روايات

رواية بك أحيا الفصل الثامن 8 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الفصل الثامن 8 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الجزء الثامن

رواية بك أحيا البارت الثامن

رواية بك أحيا الحلقة الثامنة

الفصل الثامن.. (تضاد)
“التضاد هو كل شيء وعكسه.. والشيء هنا كان بدايتها لحياة جديدة، وعكسه كان نهاية حياته هو، فمن حيث بدأت هي انتهى هو”
“الشخص يعتاد بصعوبة على غياب شيء كان يومًا دائمًا بين يديهِ، ويكن الأمر في بداية الغياب أشبه بانسحاب المخدر من عروق مدمن لسنوات، ماذا إن كان هذا الشيء شخص؟! شخص لم يفارقك لحظة، شخص كنت ضامنًا وجوده الدائم، شخص كظل شجرة في يوم حار كلفحة النيران، وفجأة تتعرى من هذا الظل لتقف في لسعة الشمس الحارقة، هي كانت ظله.. كانت مؤنسه.. كانت.. اللعنة لقد كانت كل شيء له كيف رحلت بهذه البساطة!؟ والمحفز لسبها أنها كانت تعلم مكانتها لديه، ولم تأبه بأي هذا! يا لها من قاسية القلب! منذُ رحلت ولم تشرق شمس يومه، لم يرى ضيّ لطريقة المعتم، منذُ رحلت وهو كالأعمى الذي فقد بصره فجأة فأخذ يتخبط بين جنبات الطرق دون أن يهتدي لطريق مستقيم، ولا يعلم أسيظل يتخبط حتى يفقد طاقته فيستسلم حتى تزهق روحه.. أم سيجدها قبل هذا! ويعود بصره! ”
خرجت من منزلها بخطى مرتجفة ودقات قلب متسارعة، لجهلها بما هي مقبلة عليه، جهلها للمكان والشخصيات التي ستضطر للتعامل معها يثير ذعرها، كأول مرة ذهبت بها لمدرستها القديمة، ولكن حينها كان لديها مراد.. كانت تعلم انها ما إن تعود ستجد من تسرد عليهِ أحداث يومها وتخبره بحيرتها حيال من قابلتهم فيوجهها بفطنته كونه الأكبر والأكثر خبرة لتعلم من منهم ستستمر علاقتها معه ومن منهم ستقطع أي طريق يصلها بهِ، والأهم سيزول التوتر ورهبة اليوم عنها ما إن تسرد ما حدث بهِ، وهنا لا يوجد مراد.. وربما هذا حمل آخر يثقل كاهليها ويفقدها الشغف في تجربة تلك الحياة الجديدة.
_ يلا يا خديجة متأخرين.
انتبهت لصوت “باهر” الذي علىَ بهذه الكلمات لتنظر له باستغراب لوجوده فهو ليس من سنهم ليذهب معهم، ومدرسته سمعت من حديث والدها أمس أنها فترة مسائية، وأنها ستذهب مع الصغيران “ابراهيم و فريال”، ابراهيم.. الواقف بجوار “باهر” شقيقه الأكبر.. لا تعلم لِمَ،لكنها لم تستثغه يومًا.. تشعر بحاجز ما بينهما يجعلها تنفر من المعاملة معه، أما فريال التي تماثلها في العمر فإلى حدًا ما علاقتهما طيبة من خلال المرات القليلة التي تقابلا فيها..
_ واجفة اكده عندك ليه؟
للمرة الثانية أخرجها” باهر” من شرودها لتحرك رأسها بلا معنى، وهي تقترب منهم قائلة بخفوت:
_صباح الخير.
رأت “ابراهيم” يشيح برأسه للجهة الأخرى بنزق ولم يرد، بينما تولا “فريال” و “باهر” الرد، وقالت “فريال” بابتسامة هادئة:
_ مبسوطة إنك هتبجي معانا في المدرسة.
أهدتها “خديجة” ابتسامة بالكاد تُرى وتحركت معهم دون حديث آخر.
تشعر بالتوتر بشكل يرهقها، تشعر وكأنها ذاهبة لتلقي ذاتها في حفرة عميقة ربما لا تستطيع الخروج منها، ليت” مراد” هنا ليخفف توترها هذا، تتذكر أنه فعلها في أول يوم دراسي لها، حين خرجت من الغرفة الخاصة بهم وجدته أمامها يشد من أزرها ويدعمها بعدة كلمات هدأت كثيرًا من توترها، وانهى مهمته بقبضته علي كفها بحنو وهو يخبرها أن تتحلى بالثقة في ذاتها والشجاعة كي لا يشعر الآخرين بتوترها وخوفها فيستهزأون بها ويستغلون هذا أسوء استغلال، وطبعًا لم يذكر فرضًا أن تقابل أشخاص جيدين يتمتعون بنفس صفاتها الجيدة، وهذا لأنه “مراد” ذو النظرة السودوية للجميع عداها هي ووالدته.
وفي خضم تفكيرها وتذكرها لموقف “مراد” معه، كان يجاورها في السير “باهر” متأخران عن البقية، وحين لاحظ شرودها وقلقها البادي، كان يهمس لها:
_ متقلقيش.
انتبهت لصوته لتنظر له بادراك أنه يحدثها، لكن لم تسمع ما قاله، فسألته بهدوء:
_ نعم؟
ابتسم ابتسامة بدت دافئة لحد غريب! وهو يقول معيدًا:
_ بقولك متقلقيش.. حاسك قلقانة بسبب المدرسة وكده فقلت اطمنك.
رمشت بعيناها عدة مرات مما آثار ضحكه على معالمها المصدومة، لكنها لم تأبه وهي تردد بذهول:
_ أنتَ بتتكلم زيي!
أجابها بضحكة:
_ قصدك قاهري يعني؟
اومأت بإيجاب، ليتنهد مهدئًا ضحكاته قبل أن يقول بتوضيح:
_ انا كل اجازة بروح القاهرة اعيش مع ماما هناك.
قطبت حاجبيها بدهشة وهي تسأله:
_ يعني ايه؟ هي مامتكوا سايبه عمو وعايشة في القاهرة؟!
نفى برأسه موضحًا:
_ أمي انا بس.. لكن ام ابراهيم هنا.
توقفت عن السير بصدمة وهي تسأله:
_ هو انتوا مش من نفس الأم!؟
ابتسم متفهمًا صدمتها ثم قال بتنبيه:
_ ممكن نمشي طيب عشان نلحق المدرسة وهجاوبك.
انتبهت لوقوفها لتكمل سيرها معه والفضول يتآكلها حول معرفة قصته، ولم يتركها لفضولها كثيرًا حين قال:
_ بابا اتجوز ماما من سنين كتيره، بس مفضلوش مع بعض كتير هو تقريبًا سنتين واطلقوا، وبعدها ماما رجعت القاهرة لأنها أصلاً من هناك.. وبعد شوية بابا اتجوز أم ابراهيم وخلفوا ابراهيم، من وقت ما كبرت يعني من بعد ما تميت السبع سنين كده وماما رجعت اتواصلت مع بابا وطلبت انها تشوفني، واقعد معاها كذا شهر في السنة، بس فبقيت بروح اقضي معاها الاجازة وارجع على ميعاد الدراسة.
اومأت بتفهم وهي تستغرب كون شيء كهذا لم يذكر أمامها ابدًا من قبل، هزت رأسها بلامبالة لأفكارها وهي تسأله بفضول أكبر:
_ ومامتك لما بتروح لها بتعاملك كويس؟
صمت وطال صمته لعدة ثواني ربما، قبل أن تستمع تنهيدة قوية خرجت منه وهو يجيبها حائرًا:
_ والله مش عارف.. اوقات بتكون كويسة، واوقات بحسها متضايقة من وجودي او مش فارق معاها.. مش عارف.
وبتفكير يكبرها كانت تهتف بفطنة:
_ اعتقد لو مش حابه وجودك مكانتش هتطلب من باباك تقعد معاها.
نظر لها بدهشة لحديثها، فقد ظن أنها لم تفهم معظم حديثه من الأساس، وإن فهمت لن تستطيع تفهم معاناته بين والدين منفصلين منذ أعوام مضت، هو لم يراهما معًا في مكان ما، لم يجتمعا سويًا منذ وعى قليلاً وأصبح مدركًا لِمَ حوله، لكنها فاجئته بحديثها الذي ينم عن عقل متفتح واعي لا يخضع لسن معين!
عاد بنظره للأمام وهو يشعر بذاته ينجذب أكثر تجاه تلك الصغيرة بلا سبب، يشعر وكأنه واقفًا على حافة بئر عميق يثيره ما يراه فيهِ من بعيد، ليظل يقترب منه دون شعور منجذبًا بسحره، حتى يدرك فجأة نفسه وهو إما على حافة البئر إما واقعًا بهِ بالفعل! والغريب أنه يشعر بقربه من البئر ولا يمانع، وكأنه يرحب بالسقوط بهِ!
– معاكِ حق.
هذا ما أردف بهِ مؤيدًا حديثها، لتباغته بسؤال آخر وهي تسأله:
_ طيب وطنط مامت ابراهيم كويسة معاك!؟
يعجبه كونها انجذبت للحديث معه حتى وإن كان الأمر من باب الارضاء لفضولها، فيكفي أنه وجد طريقًا يجمعهما سويًا من أول يوم لها في البلدة.
_ حقيقي من اطيب الناس الي ممكن تعرفيهم، وكويسة اوي معايا، ومعتبراني ابنها.
ارتاحت لإجابته فقد ظنت انه يلاقي الويلات منها كما يحدث مع “مراد” من والده دومًا، مراد! ترى ما حاله الآن؟ وماذا سيفعل مع ذلك المتجبر والده بعد رحيلها؟ تعلم أن وجودها كان يشكل معه فارقًا كبيرًا، كانت تهون عليهِ ما يلاقه، فماذا بعد رحيلها؟
_ روحتي فين؟
وهل شردت بهِ مرة أخرى؟! انتبهت ل”باهر” لتهز رأسها بيأس يبدو أنها ستسبح بعقلها كثيرًا مع ولد وهدان من الآن وصاعدًا!
_ مفيش، طيب ليه مبتتكلمش باللهجة دي دايمًا!؟
أجابها موضحًا وعيناه تستقر على بوابة المدرسة :
_ قدام بابا لأ، عشان بيتضايق وبيحس إن وجودي مع ماما ممكن يخليني اتخلى عن لهجتي والي هو بيعلمهولي واكون شبه القاهريين.. وبابا شايف إني كده مش هبقى الراجل الي هو عاوزه، طبعًا هي وجهة نظر مش صح لأن الراجل مش بلهجته، بس ده تفكير بابا بقى، فبريح دماغي ودايمًا قدامه بتكلم بالصعيدي… ابراهيم، فريال.. تعالوا.
رفع صوته مناديًا عليهما بعدما أبصرهما واقفان أمام بوابة المدرسة من الداخل، فخرجا وذهبا لهما ليقول “باهر” بتنبيه:
_ خدوا بالكم من خديجة، ودايمًا تكونِ معاها يا فريال لاحسن يجرالها حاجة وهي لسة متعرفش المكان ولا الخلج.. وانتَ يا ابراهيم في الفسحة ابجى طُل عليهم شوفهم زنيين ولا لأ.
ضجرَ “ابراهيم” وهو يستمع لوصايا أخيهِ ليهتف بنزق:
_ به! هتتخطف اياك! دي مدرسة ماحناش داخلين عربخانة خبر ايه يا باهر متعجدهاش اكده!
احتدت ملامح “باهر” وهو يهتف:
_ دي بت عمك، وغريبه عيب عليك لما تهملها لحالها.
سخر مما يسمعه وهو يقول:
_ حاضر.. ههمل حصصي ودروسي واجعد احرس الهانم.
وهنا لم تستطع “خديجة” الصمت وتحمل كلماته، فانطلقت تنهره:
_ أنت بتتكلم كده ليه؟ انا اصلاً مش عاوزه منك حاجة ومش محتاجاك بس متتكلمش عني بالطريقة دي.
وهمَ “ابراهيم” برد وقح على حديثها وطريقتها التي اثارت استفزازه، لكن تدخل “باهر” مهدئًا الوضع:
_ اهدي يا خديجة متزعليش منه، مخه طاجج ميعرفش بيجول ايه… وأنتَ اسمع الكلام من سكات احسن ماابوك يعرف ويتصرف هو معاك.
ابتسم باستفزاز وهو يقول:
_ ابويا لو عرف مش هيجولي همل دروسك واجعد احرس بت عمك.
_ بس هيجولك متناطحش اخوك والي يجوله يتسمع من سكات.
تأفأف بضيق وهو يدرك صدق حديث “باهر” فوالده دائمًا ما يحذره من أن يرد لأخيهِ الأكبر كلمة،و لابد أن يحدثه بأدب، وألا يرفع صوته أمامه، وأن يعتبره في مقامه تمامًا.. هذه هي وصايا “منصور” له تجاه “باهر”.
لذا بلع لسانه كما يقولون وهو يسبقهم بخطواته لداخل المدرسة ووجهه عبارة عن كتلة دماء من فرط غيظه.
التفت “باهر” ل “خديجة” قائلاً:
_ متحطيهوش في بالك، هو ابراهيم دايمًا كده من ناحية البنات عمومًا.. المهم مش هقدر ادخل معاكِ المدرسة عشان أنا اعدادي مش هيسمحولي، بس فريال اهي معاكِ لو حصل اي حاجة… متقلقيش ها.
قال الأخيرة ورأت هي في عينه نظرة طمئنتها تلقائيًا، فوجدت نفسها تبتسم وهي تقول:
– متقلقش عليَّ.
تحركت مع “فريال” تحت نظراته المهتمة بها، لا يعلم سببًا بالتحديد لكن تلك الفتاة شغلت حيزًا من تفكيره منذُ رآها أول مرة منذُ ثلاث سنوات حين قرر والدها ببدأ زياراته السنوية لبلدته وأهله، حينها وجد ذاته تعلق بها بشكل غير مفهوم رغم وجود من هي أكبر سنًا “سارة” الشقيقة الراحلة، لكنها لم تنجح في جذب اهتمامه كما فعلت الأخرى، ولا يعلم ما جذبه لها، ربما هدوئها، ربما تلك البراءة المنبعثة من وجهها، أو صفاء عيناها! لا يعلم حقًا، والادهى أنه يجهل ما يريده منها وبأي صفة يريدها في حياته غير كونها ابنة عمه… لكن للآن سيتخذها صديقة لحين أقوال أخرى.
———————–
لم يبرح من غرفته منذُ الأمس، لم يذهب لمدرسته اليوم، ولم يجيب والدته حين دقت على بابه أكثر من مرة تطلب منه الخروج كي يتناول افطاره حتى، لم يفعل شيء من الأساس منذُ أمس غير انه يجلس أمام نافذته ونظره يتنقل بين الغرفة التي كانت تسكنها و حوض الزهور حيث معظم ذكرياتهما، قلبه يؤلم بشدة، ومهما كان فهو مازال صغيرًا على تحمل هذا الألم، لا يستوعب عقله ذهابها، وينتظر أن تظهر أمامه بين فنية وأخرى، “خديجة” لا يمكنها الذهاب، “خديجة” كانت شخصًا ضامنًا لوجوده ما حيا، “خديجة” و “مراد” اسمان لجسدان لا يمكن أن ينفصلا، فكيف انفصلا بحق الله!! كيف حدث هذا! تبًا لكل شيء وأولهم هي.. كيف لم تخبره بذهابها سلفًا، يقسم أنه كان سيقيم الدنيا ويقعدها على أن تذهب معهم، حتى وإن اضطر لفعل أي شيء لا يتصوره عقل لتبقى كان سيفعله.
دمعة ليست الأولى ولن تكن الأخيرة زينت وجنته وعيناه شاردة في الفراغ، رغم تسلطها على حوض الزهور لكنه يرى ذكرى قريبة كانت تجمعهما، الأمس فقط كانا يجلسان هنا، كانت تضحك له وتسايره في حديثه عن نزهتهما، كيف لم يلاحظ عليها شيء! ولِمَ لم تخبره؟ هل أرادت الفرار؟ هل كان رغبتها بعد ما حدث لشقيقتها؟ هل خشته من يومها ولم تظهر ذلك؟
– غبية.. كنتِ قوليلي إنك خوفتِ، وانا اطمنك، كنتِ احكيلي عن افكارك الغبية الي بتيجي في تفكيرك عني وانا اقولك إني مستحيل أأذيكِ، مستحيل اعمل في يوم فيكِ زي ما عملت فيها، كنت هقولك إني عندي استعداد اخسر روحي عشانك.. مكنش ينفع تمشي من غير ما تعرفيني، مكنش ده اتفاقنا يا ديجا.
كان يتحدث بصوت مبحوح، ودموع عرفت طريقها جيدًا، وربما إن نظرت لعيناه لوجدت انعكاسًا لصورتها من كثرة ما يتخيلها أمامه حتى بات يحدثها بعتاب عما يجوب صدره تجاه فعلتها.
دق وأخرى أقوى أصابا باب غرفته، ولكنه كالعادة لم يهتم بعدما أغلق الباب من الداخل بالمفتاح كي يمنع من ما كان من الدخول، حتى والدته كان يستمع لحديثها ومناجتها له كي يفتح لها الباب، لكنه لم يتحرك أنشًا واحدًا من مكانه، لم يبدو عليهِ النية للتحرك أساسًا.
ولكن تلك الدقة هذه المرة مختلفة، اعنف ربما! ولكنه لم يهتم حتى.. حتى بعدما استمع لصوت والده من خلف الباب ليفهم الآن سر عنف الدقة:
_ افتح الباب يا مراد.
وتكرر الطلب بفتحه للباب ثلاث مرات وهو لم يتحرك من موضعه لفتح الباب، بل حين قام بعد المرة الثالثة كان ينوي التسطح فوق فراشه والتدثر بغطاءه غير عابئًا بما يحدث في الخارج.. ولكن ما حدث لم يتوقعه أحد.. فخطوة، واثنان، والثالثة كان يسقط فوق وجهة مفترشًا الأرضية بجسده دون شعور منه.
بالخارج استشاط “حسن” غضبًا من أفعال ولده وخاصًة اغلاقه للباب وعدم استجابته لندائته، هدر بغضب وهو ينظر ل”ليلى” الجالسة فوق كرسيها بجواره، “ليلى” التي لم تتحرك من محلها منذُ عدة ساعات وهي تجلس هكذا امام باب الصغير على أمل أن يرق قلبه لوهلة ويفتح لها الباب لتطمئن عليهِ وتؤازره ولعنة نفسها أكثر من مرة على غباءها الذي جعلها تتركه بالأمس انصياعًا لرغبته:
_ عاجبك الي ابنك بيعمله ده! وكل ده عشان مين؟ بنت الخدامة! مش دي الي حذرتك منها من سنين وقولتي ده تعلق عيال!؟
التقطت أنفاسها من بين بكاءها الذي لم يتوقف وهي تقول:
_ حرام عليك بقى ده وقته! شوف الولد الأول الي مبيردش ده وبعدين قول الي انت عاوزه..
زفر ولعن بضيق من بين أنفاسه الثائره قبل أن يسحب كرسيها للخلف عدة سنتيمترات ويبدأ بدفع الباب بجسده بقوة حتى فُتح بعد المرة الرابعة..
ومع فتحه ودلوفهما عدة خطوات للداخل كانت صرخة “ليلى” تدوي وهي ترى جسد ولدها ممدد أرضًا على وجهه بلا حراك كأن الحياة فارقته..!!!
__________________
جذبت الغطاء عليهِ بحزن ودموعها لم تجف، تنظر لوجهه الشاحب وكفه الذي اتصل بهِ محلول مغذي، منذُ ذهاب الطبيب الذي أخبرهم بكون الاغماء راجعًا لامتناعه عن الطعام والشراب لعدة ساعات طويلة تخطت الثلاثين ساعة فلم يتحمل جسده الضعيف هذا فانخفض دمه وحدث هبوط في الدوره الدموية، تجلس هكذا تنظر له بحسرة وعجز، ليتها لم تترك الصغيرة تذهب، لم تكن تعلم أن ولدها متعلق بها لهذا الشكل، لم تتخيل أن تكون هذه حالته بسبب رحيلها!
_ بكره ليَّ كلام تاني معاه.
انتبهت لجملة “حسن” الواقف بقرب الفراش من الجهة الأخرى، لترفع نظرها له وهي تقول بضعف:
_ أرجوك بلاش، هو مش ناقص ولا حِمل قسوتك عليه.
وهنا ابتسم ابتسامة لم تفهم معناها وهو يقول ببرود:
_ مين قالك إني هقسى عليه! بالعكس، انا بس لازم افوقه من الي هو فيه ده قبل ما يحصله حاجه، ولا عاجبك وضعه كده!؟
هزت رأسها برفض وهي تعود بنظرها للصغير واجلت حلقها لتقول:
_ مش عاجبني، بس مش في ايدي حاجة اعملها، ياريتني اقدر ارجعهاله.
لوى فمه متهكمًا وهو يسمع جملتها، ليردف بسخرية مبطنة:
_ لا ارتاحي أنتِ انا هحل الموضوع.
رفعت عينيها له مرة أخرى، لا تأمن شره، وتشعر بقلبها يدق بصخب ينبأها بالشر القادم، لكن ما باليد حيلة.. فهي لن تتحمل الوضع الذي بهِ صغيرها وإن كان بيده حلاً فليفعل، وهي ستكون له بالمرصاد إن شعرت بشره يحوم حول ولدها.
—————–
اوائل فبراير لعام ٢٠١٥….
_ تؤمري بحاجة تانية يا مدام؟
تسائلت بها تلك العاملة التي انتهت من رص اطباق الطعام فوق الطاولة الفخمة التي تحتل منتصف الغرفة، لتنظر السيدة للطعام برضا قبل أن تقول بينما يدها تعدل من نظارتها الطبية:
_ تمام يا سلوى، روحي انتِ.
صوت خطوات تقترب منها ودون ان تلتفت كانت تدرك هوية صاحبها الذي صدح صوته يقول:
_ مراد لسه مجاش؟
لوت فمها ساخرًة وهي تجيبه:
_ بتسألني انا عنه؟ المفروض أنتَ اكتر حد عارف اخباره.
جلس فوق مقعدة الذي يترأس الطاولة وهو يقول ببرود:
_ وده عشان؟
احتدت نظراتها وتلونت حدقتيها بالكره وهي تردف:
_ عشان مهو بقى تحت باطك وبقى بينكم اسرار معرفش عنها حاجة، عشان مانجحت تعمل الي انت عاوزه يا حسن وللأسف مقدرتش ابعده عن شرك.
رفع حاجبيهِ بملل وهو يعقب:
_ كام مرة سألتيه عن طبيعة الشغل الي بيشتغله معايا ويقولك انه بيشتغل تبع الشركة الي فتحتها من خمس سنين، شركة استيراد معدات السيارات وتجميعها في مصانعنا، ولا أنتِ فاكرة هو دخل كلية الهندسة ليه؟ واقولك حاجة لو مش مصدقاه قوليله انت تعرف ان ابوك كان شغال مع المافيا؟ شوفي هيقولك ايه!
ردد الاخيرة بخبث لتطالعه باستهزاء وهي تردف:
_ اولاً انا واثقه انك لسه في شغلك المقرف ده، بس للاسف ماباليد حيلة، ثانيًا انتَ عارف اني مش هسأله عشان لو فعلاً ميعرفش معرفوش و**** ابوه.
ضحك ببرود وهو يقول:
_ الله يسامحك، سايبك تغلطي ومبكلمكيش اهو لاحسن ابنك مفكر اني ممكن اكلك ولا حاجه وكل شوية يحذرني اني اضايقك.
ابتسمت بهدوء وهو تعقب:
_ متقدرش تعملي حاجه اصلاً عشان ابني الي بتتكلم عليه ده مش هيسمحلك تقربلي.
صوت صرير عالي لسيارة اصطفت خارج الفيلا قطع حديثهما، لتهز رأسها بيأس وهي تغمغم:
_ مش هيبطل تهور.. أنا مش قولتلك كلمه على طريقة سواقته المتهورة دي؟
نظر لها بجانب عيناه وهو يشرع في الطعام مرددًا:
_ وانا مالي، مش هو حبيب القلب الي بيدافع عن امه قوليله أنتِ بقى.
زفرت بضيق وهي تبعد عيناها عنه ناظره لمدخل الباب منتظرة دلوف فلذة كبدها.
بالخارج اطفئ محرك السيارة ونزع سترته بارهاق، لقد كان يومًا مليئًا بالاعمال المرهقة، رفع كفه يمرر اصابعه بين خصلاته السوداء الغزيرة والتي تساقط بعدها فوق جبهته، وارجع رأسه للخلف ساندًا اياها على ظهر المقعد، مغمضًا عيناه لثواني، ثواني فقط ثم فتح عيناه ليظهر خضار عيناه.. لا زرقتهما.. ربما خليط بينهما!، عدل مرآة السيارة التي تقع في المنتصف لينظر لوجهه جيدًا، يتفحصه حتى وجد مبتغاه.. بقعة دماء حقيرة كصاحبها تقع على جانب صدغه الأيسر، التقط منشفة ورقية مزيلاً اياها بمعالم مشمئزه وما إن انتهى حتى تمتم بشفتيهِ الغليظتان قليلاً:
_ مش ناقصين ليلى هانم تقفشنا.
تأكد للمرة الأخيرة من نظافة وجهه ومرر اصابعه على لحيته الخفيفة، قبل أن يترجل من السيارة ليظهر طوله الفارع لشاب في مثل سنه الذي بلغ العشرين منذُ عدة اشهر قليلة، وجسده الرياضي بتقسيماته وعضلاته الواضحه وبالطبع الراجعة لممارسته لمعظم الرياضات العنيفة والاساس ( الملاكمة والكاراتية)، بخطوات واثقة وهادئة كان يدق الأرض الصلبة بحذائه الكلاسيكي الأسود اللامع، ووضع سترته السوداء على ذراعه المعضل، يسير بخيلاء تليق بهِ تمامًا!..
حتى… حتى توقف فجأة وهو يشعر بأن صدره يضيق بهِ، يشعر بألم غريب في قلبه وانفاسه بالكاد يلتقطها.. شحب وجهه وهو يستند على حافة الباب بذراعه يحاول التقاط انفاسه، ورفع كفه الآخر يمسد صدره باختناق.. قطب حاجبيهِ مستغربًا حالته لثواني قبل أن تتسع عيناه بذعر وهو يردد بأنفاس ذاهبة:
_ خديجة!!
حتمًا “خديجة” بها شيء، هذا الشعور شعر بهِ قبلاً حين مرضت مرة وحين سقطت من فوق الدراجة مرة أخرى وكُسرت قدمها… ولكن في تلك المرات كانت بجواره وهدأ قلبه حين علم مصابها، لكن هذه المرة الله وحده أعلم بما أصابها!
————
وعلى بعد الكثير والكثير من الكيلومترات كانت صرخاتها تتعالى لتشق سكون الليل الموحش، دموعها أشبهت نهرًا جارٍ، قلبها تكاد تتقطع أنياطه من فرط ألمها.. صرخات وصرخات وهمهمات غير مفهومة هو كل ما يصدر من تلك المسكينة، البائسة..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى