روايات

رواية استقلال غير مقصود الفصل الثالث 3 بقلم شمس محمد

رواية استقلال غير مقصود الفصل الثالث 3 بقلم شمس محمد

رواية استقلال غير مقصود الجزء الثالث

رواية استقلال غير مقصود البارت الثالث

استقلال غير مقصود
استقلال غير مقصود

رواية استقلال غير مقصود الحلقة الثالثة

“استقلالٌ غير مقصودٍ”
“الفصل الثالث_ حياة جديدة مستقلة”
_رُبما تُعطى لنا الأقلام لكننا من نُخطيء في حدود الرسم، ورُبما تُكتَبُ لنا الأحلام لكننا من نُبالغ في وصفها، نعم فطرة المرء هي البحث عن الحُرية لكن عند عثوره عليها يُفرط في استخدامها؛ فتنقلب النعمة إلى نقمة وتتحول الهبة إلى. ندبة دائمة الأثر، وموضعها يبقى مُستديمًا.
____________________
(3)
في منطقة السادس من “أكتوبر”.. بدلت “علياء” ثيابها بأخرى بيتية مريحة كُليًا تكشف الكثير من جسدها وفردت خصلات شعرها وسحبت نفسًا عميقًا وهي تتابع الساعة التي شارفت على الثامنةِ ليلًا وظلت تُفكر فيما يمكنها فعله في هذا التوقيت وقبل أن تستغرق الكثير من الوقت وجدت هاتفها يصدح برقم “رنـا” تهاتفها وحينها جاوبت على المكالمة فصاحت الاخرى بحماسٍ صخب:
_إيه يا “مُـزة”؟ أنتِ جاية تقعدي؟ ألبسي أنا تحت بيتك الجديد يلا علشان نخرج مع بعض، ولا أنتِ خارجة من بيت لبيت؟ قومي يـــلا.
ابتسمت الأخرى وأعطتها الموافقة ثم قفزت من فوق الفراش بحرية عصفورٌ رشيق أشرقت شمس صباحه ليصدح صوت غنائه، وعلى الرغم أن حنجرته يمكنها أن تؤلمه لكنه يُصر على أن يُغرد دون أن يدرك أنه يغرد للناسِ الخاطئين، دقائق كانت هي كامل المُدة التي استغرقتها لكي ترتدي ثيابها وحجابها ثم حملت حقيبة خصرها وطلت شفتيها باللون البُني كما تُفضل ثم تحركت من الشقة نحو الأسفل بخطواتٍ متباينة ما بين حماسٍ بالغٍ وبين وقارٍ يليق بشخصها الرزين.
وجدت رفيقتها تقف في مواجهتها فضمت كلتاهما الأخرى ترحب بها فيما نطقت “رنـا” تعتذر منها لكونها لم تعاونها في نقل آخر الأشياء بعدما عاونتها في السابق نظرًا لجلوسها ببيت عائلتها وقضاء يوم العطلة معهم وحينها وصلها رد الأخرى ترفع عنها الحرج بقولها المُتفهم:
_متقوليش كدا يا عبيطة أنتِ، ما أنتِ طول الأسبوع معايا وبتساعديني، بعدين إيـه اللي جابك هنا؟ مش قولتي هتقضي اليوم مع أخواتك ومامتك علشان بكرة الجمعة تلحقوا اليوم مع بعض؟ جيتي ليه وتعبتي نفسك؟.
ابتسمت الأخرى لها وهي تلتفت لكي تخرج من البناية والأخرى تحذو حذوها وتجاورها في سيرها ليصلها جواب الأخرى على سؤالها قائلةً:
_يا ستي روحت وقعدت والعيال كلوا دماغي، وفضلوا يطلبوا يطلبوا بما إني الفاضية فيهم لا عيل ولا تَيل، روحت ماشية بعدما جيبتلهم حاجة حلوة، المهم دلوقتي فيه هنا سوق تجاري، زي مول كبير كدا هنروح نجيب حاجات لشقتك، أكل وحاجات أساسية، بصي ياستي أهم حاجة يكون عندك معلبات كتير، تونة وجبنة ولانشون وأكل سريع علشان بعد كدا الوقت هيمشي بيكِ وترجعي من شغلك تعبانة ومش هتقدري تقفي تجيبي لنفسك كوباية مياه، جو إنك تروحي تلاقي الغدا بيسخن والشاي بيجهز مش هنا يا “علياء”.
