رواية بك أحيا الفصل السابع 7 بقلم ناهد خالد
رواية بك أحيا الجزء السابع
رواية بك أحيا البارت السابع
رواية بك أحيا الحلقة السابعة
الفصل السابع “محاولة نجاة”
“يقولون أنه عليك المواجهة بدلاً من الهرب، وأن الهرب ليس سوى جبنًا يعبر عن ضعف صاحبه، ولكن أحيانًا كثيرة لا تكن المواجهة شجاعة بل تكن انتحارًا غبيًا، هناك مواقف لا تعد فيها المواجهة خيارًا من الأساس، الهرب.. الهرب فقط هو الخيار الوحيد المتاح، وما عدا هذا فاعلم انك هالك لا محالة”
بعدة عدة أيام..
وهذا النهج الذي تبنته” خديجة” وهي تفعل المستحيل كي لا يصل خبر رحيلهم ل” مراد”، حتى أنها تجلس الآن بانتظاره كما اتفق معها بالأمس حين رآها لثانية واحدة فقط على باب المطبخ ليخبرها باقتضاب” قابليني عند الحوض بكره الساعة ١٢”
وكان هذا موعد عودته من تدريباته الخاصة، نظرته حينها أخبرته كم أنه غاضب لجفاءها معه طوال الفترة الماضية وانعزالها عنه، ولأنها لا تريد لغضبه ان يزداد كي يمر أمر ذهابهم كما تريد دون عقبة وكي لا يشك بها أكثر وافقت، وها هي تجلس بانتظاره بملامح مسترخية هادئة، ولكن قلبها محمل بالكثير، حقد؟ مقت؟ نقم؟ لا تعلم لكن ما تعلمه أنها لا تتقبل هذا اللقاء الذي تشعر بهِ كأنه حملاً ثقيلاً على قلبها، لم تعد كما كانت، لم تعد خديجة التي كانت تتوق شوقًا لرؤيته وجوارحها مفعمة بالحماس والفرح لرؤيته، باتت أخرى تنتظر اللحظة التي ستفر بها هاربة من هنا، بلا رجعة..
_ أخيرًا الأميرة قررت تخرج من كهفها.
جملة ساخرة سمعتها منهُ لتغمض عيناها لوهلة بضيق من سخريته، ثم فتحت عيناها تسترعي الهدوء وهي تقول:
_ لا ابدًا، انا بس مكنتش كويسة.
جلس أمامها ببنيته التي تزداد قوة وحجمًا كل يوم، بدأت عضلات صدره وذراعيهِ في الظهور قليلاً تقسم أنه بعد عدة أشهر من الآن سيصبح قوي البنية كمن تراهم في التلفاز وترهبهم، ولكن لن تكون هنا حتى ترهبه!
اشتاقها حد الجحيم، حد اشتياق الأرض القاحلة للمطر، ولكنها كانت تتمنع عنه، لم يراها أو يجلس معها جلسة كهذه منذُ الكثير، منذُ تلك الليلة المشؤومة من شهر ونصف تقريبًا، وهذه ثاني اطول مدة ابتعدت فيها عنه، المرة الأولى كانت بسبب والده ولكنها لم تتخطى عشرون يومًا، والمرة الثانية وصلت لخمس واربعين يومًا، يخشى أن تكون هناك مرة ثالثة وتزيد المدة بالتباعية! هز رأسه بضيق من منحدر أفكاره فهو لن يسمح لها بالغياب عنه مرة أخرى، لقد قرر أن يهدم ذلك الحاجز الذي رُفع بينهما منذُ وفاة شقيقتها، احتواها بعيناه وهو يقول:
_ عارف، بس من امتى بنبعد عن بعض؟ المفروض كنت تقربي مني اكتر عشان اساعدك تكوني كويسة مش تبعدي يا ديجا! احنا متفقين نكون دايمًا سوا في الفرح والحزن صح؟
اومأت برأسها وعيناها تغشاها الدموع، رغمًا عنها ستفتقده، ستفتقد رفيقها المفضل والوحيد، ستفتقد حنانه، ولطفه، ورعايته، حتى قسوته احيانًا ستفتقدها، حاولت ألا يظهر عليها ما يثير ريبه فأخفضت عيناها كي لا يرى دموعها وهي تقول:
_ معاك حق.. مكنش قصدي ابعد عنك.
