هتف متسائلاً بدهشة:
عز منصور ؟؟!!
رد عليه مؤكدًا وكأنه هو الآخر غير مستوعب :
عز منصور عزب، والبلاغ جه من مراته بعد ما قتلته
لم يُعقب المعلم سالم وظل يفكر في تغير الحال وكأن العاصفة تأتي لقلب الموازين رأس على عقب .. استكمل الشرطي قبل أن يغلق :
بكره تقرير تفريغ تلفون خديجه هيطلع ووقتها هنقفل محاضرها هنحتاج يعقوب وسالم عبده وساره أبو الفضل وأن شاء الله لما سالم يقوم بالسلامة هناخد اقواله شئ روتيني ونقفل محضره
قطب جبينه باستفهام متسائلاً بريبه:
: وعز ؟؟!
: مراته هتتحول للنيابة بكره الصبح ويبدأ التحقيق، ويمكن رئيس المباحث الجنائية ياخد أقوالها دلوقتي لأنها بتقول أن في ناس خطفت بنتها بمساعدة عز
أمس خطط لانتقامه واليوم ينقل للمشرحة، سرعة عجيبة لنهاية سطور القصة وتغلق بشكل مفزع.. أسئلة كثيرة دارت في ذهن المعلم سالم بعد أن أغلق المكالمة، وكان أهمهم هل اختفت مكائد آل عزب بموت عز أم أن هناك شبح خفي يجول في الإرجاء ينتظر الوقت المناسب لاصطياد الفريسة ؟!
؛************
اجتمعوا أفراد العائلة بوصول مايسه وزوجها بعد أن فزعوا بخبر حريق المحجر .. لم يهدأ عزيز منذ أن عاد من قسم الشرطة بصحبة يعقوب، الورقة التي كتبتها خديجه معترفة بأفعالها مثبته أنها أحرقت المحجر انتقام من يعقوب!!
: فهمني بقا ايه حكايتك مع البت دي، ومتقوليش معرفش لأن الظابط قال إنها كاتبة بخط ايدها أنها ولعت في المحجر عشانك
اقتضبت ملامح يعقوب وهو يقول بكدر:
يابا هو أنا مكتوب على وشي اي حاجه تحصل بسببي
رد عليه عزيز باستهجان :
هو أنا اللي قولت ولا الظابط
تحدث علي بهدوء واقترح بحيره :
ما يمكن كتبت عشان تتوه عن حاجه تانيه
هتف يعقوب كي ينهي الجدال الذي أخذ أكثر من حجمه :
واللي أنا قولته هو ده اللي حصل ولا أعرف هي عملت كده ليه ولا ليا علاقة بيها من أساسه
صاح عزيز بحده وهو يشيح بيده بانفعال:
يعني هتولع في المحجر وتدفع لواحد مبلغ قد كده عشان سواد عيونك
واستطرد بحنق :
كل يوم بثبت ليا إني غلطان لما فكرتك الكبير العاقل اللي كنت بحلف بعقله
: معلش يا حاج
احتقن وجه عزيز من رده السخيف قال بغضب :
ومعلش دي هاكل بيها عيش بدل المحجر اللي بقا كوم تراب، بس ماشي بكره سالم يفوق من ابن أخوه ويطلع عليك القديم والجديد لما يعرف ايه بينك وبينها وابقا قابلني لو دخلك بيته بعدها
استقام يعقوب مغمغمًا بضيق :
لما أهلي وبيقولوا كده هستنى ايه من الغريب
خرج من المنزل متجاهل نداء والدته التي طلبت من شريف اللحاق به.. بينما اتجه يعقوب إلى سيارته وقبل أن يشغل المقود صعد شريف بجانبه وهو يردف بحكمة:
الحل أنك تفكر ليه البنت دي عملت كده
نظر إليه وأردف بسخرية :
ولو كان عندي فكرة كنت سكت
تطلع إلى الطريق وهو يحرك المقود بدون واجهة محددة، عليه الابتعاد لمكان هادئ يستطيع تجميع أفكاره، إذا سأله المعلم سالم ولم يكن لديه إجابة مقنعة لا يدري ردة فعله أو الأفكار التي ستراوده.. وخاصة حسناء التي ربما رسمت في عقلها خيالات وهمية لأشياء مستحيلة
: سبحان الله من كام شهر كنت في نفس الموقف لما شوفت حسناء وخليل، ودلوقتي اتبدلت الأدوار وبقيت أنت وخديجه
انكمشت قسمات وجه يعقوب وهو يقول بتبرم :
مفيش مقارنة في اللي بتقوله
