رواية استقلال غير مقصود الفصل الثاني 2 بقلم شمس محمد
رواية استقلال غير مقصود الجزء الثاني
رواية استقلال غير مقصود البارت الثاني
رواية استقلال غير مقصود الحلقة الثانية
“استقلالٌ غير مقصودٍ”
“الفصل الثاني_ خطوات الاستقلال”
_ بعض الخطوات نأخذها راغبين ظنًا منا أنها حياة أخرى لنا ثم نتفاجأ أن العيش بها يجعلنا مُرغمين، وربما نُرغم على مالم نرغب به، لكن من منظورٍ آخرٍ فقد سبق وقيل أن هذه الدُنيا ماهي إلا مسرح كبير، ولكل فردٍ منا الدور الخاص به، فإذا أردت أن تقوم بتغيير دورك فأعلم أنك ربما لم تعد ترى الحياة بنفسها نظرتك القديمة، وقد تتحول رغبتك إلى إرغامٍ ليصبح ما كنت تفعله أنتً راغبًا مفروضًا عليكَ وعليه مُرغمًا..
______________________
(2)
ألقت القنبلة عليهن بجملتها دون أن تكترث بهن أو حتى بردود الأفعال، هي فقط رآت الصورة المكتملة للفكرة في عقلها ومن ثم بدأت في تشييد البناء واقعيًا، هي آخذت الصورة الخارجية دون أن تهتم بما يدور باطنيًا، وقد شخصت الأبصار نحوها بسؤالٍ أخرجته الأعين وأضافت هي من جديد بنبرةٍ أدعت فيها الثبات _ولو كان كاذبًا_ وهي تُضيف:
_أنا خدت القرار خلاص، هروح شقتي اللي في الإسكان وهعيش هناك، كدا أحسن ليا علشان الشقة ميحصلش ليها حاجة وتضيع مني، أنا دفعت دم قلبي فيها.
كانت تتحدث بجديةٍ فائقة تخطت الموضوع ذاته، وقد لاحظت ذلك أمها وعليه قررت أن يصبح الحوار أكثر رسمية وجدية لذا أشارت لصغار العائلة قائلةً بإقتضابٍ:
_أدخلوا جوة يا حبايبي أقعدوا في البلكونة بس محدش يبص تحت علشان متقعوش، يلا يا “أميرة” خدي أخواتك يلا وخلي بالك منهم، أوعي حد فيهم يقع.
أشارت لحفيدتها الكُبرى أبنة ابنها وقد انصاعت الفتاة لحديث جدتها وأخذت الصغار وولجت حيث المكان المُشار إليه، وقد التفتت “رجاء” والدة “علياء” لها بكامل جسدها وهي تجلس على الأريكة وسألتها بنبرةٍ محتدة شبه دفاعية:
_عاوزة إيه يا “علياء”؟ سمعيني كدا تاني!!
لاحظت” علياء” إندفاع الأخرى في الحديث فتنهدت بعمقٍ وهتفت بنبرةٍ جامدة وكأنها برمجت الحديث آليًا في عقلها:
_هروح شقتي يا ماما، هروح علشان عاوزة أسكن في مكان هادي ورايق بدل دوشة الشارع هنا والصداع، بعدين على يدك كل ما عريس ييجي يطفش وآخرتها إيه؟ هخليها تخلل من الركنة؟ أنا أولى بيها طالما بدفع فلوسها من شغلي يبقى أمتع نفسي شوية فيها، هستنى إيه يعني؟.
رَمت سؤالها بتهكمٍ صريحٍ جعل والدتها تنتبه لذلك فهتفت بلهفةٍ وكأنها تسترضيها:
_ يا حبيبتي مش إحنا قولنا إن دي للمستقبل؟ شقتك علشان لا قدر الله لو حصل حاجة يبقى ليكِ المكان بتاعك وأموت وأنا متطمنة عليكِ زي ما أتطمنت على أخواتك كلهم، وقولنا إنها حتى لما تتجوزي هتفضل بتاعتك أنتِ علشان بتدفعي من شغلك والمقدم كان من فلوس الجهاز، هتروحي دلوقتي فين؟ استهدي بالله يا “علياء”.
زفرت” علياء” بقوةٍ ثم قالت بنبرةٍ أهدأ:
_ماشي، أنا أهو معاكِ في الكلام، بس إزاي بقى عاوزاني أستنى؟ أنا حياتي كلها شغل وتعب ومرمطة وصداع، العمر عمال يجري بيا وأنا محلك سر يا ماما، عاوزة يكون ليا مكان بتاعي وخاص بيا، أعيش في مكان هادي وماشي مع شخصيتي وطموحي وأنتِ عارفة أني بحب الهدوء وبحب أعيش لوحدي، أنا مش هروح آخر بلاد المسلمين يعني، يدوبك مشوار من هنا لهناك ساعة ونص، والمنطقة هناك أمان، طالما بفلوسي يبقى خليني أتمتع بيها بقى.
هتفت حديثها خلف بعضهِ دون أن تلُق بالًا لكلماتها وأثرها، مما أدى إلى دهشة والدتها حتى توقف الحديث على طرف لسانها، بينما “هـبة” شقيقتها الكُبرى هتفت بنبرةٍ جامدة:
_مينفعش كدا يا “علياء” طريقتك وكلامك غلط، يعني إيه بنت محترمة تسيب بيت أهلها وتعيش لوحدها؟ إحنا لسه موجودين مامُتناش يعني علشان تكوني لوحدك، بعدين أنتِ ضامنة يعني إنك هناك ترتاحي؟ يا ستي لو علينا وعلى زيارتنا خلاص مش هنيجي، بس متحسسيناش إننا هم أوي كدا عليكِ لدرجة إنك تسيبي بيتك يعني.
أنتفضت “علياء” من جلستها وهتفت بنبرةٍ إنفعالية هي الأخرىٰ ردًا على شقيقتها وإن كان حديث الأخرىٰ صحيحًا بدرجةٍ كُبرى:
_أنا خلاص يا “هـبة” خدت القرار، طالما بشتغل وبتعب يبقى حقي أني أعيش زي ما أنا عاوزة وبالطريقة اللي تناسبني، عن إذنكم يا جماعة.
انسحبت من المحيط تختلي بنفسها داخل غرفتها وأغلقت الباب خلفها لكن أكثر من وقع عليها صدمة الحديث كانت أمها التي فكرت لوهلةٍ من هذه التي تعيش معها؟ أين ابنتها الهادئة الصبورة صاحبة القوة والعزمِ؟ أين الأخرى الحكيمة التي كانت تحسب حساب أصغر خطواتها وتقوم بدراسة كل شيءٍ في مُحيطها؟ اليوم تراها تضرب بكل مبادئها عرض الحائط وهي تهرب من الجميع وكأنها أخرى غير التي تربت هنا..
بينما في الداخل فكانت “علياء” تفتش في هاتفها باحثةً عن الموضوع ذاته باستفاضةٍ كُبرىٰ حيث ما أصبح يشغل حيز فكرها ويستولى على أفق عقلها، فكرة الاستقلال عن الأسرة وتنشئة الحياة الخاصة بها هي بعيدًا عن الجميع، إنها لفكرةٍ قد تبدو رائعة ومثمرة لكل من يسعى للنجاح المُستقل، لكن كما قد سبق وقيل أن الأدخنة لن تظهر بدون نيرانٍ وبالطبع لن يحصل الفرد على متعةٍ دون مقابل..
__________________________________
نحن نسير والأيام تسير…
وإذا توقفنا توقف بنا السبيل، نحن والأيام متوازيان والفارق بيننا أنها مهما حدث لن تتوقف عن المسير، على عكسنا نحن مع أول عركلةٍ نترك كل الطرق دون البحث عن الجديد في السبيل…
وصل “قُصي” عمله الثاني أخيرًا لكن علامات الحرج رُسمت على وجهه وهو يقف في مُباشرة زميله في العمل الذي عاتبه بنظراتهِ وهتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_كدا برضه؟ ما أنتَ عارف وأنا قايلك إني مش هينفع أتأخر وقاعد مكانك وهما عاوزني جوة في المطبخ أخلص فواتير قبل ما أمشي يا “قُصي”.
هتف حديثه وهو يترك المقعد الخاص بطاولة دفع الحساب وقد جلس”قُـصي” بدلًا عنه وهتف بنبرةٍ منهكة وهو يعتذر من الآخر عما فعله وتسبب فيه للآخر:
_حقك على راسي يا “طلعت” بس المشوار صعب أوي من هناك لحد هنا شكلي كدا هجيب الموتوسيكل وأتحرك بيه، معلش بس كان لازم أروح أحط حاجتي هناك زي ما عرفتك.
أشفق زميله عليه وهتف بنبرةٍ هادئة يقدر بها حالته وتفهمه للوضع:
_ياعم وحد الله متزعلش نفسك بهزر معاك، بعدين بصراحة يعني يا “قُـصي” أنتَ غبي ومتزعلش مني، فيه حد يسيب بيته علشان حد؟ “فريد” طول عمره ماشي بدماغه، وعمره ما فكر غير في نفسه، وكل مرة تشيل الطين أنتَ، طيبتك معاه هتاكل في حقك أنا أهو قولتلك.
زفر “قُـصي” مُطولًا وهتف بنبرةٍ شبه حائرة وكأنه يتحدث عن قلة حيلته قائلًا:
_أنتَ عارفني عزيز النفس يا “طلعت” ومقبلش حد يكون ليه خير عليا، ومقبلش حد مني يتذل، هو غبي مش فاهم، بس أنا بقى مش زيه، عيلة مراته لسانهم طويل وقطهم جمل، يعني لو راح قعد هناك هيتقال بنصرف عليه وعلى عياله، رغم إنه مش هيقبل حد يصرف عليه حتى لو جنيه وهيردوا عشرة، بس هما بقى عالم لكاكة ولسانهم طويل، وأنا مش هقبل إن عيال أخويا وأخويا يتذلوا بلقمة، ربك يسهلها من عنده.
مسح الآخر على كتفهِ وتركه ودلف إلى الداخل بينما “قُصي” انتبه لإقتراب بعض الزبائن منه فاعتدل جالسًا ثم بدأ في تشغيل ماكينة الدفع “الكاشير” وبدأ ينخرط في العمل هاربًا من الضغوط التي تُحيط به ولا سيما أن هناك بعض الأشخاص يأتي الخير بحضورهم، وها قد أتى الخير بقدومه حيث انتهاء الحصة التعليمية في أحد المراكز التعليمية الخاصة بالمرحلة الثانوية ثم بدأ توافد الطُلاب إلى المطعم ومنه بدأ الزحام يَعُج بالمكان..
في شقة والدته “صفية”..
جلست تراقب ابنها الكبير إبان مخابرته الهاتفية مع أحد أشقاء زوجته ثم حركت رأسها نحو”نيرة” زوجته وسألتها ساخرةً بتهكمٍ:
_هو أنتِ يا “نيرة” أخواتك معرفوكيش إن حاجة زي دي ممكن تحصل؟ مفكرتيش يعني إن ممكن الأمور توصل لكدا وتبقى مصيبة للكل وتضيع كل حاجة منكم؟ ولا كان لازم نبص للي عند غيرنا ونتمنى زيه حتى لو بالتعب؟ راضية كد يعني؟.
قلبت الأخرى عينيها بمللٍ وهتفت بنبرةٍ محتدة بعض الشيء:
_لأ يا طنط محدش قالي، و “رؤوف” أخويا قالي إن الموضوع هيتلم إن شاء الله قريب ومحدش هيخسر حاجة، وإذا كان على قعادنا هنا هو فترة مؤقتة بس لحد ما نرسى على بر، أظن يعني إحنا مش عند حد غريب، دا بيت حمايا الله يرحمه وفي مقام عمي تمام.
كعادتها تتعامل مع الأمر ببرودٍ لا مُتناهي حيث ما تريده هي يصير وفقًا لهواها، رغباتها تحدث حتى وإن كانت رغمًا عما يريده الآخرون، لكنها ولدت فتاة مُدللة، ثم زوجة مُتصابية ثم أمٍ أنانية تريد ما يملكه الغير، وقد شعرت حماتها بالضيق منها وقبل أن تُجابه بالحديث معها أتى “مروان” حفيدها يطلب منها بنبرةٍ طفولية:
_تيتة أنا جعان وعاوز بطاطس محمرة، ممكن؟.
صدق من قال “أعز الوِلد ولد الولد” فهاهي أمام الصغير تناست حزنها وضيقها وحاوطت شطري وجهه وهتفت بحنوٍ بالغٍ:
_عيوني يا حبيب تيتة، أنا مقشراها ليك ويدوبك هحمرها هما ١٠ دقايق بس، روح شوف أخواتك لو حد منهم ياكل معاك علشان أعمل حسابهم هما ماكلوش كويس.
ركض الصغير من المكان نحو غرفة الفتيات اللاتي بدأت أعمارهم في طور المُراهقة حيث المرحلة الإعدادية، وكانت الكبيرة في الصف الثالث والثانية في الصف الأول، لذا قرر “قُـصي” أن يترك لهما الحرية حتى لا يكون عائقًا في المكان مُقدرًا هذه المرحلة العمرية، وهذا تحديدًا ما يُميز عقله الراجح حيث نظرته للمستقبل وتقديره لكل من حوله كما يقدر نفسه.
وقفت “صفية” بالمطبخ تقوم بتشغيل الموقد الغازي وقد تذكرت ابنها الثاني الذي من المؤكد أنه نسى تناول الطعام وخاصةً أنه رحل دون أن يأكل في البيت هُنا، وحينها أخرجت هاتفها تطلب رقمه وقد جاوبها هو سريعًا بقوله:
_أيوة يا أمي؟ خير يا حبيبتي فيه حاجة؟.
كانت ستندفع وتوبخه لأنها متيقنة من إهماله لكن لُطف رده وحنوه الظاهر في كلماته جعلاها تتراجع عن ذلك وهتفت بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_لأ يا حبيبي أنا كنت بكلمك علشان أقولك كُل ومتنساش نفسك، وبفكرك إنك مش هتيجي على هنا، يعني تاكل لو بتحبني ومتقلقنيش عليك، أنا على أخري أصلًا منهم ومن البيه الكبير، بس أنا ساكتة بس علشان كفاية اللي هو فيه.
زفر “قُـصي” بيأسٍ تزامنًا مع انفراج شفتيه عن بعضهما ببسمةٍ يائسة هي الأخرى ثم أوصاها قبل أن يعود لعمله من جديد:
_طب أنا هقفل علشان المكان زحمة، بس علشان خاطري أصبري الكام يوم دول، علشان نفسية العيال بس أكيد كل حاجة ملخبطة معاهم، ووعد والله بين الشغلين هاجي آكل معاكِ، وياريت تتلاشي “نيرة” ردودها باردة وأنتِ مبتتحمليش، استحملي يا “صـافي”.
مازحها بجملته الأخيرة مما جعل الضحكة الواسعة تشق وجهها وظهر صداها في أذنهِ ثم ودعها وأغلق المكالمة معها وعاد بتركيزه إلى العمل من جديد يدون طلبات العملاء ثم يناولهم إيصال الطلبات، في حقيقة الأمر هذا العمل بالغ الصعوبةِ ويحتاج لدقةٍ فائقة وهو هُنا يجاهد لكي يُكمل عمله حتى الواحدة صباحًا..
شاب مثله أختار أن يكون مُكافحًا لا يعرف سبل الإنهزام ولا يسير مُنصاعًا خلف حُجة الظروف، هو واعي بما يكفي لكي يقلب الظروف بأكملها في صفهِ ثم يطالع نفسه برضا تام لكونه لم يكن كما القطيع في الغاب، يكافح ويعمل بكدٍ وإجتهادٍ والنتيجة مهما كانت تُرضيه.
في شقة” صفية” استمع “فريد” لمخابرتها الخلوية مع شقيقه و قد أنتظر إلى أن أنهت المُكالمة ثم ولج يجاورها أمام الموقد الغازي وهتف بنبرةٍ مُعاتبةٍ:
_كدا يا ماما؟ وأنا اللي قولت إنك هتفرحي إننا هنقعد معاكِ هنا؟ ماكنتش أعرف أني متقل عليكِ أوي كدا، تحبي نمشي دلوقتي؟.
سألها بنبرةٍ حزينة منكسرة جعلتها تلتفت له تطالعه بجمودٍ وهي تقول مشيرة بحديثها إلى ماضٍ سبق:
_هو دا اللي فهمته؟ يا أخي أنا سبحانه اللي مصبرني عليك، أنا اللي مزعلني هو حالك، إنك بتضيع كل حاجة من إيدك كدا وماشي وراها، يا أخي لو دا حب يغور في ستين داهية، بسببها وبسبب غيرتها من اللي حواليها أخوك مترمط أهو، وبسببها برضه شقا عمرك بيضيع في شقة كان عندك زيها، وبسببها وبسبب أخواتها مساعدتش أخوك يفتح المحل اللي كان عاوزه رغم إنها كانت فرصة ليه، بس إزاي؟ تروح ترمي تحويشة عمرك في حجرهم وأخوك ابن ستين في سبعين، ويا حبة عيني مترمط من هنا لهنا ومن شغل لشغل وساكت، رغم إنه مكسور منك بس عمره ما قالها، وأهو برضه لما وقعت جيت هنا هو زي كل مرة شال خاطرك فوق راسه وفضلك أنتَ وعيالك على نفسه.
كان حديثها بالرغم من هدوء نبرته إلا إنه خرج قاسيًا لحدٍ جعله عاجزًا عن الرد أو حتى تولي دور الدفاع بمرافعةٍ تنصفه، هو فقط ألتزم الصمت والتفت إلى الخارج يهرب من سلطتها على كشفهِ أمام نفسه، بينما هي أستغفرت ربها سرًا ثم عادت لما تفعل.
__________________________________
بعد مرور أسبوعٍ…
أنهت “علياء” حزم أمتعتها الخاصة بها في غرفتها بيت والدها، وقد فرغت الغُرفة من الأثاث حينما قامت هي بجلب العمال الخاصين بفك الآثاث وتم إنزاله في سيارة النقل لتذهب إلى شقتها…
لقد عاشت طوال الأسبوع المُنصرم في نقاشات مُحتدة وجدالات صعبة، لقد حاول الجميع على إقناعها بالتراجع ظنًا منهم أنها رُبما تكون فقط مجرد تهديدات وليس إلا، أو ربما هي مجرد أفكارٍ نالت إعجابها، لكنها صمدت وصممت خاصةً بعدما ساهمت عدة عوامل في توغل الفكرة داخل رأسها، منها المقاطع المُصورة من قبل الفتيات على مواقع التواصل الاجتماعي وكثرة أحاديثهن عن متعة الاستقلال والحديث عن مميزاته ومساهمة هذا الاستقلال المزعوم في الحصول على النجاح، ثم حديث رفيقتها وحياتها التي أنقلبت رأسًا على عقبٍ من بعد الحصول على هذا الاستقلال..
عوامل عدة ساهمت في إصرارها وتمسكها بما تريد وعليه بدأت في أخذ خطوات الاستقلال، حتى أنها لم تكترث لحديث شقيقها الذي يعمل بإحدى الدول الخليجية حيث المال الوفير والعمل المتوافر، وكونه يعمل بالخارج فقد رآى العديد من الفتيات يسعون إلى هذا الاستقلال المزعوم وعليه فكان مُحايدًا بعض الشيء وهو يعلم أن هذه الشقة أتت بأموالها الخاصة لذا أحترم رغبتها مُقررًا في نفسه أنها إن لم تفعل هذا الشيء خلال هذه الأيام من المؤكد ستفعله في أي وقتٍ..
خرجت من غرفتها تحمل حقيبتها الكبرى الخاصة بأشيائها الخاصة ووصلت إلى صالة الشقة لتجد أمها ترمقها بحزنٍ نطقته عيناها على ابنتها التي لم تحترم أي رغباتٍ في هذا المكان، وقد وقفت “علياء” في مواجهة والدتها التي أطاحت برأسها بعيدًا عنها حتى لا تلتقي النظرات ببعضها وتضطر آسفةً إلى أخذ سُبل اللين معها، فيما نطقت “علياء” بنبرةٍ أوضحت الحزن في صوتها:
_ ماما أنا مش عاوزاكي تزعلي مني بس أنا والله نفسي أجرب إحساس إني مرتاحة، وعاوزة أعيش الحياة اللي نفسي فيها، مش عاوزة أسيبك، بس أوعدك إني مش هغيب كتير وهاجي هنا علطول، بس ينفع أسلم عليكِ قبل ما أمشي؟.
زفرت “رجاء” بقوةٍ كأنها تُعطيها الجواب بهذه الطريقة أنها ترفض هذا الشيء وأمام صراع المشاعر التي تملكها الأم ربحت هذه المشاعر وظهر اللين على وجهها حينما أقتربت “علياء” منها تعانقها وهي تودعها قبل أن تبتعد عنها ويصدر منها نظرة واحدة توجهها لوالدتها التي نزلت دموعها وهي تراقب إنسحاب ابنتها من الشقة وقد بدا خروجها أشبه بخروج المياه من بين قبضتي اليدين، لكن هما حدث لن تبقى المياه في القبضتين، ولا تُكمل القبضتين في الحفاظ على مياهٍ أرادت الانسلات لمكانٍ أخرٍ…
خرجت “علياء” من البيت أخيرًا دون أن تُغلق الباب كُليًا، هي فقط واربته قبل أن يتم غلقه بالمزلاج، وكأنها إشارة أن العودة تحتاج إلى أبوابٍ مفتوحة وليست مغلقة، بينما أمها هوى جسدها على الأريكةِ وظهر بكاؤها كونها قصرت في آداء مُهمتها وهي الحفاظ على ابنتها من بعد وفاة زوجها..
نزلت “علياء” من البيت وولجت سيارة الأجرة بعدما ساعدها سائق السيارة في وضع الحقائب داخل السيارة وجلست هي بجوار الحقيبة الصغيرة ثم أنتظرت تحرك السيارة من أمام بيتها، وكأنها طائرٌ يختبر الحُريةِ لمرته الأولى بعدما تحرر من سياج القفص الحديدي المُحكم عليه، علىٰ الرغم أن هذه السياج لم تكن محكمة الخناق عليها لكنها شعرت بمذاق الحُرية أخيرًا.
عصفورٌ تم إطلاق سراحه خارج حدود قفضه لمرته الأولى وكأن الجميع ينتظر سماع صوت حريته، كانت تراقب الطريق بعينين آملتين في النقاء بما هي مُقدمة عليه، حياة جديدة تنتظرها وقد أختارتها هي طواعيةً منها، وشارفت على تحقيق مُرداها أخيرًا، وبعد مرور بعض الوقت توقفت سيارة الأجرة أخيرًا عند بنايتها الجديدة في مدينة أكتوبر..
ترجلت من السيارةِ بحماسٍ بالغٍ وأنزلت حاجتها منها وهي تطالع البناية التي أُضيئت وجهتها ليلًا بإضاءات الزينة وكأن الحوائط ترحب بها وباستقبالها، وعليه قررت أن تخطو داخل البيت الجديد بسعادةٍ لكن حارس العقار أوقفها وهو يستنبط هويتها فقالت هي معرفة عن نفسها بقولها:
_أنا آنسة “علياء الدهبي” شقتي فوق في الدور الخامس.
راقبها الحارس متفحصًا وما سرق انتباهه هو كلمة “آنسة” وقد أقترب منها يعرض مساعدته عليها في حمل الحقائب عنها وما إن وافقت هي حمل الحقائب وصعد الدرج بينما هي خلفه تراقب المكان بعينيها بانبهارٍ ملحوظٍ، حيث المدخل الرخامي والإضاءات التكميلية، ثم الدرج الرُخامي الواسع، على عكس بيتها القديم الذي ظهر عليه تقدم العمر ومرور الأعوام..
في الأعلى بنفس الطابق الذي استعدت هي للصعود إليه وقف “قُـصي” أمام باب شقته ينتعل حذائه ثم أغلق الباب بكفه الحُر وهو يساند الهاتف بين كتفه ورأسه يحدث والدته قائلًا بنبرةٍ عالية كونها مستمرة في عدم تصديقه أنه سيذهب إليها يتناول معها الغداء ويقضي المتبقي من ساعات عطلته:
_جاي والله جاي، بلبس الكوتشي وهي ساعة بالماكنة وهكون عندك، هو أنا أقدر أتأخر عليكِ يا نور عيني؟ أقلي البتنجان بس لحد ما أجيلك.
أنهى جملته تزامنًا مع إعتداله واقفًا وكاد أن ينزل من على الدرج لكن صعود الحارس أوقفه وجعله يعود للخلف مستندًا على باب شقته وقد حياه العامل قائلًا بودٍ لهذا الشاب الطيب:
_مساء الخير يا أستاذ “قُـصي” جالك جيران أهو.
ابتسم له “قُـصي” وأضاف بودٍ هو الآخر:
_طب الحمدلله، أحسن الشقة الفاضية اللي جنبي دي جابتلي هسهس خلاص، أهو الجار للجار برضه.
أنهى جملته وكاد أن يتحرك وينزل أخيرًا لكن ظهور هذه الفتاة جعله يتوقف ويعود للخلف من جديد بأدبٍ وتقديرٍ لها كونها أنثى بينما هي خطت الباقي نحو باب الشقة ووقفت أمامها تفتح الباب فيما تولى الحارس مهمة التعريف بينهما قائلًا:
_دي الآنسة “علياء” يا أستاذ “قُـصي” جارتك الجديدة وهنا لوحدها، مش هوصيك أعتبرها أختك بقى وربنا يسترها عليكم.
حركت “علياء” رأسها بحدةٍ بالغة نحو الحارس ترمقه شزرًا فيما حرك “قُـصي” رأسه موافقًا بحركةٍ خافتة ثم تمتم بنبرةٍ خفيضة:
_إن شاء الله، عن إذنكم، نورتي العمارة يا آنسة “علياء”.
_شكرًا.
كان هذا هو ردها عليه بنفس النبرة الخافتة فيما تحرك الآخر من أمامها نحو الدرج بعدما شملها بنظرةٍ واحدة يُمعن عينيه بها ثم خرج من البيت بتعجبٍ طفيفٍ لكنه لم يكترث كثيرًا بها بل توجه حيث دراجته النارية ثم ركبها وتحرك من المنطقة يتوجه إلى بيت أمـه، وكأنه مضادٌ لها في كل شيءٍ، حيث يذهب هو إلى حيث أتت هي مجازًا وليس حرفيًا..
في الأعلى أخرجت هي من حقيبتها ورقة مالية أعطتها للحارس ثم أغلقت باب الشقة أخيرًا على نفسها، يبدو أنها تغلق على نفسها قفصًا جديدًا لكنه أحب على قلبها، فإذا كان القفص القديم صُنِعَ من الذهب وهذا صُنِعَ من الفضةِ سيغدو الأحب على قلبها، وها هو العصفور بدأ أول خطوات الحُرية حيث تابعت الشقة بعينيها وهي تبتسم برضا تام حيث جلبت للشقة أثاثًا في قمة التواضع يتناسب مع ميزانيتها والأموال التي كانت تجمعها من عملها وتدخرها بعيدًا عن يديها..
ركضت نحو غرفتها سريعًا وفتحت الإضاءة بها ثم شاشة التلفاز الموضوعة وتنهدت براحةٍ وكأنها حصلت على حُريتها أخيرًا حتى في فعل أبسط الأشياء المعتادة، ظنت أنها ولجت من أبواب النعيم، لكن من يعلم رُبما تكون فتحت على نفسها أبواب الجحيم..
__________________________________
“كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ
الفَتى وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ”
وصل “قُـصي” إلى بيت أمه وأوقف الدراجة أمام مدخل البناية وهو يفكر في العبارة السابقة وكأنها تصفه، نعم تغيب عن بيته وغرفته لمدة أسبوعٍ كاملٍ، لكنه يشتاق للسلام الذي كان يغدقه ولحضن أمه وصوتها حتى وإن كانت تصرخ عليه بسبب الأكواب المجتمعة في غرفته وإهماله في التعامل بأدوات المطبخ، وبعدما قام بتجربة الأيام بدونها علم أن النار بجوارها أحب على قلبه من الجنة مع غيرها..
صعد إلى شقة أمـه فوجد “مروان” ابن شقيقه يركض نحوه مُهللًا برؤيته فحمله بين ذراعيه ولثم جبينه ثم وجنتيه وهو يقول بنبرةٍ مُحبة:
_وحشتني أوي، أتاري البيت منور بيك أنتَ.
ضحك الصغير بسعادةٍ خالصة وطوق عنق عمه الذي دلف به للداخل بعدما تأكد من جلوس زوجة شقيقه بحجاب رأسها ثم ألقى التحية عليها وعلى شقيقه ثم الفتاتين وحرك رأسه يبحث بعينيهِ عن أمـه فهتفت زوجة شقيقه تخبره بمحلها بنبرةٍ لم تكن مُريحةً له:
_طنط جوة لو عاوزها، في المطبخ مستنياك، ماهو أنتَ الغالي برضه.
حرك عينيه نحو شقيقه ثم نحوها هي وتشدق بنزقٍ:
_كلنا غاليين يا “نيرة” بس علشان مش واخدة على غيابي عنها كدا، بعدين يا ستي هي لقمة هتعملهالي آكلها وأمشي.
ابتسمت له باقتضابٍ فيما ترك هو ابن شقيقه ثم دلف لوالدته التي ركضت نحوه تحتضنه ثم مسدت على ظهره وهي تقول بنبرةٍ ملتاعة لأجلهِ وكأنها تعلم وضعه الغير ملائم هناك:
_طمني عليك يا حبيبي، عارف تقعد هناك؟ والله لولا إنك حلفت عليا كنت جيت قعدت معاك وخدت بالي منك، بس أعمل إيه بقى؟ عمرك ما سمعتني، بتنام هناك إزاي؟.
اابتسم بقلة حيلة مُرغمًا على ذلك بعد استماعه لوابل معاتبتها ثم هتف بنبرةٍ بث فيها الإطمئنان لها:
_مش عاوزك تقلقي عليا، أنا بخير وبعرف اتعامل، صحيح نوم الأرض مش أحسن حاجة بس أهو شغال، بس الأكل وكوباية الشاي بتاعتي صعب أوي، كنتي بتشربيها مني إزاي؟ دا هاين عليا أقولك عاوز تُرمس شاي أشرب منه براحتي.
مسدت على إحدى وجنتيه بحنانها المعتاد وكأنها تُخبره عن ترحيبها بما يريد فيما لثم هو جبينها وخرج يجلس بجوار شقيقه ثم سأله بنبرةٍ خفيضة حتى لا يجذب الأنظار نحوه:
_عملت إيه في موضوع شقتك؟ أوعى تكون مكبر دماغك يا “فريد” صدقني مش هينفع، متسكتش عن حقك ولا تتساهل، أوعى في الآخر يشيلوك حاجة مش بتاعتك.
زفر شقيقه ثم هتف يُطمئنه بقولهِ:
_متقلقش، نسايبي بيخلصوا ورق المُصالحة وكلها شوية وكل حاجة هتتحل خلاص، هي بس كام يوم كدا وهمشي، عارف إني تقلت عليك خلاص، بس البيت كله فاضي أحسن القرار يتنفذ في أي وقت، اللي ييجي في الفلوس مش مهم.
حرك رأسه موافقًا بحسرةٍ على حالٍ لم يُعجبه بينما “نـيرة” راقبتهما بعينيها ثم هتفت بثباتٍ وكأنها استشفت الحوار الدائر بينهما:
_متقلقش يا “قُـصي” إن شاء الله كل حاجة هتتحل، بعدين يعني أكيد أخواتي مش هيضروني ولا يتسببوا في حاجة تأذيني، بعدين أخواتي ملهمش ذنب، كتر خيرهم عملوا كدا علشان يبقى ليا حق وشقة زيي زيهم وشوية وهنمشي علشان ترجع بيتك هنا.
انتبه لها وهتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_وأنا متدخلتش في حاجة يا “نـيرة” ولا قولت إن أخواتك ليهم علاقة، أنا همي كله على حق أخويا وعياله، لكن غير كدا أنا مرحب بيكم إن شاء الله تاخدوا عفشكم وتروحوا شقتي، أكيد مش هقبل المرمطة للحمي واللي مني، وعيالك هخاف عليهم زي أبوهم وأكتر، فياريت متقولينيش حاجة مقولتهاش.
تدخل “فريد” يفصل النقاش المحتد بينهما بقولهِ:
_خلاص يا جماعة بالراحة، وعلى فكرة يا “نـيرة” هو قلقه على الفلوس ودم قلبي اللي حطيته في الشقة دي، ومن غيرها هبقى معيش أي حاجة، ودي مصيبة لو الشقة ضاعت، وغير كدا هو متكلمش، كتر خيره قابل المرمطة والبهدلة علشان عيالك، فلو سمحتي قدري الموقف.
أتت “صفية” من الداخل تتحدث بجمودٍ قاسٍ توجه الحديث للكل حتى تنهي هذا الحوار الذي تخطى حدود السخافة المعقولة:
_الأكل جهز خلاص، اتفضلوا علشان تاكلوا وياريت نوقف كلام خالص، ومن هنا لحد ما المشكلة دي تخلص مش عاوزة كلام تاني، متنكدوش علينا بحاجة محدش ليه ذنب فيها، اتفضلوا، وأنتِ يا “نـيرة” ياريت تبطلي حمقة لأهلك شوية وتبطلي تاخدي الكلام من وجهة نظرك الشخصية.
ألقت الحديث عليهم فيما ساد الصمت من الجميع ونكست زوجة ابنها رأسها للأسفل تهرب من نظرات الجميع نحوها بينما زوجها فبدا منقسمًا إلى شطرين كلاهما يسير منصاعًا خلف قوةٍ جاذبة أكبر من قدرته على المقاومة، أمـا “قُـصي” فالتزم الصمت وهو يعلم أن زوجة شقيقه لن تتوانى في تفويت الفُرص لكي تسيء الظنون إليه.
__________________________________
“الحزن مننا لكم،
في قلوبنا أنتم ونحن خارج حدودكم”
جلست “رجاء” والدة “علياء” في شقتها تبكي بحسرةٍ على ابنتها التي ضربت بكل المُخيلات عرض الحائط ولاذت بنفسها هاربةً وكأنها لم تعش بهذا البيت وتترعرع به، تبدو الفرصة كأنها أتت لها على طبقٍ من فِضة، وهي استحسنتها، كيف ستواجه الناس وتواجه الأقارب أن ابنتها استقلت عن الجميع بنفسها وكأنهم عالة عليها؟ كيف ستفسر فعلتها للجميع؟ لأجل تحقيق الواقعية في هذا المجتمع فكما عُرف أنه مجتمع أوراق وشهادات، فهو مجتمع حديثٍ وكلمات!!
كلمات تتراوح بين الألسنةِ ومع كل لسانٍ تحصل على الإضافة التي تُزيد من حدة الموقف وسوء السمعةِ، فهذا يقول وهذا يُحلل وهذا يُفسر وهذا يتكلم دون أن يكلف أحدهم نفسه عناء البحث عن الحقائق وها بدأت سيرتها تتنقل بين ساكني البناية أنها الفتاة التي رحلت وتركت أهلها..
أتت “مُـنى” شقيقة “علياء” التي تكبرها بعامين وجلست بجوار أمها وهي تقول بنبرةٍ هادئة تربت بها فوق قلبها بهذه الكلمات الحنونة:
_يا ماما علشان خاطري متزعليش نفسك، هتيجي تاني والله هي مش هتتحمل القعاد لوحدها، خليها تجرب وبكرة هتيجي لحد عندك، عياطك مش هيرجعها تاني، بتعيطي ليه؟ بعدين الناس اللي بتسأل وتتكلم دي ميعرفوش حاجة، “علياء” طول عمرها عاقلة، خليها تجرب.
التفتت لها والدتها بجانبها لتصبح في مواجهتها وهي تقول بإنفعالٍ نبع عن ألمها النفسي:
_وهو أنا هلف على الناس أدافع عنها؟ هفضل أروح أقولهم بنتي مشيت علشان إيه؟ زهقت مني ولا مش مرتاحة معانا؟ ها يا “مُـنى” ردي عليا؟ إيه اللي يخلي بنت تسيب بيت أهلها إلا إذا كانت عاوزة تدور وتلف براحتها؟ مش دا الكلام اللي هيتقال؟ والاسم إننا كابسين عليها، هتروح تقعد لوحدها والله أعلم بيها وبحالها، مش يمكن المنطقة تكون فيها ناس مؤذية؟ وفي الآخر تمشي كأني ماليش لازمة، وأخوكِ يقولي الموضوع بقى منتشر وكتير بيعملوا كدا؟ كل اللي همه الفلوس وإنها متطلبش منه حاجة؟ يا خيبتي في خلفتي كلها.
صرخت بجملتها الأخيرة فيما فُتِحَ الباب وطَلَّ منه “شادي” زوج ابنتها “مُـنى” ووقف يقول بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_لسه برضه بتعيطي يا أمي؟ والله ما هترجع كدا، أعتبريها تبع الشغل زي ما سافرت قبل كدا وراحت اسكندرية، شوية وهترجع يعني، أقولك؟ مش كنتي بتقولي إن الشقة دي بتاعتها بعد عمر طويل ليكِ؟ وبعدها هي هتروح هناك لو حبت؟ أعتبري إنها بتوضب الشقة بعد الشر عنك يعني، بعدين متنسيش إن دي شقتها بفلوسها اللي بتحرم نفسها من كل حاجة علشانها، يعني حقها برضه إنها تتمتع بفلوسها، متزعليش مني يا أمي، بس هي برضه هتحسبها كدا، أكيد بعد الشغل دا كله وهي قافلة على نفسها لازم تحس إنها من حقها تفرح وتعيش شوية، متزعليش منها بس هي بنت والدنيا دلوقتي اتغيرت عن الأول، أدعيلها ربنا يستر طريقها.
حركت رأسها توميء له بحسرةٍ ثم أغمضت عينيها بينما هو طالع وجه زوجته يشير بعينيه لها حتى تتابع حالة أمها ثم ترحل معه إلى شقتها وحينها زفرت بقوةٍ ثم هزت رأسها توميء له.
في منطقة “أكتوبر”.. بدلت “علياء” ثيابها بأخرى بيتية مريحة كُليًا تكشف الكثير من جسدها وفردت خصلات شعرها وسحبت نفسًا عميقًا وهي تتابع الساعة التي شارفت على الثامنة ليلًا وظلت تفكر فما يمكنها فعله في هذا التوقيت وقبل أن تستغرق الكثير من الوقت وجدت هاتفها يصدح برقم “رنـا” تهاتفها وحينها جاوبت على المكالمة فصاحت الاخرى بحماسٍ صخب:
_إيه يا “مُـزة”؟ أنتِ جاية تقعدي؟ ألبسي أنا تحت بيتك الجديد يلا علشان نخرج مع بعض، ولا أنتِ خارجة من بيت لبيت؟ قومي يـــلا.
ابتسمت الأخرى وأعطتها الموافقة ثم قفزت من فوق الفراش بحرية عصفورٌ رشيق أشرقت شمس صباحه ليصدح صوت غنائه، لكن ربما هذا الصوت قد يؤلمه فيما بعد.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية اضغط على : (رواية استقلال غير مقصود)