رفع رأسها له وهو يخبرها بأنه يتفهمها:
_ عارف يا حبيبتي، انتِ كنتِ زعلانة فمش عاوزه تشوفي حد ومودك مكنش كويس، بس بعد كده اتعودي حتى لو زعلانه وفيكي ايه ومش عاوزه حد جنبك إلا أنا، ارفضي وجود اي حد وكل الناس لكن أنا لأ يا خديجة ماشي؟
“خديجة” حين ينطق بها يكن في أشد حالات جديته، هزت رأسها موافقة وهي تبتلع ريقها ذعرًا من القادم، كيف ستكون ردة فعله حين يعلم بذهابها؟ وهل من الممكن أن يفعل شيء ليعيدها؟ ارتجف قلبها بخوف جم من هذه الفكرة، يا إلهي إن أعادها حقًا حينها ستلاقي منه الويلات، ستكون هالكة لا محالة، أغمضت عيناها بخوف شديد وهي تدعو الله أن تنجح محاولة فرارها منه، تدعو الله أن يتم الأمر كما تريد وألا يحدث أمرًا يكن سببًا في عودتها أو فشل محاولة هروبها.
_ قوليلي أنتِ كويسة؟ لازم تنسي يا خديجة، لازم تنسي وتعيشي.
فاقت من أفكارها على حديثه، لتنظر له بعتاب مستتر كيف له أن يكون ميت الضمير هكذا؟ كيف له أن يكون بارد وهادئ وهو يتحدث عن جريمة ارتكبها؟! بل ويطلب منها أن تنسى! تنسى ماذا؟ تنسى شقيقتها، ام تنسى أنها فقدت حياتها بسببها؟ تنسى أنها ارتبكت جريمة شنعاء وفي حق من.. شقيقتها!؟ كيف يطلب منها أن تنسى؟ تنفست بهدوء رغم كل ما تضمره وقالت بمغزى:
_هنسى يا مراد، رغم إن في حاجات مستحيل تتنسي.
لم يغفل عنه أنها بها شيء متغير، بل أشياء، تلك ليست خديجة التي يعرفها، حتى حديثها، وكأنها فجأة باتت بعمر الثامنة عشر وليس الثامنة! ولكنه اسند هذا أن ما تعرضت له لم يكن هينًا وترك أثرًا بها، أثرًا سيسعى لمحوه فهو لم تروقه الفتاة التي أمامه الآن، لا يرى بها صغيرته الناعمة، البريئة، يشعر كأنها تبدلت! سيعمل جاهدًا على استعادتها.. هذا ما نواه، وهو يقول:
_ بالمحاولة هتتنسي، مفيش حاجة مستحيلة يا ديجا.
قالها وهو مقتنع بها تمامًا، لكنه أدرك لاحقًا أن جملته هذه لم تكن صحيحة أبدًا!
وفجأة خطر على عقلها سؤال لم يخطر بهِ يومًا،ولا تدري لِمَ الآن؟ ربما لأنه يعلم أن هذا اخر لقاء لهما! بنبرة مهتمة كانت تسأله وعيناها مسلطة على ملامحه التي ستفتقدها حتمًا:
_ مراد، انتَ بتعتبرني ايه؟
ابتسم بحلاوة وهو يستشعر أنها بدأت تعود لطبيعتها معه، تسأله وتنتظر اجابته باهتمام كالذي يظهر عليها الآن، فاجابها دون تفكير:
_ حياتي كلها مفيهاش غير اتنين يا خديجة، ماما وأنتِ.
أردف بآخر كلمة وهو يخصها بنظرة محبة خالصة، هي فهمت من اجابته أنها مهمة جدًا لديهِ، وأنه يعتبرها فردًا من عائلته التي أقصى منها والده، وللحقيقة هو أيضًا مهمًا لها، وللأسف كلاهما سيخرج من حياة الآخر بحلول الغد..
ابتسم لصمتها وأبى عقله أن يفلت رد السؤال لها فسألها بحماس لسماع الإجابة:
_ وانا بالنسبالكِ ايه؟
لم تفعل مثله وترد فورًا، بل سكنت لثواني وكأنها تفكر بحرص، قبل أن تتنهد وهي تقول:
_ صديقي الوحيد.
فقط!
لم يبدو عليهِ الرضا بإجابتها وظهر هذا جليًا على ملامح وجهه التي تراخت وتبخر الحماس منها، ونظرة عيناه المعاتبة! لا يعلم علامَ يعاتبها!؟ لكنه يشعر أنها خذلته، كيف لها أن تقتصر الإجابة هكذا! مجرد صديق! لِمَ لم تضع إجابته السابقة لإجابتها في عين الاعتبار وتقتبس مما قاله حتى وإن كان كذبًا…
نهض واقفًا فجأة مما أثار استغرابها وقال بوجوم تراه بهِ لأول مرة:
_تصبحي على خير يا خديجة.
“خديجة” إذًا هو غاضب!