أبتسم شريف بخفة ورد عليه باستغراب:
ليه !! ما أنت برده اللي قابلت حسناء بليل ومكنتش عارف ايه سبب خروجها في الوقت ده وبالصدفة قابلتوا خليل ومع أنك قولت مفيش شك في أخلاقها بس كان عندك فضول تفهم، حالياً اعتراف خديجه أكبر دليل أن في حاجه بينك وبينها لكن هي ايه محدش يعرف ونفس الفضول زمانه عند خطيبتك عشان تفهم
أوقف السيارة بجانب الطريق وهو يهمس بجمود :
الفضول حاجه والشك حاجه تانيه
رفع شريف كتفيه ببراءة وتمتم بلامبالاة :
بما أنك مريت بنفس الموقف تقدر تفرق بين الاتنين
أعاد يقود السيارة وهو يتذكر كل أفعال خديجه حينما قابلها في المرات المعدودة، لا يشغله سوى انتقامها من تطفله لذكره للسارق أمام الشباب، أو ربما تكون نفس الفتاة المنتقبة التي اقتحمت غرفته؟؟ وربما لأول مرة قابلها عندما كان يقود سيارته في شوارع القرية وظهرت مباغتة أمامه حينها استمع إلى تذمرها من طريقته الجافة لإكماله قيادة السيارة دون أن يلتفت إليها فكانت هي المخطئة “انسان مغرور معندوش ذوق” قالتها بصوت مرتفع غاضب، فنظر إليها من المرآه ببرود متجاهلها تمامًا!
وعلى الجهة الأخرى
كانت تجلس بين نساء العائلة شاردة الذهن، تارة تحزن على حال ابن عمها وتارة أخرى ينتابها الضيق لحيرتها في أخر أخبار وصلت إليهن من سعد، وكأن قلبها يرسل إنذار بعدم ارتياحه إلى شريكه الذي صغا جيدًا لشعورها المنزعج ويثبت إلى نفسه صحة إدراكه.
؛**********
في كافيتريا المشفى
أخذ عامر وأكرم زجاجات المياه وبعض علب العصير واتجهوا للمصعد، فعل لطيف منهما لتخفيف الوضع بالأعلى بعد تصريح الطبيب أن سالم دخل في غيبوبة..
: مش ملاحظ أنك نحس على البيت ده
حرك أكرم رأسه باستياء وقال بامتعاض:
بدأت أحس أني نحس على نفسي
واستكمل بحسره :
الواحد ما صدق أهله عرفوا ينزلوا مصر وقولت خلاص هكتب كتابي وتجمعني حلة محشي واحدة معها
ضغط عامر على شفتيه بغيظ وقبل أن يتفوه أشار أكرم إليه بتحذير:
إحنا في مستشفى واي ألفاظ خارجة بحساب خد بالك
لحسن حظه استمع لصوت هاتفه، وضع الزجاجات جانبًا ورد بترحاب :
دا التلفون نور بأكبر تاجر آثار في البلد
جاء صوت موسى المرهق وهو يسأله باستغراب:
ليه محدش بيرد عليا عندك؟! من الصبح بحاول اوصلكم؟؟
أردف عامر بحرج وهو يتجه إلى الطرقة :
أعذرني لسا عارف اللي حصل معاك حالا، لكن الوضع هنا كله قلق بعد ما سالم دخل في غيبوبة من ساعتين ومحدش قادر يتنبأ بحالته
حوقل موسى بحزن وسأله باهتمام :
لسا معرفوش مين عمل كده؟؟
: نفس السبب اللي أنت فيه لكن خلاص ربنا ريح الكل
لم يعمل موسى بكل ما حدث سوى حادثة سالم والتي وضحها عمر إلى عليا عندما هاتفها صباحًا .. لم يتخيل مقصد عامر فسأله بعدم فهم:
يعني ايه ؟؟ والمعلم سالم فين ؟!
رد عامر باقتصار لاقترابه من الشباب:
عز اتقتل والمعلم سالم راح القسم يقفل محضر الحريق
حريق!! قالها موسى بدهشة ومن ثمّ أغلق المكالمة ونظر إلى عليا متسائلاً بكدر :
اللي اسمه عمر قالك ايه بالظبط؟!
رفعت كتفيها بلا اكتراث مردفه بسلاسة:
قالي كلام كتير معرفتش أفهم منه غير أن سالم جابر في المستشفى وهاديه لقوها في البيت القديم
استعاب موسى ما رواه عامر في أخر جملته وكأنه تذكر للتو وردد بذهول :
عز اتقتل !!!!
اقتربت عليا من فراشه وهي تصيح بصدمة :
اتقتل بجد! مين اللي قتله؟ وأمته حصل؟!
أشارت كوثر إليها بأن تهدأ:
اهدي حبيبتي اخوكي لسا تعبان وبعدين الله يسامحه على اللي عمله معانا ومع غيرنا
أخرجت عليا هاتفه تتصل بعمر للتأكد من الخبر، بينما ظل موسى يفكر في سبب طلب المعلم سالم حضوره للقرية قبل يوم الحادثة، وكيف استطاع عز ربط كل الأحداث في آن واحد وهو هارب ومتخفي من الأنظار!!
؛************
: يا مها اهدي الأول وقوليلي ناويه على إيه
أكملت ارتداء حجابها وهي تقول بضيق :
هروح أعرفها مقامها عشان شكلها نسيت نفسها
زفرت هند بملل مردفة بقلة حيلة:
محمود مش هيوافق تخرجي ولو بابا عرف هيزعل
التفت ترمقها وهي تصيح بحده :
بقولك تغريد كلمتني وبتقول نسرين عندهم في البيت بتعيط تستعطف حماتي وحمايا يا هند يعني البجحه بطلعني الشريرة قدامهم
أمسكتها من معصمها وهي تقول باقتضاب:
مش وقته يا مها واقصري الشر بدل ما يجي على دماغنا
استمعوا إلى صوت سيارة فاقتربوا من النافذة ظنًا أنه والدهم، لكن خاب أملهم عندما هبط ربيع وبصحبته مي ..
: تفتكري نيره مش هتيجي في الظرف ده ؟؟
لم تجيب مها ودارت بوجهها العابس للجهة الأخرى، فقالت هند برزانة:
يا بنتي أنتِ أعقل من كده وهي كل اللي بتعمله لأن مبقاش ليها حاجه في البلد بعد ما والدتها باعت البيت
أومأت إليها رغم عدم اقتناعها، ولكن عليها الصبر تلك الفترة القصيرة فلن يطول الانتظار ..
: ماما ناديه كانت بتتخانق مع مروه الصبح ليه ؟!
ضحكت هند بفتور وقالت بسخرية:
مروه مردتش تطلع تسلم على أم طلال لما زارتنا الصبح
قطبت مها جبينها باستغراب متسائلة باستفسار:
مش غريبة الإصرار العجيب من طلال بعد ما رفضته مرتين؟؟!
استعدت للخروج مغمغمه باستهزاء:
حزب الأمهات المرة دي هيخليها توافق
؛************
ساعات طويلة مرت عليها كسنوات، تجلس على المقعد كإنسان آلي ومقابل لها مقعد آخر يتناوب عليه أفراد الشرطة لأخذ أقوالها.. لا ترى سوى مشهد بشع يتكرر أمامها عندما أصبحت قاتلة وهي المجني عليها، أخبرتهم بكل ما تعرفه وإلى ما دفعها لقتله، توسلت إليهم بأن يعيدوا ابنتها والتي خطفت بمساعدة محامي عز،
بعد مدة لم تحدد وقتها أمسكها العسكري لأخذها إلى الزنزانة لحين غير معلوم بالنسبة إليها، كالمغيبة تمشي تجر قدميها بتعب أصاب أوصالها.. لفت انتباها وجود سيف فقالت بهمس ضعيف:
لوجينا
هز رأسه وحاول اللحاق بها ولكنه منعه العسكري وأشار إليه بأن يعود محله حتى يسمح بالخروج عند أخذ أقواله هو الآخر.. وفي الأريكة المجاورة أخفض مغازي رأسه وهو يرى الاساور الحديدية تزين معصمه، التستر على مجرم، ومحاولة قتل نفس عن عمد، والتحريض لحرق منزل، تُهم كفيلة بجعله يسجن لأعوام ليست قليلة.
؛***********
يومان مروا والتحقيقات مستمرة مع جمع الأدلة الجنائية، تفريغ هاتف عز حل ألغاز كثيرة وضحت كل تخطيطه، تم القبض على المحامي ومساعده ولكن لازال البحث عن لوجينا مستمر.. نقلت ليلى إلى المشفى مع حراسة مشددة لانهيار عصبي أصابها بغتةً أثناء التحقيق معها، وعلى رغم أن سيف لا يملك نقود لم ييأس في تقديم ملف القضية إلى محامي يخفف الحكم عنها، فهو على يقين أن عز لقى ما يستحق وربما أقل..
لم يختلف الوضع في المشفى خلال اليومين، استقرت دقات قلب سالم ولكن لم يفق بعد من الغيبوبة.. لم يعود المعلم سالم للمنزل إلا لتبديل ثيابه ويلحق بجابر مجددًا، مع كشف مؤامرات عز حلت العُقد واحدة تلو الأخرى، رجعت كل أسرة إلى منزلها ولكن حذر على خروج إحداهن بمفردها، لم تترك هانم فرصة إلا واستغلتها لتظهر بشكل محب لتتقرب من المعلم سالم، وعندما أغلق جميع النوافذ في وجهها لحقت بجابر لتهون عليه حزنه بنعومة ولطف بأسلوب لا يبدر إلا من فتاة مراهقة…
وفي اليوم الثالث أعلنت السعادة ظهروها داخل آل سويلم عندما استيقظ سالم على حين غرة وطلب رؤية والديه
: حمد لله على سلامتك ياضنايا
لم تكبح زينب دموعها وهي تقبل جبينه ويده بقوة، فابتسم سالم بوهن دون أن يرد وهو يجول بنظره بينهم، بنبرة خافتة تسأل بتعب :
فين نيره
نظر المعلم سالم إلى عبده كي يلحقه للخارج، بينما هتف جابر بارتباك :
صممت تبات امبارح والصبح روحتها لأنها تعبت شوية
جلست مي بجانب خلود متلهفة لاحتضانه مثلما فعلت خلود عندما وصلوا، ولكنها من حين لآخر ترتب على يده بحنان وتدعي الله بأن تستقر حالته الصحية .. استقبل سالم دعواتها بنظرات عطوفة وذلك ما جعلها تتحفز وتقبل جبينه قبل أن يرحلوا، فبنات اعمامها والشباب يردن زيارته في الوقت المسموح،
؛***********
على صعيد آخر استقبل والد نيره اتصال جابر بحفاوة وأخبره أنهم سيأتون في الحال، ولكن حال نيره لا يبشر بالخير قط خاصة عندما أصر والدها على ذهابها معهم:
يا بنتي ايه اللي قلب حالك، بقا تعرفي أن جوزك فاق ومش عايزه تزوريه
زفرت نيره بصوت مرتفع وقالت بضجر :
يا جماعه افهموا اللي حصل مع سالم حسد من الناس لما عرفوا اني حامل، تخيلوا بقا لما يشوفني ببطني وأنا بزوره
حدق والدها بزوجته وهتف بدهشة :
هي بنتك اتهبلت ولا أنا اللي خرفت
واستكمل وهو يرمق نيره بضيق :
أنتِ أول واحده تحملي ولا محدش هيخلف غيرك
ردت عليه باقتضاب وهي تسحب الغطاء فوقها :
لما يقولوا في مشاكل بينهم أحسن ما يقولوا دول مبسوطين وهتخلف
دفع والدها الغطاء على الأرض وصاح بانفعال :
دا أنا أكون عيل لو سبتك بمزاجك بعد كده
اشاح بيده وهدر بحده :
قومي غيري هدومك هتروحي معانا غصب عنك
تدخلت أختها تنصحها بأن تبعد تلك الأفكار عن عقلها، ولا تسمع إلى وسواس الخوف من الحسد لتلك الدرجة فذكر الله خير حافظ، وأن سالم بحاجة إليها في مرضه حتى لا يفهم أنها تتخلى عنه.. ربما تعلم كل هذه الثرثرة من وجهة نظرها وربما ثقتها الزائدة في رجاحة عقلها ستخدعها في أخذ الحذر المبالغ به..
؛***************
عاد مع بناته بعد أن اطمئنوا على سالم، تركهن في الطابق الأول وصعد إلى نجاة يطلب منها كوب النعناع، يتمتع بهدنة مع نفسه يحتاجها لترميم ما أفسدته الليالي الماضية
ولجت وهي تحمل الكوب قائلة بلطف :
مشربتش النعناع من زمان
نظر المعلم سالم إليها وهو يأخذ الكوب:
اليومين الفاتو شربت حاجات كتير
ابتسمت نجاة بخفة ودارت تأخذ العباءة السوداء من فوق كتفيه ووضعت ملابسه المنزلية المريحة بجانبه :
الحمدلله أن كله بخير
تنهد بصوت مسموع ونهض يتمدد فوق الفراش دون أن يبدل جلبابه :
طفي النور يا نجاة وسبيني سنه سنتين نايم
؛**********
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بنت المعلم الجزء الثاني)