تعجبت “علياء” من حديثها لكنها آثرت الصمت فمن المؤكد هي تعلم أكثر منها، بما إنها حصلت على استقلالها منذ ما يقرب السبعة أشهر، وبالطبع تعرضت لكل ما يُكسبها خبرة تجعلها على درايةٍ كافية بهذه الحياة الجديدة، وقد مرت عليهما دقائق تحركا فيها معًا نحو المكان المنشود الذي أشبه بساحة سلعٍ تجارية ومنزلية وكل ما تتتوق إليه النفس البشرية، وقد سارت “علياء” تنتقي ما تفضله من طعامٍ ووجباتٍ سريعة التحضير، وكذلك أتت لنفسها بأشياءٍ تساعدها في عيش الحياة المُرادة حيث الأكواب الزُّجاجيِّة المُغضلة، ومرآة لغرفتها، شموع بأنواعٍ وأشكالٍ مختلفة، طاولة لفراشها صغيرة الحجم تضع عليها الحاسوب الخاص بها، غالبًا ما وجدته رائجًا عبر صفحات التواصل والمقاطع الشهيرة أتت به لنفسها وكأنها تدعمها وتُدللها بذلك…
كانت سعيدة بنفسها وقرارها كونها تُصرف أموالها فيما تُحب دون إيلامٍ من أهلها وشقيقاتها، أو حتى تحصل على نصائح مُملة بشأن إدخار أموالها لكي تكون حصنًا لها مع مرور الزمن عند حاجتها لذلك، وقد لاحظت ذلك صديقتها التي دومًا حديثها يأتي على هواها وكأنها تشبه المندوب الذي يُجمل منتجاته في أعين العُملاء لتنتهي عملية البيع بالقبول من الطرفين وهي تضيف:
_شوفتي بقى ترييح الدماغ؟ تعيشي براحتك وتصرفي براحتك، تهنني نفسك، بلا جواز بلا هم، كلها بتخلص بالمشاكل والقرف اللي هتجبيه لنفسك، أهم حاجة بس تخلي في جزء متشال على جنب، ممكن تحتاجي حاجة، تسافري، أنتِ في الأول هتفضلي تايهة بس بعد كدا كل حاجة هتبقى تمام، تعالي بقى نشوف مكان نقعد فيه.
توجهت معها حيثما أرادت وجلست كلتاهما مع الأخرى في مكانٍ مفتوحٍ على الطريق زُين بالزرع الأخضر والعديد من الزهور بألوانها الكثيرة، والإضاءات المُزينة، وهنا تحدثت رفيقتها تسألها بإهتمامٍ:
_مقولتليش بقى إيه خدتي القرار بالسرعة دي إزاي؟ أنا قولت يستحيل توافقي أصلًا، وأهلك عملوا إيـه معاكِ؟.
انتبهت لها بعدما كانت تُناظر المكان حولها ثم هتفت بثباتٍ وكأنها لم تكترث بالأمر من الأصل على عكس تباين مشاعرها:
_عادي، أنا كنت تعبت من المكان وحاسة إني مش عارفة أساعد نفسي طول ما أنا هناك، حياتي كلها شغل وتعب ومش بعرف حتى أرتاح، قولت نوضب المكان وأنا هساعد قالولي فلوس على الفاضي، عملت أوضتي وعيال أخواتي بوظوها، كلهم عاشوا حياتهم وأنا معرفتش، حتى شغلي بابا الله يرحمه كان موصيلي عليه قبل ما يتوفى، أنا معرفتش أختار حاجة في حياتي، وكان نفسي أجرب إحساس الإنسان الحُر عامل إزاي، أكيد طبعًا غيابي عنهم بالطريقة دي مش أحسن حاجة بالنسبة ليا، ووجعني فراقهم بس لازم نتعود كلنا.
لاحظت الأخرى الحديث المضطرب الذي صبغ كلماتها فهتفت مُسرعةً وكأنها تستجديها أو رُبما تُقنعها أكثر:
_بكرة أنتِ تعرفي إنك خدتي القرار الصح خلاص، يا بنتي أنا هنا لما جيت كنت مقلقة أوي، بس لما شوفت الراحة والعيشة والهدوء وإزاي بتتحركي براحتك، شقتك زي المملكة، تغني تلبسي ترقصي تاكلي، تنزلي براحتك، تخرجي وقت ما تحبي الناس مش هتحكمك يا “علياء” ودي شقتك وكان مسيرك تيجي فيها في أي وقت، مفارقش بقى دلوقتي من بعدين.
أومأت لها موافقةً بشرودٍ وكأنها في كل مرةٍ يُفتح فيها ملف هذا الحوار تقع في صراعٍ أشبه بحربٍ تفتك بها، هذا هو يومها الأول في حياتها الجديدة ولم تـرْ بعد توابع فعلها، لكنها تأمل أن تجد ما يَسُرها في حياتها هذه، كانت تفكر دومًا بنمطق الطيور، كأنها تحسب أن الطيور الحبيسة لم تُجرم عند تفكيرها بالطير خارج سياجها المحكم حِصاره عليها.
__________________________________
كل الخِطط تبقى متوقفة
لطالما صاحبها لازال يرق قلبه ويسيطر على عقله…
رحل “قُـصي” من بيت أمـهِ بعدما تناول الطعام معها وقامت هي بتعبئة الطعام له في مُعلبات حفظ الطعام ولاحظ وقتها ضيق زوجة شقيقه وتبرمها وهو يأخذ الأشياء وحينما قرر أن يرفض عرض والدته وقتها وبخته وأصرت على موقفها وأضافت بحديثٍ ذي مغزى تعلم أن الأخرى ستلتقط المقصد منه جيدًا:
_هو إيه اللي مش عاوز؟ دا كله من خيرك وعزك أنتَ، مين اللي بيملى البيت دا مش سيادتك؟ ولا زي ما بيقولوا من ماله ولا يهناله؟ أمسك أنا على أخري، كفاية إنك هتمشي بعدما عشمتني تبات معايا، كمان مش عاوز الأكل؟.
حينها ابتسم هو لها بقلة حيلة ثم لثم رأسها وأخذ الحقيبة ورحل بعدما ودع أولاد شقيقه الأكبر وقرر أن يعود إلى شقته متخليًا عن فكرة المبيت وقضاء ليله بجوار أمـه، وكأن زوجة شقيقه وطريقتها أنبئته مُقدمًا عن طبيعة تواجده، لذا قرر أن يبقى بمفرده في شقته يقضي يوم الجمعة بأكملهِ في ترتيب الشقة ثم يتقابل مع أصدقائه لعل ذلك يساهم لو قليلًا في تغيير حالته.
وصل الشقة ليلًا وأضاء مصابيحها ثم أقترب من المذياع المفتوح على محطة إذاعة القرآن الكريم وأغلقه لكي يرتاح الجهاز قليلًا، ثم دلف مطبخه يضع الطعام فيه وفي الثلاجة الصغيرة ثم بدل ثيابه وجلس على المرتبة الاسفنجية أرضًا وأخذ حاسوبه يقوم بتشغيل أي شيء عليه نظرًا لفرار النوم من عينيهِ…
وصلت “علياء” أسفل البناية بسيارة أجرة ثم أنزلت مشترياتها من السيارة وقامت بدفع الأجرة للسائق ثم بحثت بعينيها عن حارس العقار لكي يعاونها لكنها وجدت آخرًا غيره وسألته بتعجبٍ:
_هو أنتَ مين؟ وفين عم “عـيد” اللي بيقعد هنا؟.
طالعها الآخر متفحصًا وهو يشملها بنظراتهِ ثم هتف مُعرفًا عن نفسه بقولهِ:
_أنا “عبده” أخوه وهو نايم تؤمري بحاجة؟.
حركت رأسها موافقةً ثم أشارت له للحقائب التي تمسكها وتحاوط مركز وقوفها قائلةً:
_لو ينفع تساعدني وتطلع الحاجة دي معايا يبقى كتر خيرك، بس خلي بالك فيها إزاز وممكن يتكسر.
أومأ لها سريعًا وأقترب يحمل الحقائب مُرحبًا بفكرتها كثيرًا ثم تبعها للأعلى حاملًا الحقائب عنها وهي تحمل حقيبتين، وقد وصلا للطابق المُراد وأنتظرها تطرق الباب لكنها أخرجت المفتاح وفتحت الباب لتظهر الشقة المُظلمة فسألها هو بتعجبٍ مُنساقًا خلف فضوله:
_عدم المؤاخذة هو محدش هنا؟.
حركت رأسها من فوق كتفها تلتفت له ثم هتفت بإقتضابٍ:
_آه محدش هنا، خير فيه حاجة؟.
لاحظ اندفاعها فسكت تمامًا حتى أفسحت هي له تلتصق بالباب فيما وضع هو ما يسمكه بجوار الباب ثم اعتدل واقفًا وهو يقول مُقدمًا لخدماته وعارضًا لها:
_تحت أمرك يا أستاذة، عاوزة حاجة تاني؟.
حركت رأسها نفيًا ثم أخرجت الورقة المالية تعطيها له إكرامًا لمعاونته لها لكنها لاحظت تعمده لإمساك كفها عمدًا فسحبت كفها كمن مسته الكهرباء فيما لاذ هو بالفرار من أمامها قبل أن ترفع صوتها أو تتحدث، كما أنها خشت التحدث فينقلب الأمر سوءًا عليها هي.
ولجت هي الشقة بعدما أتمت إغلاق الباب وتأكدت من تحصين نفسها داخل قلعتها ثم دلفت للداخل وبدلت ثيابها بأخرى بيتية مريحة متغاضية عن الموقف الذي صار معها وهي تُرجح حسن النية، وقد بدأت في تغيير المكان الذي تعيش فيه وتغيير ملامحه وعليه قررت البدء في تركيب الإضاءات المُزينة وقامت بتشغيل سماعة الصوت الكبيرة لكي تؤنسها وحينها بدأت بحماسٍ ملتهبٍ وهي تُدندن مع الموسيقى بحالة صفاءٍ ذهنيِّ.
في الشقة المجاورة تهادى إلى أذنيه صوت الموسيقى يرافقه صوتها فتعجب هو لوهلةٍ لكن سرعان ما تذكر أمر جارته الجديدة فتنهد هو براحةٍ بعدما تذكر أمر قدومها فقرر أن يرفع صوت الحاسوب لكي يُغطي على الصوت القادم من جهتها وقد تحرك يجلس في الشُرفة يتابع المظهر الليلي ووضع الطاولة والمقعد ثم صنع لنفسه مشروبًا لكي يقضي ليله حتى يزوره النوم فيما خرجت هي شرفتها تتحدث في الهاتف مع شقيقتها الكُبرى هاتفةً بضجرٍ:
_يا “مُـنى” أنا كويسة والله، كنت بجيب حاجات ومعرفش إنك أنتِ و “شادي” اتصلتوا، متقلقيش أنا مش صغيرة، أعتبروني متجوزة يا ستي وسيبتكم، بلاش تقلقوا نفسكم.
وصله حديثها ورغمًا عنه أنصت لها مُرغمًا على ذلك فوجدها تضيف بعدما تنفست بعمقٍ وكأن صوتها تهدج وشارفت على البكاء:
_أنا طول الوقت بتعامل إني عيلة صغيرة، عاوزة أعيش وأنجح، متنسيش إني نفسي أفتح البراند بتاعي وطول ما أنا في البيت مش هقدر، كل الظروف هناك ضدي، أنا لو خرجت واتأخرت الناس بتسأل كنت فين، فاكرة أول مرة ركبت فيها أوبر؟ أتكلموا وقالوا في حد بيوصلها، يبقى خلاص أعمل اللي يريحني وطُـز في الناس.
تحدثت شقيقتها بصوتٍ عالٍ هي الأخرى حتى استمع هو ما تحدثت عنه نظرًا لعمق السكون وشدة الصمت المحاوط لهم:
_وأنا يا “علياء” خايفة عليكِ، الناس مبترحمش، بكرة هتشوفي الوضع لما الناس تعرف إنك بنت لوحدك عايشة في الشقة لحالها، وخايفة عليكِ علشان لسه أنتِ مش فاهمة حاجة، عاملة زي العيلة الصغيرة اللي كل همها تسهر في الشارع ليلة العيد ومش شايفة إنها هتضيع العيد كله منها تعبانة، هتضيعي على نفسك حاجات كتير وتحشري نفسك في مكان صعب ترجعي منه.
كانت شقيقتها تتحدث بإنفعالٍ حتى خرج صوتها من الهاتف فيما زفرت “علياء” وظلت تُرتب أنفاسها الثائرة بعشوائيةٍ ثم أضافت توقفها بقولها:
_طب يا ستي، ألف شكر لنصيحتك، خلاص لما ألاقي مصيبة بتحصلي أوعدك إني هرجع البيت، سيبوني يا ستي أعيش شوية، خليني أجرب الحرية برة السجن المفروض عليا دا، ما كل البنات عملت كدا وخرجت وسابت البيوت ونجحت وعاشت حياتها وأفتحي النت وشوفيهم بنفسك، بصي وصلوا لإيه، اللي رابط نفسه بالناس متعطل يا “منى”.
تهادى إليه صوتها فترك الحاسوب ووقف بجوار الحائط الفاصل بينهما يستمع للمناقشة الحادة بينها وبين شقيقتها حتى أغلقت هي معها ثم دفعت الهاتف على الطاولة ورفعت رأسها للأعلىٰ باكيةً بصوتٍ عالٍ وهي تشعر بالضياع وكأنها غزالٌ شارد وقع وسط قطيعٍ من الذئاب ثم خرجت من وسطهم وحينما شكت للجميع وقع عليها الإيلام كونها هي من خرجت من موقعها، تحرك للأمام يتابعها بعينيهِ وحينما وجدها تقف بخصلاتها مكشوفة عاد من جديد للداخل وقد لاحظ ارتفاع نحيبها فسألها بصوتٍ مضطربٍ:
_أنتِ كويسة يا آنسة؟ محتاجة مساعدة؟.
في الحقيقة هو أيضًا وقع في صراعٍ بين شهامته وبين لامبالاته لكنه نهايةً أنصاع لصوت ضميره حتى توقف نحيبها وحركت رأسها نحوه فوجدته يتحرك للخلف وقد لاحظ هو ظلها الساقط على شُرفته فأضاف بثباتٍ أكبر:
_أنا جارك هنا، وسمعتك بتعيطي لو محتاجة حاجة أو فيه حاجة مضايقاكي يُستحسن بلاش عياط، العياط وقته غلط خصوصًا بعدما نعمل اللي عاوزينه، يبقى الأفضل نحسبها صح ونشوف الأصح ونعمله، لكن العياط صحيح بيريح بس برضه بيتعب، تصبحي على خير يا آنسة.
تحرك صوب الداخل هربًا من الموقف وهو يلعن نفسه وغبائه وتهوره كونه أنصاع لفضوله في معرفة ما يدور معها، فيما تنفست هي بعمقٍ ومسحت عبراتها ثم ولجت الغرفة تمسك الحاسوب الخاص بها وهي تبحث عن نفس المحتوى الذي سرق كامل حدسها وانتباهها “الاستقلال” وكما المعتاد ظهرت لها العديد من المقاطع لفتياتٍ نالت الحُرية في بيوتهن حتى منهن من حصلت على السفر لخارج وطنها، وتحث البقية على فعل ما فعلت هي..
جلس “قُـصي” على الأرض يفكر في حديثها ويُعيد إدارة الأمور في عقلهِ وقد لفت نظره حديثها من جديد أنها حُرة تعيش بمفردها مُستقلة عن عائلتها!! يا له من أمرٍ غريبٍ في مثل هذه المجتمعات الشرقية، بالطبع لن تسلم من الحديث والمضايقات، لكنه يآمل أن تكون التجربة لها مفيدة إذا كانت تستحق ذلك ومع كثرة شروده استسلم للنوم محله دون أن يعي لنفسهِ…
__________________________________
في صبيحة اليوم الموالي..
بمنطقة السادس من أكتوبر في بناية الإسكان الإجتماعي استيقظ “قُـصي” على صوت هاتفه برقم والدته وقد تمطع بجسده حتى تنفك عنه الآلام التي داهمته بسبب نومته ثم جاوب على المكالمة بصوتٍ مُحشرجٍ ذي بحةٍ خشنة:
_أيوة يا ماما، صباح الخير، فيه حاجة ولا إيـه؟.
جاوبته هي بلهفةٍ تنفي ظنونه وتطمئنه بقولها:
_لأ يا حبيبي خالص، أنا بس قولت أصحيك علشان الجمعة متروحش عليك، وعاوزاك تيجي تقضي اليوم معانا، علشان خاطري، هتقعد فين لوحدك طول اليوم؟ أنا لسه عايشة مموتش يا “قُـصي” علشان تبعد كدا.
تنهد هو بثقلٍ ثم هتف بقلة حيلة يحاول بها اقناعها:
_ماهو أنا مش هقعد لوحدي برضه، هنزل أجيب حاجات وأجيب كام كرسي تانيين وأشوف سرير أحط عليه المرتبة دي بدل نومة الأرض، والواد “طلعت” هييجي ونقضي اليوم مع بعض، متقلقيش أنتِ، بعدين هاجي إزاي و ست “نـيرة” عندك؟ هي ناقصاها يعني، ومتنسيش إن “فـريد” نازل النهاردة يقعد مع الناس علشان يشوف البيت هيرسى على إيـه، هانت هانت.
تنهدت هي الأخرى حينما أبصرت زوجة ابنها تخرج من الداخل وقد لوت فمها بسخطٍ ثم هتفت بثباتٍ تودعه:
_طب يا حبيبي ربنا معاك ويوفقك ويكرمك، لو عوزت أي حاجة عرفني ولو عاوز فلوس قولي كله من خيرك وأنتَ شايل البيت كتر خيرك، تعالى في أي وقت ووقت ما تحب.
فهم هو أن بالطبع زوجة شقيقه ظهرت أمامها لذا ابتسم ساخرًا وهتف بنبرةٍ تلبسها المرح:
_أنا بتاخد كوبري خدي بالك يا “صافي” بس ماشي هعديها وهقوم أصلي وأفطر قبل ما أنزل أجيب الحاجات، سلام.
أغلق معها المكالمة ثم تحرك من موضعه ليبدأ خطوات اليوم وقد دلف يتحمم ويبدأ في تجهيز نفسه للصلاة وبداية رحلة صعبة منه تحتاج كل الوقت والمجهود، وفي الجوار عند الجار كانت “علياء” استيقظت بالفعل من نومها رغم قسمها أنها ستنام اليوم بأكملهِ لكن كما اعتاد عقلها استيقظت مبكرًا ثم بدأت في التحرك هي الأخرىٰ وقامت بتأدية فرضها ثم صنعت لنفسها مشروبًا دافئًا ودلفت الشُرفة وجلست فيها وهي تتناوله وتتابع المنظر أمامها حتى وصلها صوتٌ من الشُرفة المُجاورةِ لها:
_يا “طلعت” أصحى وفوق أبوس راس أهلك، الأول هتيجي نصلي الجمعة بعدها هننزل، وأنا هروق شوية لحد ما تيجي أنتَ والفطار نجيبه وإحنا طالعين من تحت، يلا سلام.
أغلق الهاتف وهو يزفر بقوةٍ ثم خلل أنامله في خصلات رأسهِ يحكها حتى وقد وقفت هي تطالع صاحب الصوت فلاحظها هو من خلال صوت أنفاسها وحرك رأسه صوبها، هذه هي مرتهما الأولى يرى فيها كلاهما الآخر بتلك الصورة المباشرة وقد ابتسم هو لها وهتف بصوتٍ ودي:
_أهلًا وسهلًا يا آنسة، صباح الخير.
_صـ. صباح النور.
هتفتها بصوتٍ متقطعٍ ردًا عليه من خجلها حينما تذكرت موقفها معه أمسًا فيما أشاح هو رأسه يطالع المكان حوله فوجدها تهتف بنفس التوتر وهي تشد حجاب رأسها:
_معلش امبارح مقدرتش أرد عليك علشان صوتي كان مخنوق شوية، بس شكرًا لحضرتك كلامك جه في وقته.
أومأ هو لها موافقًا بتفهمٍ ثم أضاف بأدبٍ:
_مفيش مشاكل طبعًا، وأنا آسف لو كنت تدخلت أو تطفلت على حضرتك بس كنتي بتعيطي جامد وبصراحة أنا مبحبش العياط، بحسه بيزود تعب الإنسان ووجعه أكتر من الأول، خصوصًا لو كان مراكم أوجاعه فوق بعضها، ولسه جروحه مفتحة، أتمنى تكوني أفضل دلوقتي.
أومأت له وهي تبتسم بسمتها الهادئة فيما أعتدل هو واقفًا ثم أضاف بودٍ أكبر حتى يُبيد تلك النظرة الارتيابية التي ترمقه بها:
_عمومًا أنا أتشرفت بحضرتك، وأعتبريني أخ ليكِ هنا ولو محتاجة حاجة من تحت أو في المنطقة هنا عرفيني برضه بدل ما تتعاملي معاهم لوحدك بشكل مباشر، بس عامةً يعني الناس هنا في حالها محدش ليه علاقة بالتاني.
اطمأنت هي لحديثه وابتسمت له من جديد ثم هتفت بنفس التوتر والخجل:
_طب، طب عن إذنك وشكرًا لحضرتك مرة تانية ومتشكرة لذوق حضرتك.
تركته وولجت من جديد للداخل فيما وقف هو بعد تحركها شاردًا في طريقة تحدثها اللبقة وكيف تتسم طريقتها بالأدب، لقد خالفت بطريقتها كل توقعاته وقد تعجب هو من تناقض صفاتها، لكن من المؤكد لكل امرءٍ ظروفه الخاصة به لذا تجاهلها ثم دلف لشقته هو الآخر.
__________________________________
مَن رَحلوا وفقًا لصوت إرادتهم..
لا يُمكن للقلوب
أن تسامحهم عند عودتهم.
كانت “رجاء” والدة “علياء” تجلس في الشقة تنتظر قدوم أبنائها وأحفادها لكن تلك المرة أنطفت لمعة وجهها وشردت في أمر صغيرتها المتمردة التي غابت عن البيت وكأن الفرحة رحلت معها هي والحيوية ليصبح البيت مُظلمًا وباهتًا في غيابها، بكت وهي تتذكر غيابها عن البيت وكيف أصرت وصرخت لتحصل على حريتها، ووقتها أعطتها المفتاح وفكت حصارها خارج حدود السياج المحاوط لجناحيها لكنها لازالت تتمنى لها رحلة طيرٍ هنية وألا يُكسر جناحيها فيها.
دقائق قليلة مرت تبعها دخول بناتها وزوجة ابنها معهن ومعهن الأحفاد فطالعتهن هي بعينين حزينتين وهي تتساءل هل لهذا السبب تركت ابنتها البيت؟ ألم تشعر بالدفء وسطهم لكي تخرج باحثةً عنه في الصقيع بالخارج؟ يبدو أنها فتاة غبية لكي تفقد هذا الدفء المقترن بالأنس وتعيش بمفردها وسط غربةٍ؟؟.
أقتربت منها “هـبة” ابنتها الكُبرىٰ تجلس بجوارها ثم مسحت على كتفها وهي تقول بنبرةٍ مؤازرة لها:
_أنا كنت متأكدة إني هاجي وألاقيكي قاعدة كدا، ياستي ما تخليها براحتها هو حد كان ضربها على إيدها؟ أنا أعتبرتها أتجوزت وخلاص، مش دي كلمتها؟ بلاش تزعلي نفسك وتقعدي كدا، أقولك؟ روحي أقعدي معاها يومين وأتطمني عليها، ماهي بنتك برضه مش هتسيبيها يعني.
ابتسمت ساخرةً وهتفت بصوتٍ حزين:
_أنتِ تشوفي كدا براحتك، إنما أنا مش هقدر أشوف كدا، علشان هي بنتي وغصب عني قلبي هيفضل يوجعني عليها، هفضل أفكر هي فين وبتعمل ومين قرب منها وبتاكل إزاي وتشرب فين، غصب عني دماغي هتلعب بيا الكورة ومش هقدر أعمل حاجة، ماهي من فلوسها وشقاها ومش هقدر أتكلم، اللي عليا إني أعمله هو إني أسكت بس وأحط لساني جوة بوقي علشان الدنيا تمشي.
ربتت على كتفها وابتسمت لها بتفهمٍ ثم تحركت من جوارها نحو الداخل لكي تبدأ رحلتها في البقية بداخل الشقة كروتينٍ معتاد في يوم الجمعة.
__________________________________
من عقاب الله لعبده أن يشغله بغيره من الناس فيتتبع أخبارهم ويسأل ويتلصص حتى يرتاح، ولكنه لا يزداد إلت غلًا وحقدًا فلا يهدأ ولا يرتاح..
وقفت “صفية” في مطبخها تقوم بتحضير الفطور للجميع وخاصةً أحفادها الصغار وقد لاحظت تحرك “نـيرة” نحوها ووقفت في المطبخ تعاون في صنع الطعام بصمتٍ جعل الأخرى ترتاب منها، لكنها تصنعت في طريقتها وصبغتها بالكذب الصادق حينما هتفت:
_أنا قولت أقف أعمل معاكِ شوية لحد ما “فريد” يرجع من الصلاة، والله يا طنط ربنا يعلم بعزك إزاي وبحبك، بس بحس إنك علطول واخدة مني موقف، وعلى فكرة أنا كنت عاوزة افاتحك في موضوع “إيمان” أختي و “قُـصي” هو إحنا هنلاقي أحسن منه ليها يعني؟.
زفرت الأخرى وهتفت بنبرةٍ جامدة ردًا عليها:
_لأ مش هتلاقي، بس أنا عاوزة لابني الأحسن، بس أنا مش عبيطة وعارفة اللي فيها، عاوزة “قُـصي” علشان شقته موجودة ومضمونة، أنا عارفة كويس أوي يا “نـيرة” إنك يهمك مصلحتك وبس، مش قبل كدا “فريد” فتح الموضوع دا وأنتِ قولتي إنها طموحة وفيه كتير عاوزينها وقللتي من ابني؟ دلوقتي بقى لأ، علشان أنا عندي دم وبحس والمكان اللي يشوف نفسه عليا مرة، أنا مبشوفوش بعد كدا.
فهمت الأخرى أن حديثها أضحى مكشوفًا ونيتها كذلك لذا صمتت وسكتت تمامًا ثم وقفت صامتةً فيما استغفرت “صفية” ربها وهي تُجبر نفسها على التعامل معها كونها مفروضة عليهم وفرضت وجودها ووطدت العلاقات أكثر بوجود أحفادها التي تحمل هي ثقل همهم حتى لا تخسرهم للأبد
__________________________________
بعد غروب الشمس..
عاد “قُـصي” لبيتهِ من جديد مع رفيقه بعدما جلب ما يُريده لنفسهِ من مشترياتٍ تساعده طوال فترة جلوسه في تلك المنطقة، وقد صعد وهو يحمل الفراش المعدني وعاونه رفيقه الذي قضى اليوم بأكملهِ معه وما إن صعدا سويًا وقف الأول يفتح الشقة وهو يحمل الأشياء نحو الداخل ثم خرج يُدخل البقية لكنه وجد فتاة أخرى أمامه ترتدي ملابس ضيقة بشكلٍ ملفت للأنظار وترتدي عمامة الرأس المسماة “تربون” وتكشف عن نصف خصلاتها كما وضعت الكثير من مساحيق التجميل بشكل مبالغٍ فيه حتى صُدِمَ هو من هيئتها وقد وقفت هي تتحدث في الهاتف بضجرٍ أمام شقة “علياء”:
_يـوه، قولت جاية مش هتأخر، هجيبها معايا نفك شوية بس مش هقولها رايحين فين، لو قولتلها هترفض، هتقولي مبروحش ديسكوهات وبتاع، هقولها نازلين مطعم عادي، سلام بس يلا.
صُدِم‌َ هو وتراخى ذراعاه عن أجزاء الفراش المعدنية حتى التفتت هي له وسألته بنبرةٍ جامدة إندفاعية بعدما لاحظت نظرته لها:
_خير فيه حاجة؟.
حرك رأسه نفيًا وهتف مشدوهًا تحت أثر صدمته في الحديث:
_لأ مفيش، حضرتك جاية للآنسة “علياء”؟
أومأت له موافقةً فابتسم هو لها مُجبرًا على ذلك وتحرك من أمامها نحو الداخل وأغلق الشقة لكنه شعر بالضيق منها ومن الأخرى وظل يستغفر ربه حتى لفت نظره حديث. “طلعت” الذي هتف بسخطٍ:
_ياعم أنجز يلا عاوزين نركب السرير هات بس بنسة وشاكوش خلينا نقرط عليه علشان ميفكش بيك، وأعمل شاي يلا طلعت عين أبويا وأمي، صحوبية زفت.
تنهد “قُـصي” بثقلٍ وحرك رأسه موافقًا ثم خرج من الشقة نحو الأسفل يشتري عبوة شاي من محل البقالة ثم مر على حارس العقار يطلب منه أدوات التركيب وقد تحرك الآخر نحو الداخل مُرحبًا بمطلبهِ وفي هذه اللحظة نزلت “علياء” برفقة “رنـا” رفيقتها وقد تتبعها هو بعينيهِ بحزنٍ لأجلها وقد وقع في صراعٍ بين ردعها وبين تركها خرج له الحارس الذي تحدث شقيقه بغزلٍ صريحٍ يشير إلى الفتيات:
_أديني وأنا أضيع، أقسم بالله العمارة نورت وبقت كلها سعد وهنا، دا إحنا مكناش عايشين والله.
أنفعل “قُـصي” في وجههِ بنبرةٍ جامدة يوقفه بقولهِ:
_ما تحترم نفسك يا جدع أنتَ، ترضاها دي لأهل بيتك إن حد يعاكس ويقل أدبه كدا؟ دع الخلق للخالق ملناش دعوة بحد، ربنا يسهل لعباده وأحترم نفسك، المفروض إنك أمين على المكان وصحابه، عقل أخوك يا عم “عـيد”.
قبل أن ينطق المُشار إليه نطق “عبده” بطريقةٍ سوقية يقول:
_ياعم وأنتَ مالك هو أنا عاكست أختك؟ بعدين ماهو عدم المؤاخذة يعني ما الدنيا حلوة ودخول وخروج، وقاعدين بطولهم بيحضروا دكتوراه؟ خليك في حالك يا رايق، أنتَ مش فاهم حاجة.
للأسف هو مُحقٌ، فهو لازال لم يفهم أي شيءٍ، لازال عاجزًا عن فهم المجتمع والعالم والناس، وقد آثر التحرك صامتًا حتى لا يُقلل من شأنه أمام هذا الوضيع، لكنه عاد من جديد يفكر في تلك الفتاة متذكرًا نظرتها البريئة حينما كانت تشكره وتذكر لطفها في التحدث معه، وآمل أن يلحقها من صديقة السوء التي ترافقها لكنه عاد يذكر نفسه أن الأمر ليس من شأنهِ.
في الخارج توقفت سيارة الأجرة أمام إحدى الصالات الليلية وقد راقبت “علياء” المكان بعينيها من نافذة السيارة حتى خرجت منها مع رفيقتها ووقفت تتابع الناس أثناء دخولهم وقد سألتها بإندفاعٍ:
_هو إيه دا يا “رنـا”؟ أنتِ جيباني فين؟.
ضحكت لها الأخرى بحماسٍ وشبكت كفها معها وهي تهتف بلهفةٍ:
_دا نايت يا “لولي” هوريكي هنا سهرة تجنن، وهخليكِ تعيشي يوم محصلش وهعرفك على كل صحابي تعالي بس هتتبسطي جدًا يلا.
سحبتها معها وهي تتحدث وكأنها تجرها نحو أبواب الجحيم والأخرى مُشتتة بينها وبين نفسها، وتلك المرة كل الأصوات بداخلها أنذرتها بخطورة ماهي مُقدمة عليه، كل الأصوات حثتها أن هناك كارثة أكبر منها وأكبر من عقلها، لذا سحبت ذراعها من الأخرى ووقفت محلها حتى التفتت لها رفيقتها تطالعها بتعجبٍ فيما وقفت “علياء” تطالعها بتيهٍ ولازالت تائهة بين خطأٍ وأخطأ، لكن هل هي تمتلك القوة لكي تقف في وجه الخطأ أم أن سلطة الطريق أكبر منها؟؟
_____________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية اضغط على : (رواية استقلال غير مقصود)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى