رواية بك أحيا الفصل الخامس عشر 15 بقلم ناهد خالد
رواية بك أحيا الجزء الخامس عشر
رواية بك أحيا البارت الخامس عشر
رواية بك أحيا الحلقة الخامسة عشر
الفصل الخامس عشر “رُدت روحي”
“وروحي الغائبة رُدت إليّ في اللحظة التي شعرَ فيها قلبي بكِ، والسكينة سكنت جسدي في الوهلة التي انعكست فيها صورتك في مقلتيّ، روحي وسكينتي ومسكني أنتِ، وكل معنى للراحة مرتبط بذِكر اسم واحد ” خديجة” ”
مراد وهدان…
____________________
بعد عشرة دقائق….
اتبعها بسيارته دون أن تنتبه, سار خلفها بتروي وهو يشبع نظره من النظر لظهرها بعدما حرمته من وجهها سريعًا, تمنى لو يتوقف الزمن ويتمعن النظر لمعالمها أكثر, يشبع قدرًا قليلاً من اشتياقه منها, ولكن الزمن لم يتوقف ولم تتوقف هي أكثر, ففور أن أخرجت هاتفها حتى تحركت في طريقها وهي تتحدث بالهاتف لدقيقتان بالتمام, وهو تحرك بسيارته يتبعها وقلبه يسبقه, وربما مازال لا يصدق أنها باتت مثالاً حي يتجسد أمامه وليست مجرد خيالات لصورتها تأتي في عقله, لم تعد مجرد ذكرى بلا باتت واقعًا ملموسًا! هل انتهى ركضه أخيرًا؟ هل انقضى مضمار السباق وظهر خط النهاية؟ مؤكد أنها ليست نهاية لطريقه إليها ولكن على الأقل قد قطع الشوط الأول ألا وهو البحث عنها!
وعند “خديجة”….
بعدما نزلت من العمارة وجدت هاتفها يرن فوقفت لتخرجه, ونظرت لشاشته لترى المتصل فوجدته “باهر”, فتحت المكالمة وهي تكمل سيرها وابتسامة بسيطة زينت ثغرها:
– بهبوري وحشتني والله.
استمعت لهمس خافت منه لم تفسره لكنها أدركت أنه سبّاب, فضحكت بمرح ووصلت ضحكتها له ليقول حانقًا:
– أنتِ يا بت أنتِ مش هتبطلي الدلع الزفت ده؟
استمرت في ضحكها حتى توقفت وهي تسأله ببراءة مصطنعة:
– بهبوري وحش؟ وحتى لو وحش عاجبني وبيضحكني.
أنهت جملتها بلامبالاة وعاودت الضحك, ليبتسم تلقائيًا لضحكها قبل أن يتنهد باستسلام مقرًا:
– مفيش فايدة أنا عارف, المهم عاملة ايه يا عملي الأسود.
اتسعت ابتسامتها على ذلك اللقب الذي أطلقه عليها مؤخرًا وهي تجيبه:
– الحمد لله, أنتَ اخبارك ايه طمني عليك؟
كانت تتوقع إجابته من قبل أن يقولها حتى, وبالفعل استمعت له يقول:
– سيبك مني, قوليلي الواد مصطفى عامل معاكِ ايه؟ والدنيا معاكوا تمام؟ خديجة مش هفكرك تاني لو احتاجتوا أي حاجة عرفيني.
اختفت ابتسامتها, والتمعت عيناها بالدموع من ضيق حالها الذي ذكَرها بهِ دون قصد, هذه ليست ثاني مرة يعرض عليها المساعدة ربما إنها المرة المائة, فكل مكالمة بينهما يذكرها بأنه موجود إن احتاجت مساعدته, حتى أنه بعد وفاة والدها بشهر وجدته بعث لها بعض الأموال في البريد وطلب منها الذهاب لاستلامهم, لكنها رفضت بشدة وتعنتت مؤكده أنها ليست بحاجة لهم, ورغم غضبه منها حتى أنه بقى لأسبوع بعدها رافضًا الحديث معها ولا يجيب على مكالمتها علّها تغير رأيها, ولكنه وجدها ذات رأس صلد كباقي عائلتها, فسحب أمواله مرة أخرى مجبرًا, ابتلعت تلك الغصة التي بحلقها, وتحدثت بنبرة واثقة لم تُظهر بها اهتزاز مشاعرها:
– يا حبيبي صدقني احنا كويسين وحالتنا كويسة مش محتاجين حاجة أبدًا, ده انا حتى رايحة اجيب لنا بيتزا النهاردة قلت اروق على الواد محمود شوية.
زفر بضيق وهو يخبرها:
– والله يا بت أنتِ أنا مش مرتاحلك, في اقرب إجازة ليَّ هكون عندك يكون في علمك.
قطبت حاجيبها بتوتر ثم هدأت ذاتها وهي تهتف بضحكة مصطنعة:
– يا عم ده أنتَ طالع عينك, يدوب بتروح تلحق تنام بالعافية, قولي يا بهبوري هو مفيش دكتور غيرك في المستشفى ولا هم مستعبدينك؟ ولا يكونش ماسكين عليك زِلة يعني عملية خسعت فيها كده ولا كده!؟
استمعت لصوته الساخر وهو يقول:
– ايه يا بت الخِفة دي؟ بعدين أي الالفاظ دي, خسعت ويكونش! أنتِ شغالة عند دكتور ولا شغالة في مجزر! بعدين مش عيب يا جزمة تغلطي في أخوكِ الكبير!
ابتسم ثغرها بعاطفية وهي تغمغم:
– معاك حق, سوري يا كبير, وبالمناسبة بقى مش ناوي تُفك عقدتك وتتجوز؟ على الأقل تلاقي حد يونسك في الغربة.
استمعت لضحكته وهو يقول مرددًا كلمتها:
– غربة! ما علينا، أنتِ لسه قايلة بلحق انام بالعافية, هتجوزها اعمل بيها ايه بقى؟
أجابته بجدية:
– باهر أنتَ الي ضاغط نفسك في الشغل زيادة عشان عاوز توصل لمكانة معينة, وده كويس بس بلاش ييجي على حياتك الشخصية, يا حبيبي أنتَ دلوقتي أنسب وقت تبدأ تفكر فيه تكون أسرة وتستقر, مانت أكيد مش هتعرف البنت النهاردة تتجوزها بكرة, لسة فترة خطوبة وحوار هيكون يدوب, ولا هتستنى لما تلاقي الشغل سحلك ونساك حياتك الشخصية؟ متخليش حاجة تيجي على التانية.
– والله أنا مش رافض, يعني وقت ما هلاقي حد مناسب هدخل برجلي اليمين على طول متقلقيش, بس بما إني لسه ملقتش حد مناسب يبقى اركز في شغلي بقى.
أومأت برأسها بتفهم وكأنه يراها, وهي تعقب:
– ربنا يوفقك يارب وإن شاء الله تلاقي بنت الحلال قريب.
– طيب هكلمك بعدين يا ديدي, محتاجني تحت.
– ماشي , يلا مع السلامة.
– مع السلامة.
أغلقت الهاتف وهي تبصر محل الفلافل الذي اقتربت منه, فابتسمت بسخرية مؤلمة وهي تتذكر ما أخبرت بهِ “باهر” عن طعام غدائهم اليوم, فها هي البيتزا التي ستأتي بها! تنهدت بعمق وهي تردد بأعين لامعة بحزن وكسرة:
– يا رب فرجك.
دلفت لمحل الفلافل والفول لتأتي بالطعام لهم على قدر ما تملكه من مال, وانتهت خارجة وهي تحمل كيسة صغيرة بيدها, وأكملت الطريق سيرًا رغم طوله, فهي ليست حِمل تكاليف زائدة أجرة سيارة تصلها للمنزل, ربما لن تكلفها في المرة قيمة الثلاث جنيهات ولكن على مدار الشهر ستكلفها ما يعادل التسعون جنيهًا, ومن الأولى أن توفرهم لشيء أهم, ربما أهم من قدماها التي تتعب من المسير كل هذه المسافة! بعد فترة وصلت للحي الذي تسكن بهِ فدلفت لأحد المحلات, بدى مطعمًا لم تستمر بهِ لثلاث دقائق, ثم خرجت.
ترك سيارته على مدخل الحي الذي دلفت بهِ وترجل متبعًا إياها بتروي كي لا يلفت نظرها, وقف مستغربًا حين رآها تدلف لمطعم مرة أخرى, لقد أتت بطعام بالفعل أستأتي بآخر!؟ ولكن سرعان ما وجدها تخرج دون شيء جديد في يدها فأثار الأمر تساؤله أكثر, لكنه أتبعها كي يصل معها لنهاية طريقها, ولم يفته أبدًا سيرها ذلك الطريق الطويل الذي أخذ منها قرابة الساعة إلا ربع سيرًا, بعد عدة خطوات وجدها تدلف لمكتبة ما, فوقف بجوار حائط المكتبة منتظرًا خروجها.
بالداخل, دلفت بابتسامة طفيفة بدت متوترة وظهر الارتباك جليًا على وجهها وهي تهتف:
– السلام عليكم.
التفت الشاب الذي كان يرتب الكتب على الأرفف ليمتعض وجهه قليلاً قبل أن يجيبها:
– وعليكم السلام, اتفضلي يا أنسة خديجة.
اذردت ريقها وهي تقول بهدوء:
– لو سمحت يا أستاذ جمال عاوزه كتب ال……
أملته أسماء الكتب التي تريدها, فجلبها لها ووقف ينتظر أن تقاضيه, فتنحنحت بارتباك قبل أن تسأله:
– كده حسابهم كام؟
التقط الآلة الحاسبة وبدأ في جمع سعرهم وما إن انتهى حتى قال:
– كده كلهم 170.
قضمت شفتها السفلى بارتباك وقالت برجاء خفي:
– طب, بستأذنك يعني لو ينفع تضيفهم للحساب وهجيبهملك آخر الشهر.
زفر بصوت مسموع وهو يشيح بوجهه جانبًا وقال بصوت مرتفع قليلاً وقد بدى نزقه:
– استغفر الله العظيم, يا أنسة خديجة كده هيبقى كتير, مانتِ عليكِ خمسين جنية قديمة, يعني أنتِ أخر الشهر هتجبيلي 220! ولا هتيجي تقوليلي خد ويبقالك!؟
فركت كفيها بتوتر, وشعرت بأنفاسها تختنق في صدرها جراء الانكسار الذي تشعر بهِ, عزة نفسها تعلو فوق كل شيء لديها ولكن أحيانًا تجبرنا الحياة على التنازل كي تستمر!
– معلش يعني إن شاء الله هجبيهملك, أنا أصلاً ممكن اشتغل في المطعم الي على أول الشعر, وإن شاء الله هجيبلك الفلوس كلها.
جذب كيسة كبيرة بعصبية ووضع الكتب بها, ثم مررها لها وهو يقول بملامح مقطبة:
– اتفضلي, رغم إني هاخد كلمتين من ابويا بس أمري لله.
التقطتها منه بدموع غزت عيناها, ولوهلة ندمت على رفضها مساعدة “باهر” لكنها تعلم أن “باهر” إن ساعدها مرة لن تكون الأخيرة, وستشعر بالانكسار أمامه هو الأخرى, ربما انكسارها أمام الغريب أهون!
خرجت من المكتبة ووجهها لم يفارق الأرض, تخشى أن رفعت عيناها تجد الجميع ينظر لها بشفقة وكأنهم شهدوا الحديث الذي دار منذ قليل! ظلت هكذا حتى تخطت بيتان والبيت الثالث كان بيتها فدلفت له برأسها المنخفضة أرضًا.
هل تعلم الجحيم؟ بالطبع تعلمه, ولكن هل رأيته؟ إن نظرت لأعين “مراد” الآن لوجدته مستعرًا بعينيهِ, بعدما استمعَ لِمَ حدثَ بالداخل, لم يحتاج أن يعرف حالتها المادية وما تعانيه بعد ما استمعَ إلي حديثها مع ذلك ال**** كما نعته منذُ قليل, كيف استطاع أن يكسر بخاطرها ويصعب الموقف عليها أكثر هكذا؟ كيف استطاع أن ينظر لعينيها الوديعتين ويرفض رجائها هكذا!؟ عيناها التي لو نظرت له بهما بنظرة عادية لتنازل عن حياته لها بصدر رحب! منع ذاته بالكاد من الدلوف لذلك المخنث وهدم مكتبته فوق رأسه, وألهم نفسه الصبر مفكرًا فيما خطط له بلحظة, تحرك مبتعدًا وأخرج هاتفه وهو يتحدث بهِ للرجل المكلف بمراقبتها هو ورجاله:
– اسمع يا مينا , في ظرف 24 ساعة تجبلي كل معلومة عنها مهما كانت صغيرة, وفي مطعم على ناصية الحي تعرفلي مين صاحبه, وفي أقل من 24 ساعة يبقى باسمي فاهم؟
– أمرك يا باشا.
أغلق الهاتف بعدما استمعَ لرده, وضغط على أسنانه بقوة محاولاً تحمل كل هذه الآلام التي تضرب بقلبه وهو يتذكر نبرة الرجاء المنكسرة التي تحدثت بها, دون رؤية وجهها يعلم جيدًا كيف كانت عيناها وهي تعبر عن انكسارها وحزنها, يعلم كم الألم الذي تشعر بهِ الآن بعد هذا الموقف السخيف والذي من الواضح لا تتعرض له لأول مرة, وبكم الألم الذي يسكنها يسكن قلبه الآن!
———————–
وضعت الكتب أمامه وهي تقول بملامح واجمة:
– اتفضل يا أستاذ مصطفى كتبك اهي, مطلوب مني حاجة تانية؟
نظر لها ليرى حزنها منه, فنهض واقفًا واقترب منها محتضنًا إياها بمرح وهو يقول:
– ايه يا ديدي, أنتِ زعلانة بجد بقى! هي يعني اول مرة اتغابي في كلامي؟ أنتِ عارفة أخوكِ مدب متزعليش مني.
نظرت له بجانب عيناها وقد تجمعت الدموع بهما مرة أخرى وقالت بعتابٍ:
– أنا بزعل من إنك بتحسسني إني مبعملش حاجه عشانك, بتحسسني إن بعد تعبي ده كله في ايدي حاجة زيادة معملتهاش!.
أردف بصدق:
– والله مش قصدي, بس يا خديجة ايد لوحدها متصقفش, قولتلك مية مرة أنزل اشتغل في الفرن الي جنبنا وأنتِ مبترضيش!
ابتعدت عنه لتواجهه وهي تهتف ببكاء:
– قولتلك لأ, مش هخليك تقصر في دراستك عشان شغل, كفاية إني مش هكمل تعليمي مش هبقى أنا وأنتَ.
رفع حاجبيهِ مندهشًا وسألها:
– ايه ده ليه؟ يعني ايه مش هتكملي أنتِ بتهزري؟
مسحت دموعها بكفها والتقطت أنفاسها وهي تقول بقهر:
– ظروفنا متسمحش, وأنا يمكن اشتغل بليل في المطعم الي على أول الحي, والنهار بروح العيادة, هجيب وقت للكلية منين؟ غير كلية يعني مصاريف كتب ومواصلات, الموضوع مش متحمل.
هز رأسه رافضًا قرارها وأبدى اعتراضه وهو يقول:
– مفيش الكلام ده, هتروحي الكلية وانا هنزل اشتغل في…
قاطعته بحدة قليلاً ما تتقمسها:
– أنا كلامي منتهي, مفيش مجال للمجادلة, هدخل اغير هدومي واجي نتغدى.
انهت حديثها واتجهت لغرفتها لكنها توقفت على باباها والتفت له تخبره بتحذير:
– باهر لو عرف حاجة عن الكلية هتزعل مني يا مصطفى.
انهت حديثها ودلفت للغرفة مغلقة الباب خلفها, فالقى الكتاب الذي بيده على الأرض بغضب وهو يتمتم:
– باهر! هو انا لو عارف اتواصل معاه كان ده حالنا! على طول هي الي بتكلمه وحتى ممعيش تليفون, دي عيشة تزهق, وقال شاطرة احنا كويسين كويسين لحد ما هنروح نقف على باب الجمعية الخيرية إن شاء الله.
غمغم بها بنزق وهو يفتح أكياس الطعام ليبدأ بوضعه في الاطباق حتى تأتي شقيقته.
وبالداخل القت نفسها على الفراش وسمحت لدموعها بالتهاوي كسيل جارف، تبكي بقهرة على كل شيء، على حلمها في التعليم الذي تحطم باكرًا بعدما حصدت مجموع قضى على ذلك الحلم، وعلى حرمانها من الحصول على شهادة جامعية الآن، تبكي كسرتها أمام من لا يسوي، تبكي قلة حيلتها وعجزها وضيق حالها وهل بيدها سوى البكاء!
” البكاء ليس حلاً لكنه وسيلة ضعيفة أثبتت فاعليتها في تخفيف أحزانًا ولو بقدر قليل، نغلق بابنا خلفنا ونبكي خلفه لدقائق او ساعات نخرج كل مشاعرنا السلبية، نصرخ ونثور، وبعدها نخرج للعالم اقوياء من جديد”
_________________________
بسوهاج….
إن قلنا الأرض لا تسعها فهي ليست مبالغة أبدًا, فمنذُ علمت بأنها قد انتسبت لكلية الأسنان جامعة القاهرة وهي تكاد تطير فرحًا, حتى أن خالها “منصور” لم يتوقف عن الضحك عليها طوال الطريق, التفت له وهي تقول بحماس كبير وابتسامة واسعة:
– يعني هروح القاهرة يا خالي؟ بس تفتكر أمي هتوافج؟
هز رأسه بيأس حين استمع لجملتها الخافتة الأخيرة وقد بدأ الحزن يتسرب إليها خوفًا من رفض والدتها, فهي دومًا مصدر تحطيم سعادتها, أجابها “منصور” يطمئنها:
– يا بت جولتلك متخافيش, مش واثجة “واثقة” في كلام خالك عاد!؟
نفت برأسها وهي تردف:
– العفو يا خالي مجصديش, بس أصل أمي…
قاطعها وهو يقول:
– أمك لو اتحدتت هشوف شغلي معاها, ملكيش صالح, أنتِ تبدأي تجهزي ورجك وخلاجاتك “هدومك” وكل الي هتحتاجيه, عشان هنتحرك أخر الأسبوع الفجر سامعة؟
أومأت بحماس كبير وهي تجيبه:
– سامعه يا خالي, أنا بحبك جوي.
مسد بكفه على كتفها وهو يبتسم بود:
– وأنا بحبك جوي جوي يا جلب خالك.
——————————–
بالقاهرة…..
في اليوم التالي ظهراً….
ترجل درجات السلم وهو يفرك عيناه بنوم مازال متمكنًا منه, استمع لصوت “ليلى” الذي ما إن أبصرته حتى قالت باستغراب جلي:
– ايه يا مراد كل ده نوم؟ ده انا كنت لسه هطلعلك فكرتك تعبان, لولا إني عرفاك مبتحبش حد يصحيك وبتتحول كنت طلعتلك من زمان.
اقترب منها مبتسمًا وقال بهدوء:
– برتاح يا ماما بلاش ارتاح؟
ضيقت عيناها تنظر له بشك, بهِ شيئًا مختلفًا! عيناه تلمع بطريقة لم تراها من قبل, ملامحه اكثر استرخاءً, ونومه كل هذه المدة, مهلاً هل يبتسم!!؟ سألته بعدما جلس أمامها:
– في حاجة صح؟ أنتَ مش طبيعي.
وضحكته التي انطلقت الآن على حديثها أكدت شكوكها, خفتت ضحكته وهو يردف ببراءة مصطنعة:
– يعني مش طبيعي ازاي؟ مانا كويس اهو.
لوهلة ضرب بعقلها تفسير لحالته هذه, فأردفت بسرعة متلهفة:
– مراد, هو الموضوع يخص خديجة؟
مسد مؤخرة رأسه بكفه وأردف بابتسامة صغيرة وقد لمعت عيناه أكثر الآن:
– مش سهلة أنتِ برضو يا لولة!
ابتسمت بفرحة وهي تنظر للمعة عيناه, وسألته بابتهاج حقيقي:
– عرفت عنها حاجة؟
هز رأسه نافيًا بعبث مصطنع لتختفي ابتسامتها, ولكن سرعان ما اتسعت مرة أخرى حين قال:
– شوفتها, شوفتها يا ماما أخيرًا, تخيلي؟ بعد عشر سنين شوفتها..
ابتسم ابتسامة حالمة ونظر بعيدًا شاردًا بنظره, وهي تتابعه بدموع تساقطت فرحًا وتأثرًا بحديثه:
– ملامحها اتغيرت بس لسه عنيها زي ماهي حتى نفس البراءة الي فيها رغم الحزن الي فيهم, ولسه قلبي بيحس بيها زي زمان, عرفها من قبل عيني ما تعرفها, كان نفسي اجري عليها واحضنها, كان نفسي اروح اعرفها بنفسي واسمع صوتها, كان نفسي في حاجات كتير بس في حاجات اكتر منعتني, بس على الأقل حسيت إن قلبي اتردت فيه الروح من تاني لما عرفت مكانها وشوفتها, جريي ورا سراب بقى حقيقة, السباق خلص ياماما وفزت فيه ولقيتها.
امسكت كفه تحتضنه لينظر لها فوجد الدموع تزين مقلتيها وهي تسأله باستنكار:
– وليه معملتش كل ده؟ ليه مروحتش ليها وعرفتها بيك؟
ابتسم بثبات وهو يجيب بإجابة لا تمت للصدق بصلة:
– مش سهل اروح اعرفها بيَّ كده, يعني تفتكري هي لسه فكراني أصلاً؟ وحتى لو افتكرتني مش هتكون بتحبني يعني! دي ممكن تقولي اهلاً وازيك وكلمتين على الماشي وخلاص, متنسيش انها وقتها كانت اصغر مني بكتير, يعني مش بتحمل نفس مشاعري اكيد.
اقتنعت بحديثه فأومأت برأسها متفهمة ثم سألته بحيرة:
– اومال هتعمل ايه؟
ابتسم لها بهدوء وقال غامزًا بعيناه اليسرى:
– متقلقيش بتكتك لها, بس ادعيلي.
تنهدت براحة مبتسمة وهي تقول:
– ربنا يجمعك بيها على خير يابني, كفاية إن سيرتها بس بتنور وشك كده.
اومئ وهو يتحدث بجدية مرِحة:
– يلا عقبال ما تنور بيتي قريب.
ضحكت والدته على جملته فاتبعها بابتسامته التي جعلتها تحتضنه بفرحة، وهي تشعر أن السعادة تطرق بابا ولدها لأول مرة منذُ زمن.
————————
دقت فوق الباب ودلفت بابتسامة كعادتها, ليسألها “كمال” الجالس خلف مكتبه:
– ها يا خديجة لسه كشوفات؟
نفت وهي تجيبه:
– لا يا دكتور خلاص كده النهاردة.
اومئ برأسه متفهمًا ثم قال:
– لا لسه.
قطبت حاجبيها متسائلة:
– مين؟
ابتسم لها مجيبًا:
– أنتِ, يلا ميعاد جلستك.
فركت كفيها بتوتر وهي تقول متهربة:
– مش مهم النهاردة يا دكتور, شكل حضرتك مرهق خلينا..
قاطعها بحدة وهو يقول:
– لا, قولت يلا يبقى يلا, اقفلي باب العيادة وتعالي.
خرجت لتغلق باب العيادة وهي ترتب أفكارها كي تقول ما تريده فقط, فهي لا تسمح لنفسها بخطأ يجعله يشك بها أو بصدق حديثها, أغلقت الباب والتفت لتقف بملامح جامدة وهي تبصرها أمامها, تبتسم لها نفس الابتسامة المقيتة وهي تسألها بينما يدها تعبث بشعرها:
– ايه يا خديجة بتفكري ازاي تكدبي عليه المرة دي كمان وتوهميه إنك مبقتيش تشوفيني؟ بقالك سنتين بتكدبي مزهقتيش؟ ولا حبتيني لدرجة إنك مش عوزاني اسيبك؟
ابتسمت “خديجة” ابتسامة هادئة وهي تجيبها:
– لا, بس اعتبرتك أمر واقع, واتعودت عليكِ, لدرجة إني بشوفك في أي مكان ومببينش لحد, مبقاش الناس يقولوا عليَّ مجنونة بسببك يا سارة….
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)