لم ترد أن ينتهي لقائهما الأخير على هذا النحو، فأردفت وهي تنهض متسائلة باستغراب:
_ أنتَ زعلت ليه؟ هي صديقي زعلتك!؟
وبعتاب منه كان يجيبها:
_المفروض اكون اكتر من كده يا خديجة، معقول بعد كل ده اكون مجرد صديق!
لم تعلم بِمَ عليها قوله له، هل تخبره بأكثر من هذا كذبًا؟ حقًا لا تشعر ناحيته بكونه أكثر من صديقها الوحيد والمفضل سابقًا! وحتى إن كانت تشعر بأكثر من هذا فلن تخبره الآن! هي على صدد تركه للأبد لِمَ تزيد من معاناته، رغم كونها طفلة ولكن يبدو أن الصدمة التي تعرض لها عقلها غيرت من تكوينه ليصبح أنضج بشكل مبالغ بهِ!
ذمت شفتيها بضيق وهي ترى نظرته المعاتبة لها، وبعد تفكير لم تصل بهِ لشيء رفعت منكبيها وهي تقول بجهل:
_ ملقتش حاجة تانية اقولها، مش عارفة.. مراد أنا معرفش غيرك بعد عيلتي، انا.. انا مش عارفه أنتَ ايه بالنسبالي بس حد.. بس حد مهم.
رددت الأخيرة وهي تلتقط أنفاسها بعدم شعرت بملامحه تهدأ ويبدو أنها أحسنت اختيار آخر كلمتين وهذا ما جعله يرضى!
رَحمَ صِغر سنها وانها لا تستطيع وصف مكانته لديها، واكتفى بإقرارها أنه مهم للآن فقط.. للآن فقط سترضيه تلك الكلمة لكن فيما بعد سيتطلع للمزيد، والمزيد تحديدًا يقصد بهِ أن تتمثل حياتها بهِ!
اومئ برأسه متنهدًا بهدوء وهو يبتسم لها ابتسامته العذبة التي لا تخرج سوى معها هي ووالدته:
_ ماشي يا ديجا، ايه رايك اجيلك بكره بعد المدرسة ونخرج؟
اتسعت عيناها بدهشة تسأله:
_ نخرج؟! احنا عمرنا ما خرجنا.
لم تنحسر ابتسامته وهو يقول:
_ خلينا نتجنن ونعملها، احنا مش صغيرين.. او بمعنى أدق أنا مش صغير.
صحح جملته الأخيرة بضحكة خافتة حين ظهر امتعاضها، واكمل:
_ يعني مؤهل للخروج لوحدي فهاخدك معايا، وحاطت بروجرام هايل.
ابتسمت بهدوء وهي تقول محاولة محو نظرات الحسرة التي تصرخ بها عيناها:
_ ايه هو؟
بحماس جعله لا يلاحظ نظراتها المتحسرة كان يخبرها:
_ الأول هأكلك كريب ميكس الجبن الي بتحبيه رغم اني معرفش ايه سر حبك له وهو ملوش طعم اصلاً..
_ مراد!
نهرته بحده وهي لا تقبل أن يذم أحد في شيء تحبه خصوصًا إن كان يتعلق بالأجبان التي تعشقها..
ضحك عاليًا وهو يسمع زمجرتها التي راهن عليها، وملامحها المتجعدة كهرة غاضبة، فرفع كفه باستسلام وهو يوقف ضحكته:
– خلاص، خلاص.. المهم، وبعدها ياستي هأكلك الآيس الكريم الي ممنوعة منه بقالك سنين..
أنهى حديثه بغمزة عابثة، لتتدفق الدموع في عيناها رغمًا عنها، هل أتى ليحقق كل أحلامها في اليوم الذي قررت الهرب فيه؟ أأتي ليصنع معها ذكريات رائعة في يوم فرارها؟ ألا يمكنها أن تؤجل الهرب يوم آخر! ولكن تخشى.. تخشى إن فعلت لا تجد لديها القدرة للابتعاد عنهُ، اخفضت عيناها وهي تسأله بنبرة مختنقة:
_ مش خايف عليَّ؟
منعها من المثلجات لم يكن عبثًا، هذا لأنها أصيبت بالتهاب حلق شديد للغاية ذات يوم في بداية طفولتها وحينها أخبرهم الطبيب أن المثلجات لا تلائم طبيعة حلقها الذي يتحسس بشدة منها، ومن حينها ولم تقترب منها بأمر والديها وهو!
وللمرة الثانية لا ينتبه لها، حماسه وهو يخطط ليوم غد طغى على باقي حواسه:
_ لأ، مهو بحساب، يعني يدوب معلقتين حلوين اوي عشان متتعبيش، وبعدها بقى نروح الملاهي.
رفعت عيناها له تسأله باستغراب:
_ كل ده امتى؟ بابا هيسأل عن تأخيري.
ذم شفتيهِ بحنق وهو يخبرها:
_ للأسف هنضطر منطولش، الكريب هجيبه معايا وهناكله في الطريق للملاهي، والايس كريم هناكله هناك ووقتنا في الملاهي نص ساعة بالضبط.. وهتضطري تكدبي كدبة صغيرة بخصوص الساعة تأخير، إن الباص كان فيه عطل.
ابتسمت باهتزاز وهي تودعه بعيناها، لا تصدق أن كل ما نسجه لن يحدث، سيكون خذلانه مضاعف! ولكن لابد لها من السعي قدمًا، لابد لها من النجاة بحياتها.
اومأت برأسها عدة مرات قبل أن تقول:
_ماشي.. مستنية بكرة بحماس.. بس همشي دلوقتي عشان ميلاحظوش غيابي.
اومئ برأسه متفهمًا وقال:
_ ماشي، يلا روحي.
هزت رأسها بإيجاب وقدميها لا تريد التحرك، لا تريد الالتفات لانها تعلم أنها لن تدير له ظهرها الآن فقط بل ستديره للأبد وكم شاق هذا! تشعر بأحد يتمسك بقدميها كي لا تستدير.
طالعها باستغراب لوقوفها وسألها:
_ في ايه يا ديجا؟ واقفه ليه؟
نفت برأسها بنفي عن سبب لوقوفها، فسببها لا يجب عليهِ معرفته، حسها عقلها على التحرك فهي تثير ريبه، ثواني أخذها عقلها ليشجع جسدها على التحرك حتى فعلت، تحركت وادارت ظهرها له، سقطت دموعها على الفور وهي تأخذ خطواتها مبتعدة.. مبتعدة عن حياته.
———————
تنظر للفيلا من الخارج بنظرات مودعة، بدت أنها تودع الفيلا ولكن ما لها بالفيلا لتودعها! هو تودع ذكرياتها هنا، تودع شخص غاب عن المشهد، تودع ذكريات قتل شقيقتها وهي تقسم أنها ترى شبحها يقف هناك أمام باب ذلك المخزن يشيح لها مودعًا، لم تذهب للمدرسة اليوم كي يستطيعوا التحرك صباحًا لالحاق بالقطار المتجه نحو سوهاج حيث مسقط رأس والدها، ومعنى أن الوقت صباحًا فبالطبع “مراد” ليس هنا بل في مدرسته الخاصة، انتبهت من خضم افكارها على حديث “ليلى” تقول:
_ يعني خلاص هتسبونا؟ ده انا ماصدقت اتعودت عليكم، هتمشي يا دينا خلاص!
أجابتها “دينا” بحالة يرثى لها والدموع تملئ عيناها:
_ غصب عني يا ليلى هانم، موت بنتي بيحرق في قلبي وانا كل يوم استناها تدخل عليَّ المطبخ الصبح زي عادتها، ولا ابص لسريرها مليقهاش عليه، وكله كوم والمخزن كوم تاني.. كل يوم بسمع صوتها بيصرخ من جوه عشان انجدها واروح ملاقيش حاجه واقعد اعيط.. كده احسن، البعد احسن.. غير اني مبقتش مركزة في شغلي ولا عارفه انا عملت ايه ونسيت ايه اعمله.
هزت “ليلى” رأسها تفهمًا وهي تقول بتأثر:
_ فهماكِ وحاسه بيكِ والله، ربنا يصبرك، خلاص يا دينا امشي مادام مش مرتاحة.. انا بس صعبان عليَّ تفارقوا بعد ٨ سنين مع بعض.
وهنا تدخل “محمود” وهو يقول:
_ واحنا كمان يا هانم والله، ربنا يعلم الموضوع صعب ازاي، بس ادي حال الدنيا.
_ربنا معاكوا، اشوفكم بخير لو ربنا اراد.
هكذا ودعتهم “ليلى” بتفهم للحالة التي يمرون بها، وهكذا ودعت “خديجة” حياتها السابقة، ودعت ذكرياتها، وودعت كل شيء يتعلق بحياتها في فيلا “وهدان”.
————————-
قدماها ترتعشان لتلك البداية الجديدة، رغم كونها ليست أول مرة لتأتي لبلدة والدها، ولكن هذه المرة الأمر مختلف، لم تأتي هنا لتبقى يومان او ثلاث كما السابق بل أتت لتبقى للأبد، هنا ستصبح حياتها الجديدة، هنا ستكن خديجة أخرى، سترمي خلفها كل شيء حدث، ستصنع ذكريات جديدة.
نظرت لبيت والدها الذي يقبع وسط مجمع خضري مريح للعين، محاط بأراضي استخدمها أصحابها في زراعة ما أرادوه، ولكن المظهر العام بدى رائعًا، نسمات الهواء المحملة برائحة الزرع بعثت في نفسها الراحة، لم يكن منزلاً ضخمًا ولم يحمل أي مظهر للترف، فقط يتكون من دور واحد وقد أخذ اللون الأبيض من الخارج كحال معظم البيوت هنا، حثها والدها على السير فتحركت معه حتى دلفوا للمنزل بعدما فتح والدها الباب، والحال بالداخل لم يكن مختلفًا كثيرًا عن الانطباع الذي تأخذه حين ترى المنزل من الخارج، منزل بسيط.. بسيط جداً، يتكون من ثلاث غرف ومطبخ صغير وحمام وردهة متوسطة الحجم وُضع فيها أرائك قديمة مغطاة بأقمشة أخذت الانطباع الريفي، وتلفاز صغير جدًا الذي يعرض بتقنية الأبيض والأسود، وزير صغير للماء بجواره كوب، وخزانة صغيرة وُضع بها معدات الطعام كالاطباق والاكواب لصِغر حجم المطبخ الذي لم يسعى للمزيد، وبآخر الردهة درج يوصل للسطح، وفقط..
دلفت بهدوء للغرفة التي تعلمها جيدًا من مجيئها لهنا، غرفتها هي وشقيقتها الراحلة، تنفست بهدوء وهي تقرر قبل الدلوف للغرفة كفى.. لامزيد لتذكر الراحلة، لامزيد للآلآم النفسية بعد، فمن ضمن أسبابها للهرب أنها بالفعل كانت تشعر بوجود شقيقتها في كل مكان حولها، لذا لن تسمح أن يتكرر الأمر هنا.
فتحت الباب بهدوء وهي تشجع ذاتها، دلفت بخطواتها المتهادية وغايتها النافذة، فتحتها بعدما وقفت على كرسي صغير لتظهر الأراضي الواسعة المزروعة بالخضرة أمامها، منظر رائع حقًا جذب انظارها وبعث الراحة والهدوء لنفسها، وفجأة خطر بعقلها سؤال ترى هل وصل خبر ذهابهم لمراد؟ هل عاد من مدرسته وعلم برحيلهم؟ وما هي ردة فعله!؟ والأهم هل ذهب لمدرستها وانتظرها ولم تخرج؟ مسكين لقد تحطمت خططه لقضاء يوم نزهة رائع ولم يجني سوى الخذلان!
————
ترجل من السيارة بغضب بعدما فشل اليوم الذي خطط له طوال الليل، فشل لأنها لم تذهب للمدرسة أو ربما ذهبت وعادت للمنزل مبكرًا ولم تنتظره، لا يعلم كل ما يعلمه أنه ذهب وانتظرها أمام المدرسة لنصف ساعة حتى اغلقت المدرسة أبوابها ولم يراها، فقط ليراها وسيعبر عن سخطه لها بطريقته، كيف لها أن تفسد كل ما خطط له هكذا! ولكن حين خطر بباله أنها ربما لم تذهب للمدرسة من الأساس جعله يفكر في سبب عدم ذهابها الذي لا يحدث عادةً، فاهتدى عقله لسبب ربما مرضت!؟ وهنا تآكل القلق قلبه وهو يتجه فورًا للمطبخ فهي بالعادة تكون بمثل هذا الوقت بصحبة والدتها التي لم تعد تجعلها تبتعد عنها منذ فقدان الشقيقة، ولكن قابله الخواء التام، فخرج مستغربًا قاصدًا غرفته ليبدل ثيابه أولاً ثم ليذهب لوالدته ويسأل عنهم..
وما إن انتهى من تبديل ملابسه وعزم الخروج حتى وجد والدته تدلف لغرفته، ابتسم بتوتر لأفكاره التي تدور حول احتمالية مرض خديجة، واقترب من والدته يقبل كفها كالعادة وهو يهمس:
_ مساء الخير يا مامي.
ابتلعت “ليلى” ريقها وهي لا تعلم كيف ستصل له خبر رحيلهم المفاجئ، فهي لم تعلم نيتهم للرحيل سوى صباحًا، وحين عاتبتهم لعدم اخبارهم سلفًا، حتى اخبرها “محمود” انه بالفعل قد اخبر “حسن” منذ ثلاثة ايام كي يأتي بأخرون يقمون بأعمالهم، لم تستغرب لتكتم “حسن” على الخبر فهي تعلم عدم حبه لوجود “خديجة” بقرب ولده، وبالطبع جاء رحيلهم على هواه، بادلته التحية بتوتر وهي تمسد بكفها على خصلاته:
_ مساء النور يا حبيبي.
ابتعد مبتسمًا، وما لبث أن سألها:
_ هي طنط دينا فين، لما دخلت المطبخ عشان تحضرلي ساندويتش لأني جعان ملقتهاش.
حسنًا لا مانع من بعض المراوغة للوصول لغايته!
وها هو قد فتح بابًا للحديث فيما تخشاه، تعلم تمسك ولده بها ومدى علاقتهما، ورغم أنه ولده وتعلمه جيدًا إلا أنها ليس لديها توقع لرد فعله، لا تعلم كيف سيستقبل الأمر، هل سيكون متفهمًا أم سيثور معبرًا عن غضبه لأنه لم يعلم مسبقًا، زفرت أنفاسها بضيق قبل أن تقول بحذر:
_ حبيبي دينا من وقت موت سارة وهي مش كويسة، على طول سرحانة وعقلها مش فيها، وكتير بتروح عند المخزن وتفضل تعيط وهي متخيلة بنتها جوه، حتى هنا في الفيلا بتقول أنها بتتخيلها داخله عليها المطبخ او بتناديلها، ومحمود كمان مبقاش زي الأول دايمًا حزين وسرحان ومقصر في شغله.
لم يفهم لِمَ كل تلك المقدمة، لكنه يشعر بسوء القادم، قطب حاجبيهِ بتوتر وهو يسألها:
_ ليه بتقوليلي كل ده؟
اغمضت عيناها لوهلة تلعن الموقف الذي وُضعت بهِ، ثم فتحتهما وهي تخبره بهدوء وحذر:
_ عشان اقولك انهم بسبب كده قرروا يمشوا، رجعوا بلدهم يا مراد وسابوا الشغل.
التوى فمه جانبًا باستنكار وهو لا يستوعب ما قالته، هل رحلوا؟ من رحلوا!؟ هل خديجة معهم!؟ ورغم سخافة السؤال إلا أنه ردده وهو يسألها:
_ وخديجة؟
استشعرت الغرابة من سؤال ولدها، فالطبيعي أنها ذهبت معهم! لكنها أدركت من سؤاله أنه لا يستوعب ما وقع عليهِ، لا يستوعب رحيلها وبشكل أدق رافضًا :
_ حبيبي طبيعي مشيت معاهم.
ابتعد خطوتان للخلف ليصبح جالسًا فوق الفراش، لا لم يجلس بل ارتمى بجسده بوهن وهو يردد برفض:
_يعني ايه مشيت؟ هي عمرها ما هتمشي من نفسها، هي متقدرش تبعد عني زي مانا مقدرش ابعد عنها، هو اكيد عملها حاجة صح؟ اجبرهم يمشوا؟ آذاها طيب قوليلي عشان خاطري.
عدة كلمات متقطعة رددها من بين صدمته بعدما وقع على سمعه حديث والدته الصاعق وهي تخبره بتوتر بدى ظاهرًا عليها بأن” خديجة” قد رحلت هي وعائلتها، رحلت بلا رجعة، لتظهر معالم الصدمة رويدًا عليهِ حتى تحولت لملامح تشبه التيه! كملامح شخص ضلَ طريقه فجأة بين الزِحام فظهر هذا جليًا عليهِ.. عيناه المتذبذبه، ووجهه الشاحب، علو أنفاسه، تلجلجه بالحديث، كل هذا يشرح لك بوضوح أنه قد ضلَ طريقه قبل أن تسأله حتى! أو كطفل فقد أمهُ فجأة، فلم يعد يعرف كيف ستسير حياته دونها؟ فبدى شاردًا، مهمومًا، مكفهر الملامح، والأدهى ضائعًا.
لم تعلم لِمَ اقحم والده في الأمر، هو ليس له دخل بهِ لا من قريب ولا من بعيد، ولكن ربما لأنه يعلم كره والده لوجودهم، ويتذكر يوم وفاة “سارة” وقف بكل قسوة في ردهة الفيلا الواسعة وهو يقول ” اهو ده الي بيجينا من وراهم، مش كفاية بنته الي قرفانا ولزقة لابنك وهتضيعه، لا بنته التانية تموت والشرطة تدخل بيتي وشوشرة وقرف بسببهم”
لم يملك ذرة شفقة على ما أصاب الصغيرة، وحينها اندفعت “ليلى” تنهره على حديثه وعدم مراعاته للحدث، لينهي حديثه معها بجملة يتذكرها” مراد” جيدًا حين قال ” انا فاضلهم عندي تكة وهمشيهم مش ناقص قرف أنا ووجع دماغ ”
هل رآه يجلس معها أمس فأمرهم بالرحيل؟ هل سمع لمخططه معها اليوم فأقصاها من حياته حين علم أنه مازال على علاقة بهِ؟ أسئلة، أسئلة تقاذفت لذهنه ولم يجد لها إجابة ليخفض رأسه بوهن وهو لم يستمع لإجابة والدته، وعيناه بدأ يغشاها الدموع.
ألمها رؤيته بهذا الشكل، ألمها انكساره الظاهر ووجعه، فاقتربت منه بكرسيها حتى أصبحت أمام الفراش فاحتضنته لصدرها بحنو تحاول تخفيف وطئ حديثها عليهِ فهي تعلم جيدًا ما تمثله له “خديجة”، فأردفت بصوتٍ بهِ كثير من اللطف:
_ هو معملهاش حاجة يا حبيبي والله، أنتَ عارف إني مش هكدب عليك يا مراد، لو كان عملها حاجة كنت قولتلك.. بس هم قرروا يمشوا فجأة للأسباب الي قولتلك عليها، واحنا منقدرش نغصبهم يفضلوا يا حبيبي، خصوصًا إن حالتهم صعبة بعد بنتهم.
انتفض مبتعدًا عنها دافعًا جسده للخلف قليلاً رافضًا احتضانها له فلن يجدي نفعًا، لن يواسيه، لن يخفف عنه، لا يحتاج لحضنها الآن تحديدًا وهو في أقصى حالات غضبه ويأسه، هز رأسه رافضًا بقوة ودموعه قد تهاوت بعجز وغمغم:
_ لأ، هي مش هتمشي من غير سبب.. أنا عارف السبب بس انا مكنش قصدي.. انا مكنتش اعرف إن كل ده هيحصل، أنا مش عاوزها تبعد عني، مكنش ينفع تمشي.
وكان يقصد السبب الرئيسي لكل هذا ألا وهو تورطه في قتل سارة، الذي بنى جدارًا بينهما لم تنتظر هي حتى يهدمه كما نوى وذهبت وبينهما الجدار الذي كان سببًا رئيسيًا في الرحيل يعلم.. والدليل أنها لم تخبره مسبقًا.
بدى الآن أصغر من عمره الذي بقى عدة أيام ليبلغ فيهم الرابعة عشر، بدى كطفل لم يتجاوز السابعة يبكي على فراق شخصًا عزيزًا عليهِ، أو كطفل أصغر قليلاً ينعي كسر لعبته المفضلة بشدة!
انزوى بعيدًا على طرف الفراش ضامًا ركبتيهِ لصدره، وهو يهزي لذاته بعدة كلماته لم تستمع لها، ولكن مظهره كان كفيلاً بأن يفطر قلبها على وحيدها، حاولت معه مرة أخرى لتهون عليهِ الأمر، ولكنها لم تكن تعلم بأنها ستزيد الأمر سوءًا:
_ حبيبي أنتَ لسه صغير، طبيعي تزعل عشان صاحبتك المفضلة بعدت عنك، بس اكيد هتصاحب ناس تانية وهتبقى هي مجرد ذكرى جميلة من طفولتك، بلاش تعمل في نفسك كده.
انتفض جسدها حين علىَ صوته بشكل لم يكن مألوفًا أبدًا أن تراه بكل هذا الغضب والعصبية، وهو يقذف بالوسادة الصغيرة بعيدًا بمهمجية بحتة، وصاح بها:
_ مش عاوز غيرها.. أنا بكرهه، هو السبب.. لأ انا السبب.. هي مشيت بسببي.
ردد الأخيرة للمرة الثانية التي يذكر فيها أنه السبب لأمر مجهول تجهله، قطبت حاجبيها مستغربة وقد تجاهلت الأمر للمرة الأولى ولكن لن تستطيع تجاهله ثانيًة:
_ ليه بتقول كده؟ أنتَ عملت ايه عشان تكون السبب؟
هدأت عصبيته على الفور وهو يستمع لسؤال والدته المباغت له، ابتلع ريقه بتردد وبدأ التوتر يداهمه، لكنه ردد بضيق زافرًا أنفاسه بملل وهو يتجه لنافذة غرفته ينظر منها لتسقط عيناه على تلك الغرفة المنفردة التي تحتل جانب الحديقة حيثُ كانت تسكن، فغادره التوتر وسكن الحزن عيناه وهو يردد بغصة بكاء:
_ ماما لو سمحتِ سبيني لوحدي.
حاولت الحديث لكنها توقفت حين شعرت بأنه من الأصوب الآن أن تتركه بمفرده، ليس لديها حديث آخر تقوله وهو لا يتقبل من الأساس، إذًا فلتترك له مساحته علَّه يهدأ.
لذا انسحبت بهدوء حتى أنه لم يشعر بها وهي ترميهِ بنظرات حزينة على حاله، طفلها الذي رغم صغر سنه لم يشهد أيامًا جيدة، دومًا يعاني وهي كالعادة تقف عاجزة.
انسدلت دمعة وحيدة من إحدى عيناه وأنظاره مسلطه على الغرفة، ليردد لسانه بعتابٍ:
_ ليه مشيتي؟ أنتِ بالزات مكنش ينفع تمشي.
وقد صدقَ حينها، وأثبتت الأيام تاليًا، أن ذهابها كان إيذانًا لتحرير الشيطان من محبسه…
———————
_ خديجة تعالي سلمي على عمك وابنه.
خرجت على صوت والدها الذي علىَ يناديها لتبصر عمها “منصور” الذي يرتدي جلبابًا تقليديًا وعمامة، وبجواره طفل لا بل مراهق في السادسة عشر من عمره “باهر” تعلمه جيدًا فقد رأته مرتان مسبقًا، يرتدي جلباب يشبه لجلباب أبيه لكن تخلى عن العمامة ليظهر خصلاته السوداء الغزيرة، ببشرته القمحية التي اكتسبت قمحيتها من طبيعة الجو الحار هنا عكس القاهرة، اقتربت بخطوات بطيئة بعدما تخلت عن ثيابها القاهرية كما يسمونها، خلعت عنها بنطالها وكنزتها وارتدت جلباب نسائي كحلي اللون بهِ نقوش سوداء صغيرة، وشعرها جمعته في جديلة بدت جميلة حقًا، هتفت بهدوء وهي تمد يدها لتصافح عمها:
_ ازيك يا عمي.
اجتذبها لعناق حار منهُ وهو يقول بلهجته الأصلية:
_ كيفك يا بت اخوي؟
ابتعدت وهي تغمغم مبتسمة:
_ الحمد لله.
تشعر بالراحة تجاه عمها “منصور” بالكثير من الراحة، على عكس عمتها “سُرية” التي ما إن تراها حتى تشعر بانقباض في قلبها لا تعلم سببه، والأخرى لم تتخلى عن لهجتها الحادة وقسوتها في الحديث معها، انتبهت لصوت يقول:
_ كيفك يابت عمي..
حولت بصرها ل “باهر” الذي يبتسم باتساع وهو يلقي تحيته عليها، لا تعلم لِمَ لكنها تشعر بالخجل منه ولا تستطيع التحدث معه كثيرًا، فأجفلت بنظرها وهي تردد بخفوت على استحياء:
_ الحمد لله.
_ لازمًا تعلم البنته لغتنا لاحسن الخلج هنا يتمجلطوا (يتريقوا) عليها بحديتها ده.
هذا ما قاله عمها ليجيبه “محمود” بهدوء بلهجته الأم:
_ من جبل ما تجول ياخوي انا ناوي على اكده، الجعدة مطولة مهياش يومين وماشيين، هعلمها كل حاجة هنا متجلجش.
صاح “منصور” بجدية:
_ وزي ما جولتلك الشغل موجود في المعلف بتاعنا، وعهد الله ما هسمح تراجع كلامي، وه معمليش حساب ولا ايه يا ابو سارة ده انا اخوك الكبير يا جدع! تشتغل عند الغرب وملك اخوك موجود!
أردف بحديثه حين رأى الاعتراض باديًا على وجه “محمود”، ليستسلم الأخير لرغبة أخيه وهو يقول:
_ خلاص الي تشوفه ياخوي مجدرش اراجعك، جولي في مدرسة اهنه اجدم فيها لخديجة.
تحمست “خديجة” لرد عمها الذي قال:
_ اومال، فيه طبعًا، المدرسة الي فيها ابراهيم ولدي مانت خابر إنه اكبر من خديجة بسنتين.
اومئ “محمود” وهو يقول:
_ خابر، يعني ينفع نجدم لخديجة فيها، انا جبت ورجها من المدرسة الي في مصر.
ربط “منصور” على قدم أخيه وهو يقول:
_ متحملش هم، هاتلي الورج وانا هجدملها ومن بعد بكرة تروح المدرسة ويا ولد عمها ابراهيم وبت عمتها فريال.
تنهد “محمود” براحة لقضاء الأمر وهو يقول:
_ عيشت ياخوي.
وشردت “خديجة” وهي ترى حياتها تأخذ مسارًا جديدًا، بلدة أخرى، إناس آخرون، مدرسة جديدة، وصُحبة جديدة، ولكن هل ستجد من يحل محل “مراد”!؟ ولا تعلم لِمَ حين خطر هذا ببالها وجدت عيناها ترتفع تلقائيًا لتقع على “باهر” الذي بالصدفة ينظر لها، تشعر وكأنه بطريقة ما يذكرها بمراد!؟ تبًا لكِ خديجة وهل وجدتِ البديل بهذه السرعة!!؟
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)