روايات

رواية استقلال غير مقصود الفصل الأول 1 بقلم شمس محمد

رواية استقلال غير مقصود الفصل الأول 1 بقلم شمس محمد

رواية استقلال غير مقصود الجزء الأول

رواية استقلال غير مقصود البارت الأول

استقلال غير مقصود
استقلال غير مقصود

رواية استقلال غير مقصود الحلقة الأولى

المُقدمة…
“ليس كل ما تراه العين تشتهيه الأنفس، وليس كل ما تشتهيه الأنفس يُتاح للعين أن تراه، فربما يكون ما تشتهيه أنتَ يُحرم عليك الإقتراب منه أو حتى مُجرد النظر إليه، أو من المُمكن أن ما يتوجب عليك حُبه تعجز عيناك عن رؤيته، لذا قد يكون الصواب أمامك لكن نفسك لم تشتهيه بعد، لطالما كانت آفة الناس الكُبرىٰ تتلخص في مبدأ مفداه جملةٍ واحدة وهي “الممنوع…مرغوب” فربما يكون استقلالك عن طريق الممنوع غير مقصودٍ… لكن على كُلٍ قد يكون هو المرغوب”
_____________________________
(1)
الخطوات ثقيلة عليها حتى تصل إلى مكتبها،
وسط غَيام الصباح الذي تسير فيه لعملها بجسدها الذي يتصادم في الزِحام مع من حولهِ في الممر المُفضي لِغُرف المكاتب مما يجعلها يجعلها تزفر بحنقٍ وتُغمغم بسخطٍ على كل شيءٍ حولها، حيثُ أصبح هذا الشيء هو الروتين المعتاد لها منذ خروجها من البيتِ صباحًا حتى وصولها لمكتب عملها ورحيلها منه بالتزامن مع ظهور الغروب كرسالةٍ مفداها “لقد انتهينا”.
زفرت “علياء” مُـطولًا وهي تولج داخل مكتب عملها الذي تتشارك به مع عدة زملاء لها من الجنسين وهي أصغرهم وأمهرهم في قضاء عملها، وكعادتها ألقت التحية بإقتضابٍ على الجميع ثم ألقت حقيبتها وجلست على مقعدها تمسك رأسها بكفيها تُحد من الألم العاصف الذي أخذ يضرب في رأسها نزولًا على عينيها شيئًا فشيءٍ تزامنًا مع إرتفاع الضجيج من حولها حيث وصول العُملاء إلى المكتب طالبين منها إنهاء أوراقهم الرسمية وحينها كأي موظفة تعمل في المباني الإدارية هتفت بنبرةٍ عالية تعبر عن إنفعالها:
_بــس !! أنا لسه واصلة أنتوا جيتوا إمتى؟ شوية يا ريس كدا، شوية يا مدام الله يرضىٰ عنك ناخد نفسنا، عيوني ليكم حاضر بس أشرب بوق مياه.
ألقت الحديث بنبرةٍ عالية على الجميع حتى عقب حديثها الصمت من الجميع فيما سحبت هي حقيبتها وأخرجت منها عقارًا طبيًا وقد أفرغت منه حـبة دواءٍ في باطن كفها ثم ابتلعتها وتبعته برشفة مياه من زجاجتها البلاستيكية ثم استعادت جزءًا من هدوئها النسبي هاتفةً بنبرةٍ أهدأ عن سابقتها بعدما رسمت بسمة هادئة على ملامح وجهها وثغرها:
_ها يا جميل، عاوزة إيه بقى؟.
ألقت السؤال على العميلة الواقفة تُلاصق بجسدها مكتبها وبدت في تلك اللحظة كأنها تبدلت بأخرىٰ غيرها حيث أصبحت أكثر هدوءًا، هذه الفتاة التي تعمل بأحد مكاتب الضرائب كموظفةٍ حكومية؛ ورثت المهنة عن أبيها…
تخرجت “علياء” من كلية التجارة وحصلت على درجة البكالوريوس بتقديرٍ أجاد لها الفرصة وصوغها لكي تعمل بهذا الصرح الحكومي، فتاة في العام السادس والعشرين من عمرها، متوسطة الطول، بشرتها حنطية تميل إلى الاسمرار قليلًا، عيناها بُنيتان واسعتان فوقهما حاجبان عريضان منمقان، تهتم بهيئتها الخارجية كثيرًا، ثيابها عصرية حديثة كما تُحدث صيحات الموضة والأزياء، ترتدي الحجاب العادي المُنتشر مؤخرًا، وأخيرًا وليس آخرًا هي مجتهدة في عملها بشدة، وأصغر أفراد أسرتها وأكثرهم حرية…
أندمجت في عملها بعقلٍ يعتصر خلاياه ليمدها بطاقةٍ نفذت منه لكنه لازال يحاول حتى يخرج لها بطاقةٍ أُخرى قد تنفعها فيما تفعل، تجلس في يدها القلم وأسفل كفها الأوراق المطلوب منها مراجعتها من العميل ثم التوقيع أخيرًا باسمها هي…
بعد مرور عدة ساعات من العمل صدح صوت هاتفها في حقيبتها التي اهتزت نتيجة المهاتفة الخلوية وقد استأذنت من العميل الواقف أمامها بملامحها دون أن تفصح شفاهيةً وما إن حصلت على ترحيبه سحبت هاتفها والتفتت بمقعدها تولي الجميع ظهرها تهمس من بين شفتيها بحنقٍ:
_أيوة يا ماما !! خير.
ألقت الحديث بنبرةٍ أعربت عن عُجالتها فيما هتفت الأخرى باقتضابٍ:
_بكلمك علشان أقولك أخواتك وعيالهم جايين النهاردة، تعالي بدري شوية وهاتي معاكِ فاكهة علشان العيال الصغيرة، وياريت توصلي قبل معاد الغدا.
وصلها الحديث الذي يجعلها تشعر بالضيق كل مرةٍ يتم فتح الموضوع ذاته بها وقد أطبقت شفتيها تمنع نفسها من التفوه بحديثٍ قد يغضب والدتها وربما يلفت الأنظار نحوها وفقط تمتمت بكلماتٍ بالكاد خرجت من فمها المُطبق:
_حاضر يا ماما، سلام علشان عندي شغل.
ألقت الكلمات المُقتضبة وأغلقت الهاتف مع والدتها ثم زفرت بقوةٍ تخرج الغضب الكامن بداخلها على هيئة زفراتٍ قوية لعلها تُساهم في إدراة مبنى غضبها الذي تظهر بدايته كما لهيب القنبلة عند اشتعال فتيلها؛ لكن هيهات هي قوية بما يكفي لكي تتحكم في غضبها المكتوم..
مرت ساعات عليها خلال انهماكها في عملها وهي لازالت مستمرة فيما تفعل بين مناقشات مع هذه وجدالٍ مع تلك ومفاوضاتٍ مع ذاك وهي تركض كمن يتحرك في سباق العدو وقد وصلت لأخر عميلة هنا في مبنى الشئون وتوقف عملها على ورقة مُصورة وقد هتفت هي بنبرةٍ مُبرمجة ومعتادة في مثل هذه الأماكن حيث تعبر عن نفاذ الصبر:
_يا حجَّة فيه ورق ناقص، أنا عاوزة نسخة من كل ورقة معاكِ، خلي حد يصورهم علشان الأصل هيفضل ليكِ أنتِ..
حينها نظرت المرأة المُسنة حولها عدة مرات تتفحص المكان ثم هتفت بنبرةٍ أعربت عن قلة الحيلة بحديثها:
_يا بنتي ماهو أنا لو أعرف كنت صورت بس أنا معرفش حاجة هنا ومنهم لله مدوخينَّي من الصبح مينفعش تعمليها أنتِ وتمشيها؟ دا أنا بقالي ياما دايخة وقطعوا نفسي.
هتفت المرأة جملتها الأخيرة بتعبٍ بلغ أشده وحقًا أتضحا اليأس والتعب عليها حتى كادت أن تبكي من قلة حيلتها وحينها زفرت “علياء” بقوةٍ فهاهي مهمة جديدة تُلقى عليها دون أن يملك ضميرها الحي جُرأةً في الإغفال عنها لذا هتفت بترددٌ وكأنها تصارع نفسها لكي تتحدث:
_طب مفيش مشاكل يا حجَّة… هروح أنا أصورلك الورق عند ماكنة التصوير، خليكِ.
أنهت جملتها تزامنًا مع تركها لمقعدها في نفس لحظة رفع المرأة لكفيها وهي تتضرع وتدعو لها بالتوفيق لكونها قامت بتوفير الجُهد على هذه المرأة التي أتضح عليها التعب وقد خرجت “علياء” من مكتبها تتوجه إلى الرواق الطويل المتكدس بالعديد من الأفراد تسير فيه بين عاملين بالمكان وبين عُملاء ينهون الأوراق الخاصة بهم وبشئونهم؛ حتى وصلت إلى ماكينة التصوير وهتفت بنبرةٍ منهكة وأنفاسٍ شبه مقطوعة:
_لو سمحت يا أستاذ “محمد” صورلي الورق دا.
حرك الرجل رأسه مومئًا ثم ألتقطه منها وأشار لها بالجلوس قائلًا بنبرةٍ عملية يعرض عليها خدماته الوفيرة:
_طب تعالي أقعدي علشان فيه ورق معايا مهم تبع الأستاذة وبعدها هصورلك اللي عاوزاه، أقعدي بس يا “علياء” يا بنتي.
أشار لها المتحدث صاحب العام الخمسين من عمرهِ نحو المرأة التي تقف بوقارٍ وهيبةٍ ظهرا عليها ويبدو أنها من الطبقة المخملية لذا جلست “علياء” بقلة حيلة على المقعد الجلدي بجوار بقايا الأوراق المتراكمة فوق بعضها وشردت في لحظتها هذه لعلها تهرب من الصداع الذي أخذ ينخر في مقدمة رأسها هبوطًا على عينيها وحينها قطع شرودها صوتٌ أتى بنبرةٍ عالية متفاجئة:
_”علياء” !! يخرب عقلك أنتِ لسه هنا؟.
رفعت “علياء” رأسها نحو مصدر الصوت الذي خرج من فاه إحدى صديقاتها القُدامى التي كانت تعمل معها هُنا في السابق وحينها وقفت “علياء” تلقائيًا في مواجهتها لتتلقفها الأخرى بين ذراعيها هاتفةً بنبرةٍ ودودة حارة:
_وحشتيني أوي أوي، معرفش إنك لسه هنا.
مسحت “علياء” على ظهرها وهتفت بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسمت وظهر أثر التبسم على حديثها وهي تقول:
_والله وأنتِ وحشتيني أوي يا “رنا” أخبارك إيه طمنيني عليكِ.
ابتعدت عنها الآخرى تفصل العناق بينهما وهتفت بنبرةٍ مرحة بعدما ظهر الحماس جليًا في صوتها:
_لأ أنا فُل الفُل الحمدلله، وبيني وبينك أنا كدا أحسن بلا هم ووجع دماغ،من ساعة ما سيبت بيت أهلي بلا صداع وقرف.
ألقت الحديث بلامبالاةٍ وكأنها لا يهمها ما تتفوه عنه بينما “علياء” عقدت مابين حاجبيها وهي تقول بنبرةٍ حائرة كحالها هي تمامًا:
_هو أنتِ اتجوزتي تاني من بعد الطلاق؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تبتسم لها وأضافت مُعدلة على حديثها من جديد:
_لأ يا بت، أنا زي ما أنا بس أستقليت عنهم خالص، لا حد ياكل دماغي ويصدعني ويقرفني ولا أفضل كل شوية أتخانق مع حد، بس حلو الطقم دا، طول عمرك لبسك حلو يا مضروبة.
ابتسمت لها “علياء” وهتفت بأدبٍ وطريقةٍ يتخللها ذوق التعامل:
_أتفضليه ميغلاش عليكِ يا حبيبتي.
_أزودهولك يا قمر، قوليلي بس رقمك زي ماهو؟.
كان هذا حديث “رنا” وهي تسألها باهتمامٍ جعل الأخرى تقول بمعاتبةٍ طفيفة كونها لم تعرف الرقم:
_ماهو لو بتسألي هتعرفي إن زي ماهو متغيرش.
ضحكت الأخرى ثم مسحت على كتفها وهي تقول بنبرةٍ هادئة باعتذارٍ وارته خلف طريقتها الممازحة:
_يوه !! ميبقاش قلبك أسود، خلاص هبعتلك وبالمرة أحكيلك حصل فيا إيه لو فاضية بليل ممكن ننزل أعزمك على قهوة.
أومأت “علياء” موافقةً لها فيما ودعتها الأخرى سريعًا بعدما عللت سبب تواجدها هنا بقولها:
_طب همشي بقى، أنا كنت هنا بجيب الجمعية لمدام “صفاء” في الدور التالت وماشية تاني أهو، سلام يا حبيبي هشوفك ها؟.
لوحت بكفها مودعةً لها فيما ظلت “علياء” تراقبها ببراءةٍ وهي تحاول فهم حديثها الذي بدا متناقضًا وكأنها غريبة طلت عليها حتى أمعنت النظر في أثرها ليقطع تمعنها ذاك صوت الموظف بقولهِ:
_الورق يا آنسة “علياء”.
التفتت له تطالعه بحيرةٍ واضحة وحينها قرأ هو تعابير وجهها فابتسم لها وهتف بنبرةٍ أعربت عن مغزىٰ قويٍ وكأنه فهم نظراتها في أثر الأخرى:
_مش كل الناس بتاخد اللي هي عاوزاه، فيه ناس بتاخد حاجات كتير حلوة بس بتتحرم من حاجات تاني أحلى، وفيه ناس عندها كل حاجة حلوة بس برضه لسه فاكرة إن ناقصها الأحلى، ربنا يستر على ولاينا يا بنتي.
ألقى الحديث بعدما أومأ بحسرةٍ من خلال حركة رأسه الآسفة أو ربما هكذا بدا لها فيما عقدت هي المسافة الواقعة ما بين حاجبيها ثم أخفضت رأسها نحو الورق الممدود لها من كف الرجل والتقطته هي ثم عادت إلى مكتبها وهي تفكر في هيئة صديقتها القديمة وحديث الرجل الذي ألقاه عليها وكأنها رسالة متوارية لم تفهم مغزاها بعد؛ لكن من يعلم، فربما تقوم الأيام بشرح كافة المعاني لها جملةً وتفصيلًا…
__________________________________
“خالف هواك تربح، سر خلف هواك تفدح”
“يا ليتني ما هويت…أنا هنا انتهيت”
العديد والعديد قيل في هوى المرء وقدرته على قلب الموازين، لكن المعروف أيضًا أن من خالف هواه قد نجا بنفسه ومن سار خلفه أُلقيَ في العذاب وجُبهِ، وأكثر ما يصيب المرء شتاتًا يأتي من سيره خلف الهوىٰ، فياليت المرء ما أصيب وأهتوىٰ…
في مكانٍ آخرٍ بأحد البنايات ميسورة الحال كحال ساكنيها تمامًا، هنا حيث الطابق الثالث في بناية وسط منطقة شعبية تجمع بين مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية حيث التباين الواضح والفروق الكُبرى بين مختلف الأجناس هنا، تخرج إمرأة في أواخر العقد الخامس من عمرها؛ أي أنها بالتقريب شارفت على الوصول إلى العام الستين من عمرها وقد جلست أمام التلفاز بعدما خلعت حجاب رأسها بعدما أنهت فرض صلاة العصر…
جلست “صفية” تلك المرأة البشوشة تشاهد التلفاز إلى أن صدح صوت جرس الباب وتحركت هي نحوه لكي تفتحه فوجدت ابنها الكبير أمامها وقد ابتسم ما إن طلت عليه من خلف الباب وهتف بنبرةٍ هادئة لم ينفك عنها التوتر أو ربما الاصطناع في الترحيب:
_وحشتيني يا ماما، عاملة إيـه؟.
تعجبت هي من طريقته الشبه فاترة لكنها ردت عليه تحيته وعيناها تتجول في ملامحه تحاول استنباط أي شيءٍ خاصةً أن التوقيت لم يكن مناسبًا لتواجده هنا مقارنة بموعد عمله، لكنها تجاوزت كل ذلك وأشارت له أن يولج الشقة حتى نفذ هو ذلك ودلف يستقر على الأريكة وما إن جلست هي على مقربةٍ منه وجدته يحرك رأسه بحثًا عن شيءٍ أو ربما أحدٍ لذا هتفت هي بتساؤلٍ ما إن التقطت نظراته الباحثة بشغفٍ:
_بتدور على حاجة مُعينة؟ فيه إيه يا “فريد”؟.
حرك رأسه حتى استقر بنظراته في وجهها وهتف بنبرةٍ مُتلجلجة كمن يخشى التفوه أو كمن افتعل مصيبةً ويخشى الإمساك به:
_ها…لأ أبدًا أنا بس بدور على “قُـصي” هو هنا؟.
حركت رأسها نفيًا بحيرةٍ واضحة في عينيها جعلته يخرج زفرة قوية نظرًا لعدم وجود شقيقه الأصغر ثم هتف بإحباطٍ جليٍ في أحرف كلماته بقدر ما حاول تصييغ الجملة:
_خلاص هو شوية وهييجي يا رب ألحقه علشان عاوز أتكلم في موضوع ضروري بس هو يكون موجود هنا معانا.
حركت عينيها تطالعه بريبةٍ بعدما استقرت على وجهه لكن ثمة شيءٍ تلبس وشاح الغرابةِ بـهِ، بدا غريبًا لها خاصةً وهو يسحب جهاز التحكم يبدل به قنوات التلفاز كأنه لا يكترث بها من الأساس أو كأنه يتعامل بطبيعته لكن مبالغته في الأداء والتنفيذ جعلته محضًا للشكوك منها..
بعد مرور ما يقرب ساعتين أخريتين من جلوسهما في صمتٍ تامٍ فُتِحَ باب الشقة بواسطة “قُـصي” الابن الثاني لهذه الأسرة وطَلَّ من خلف الباب بوجهه البشوش ما إن لمح حذاء شقيقه وهتف مُرحبًا بِـهِ:
_أبو “مروان” عندنا ؟ دا البيت نور يا غالي.
أنهى حديثه تزامنًا مع وصولهِ إلى موضع تواجد شقيقه الذي وقف له يرد عليه تحيته وهو يعانقه فيما عاتبه الآخر بقولهِ الذي ألبسه وشاح المزاح:
_بقى كدا يعني؟ بقالك أسبوعين غايب لا حس ولا خبر ولا بتسأل حتى !! طب بلاش أنا أسأل على أمك، بدل ما هي عمالة تسمعني وتقول ربي يا خايبة للغايبة.
أنهى “قُـصي” جملته وهو ينظر لوالدته بطرف عينه فيما عاتبته هي بعينيها كونه يفضح أمرها أمام الآخر لكنه غمز لها ثم التفت يركز بصره مع شقيقه الكبير وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما رسم البسمة على وجهه:
_بس ليك وحشة والله استناني أغير هدومي وآجي أقعد معاك قبل ما أروح الشغل التاني، يلا يا ماما جهزي الغدا.
وزعت هي نظراتها بين الإثنين ثم هتفت بنبرةٍ جامدة بعض الشيء كأنها توضح ضُجرها بهذه الطريقة قائلةً:
_أنا هقوم أسخن الأكل أحسن علشان الأستاذ يعرفنا هو عاوزنا فـ إيـه حكم أنا متوترة وعارفة ابن بطني وحفظاه صم، عن أذنكم.
تحركت هي من أمامهما وتركتهما معًا برفقة بعضهما والظنون تعبث في خيالاتها بالكثير والكثير خاصةً أن الأمر يتعلق بابنها البكري الذي لم يفعل أي شيءٍ سوى أن يُخيب أمالها ضاربًا بكل أملها فيه بعرض الحائط، لذا تخشى أن يأخذ شقيقه الأصغر لنفس الطريق ليصبح ماهو إلا نسخةً مُماثلة له…
“فريد الحُسيني”
الابن الأكبر لأسرة “أحمد الحُسيني” في العام الخامس والثلاثين من عمره، متزوج ولديه ثلاثة أولاد، يعمل في إحدى المدارس الثانوية الفنية، ميسور الحال بنسبةٍ كبرى، طويل القامة بعض الشيء، بشرته مائلة إلى الاسمرار قليلًا، قوي الجسد..
“قُصي الحُسيني”
الابن الأصغر لأسرة “الحُسيني” في العام الثلاثين من عمره، يعمل في مجال الإتصالات والحاسب الآلي صباحًا بداخل أحد المولات التجارية، ثم يعمل كمحاسبٍ في أحد المطاعم الشهيرة في الفترة المسائية، مكافح بدرجةٍ كُبرى، يعتبر النقيض تمامًا لصفات شقيقه الأكبر حيث اتسم بقوة الشخصية ورجاحة العقل والهوادة في الفعل ومن قبله رد الفعل، متوسط الطول، صاحب بشرة سمراء ووجهٍ بشوش تزينه لحية ناعمة بعض الشيء ومنمقة، عيناه بنيتان صافيتان، عرف بلين القلب مع الجميع…
مرت نصف ساعة تقريبًا بعدها التفوا الثلاثة حول مائدة الطعام مع بعضهم وترأست الطاولة “صفية” وهي ترمق البكري بنظراتٍ مُشككة جعلته يتناول العديد من رشفات المياه ليقضي على توتره ثم هتف بنبرةٍ هادئة متمسكًا بثباته الواهي بعد تأكده من انتهائهم لتناول الطعام:
_أنا كنت عاوز أتكلم معاكم في حاجة مهمة.
نظر الإثنان له يرهفان سمعهما في إنتظار حديثه بينما هو بعدما تأكد أنه سيلقي كارثة عليهما قرر أن يُخرج القنبلة من داخله يلقي عليهما بقولهِ الذي خرج منه مُضطربًا:
_البيت بتاع عيلة مراتي اللي اشتريت الشقة فيه جاله قرار إزالة من مجلس الحي، والمقاول بيحاول يخلص الحوار بمصالحة بس طلب البيت يفضى بكرة بالكتير، وأنا جيت أقولكم إني هاجي أقعد الفترة دي هنا علشان للأسف بيت حماتي مش هيكفي.
ألقى الحديث عليهما بعدما فشل في برمجته بصورةٍ غير آلية ليظهر مدى فشله في التفاف الكلمات الدلالية لكي تسعفه في موقفٍ هكذا، فيما نظر كلاهما لبعضهما وحينها رمش “قُـصي” مُطولًا ثم أضاف مستنكرًا الحديث الذي وصله:
_لأ فهمني واحدة واحدة كدا !! يعني إيه؟ الفلوس كدا راحت عليك يا “فريد” ؟! والتوضيب والمصاريف؟ كل دا راح على الأرض وكأنه تراب ؟.
رغمًا عنه أنفعل أثناء توجيه السؤال لشقيقه الذي نكس رأسه أرضًا يهرب من نظرات الآخر الموجهة إليه فيما حرك “قُـصي” رأسه نحو أمه وهتف بغيظٍ من أفعال شقيقه السلبي:
_طب والعمل؟ إيه الحل دلوقتي؟..
وجه السؤال بقلقٍ أضحى مقروءًا في نظراته مما جعل والدته توجه الحديث لابنها الثاني وكأن القهر أصبح مرئيًا أمام عينيها مُرتسمًا في تواجده أمامها وقد تحدثت هي بتهكمٍ تشير إلى الآخر بقولها:
_العمل؟ طول عمره بيعكنا معاه ويمشي ورا كلامها وأخرتها ييجي زي دلوقتي كدا يقعد قصادنا وإحنا نحاول نشوف حل، فلوس أبوك ضيعتها يا “فريد”؟ يا ابني ما قولتلك خليك في بيتك وبكرة الشقة تتوضب بحتة جمعية خفيفة وحاجة في حاجة تتعمل، بس إزاي ؟ لازم المدام تبص لاخواتها وإزاي يعيشوا في شقة أصغر وأقل من شقق أخواتها؟ ميصحش، الناس تقول إيه علينا؟ وأخرتها تتعك كدا، إيه العمل يا بيه؟.
زفر “فريد” مُطولًا ليخرج أنفاسه المحبوسة وقد شعر بالضيق يستولى عليه من مجرد الجلوس بتلك الهيئة المُزرية وكأنه موضع إجرامٍ ومع طول نظرات والدته له سحب نفسًا عميقًا وهتف بنبرةٍ تشبه مرافعة الدفاع عن النفس البريئة:
_أنا مغلطتش يا ماما لما سيبت الشقة القديمة، كانت متدمرة وعاوزة تكلفة، بعدها روحت علشان عمارتهم جديدة وخدتها بنص الفلوس علشان هي ليها نصيب في البيت ومكانش ينفع ييجي غير كدا، بعدين أنا بقولك مؤقتًا هلم الهدوم ونيجي هنا علشان لو القرار أتنفذ، بس إن شاء الله يشوفوا صرفة، المقاول مش ساكت علشان هو اللي بنى مخالف من غير تصاريح.
أنهى الحديث وهو يطالعها بصدقٍ جعلها ترمقه بيأسٍ وعتابٍ غير منطوقٍ وفي لحظتها هذه أصبحت أسيرة بين عقل إمرأةٍ ومشاعر أمٍ، حيث أصبحت في موضع حيرةٍ بين الشدة والحزم وبين اللين والرخاء، وبين هذا وذاك هي تائهة وقد تهادت إليها فكرة جعلتها تهتف مسرعةً وهي تقترح عليه:
_طب روح شقة أخوك اللي في الإسكان الإجتماعي، أهي فاضية وتكونوا فيها براحتكم، البيت هنا ضيق وعيالك مش صغيرين، دول اللهم بارك ٣ عيال.
ألقت فكرتها عليه لعله ينفذ هذا المقترح لكنه تنهد بيأسٍ وهتف بنبرةٍ ضائعة وكأنه بذلك يخبرها عن تفكيره بهذا الحل:
_ومين قالك إني مفكرتش في كدا، بس العيال ومدارسهم ودروسهم؟ المشوار بعيد أوي أوي، والامتحانات على الأبواب خلاص، صدقيني مفيش حل مناسب.
هتف جملته الأخيرة بانكسارٍ وكما المعتاد تغلبت عليها فطرة أمومتها ونطقت أخيرًا مُرغمة على ذلك حيث الصراع الذي وقعت به خاصةً وهي تتجاهل نظرات الآخر:
_تعالى يا “فريد”، هات مراتك وعيالك أهو أنا هستحمل ابني غيري مش هيستحمل، بس بلاش تحط على قلبك مراوح وشوف صرفة وأسعى لحل المشكلة دي.
ما إن تهادى إلى أذنيه صوتها بتلك الكلمات أقترب منها يُلثم جبينها بسرعةٍ وهو يشكرها مرارًا وقد مسحت هي على كتفهِ ثم حركت رأسها لتستقر بنظراتها في وجه “قُـصي” الذي رمقها بقلة حيلة ثم انسحب من المكان يولج غرفته بعدما أتخذ قراره، وبعد مرور دقائق قليلة تبعته والدته إلى الداخل وقد دلفت الغرفة وأغلقت الباب خلفها وهي تسأله بريبةٍ حينما وجدت حقيبة أمتعته موضوعة على الفراش:
_أنتَ هتعمل إيه؟.
التفت لها وهو يمسك صف الملابس المُرتبة ثم وضعها بداخل الحقيبة وهو يقول بقلة حيلة موجزًا في كلامه:
_همشي، هعمل إيه يعني؟.
أخبرها بكل بساطةٍ ثم ألتفت يُكمل سحب ملابسه وحينها رمشت هي باستنكارٍ ثم رفعت صوتها تسأله بنبرةٍ حزينة بعض الشيء:
_تمشي؟ ليه إن شاء الله؟ دا بيتك يا بني هتروح فين؟.
تهدج صوتها وهي تسأله وقد أقترب هو منها يقف مقابلًا لها يطالعها بقلة حيلة ثم حرك كتفيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة يخبرها عن طريقة تقديره للأمور بصورةٍ عقلانية على عكس عاطفتها هي:
_ماهو دا بيتي أنا عارف، بس كل واحد بيحب ياخد راحته في بيته، دلوقتي عيال “فريد” بنتين قربوا يكونوا طولي والاتنين بيتكسفوا مني وأنتِ عارفة إنهم بيحبوا يكونوا براحتهم، ومراته نفسها بتحب تبقى بشعرها تلبس براحتها، ملهاش لازمة بقى نكتف بعض، هروح شقتي أقعد فيها لحد ما نشوف هترسى على إيه في الآخر.
أصدرت صوتًا من حلقها يعبر عن ضجرها ورفضها لكنه إعتاد على ذلك؛ لذا حاوط صفحتي وجهها بكلا كفيه وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
_مش عاوزك تزعلي نفسك وعاوزك تحاولي تتعاملي الفترة دي معاهم كويس، عارف إنهم بيعصبوكي بأفعالهم بس دا إبنك وملهوش غيرك يا ماما، أكيد مش هترميه، دا لما بيغيب عنك أسبوعين بتفضلي تاكلي في نفسك، متقلقيش أنتِ عليا، ادعيلي بس.
علمت أنه يُطمئنها كذبًا لذا اندفعت تسأله بلهفةٍ:
_طب وأنتَ هتقعد هناك إزاي؟ دي شقة مفيهاش أي حاجة، صحرا يا بني، هتاكل إزاي وتشرب إزاي وهدومك !! هدومك هتتصرف فيها إزاي ومين يغسلك؟.
تنهد بيأسٍ ومسح بكفيه على ذراعيها وهتف بنبرةٍ رخيمة وعميقة كأنه لم يكترث بهذا الشأن على خلاف ثورته الداخلية:
_في هناك مرتبة وكام كرسي وكاتيل مياه ولو على الأكل ممكن آجي هنا بين الشغلين أتغدى وأمشي واتعشى حاجة خفيفة، بس كدا أحسن للكل، علشان برضه العيال تعرف تنام، خلي البنات يناموا في أوضتي وخدي “مروان” في حضنك و “فريد” ومراته في الأوضة بتاعته ولو على العفش طلعوه فوق السطح.
تنفست هي بعمقٍ ثم لثمت جبينه تخبره بتلك الطريقة عن رضاها عليه وقد لمعت عيناها بفخرٍ حتى لو لم تنطقها صراحةً بينما هو لثم كفها ثم ألتفت يكمل جمع اشيائه خاصةً بعدما حصل على إذن التأخر عن العمل الثاني مُتحججًا بعمله الأول، هذا الذي كلما حَلُم وسعى لتحقيق حلمه في استقلالٍ تفاجئه الحياة بعصور إضمحلالٍ.
__________________________________
في مكانٍ آخرٍ..
تحديدًا بواحدةٍ من المناطق المصرية الشهيرة المتوسطة في رُقيها وبداخل شقة “علياء” دلفت الشقة عند غروب الشمس من موضعها بالتزامن مع ظهور الخيط الأول من ليلٍ بدأ في الإعلان عن نفسه، وقد وصلت هي إلى هناك لتجد الشقة ممتلئة بالعديد من الصغار أبناء اشقائها الثلاثة، والضجيج يملأ البيت، وكأن الراحة في مثل هذا اليوم أصبحت مُحرمةً عليها، فتاة مثلها تعمل في إحدى الوظائف الحكومية طوال الأسبوع مُنكبة فوق العديد من الأوراق المالية والإدارية تستهلك منها كامل قوتها، وكلما منت نفسها بيوم عطلةٍ أو حتى ساعات قليلة ترتاح بها بعد أسبوعٍ شاق، تتفاجيء بنسخةٍ مُصغرةٍ من مدينة الملاهي في شقتها وتحديدًا بداخل غرفتها المُطورة وفقًا لآخر صيحات الديكور…
أطلقت أنفاسها بتعبٍ ما إن فتحت باب الشقة ليصلها صوت الأحفاد الثمانية يركضون نحوها مُهللين بصراخٍ لرؤية الابنة الصغرى في هذه العائلة، وقد وقفت هي صامدة بعدما فرقت ذراعيها لهم بعناقٍ فاترٍ حيث وصل التعب مبلغه في جسدها..
خرجت والدتها من المطبخ تمسك ملعقة الطعام الخشبية كبيرة الحجم واقتربت منها تفصل الصغار عنها ثم هتفت بطيبةٍ وهي تبتسم لها:
_حمدًا لله على سلامتك يا حبيبة ماما، أدخلي غيري هدومك ويلا علشان ناكل كلنا مع بعض، إحنا مستنيينك.
حركت رأسها موافقةً بصمتٍ ثم دلفت غرفتها لتجدها رأسًا على عقبٍ، تبدو كأن أُحتِلت بواسطة غُزاة البربر ذوات الطبع الهمجي الخالي من الأدمية، حيث أصبحت الوسائد أرضًا والملابس فوق المقاعد، والأضواء الذهبية المزينة سقطت من فوق الحائط ومكتبها المُزين، أما عن منتجات الزينة والعناية الخاصة بها فحدث ولا حرجٍ، أصبحت بأكملها مُدمرة حتى المرآةِ لم تسلم منهم…
كادت “علياء” أن تصرخ وترفع صوتها تعنف الجميع وأولهم شقيقاتها الاثنتين وزوجة شقيقها لكنها تذكرت الروتين المعتاد لنهاية كل أسبوعٍ حيث المشاجرة مع أخوتها وأمها ثم ينتهي الأمر بكونها انفعالية تكره صغار العائلة بدلًا من كونها حنونة عليهم، حينها أغلقت غرفتها ثم ألقت نفسها على الفراش تفرد نفسها وذراعيها بهدوءٍ كاذب حيث الخلفية ممتلئة بصوت الصغار وصرخاتهم العالية، حينها مقتت نفسها وبيتها وعائلتها والجميع، كونها لم تعرف سُبل الراحة حتى في أوقات الراحة..
__________________________________
في منطقة أكتوبر تحديدًا وسط مباني الإسكان الإجتماعي..
وصل إلى هناك “قُـصي” الذي استأذن من عمله الثاني
وذهب إلى هناك يضع ثيابه ويُتمم على الشقة قبل أن يتخذ مقرها عيشًا له، وقد صعد للطابق الخامس قبل الأخير وفتح شقته ودلفها ثم ضغط بإصبعه على مقبس الضوء وأنار صالة الشقة ثم جلس على أول مقعد يقابله بعدما تنهد بعمقٍ وراقب المكان بعينيهِ ثم بدأ في رحلة التجهيز للإقامة _وإن كانت مؤقتة_ هنا في هذه الشقة..
صدح صوت هاتفه وقبل أن يخرجه من جيب سترته ابتسم لكونه يعرف من صاحبة المخابرة الخلوية فهي بالطبع لم تكن أخرى غير أمـه، وما إن تيقن بعد إخراجه للهاتف توسعت بسمته عند استماعه لسؤالها الملهوف عليه:
_طمني يا حبيبي وصلت؟ أخبارك إيه؟.
زاحمت البسمة ملامحه ووقف ثم توجه إلى الشرفة المُطلة على منظرٍ بديعٍ ترتاح العين برؤيته وقد توغل السلام بداخله فور التقاء عينيه بما حولها وقد ظهر ذلك على صوته حينما هتف بارتخاءٍ:
_أنا كويس أوي متقلقيش، بعدين إحنا لسه بنقول يا هادي، أومال هتعملي إيه لما أتجوز؟ محتاجة تتدربي شوية.
زفرت والدته بحنقٍ وهتفت بنبرةٍ جامدة بعض الشيء ما إن علمت بمراوغته لها:
_أفضل كدا هزر وأقلبها ضحك وخلاص، بس لعلمك بقى أنا مش هينفعني الوضع دا، ليه حالك يتشقلب كدا؟ ماهي لو شقتك دي فيها حاجة كنت قولت براحته إنما دي على البلاط كلها، وكله بسبب تهوره، قولتله من الأول مش كل حاجة يسمع كلامها، بس تعمل إيه بقى؟ ربنا يهديهم علشان أنا تعبت.
ضحك هو ضحكة طفيفة بالكاد رُسمت على شفتيهِ وتبعها بقولهِ الذي أعرب عن قلة حيلتهما في أمر شقيقه:
_علشان هو بيحبها وأنتِ عارفة كدا كويس، بعدين هو عندك حاولي متتكلميش كدا علشان ميزعلش منك يا ماما.
ألقى الحديث بمعاتبةٍ طفيفة جعلتها تزفر حانقةً عليه ثم هتفت مُحتجة بنبرةٍ شبه مندفعة:
_ بقولك إيه أنا على أخري !! هو فوق مع العمال بيحط الحاجة بتاعته فوق السطح والمدام “نيرة” تعبانة يا حرام مكان ما شالت البيت والحاجة، وأهو واقفة بحضر العشا ليهم بعدما ظبطت ليهم الأوض، معرفش قلبي طاوعني إزاي وسمعت كلامك إنك تمشي.
زفر بقوةٍ ثم قرر إنهاء المكالمة معها هاتفًا بنزقٍ:
_طب قبل ما تفتحي السيرة دي أنا هروح أحط حاجتي علشان أروح أشوف أكل عيشي التاني، مع السلامة.
أنهى المكالمة سريعًا معها ثم وضع الهاتف في جيب سترته وعاد لسيرته الأولى حيث تفحص الشقة وترتيب ما يمكن له ترتيبه وقد دلف إحدى الغُرف ووضع بها حقيبة ثيابه قبل أن يغلقها ويتجه إلى عمله الثاني..
__________________________________
في شقة “علياء”..
قررت هي أن تهرب من هذا المكان وعليه أخذت القرار الأخير وهي أن تخرج وتتقابل مع “رنـا” رفيقتها التي قابلتها في الصباح صُدفةً في مقر العمل، وقد بدلت ثيابها بأخرى أنيقة تُلائم نـزهتها مع رفيقتها وما إن رآتها والدتها سألتها بتعجبٍ:
_إيه دا يا “علياء”؟ أنتِ هتنزلي وتسيبي أخواتك؟.
أطلقت “علياء” تنهيدة مُطولة تبعتها بقولها:
_آه يا ماما هنزل، دماغي ورمت من الصداع خلاص، ومن الصبح تنطيط وزعيق وصوت عالي، هخرج شوية وأرجع.
هتفت جملتها وتركت المُحيط تتوجه إلى الخارج هاربةً من أجواءٍ تضغط عليها وتجعلها في موضع اضطرابٍ، وفي الحقيقة إنه لأمرٍ صعب أن يكون الشخص عاشقًا للهدوء ثم يتفاجيء بنفسه وسط مدينةٍ الهدوء بداخلها شبه مُحرم في أشد حاجات المرء للهدوء والراحةِ..
خرجت “علياء” من البيت وولجت سيارة الأجرة التي سبق وطلبتها عبر الهاتف الذكي وقد ركبت السيارة التي سوف تقلها إلى المكان المُراد في مدينة “العـبور الجديدة” وبعد فترة طويلة من قيادة السيارة نزلت وولجت الكافيه الذي بدا من هيئته الخارجية أنه يليق بأصحاب المال الكثير المُرفهين..
دلفت “علياء” للطاولة التي تجلس عليها رفيقتها وبعد تبادل التحية والترحيب وتبادل القُبلات بينهما جلست كلتاهما في مواجهة الأخرى وقد نطقت “رنـا” تُرحب برفيقتها قائلةً:
_فرحت أوي إنك جيتي، طمنيني أخبارك إيه؟.
ألقت السؤال بنبرةٍ حماسية جعلت الأخرى تهتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_أهو تمام، فرحانة إني شوفتك وباين إنك مبسوطة رغم إني متخيلتش كدا خصوصًا بعد إنفصالك، بس إيه التغيير دا؟.
جاوبتها الأخرى بصوتٍ ظهرت فيه الراحة اللامُتناهية:
_أنا أول انفصالي تعبت أوي، بقيت عايشة حياة صعبة وكئيبة وكل الناس بقت تضغط عليا حتى أهلي، وسيبت الشغل من كُتر الكلام والتعب النفسي ولما لقيت الوضع كدا في بيت أهلي روحت شقتي اللي جيباها في الإسكان باسم أخويا، بقيت مستقلة وعايشة لوحدي بلا وجع دماغ يا شيخة.
ألقت الحديث بلامبالاةٍ جعلت الأخرى تضيق جفونها مُتعجبةً مما يُقال وسألتها حائرةً:
_يعني أنتِ دلوقتي عايشة لوحدك؟ من غير حد خالص؟.
حركت رأسها موافقةً وأضافت تُكمل فوق حديث الأخرى:
_ودي أحسن حاجة عملتها في حياتي، عيال أخواتي وأخواتي قرفوني، وبصرف على البيت ومش عاجب، وكل شوية حد يتكلم ويعلق، وزي الماكنة بلف وناسية نفسي، كل ما حد يشوفني يفتكرني كسرت الـ ٣٠ سنة وأنا يدوبك لسه في أول العشرينات، تعبت يا “علياء” ودلوقتي أنا براحتي بقى، بصرف على نفسي وفلوسي معايا ومرتاحة، شقة لوحدي أعمل اللي عاوزاه، والله يا بت اللي شار علينا بحوار شقق الإسكان دا ربنا يكرمه، مش أنتِ يا بت عندك شقتك؟.
سألتها “رنـا” بلهفةٍ جعلتها توميء لها بتعجبٍ بينما هي أضافت تستفسر من جديد:
_ طب الأول أحكيلي مالك؟ شكلك زعلان أوي.
تنهدت “علياء” وفكرت لبرهةٍ عابرة هل تخبرها بما تعانيه أم لا، لكنها حسمت أمرها وقررت أن تبوح بما يشغلها قائلةً:
_والله يا بنتي أنا زهقت، بشتغل وبتعب أوي كل يوم وآجي آخر الأسبوع أستنى يوم الخميس علشان أرتاح ألاقي البيت كله عندنا ومليان عيال ودوشة وقلق، الوضع بقى صعب غير كدا الفلوس مبلحقش أتهنى بيها، يعني يدوبك أدفع قسط الشقة في الإسكان والباقي مصاريف البيت ونصه رايح على العيال، أكيد زهقت، العمر عمال يمشي وأنا زي ما أنا محلك سر..
ارتسم اليأس على ملامح الأخرى وهتفت بحزنٍ لأجلها:
_ماهو دا اللي مخليني حسيت إنك متضايقة، لأني حسيت بيكِ يا “علياء” لو منك أسيب البيت لأخواتك وروحي أقعدي في شقتك، مش من شغلك ومالك؟ روحي أقعدي فيها وعرفيهم في البيت إن الشقة فيها مشاكل ولازم تقعدي فيها بدل ما الإسكان يسحبها منك، أنتِ أحق بالأيام اللي بتضيع منك دي، طالما كدا كدا لوحدك يبقى خليكِ لوحدك بقى بس في مكانك أنتِ..
اندفعت “علياء” مسرعةً بعد حديث الأخرى تهتف بلهفةٍ قاطعة:
_لأ لأ يا “رنـا” مستحيل، إزاي هسيب بيت أهلي؟ وأقعد لوحدي؟ بعدين الناس هتقول إيه عليا؟ وأخواتي وماما مش هيوافقوا أبدًا، كدا هكون بفتح على نفس أبواب النار وأنا مش حمل تعب الدماغ دا.
ألقت الحديث وكأنها تقنع نفسها بدلًا عن الأخرى التي ابتسمت بتهكمٍ وكأنها تسخر وتستهزيء بحديثها هاتفةً:
_يا شيخة؟ واللي أنتِ فيه دا مش وجع دماغ؟ اسمعي مني بكرة تعرفي إنك لازم تاخدي الخطوة دي وتقفي تسندي نفسك، الحياة دي مفيهاش حد بينفع حد، لا أخ ولا ابن ولا حتى راجل، أديني أتطلقت في الآخر أهو وخدت وقت علشان أقف على رجلي من تاني، صدقيني يا “علياء” الحياة بتمشي وإحنا بس اللي بنقف..
دخل الحديث أذنيْ “علياء” ليستوطن محله ويحتل المكان بعدما أخذ الرأس مقرًا له وكأنه بذلك يعلن سطوته وإحتلاله لها، وقد أنتهت الجلسة بعد مرور بعض الوقت وقررت “علياء” إن تعود إلى بيتها بعدما طلبت سيارة الأجرة التي سوف تقلها إلى منطقتها من جديد بعدما غابت تقريبًا أربع ساعات..
دلفت “علياء” البيت بحالٍ لم يختلف كثيرًا عن حال عودتها من العمل حيث الركض والصرخات والأصوات العالية التي شابهت الضجيج الذي لم يتوقف في مدينةٍ عُرفت بالغوغاء، وقد أغمضت جفونها يائسةً ودلفت إلى الداخل تلقي التحية على أخوتها بإقتضابٍ ثم جلست في مواجهتهم وهن يوجهن بصرهن إلى شاشة التلفاز وقد صدر منهن التجاهل لأفعال الصغار الذين قبلوا المكان رأسًا على عقبٍ، حيث أصبح كل شيءٍ فوق بعضه حتى أثاث البيت نفسه، وحينها عاد حديث رفيقتها ينتشر في رأسها ويتردد في سمعها كما يتوغل السم بداخل الأوردةِ..
كانت الفكرة أشبه بفكرة إحتلالٍ زادت في التوغل والإنتشار بداخل رأسها وقد أخرجت هاتفها سريعًا تبحث عن محتوى الفتيات اللاتي حصلن على الاستقلال بعيدًا عن بيوتهن، وقد ظهر لها الكثيرات ممن يطلق عليهن لقب “انفلونسرز” أي أنهن يعتبرن فئة مؤثرة في المجتمع، العديدات هنا في مواقع التواصل يتحدثن عن ضرورة استقلال الفتيات لتأسيس الحياة الخاصة بهن بعيدًا عن بيوت أهلهم، وقد بدأ المحتوى ينل إعجابها تدريجيًا لتلمع عيناها بوميضٍ وكأنها حصلت على مُرادها..
بدأت الفكرة تكتمل البناء في رأسها وكأنها مدينة فارغة كانت تحت الإنشاء ومن ثم بدأت البنايات تكتمل بجوار بعضها لتصبح مرتصة وملتصقة مع بعضها كل منها تشد أزر الأخرىٰ وتصبح الصورة مكتملة كما المدينة التي وصلها العمار وبعد فترة من البحث والانشغال مع الهاتف خرجت على صوت شقيقتها الكبرى “هبة” وهي تسألها بنبرةٍ متعجبة:
_بقالك ساعة ممئئة عينك في التليفون، سرحانة في إيه يا ست “علياء” ؟ من ساعة ما جيتي وأنتِ مش معانا.
حسنًا لقد ساهم صوت شقيقتها في إخراجها من حالة الشرود هذه ورفعت رأسها تطالع شقيقتها ثم حانت منها نظرة تجولية في المكان ثم ألقت جملتها كما تلقى القنبلة على الجميع لتصبح كلتاهما متشابهة في أثر الصدمة:
_أنا قررت إني أستقل بنفسي عن هنا، وهمشي من البيت.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية استقلال غير مقصود)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى