رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وثمانية 108 بقلم ياسمين عادل
رواية أغصان الزيتون الجزء المائة وثمانية
رواية أغصان الزيتون البارت المائة وثمانية
رواية أغصان الزيتون الحلقة المائة وثمانية
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل المائـة وثمانية.
الجُـزء الثـانـي :-
”ينهزم الإنسان أمام غضبهِ، حِقدهِ، كراهيتهِ.. ينهزم الإنسان أيضًا أمام حُبهِ.“
______________________________________
كانت عملية الفصل بينه وبين والدهِ غاية في الصعوبة، و “حمزة” متشبثًا به وكأنه آخر أمل تبقى له، وفي الأخير أبعدوه عنه لأجل تكرار محاولة إنعاش قلبه الذي توقف عن النبض. وقع “حمزة” جالسًا في زاوية غرفة الرعاية، بينما الأطباء والمسعفين من حوله محاولين إنقاذهِ، صعقات كهربية ومواد سائلة تم ضخها في أوردتهِ؛ ولكن كل ذلك لم يمنع ملك الموت من اجتثاء روحهِ من جذورها، ومات “صلاح”.
كل ما حدث كان على مرأى ومسمع منه، مات أبيهِ بين يديهِ، آخر من كان متبقيًا له من عائلتهِ التي ذهبت بالكامل، كل شئ انهدم فوق رأسه في هذه اللحظة، حتى وإن كان “صلاح” هو أبليس متجسدًا في هيئة إنسان، في النهاية هو والدهِ الذي ترعرع في كنفهِ وتحت حمايته. حالة الجمود المخيفة التي يبدو عليها الآن لم تكن سوى نتيجة صدمات كثيرة بقيت تتوالى على بعضها البعض، لم ينفث عن أيًا منهما، فصار گالجليد الذي لا ينصهر، فقط يقاوم عوامل التعرية لكي يبقى صامدًا صلدًا؛ لكنه من الداخل هشّ ضعيف، مع أول نشاط قوي للرياح سينهدم رأسًا على عقب.
*************************************
كانت المرة الأولى له، التي يقتحم فيها غرفة يتواجد فيها “مصطفى”، وعلى ما يبدو أن الأمر جلّ خطير. فتح “عِبيد” بابه دون سابق إنذار، لكن الأمر لم يكن مثيرًا لفضول “مصطفى” أو انتباههِ، فلم يُحرك ساكنًا وهو يستمع لصوت “عِبيد” وهو يتقافز من فمهِ وكأنها عصافير حطتّ على مائدة من الطعام :
– خلاص خلصت ياعمي.. خلصت من غير ما نحط إيدنا في نقطة دم.
ظل “مصطفى” على نفس الوضعية الشاردة، لا يأبه بمعرفة الخبر الشيّق الذي أتى به “عِبيد”، فـ عجّل الأخير بالتقدم منه وجلس أمامه أرضًا ليضع كفيهِ على فخذي “مصطفى” وهو يقول :
– صلاح خلاص ياعمي.. مات.
التفتت عينا “مصطفى” ببطءٍ حسيس، بترقبٍ متردد، حتى التقت عيناه بـ عينا “عِبيد”، ثم سألهُ متشككًا :
– مات بجد؟.
هزّ “عِبيد” رأسه مؤكدًا :
– بجد.. الخبر لسه جايلي من مستشفى السجن.
برقت عينا “مصطفى” بلمعانٍ بيِّن، وكأن قلبه ليس به من الطاقة ما يجعله يتحمل خبر گهذا، عاش سنواتٍ في انتظارهِ وها هو يأتيه على بُساطٍ ناعم، دون أي مجهود أو عناء؛ لكنه أتى في توقيت غير مناسب بالمرة، أتاه بعدما رقصت آلام الفقد على رُفات ولدهِ الوحيد، فـ بات گمن لا جذع له. أراد بشدة أن يرى حتى النعش الذي يحمله إلى مثواه الأخير، علّ هذا يُبرّد نيران صدرهِ المسعّرة، لكنه الآن لا يريد، حتى ذلك الإنتصار فقد شغفهِ ولم يعد راغبًا فيه، الآن هو محاصر بين الألم والندم، ومشقة محاولاتهِ -الغير مجدية- للتعايش مع مرضهِ الوهمي، وكأنه الورم الخبيث الذي ينمو في شرايينهِ.
*************************************
إنه الثالث من أيَّار..
وقد بدأت شمس الربيع تتسلط على أوجه البضعة القليلة من الحاضرين. غاب عن مراسم الدفن كثير من الوجوه التي كانت تدعي المحبة والوفاء، ولم يحضر سوى موظفي المكتب الذي يسعون لإستدامة عملهم في كيان “القُرشي” للمحاماة، وبعض الذين يسموّن من العائلة، أولئك الذين لا تراهم سوى في مراسم الحزن والفرح، ولم يتجاوز الأجمالي عشرون فردًا.
نزل “حمزة” حاملًا نعش أبيه لداخل القبر برفقة البعض، وكأن قلبهِ قد تحجر فلم يعد مؤثرًا فيه هيبة ذلك المكان الموحش، أو ربما اعتاد على ظُلمته الكئيبة ورائحتهِ المثيرة لمشاعر الذعر. ترك “حمزة” والدهِ المتوفى في قبرهِ وبدأ يصعد من جديد، فاقدًا كل معاني المشاعر التي قد يحسها إنسان في موقف گهذا. لحظات قليلة انتهى فيها المُقرئ من تلاوة القرآن، فـ أخرج “زيدان” بعض الورقات النقدية من أجل توزيعها على الفقراء الواقفين وحارس المدفن، ثم بدأ الجميع التوافد على “حمزة” من أجل تعزيتهِ قبل الذهاب من هنا نهائيًا. لم يستغرق الأمر سوى دقائق عديدة، ثم أصبح المكان بعدها خاويًا تمامًا، وكأنها ظُلمة حلّت على قلبهِ فلم يعد بها بصيصًا من النور. نظر من حوله، القبر.. التراب.. زروع الصبار الجافة.. وكل شئ أمامه فارغًا تمامًا گمشاعرهِ التي لا يستطيع تفسيرها بالضبط.
انتبه “حمزة” ليد “زيدان” التي وضعت على كتفهِ، ثم استمع لصوته وهو يقول :
– مش هنمشي من هنا يا باشا ولا إيه؟؟.. كفاية عليك كده ليك يومين سهران مدوقتش النوم!.
استمع لكلماتهِ بتركيز منعدم ولم يُجب، فقط أطبق جفونهِ مستشعرًا حرارة منبعثة من عينيه، ثم ألقى نظرة أخرى على قبر والدهِ والحسرة في قلبهِ أضعافًا مضاعفة، ومن ثم أحس بنفسه ينسحب رويدًا رويدًا من قلب هذا المشهد الموجع، إذ كان “زيدان” يجرّهُ جرًا، حتى وصل به أمام السيارة وفتح له بابها أيضًا، وبعدها تلفت نحو حارس المدفن ليهتف بـ :
– قفل يابا وانا هبقى أكلمك بعدين عشان نغير الزرع ده كله.. سلامو عليكو.
بقيت عينا “حمزة” على يافطة المدفن الرخامية والمحفور فيها بالعربية الفصحى (مدافن آل الُقرشي)، وقد ضمّت أغلبهم بالفعل، ولم يعد هناك سوى ذلك العمّ الذي لا يعرف عنه شيئًا ولا يذكر حتى شكله. لحظات وكانت السيارة تتحرك به من أمام المدافن، لكن كامل عقله ومداركهِ كانت لديهم هناك.
*************************************
كانت الإضاءة خافتة، معتمدة على لمبة إضاءة هادئة تميل للصُفرة، وهي تضع للصغير دهان مرطب للجلد بعدما حممتهُ بنفسها واهتمت بنظافته. قبّلت كفوفهِ ونظرت إليه لتراه يبتسم لها، فـ انبعجت شفتيها ببسمةٍ وديعة رقيقة وهي تمسح برفقٍ على وجهه، بدأ يهمهم بصوتٍ غير مفهوم؛ لكنها استشفت من بين صوته وحركات فمه ترديد حرف (الميم)، فـ اتسعت شفتاها بتحفزٍ وهي تحاول تلقينه :
– مــامــي.. قول معايا يلا.. مــامــي..
بحسب قدراتهِ الضعيفة كان يُقلد حرف الميم منها، فُيزيد من بهجتها ولو قليلًا ليُنسيها مرارةٍ رافقتها طوال لياليها الماضية. حملتهُ ليبقى قريبًا من قلبها، ثم ضمته دون أن تؤذيه، ومسحت على ظهره وهي تغمغم بخفوت :
– لازم ننام بقى، الساعة بقت ١٠ ونص..
ونظرت في ساعة الحائط لتتذكر توًا..
مرّ يومان على وجود “زين” معها، لم يسأل فيهم “حمزة” أو يظهر أمامها أو يتواصل معها، بالرغم من إنه وعد بعودتهِ في نفس اليوم. كان غريبًا عليها تركه لها بعد كل هذه المحاولات التي لم تؤتي ثمارها، وكأن ما منعه عنها جلّ خطير.
تركته “سُلاف” في فراشهِ الصغير وخرجت من الغرفة منتوية استكشاف ما يدور من حولها، بعدما ظلت بعيدة عن كل شئ لعدة أيام أحست فيهم وكأنها مرّت على سنوات وليست ليالي قليلة. كانت الصالة فارغة، فـ نظرت بإتجاه الغرفة المقابلة لترى الباب مواربًا والصوت يأتي من نواحيهِ، اقتربت بنية الدخول لكنها توقفت بمحلّها فجأة، مع سماع أسمه بين الكلمات المذكورة :
– أنا مُشفق عليه.. انت عارف اننا أكتر ناس جربنا يعني إيه نخسر أهالينا.
لم يكن “عِبيد” متفقًا معه في الرأي، على العكس كان يرى إنها حكمة القدير الذي لا يظلم أحدًا :
– كل ظالم له نهاية تشبهه يا نضال.. وصلاح كان لازم هيموت، بل بالعكس كان المفروض يتعذب قبل ما يواجه نهاية الطريق بالسهولة دي.. أما لو بتكلم على حمزة ده واحد كبر وسط أهله، معرفش معنى إنك تكبر وحيد.. لا ليك أهل ولا سند، ملكش غير ربنا.
تنهد “نضال” ومازال شعور الشفقة متغلغلًا فيه حتى أعماقهِ :
– برضو حمزة مكنش طاغي زي أبوه.. صحيح خد منه كتير وظلم ناس في سكته وجه على حقوق ناس تانين، بس في حياته محطش إيده في الدم.
نهض “عِبيد” عن جلسته وقد سئم محاولات “نضال” للدفاع عن “حمزة”، فقرر التهرب من تلك المناقشة التي لم تروق له :
– أهو ده اللي ناقص فعلًا عشان أقدر أحكم إنه إنسان ولا شيطان.. ما علينا، انت من زمان وانت مايل لحمزة فـ انا مش هستغرب من موقفك.. المهم مين هيقول لسُلاف إن صلاح مات؟!..
كانت مفاجئة..
مفاجئة حقيقية أصابتها بالذهول، كأنها لم تتكن تتوقع هذه النهاية السريعة، ودّت لو إنه تجرع المرارة والحسرة على حاله أولًا قبل أن يموت، أو أن يتأرجح حبل المشنقة أمام عينيه لليالٍ قبيل أن يذهب للأبد إلى الجحيم. تراجعت “سُلاف” للخلف خطوات، ببطءٍ غير متعمد، وكأن عقلها قد توقف لدى “حـمـزة” وفقدهِ الجديد، تُرى ماذا يعيش الآن؟!.
***************************************
لدقائق عديدة كان واقفًا في تلك الحديقة المُهملة، وأمامه المنزل الذي ترعرع فيه وقضى به أغلب سنوات عمره. لقد أصبح گالمقبرة التي تضم الكثير من الذكريات التي لا يود أن يذكرها، بعدما بات وحيدًا ولم يبقى له أي أحد، لم يبقَ أحد على الإطلاق.
كان ذلك المعنى الحقيقي للوحدة، حتى وإن كان أبيه زبانية، فقد ذهب آخر ضلع في المثلث الذي كان يُحيط به، لم يعد له أهل ولا سكن، حتى هذا المنزل لم يعد له ولا يسعهُ أبدًا. خطوات أخيرة يخطوها نحو المنزل، منتويًا الرحيل منه الليلة، على أن لا يعود إليه أبدًا. خطوة تلاها خطوة، حتى وصلت أقدامهِ لأعتاب الباب، فوقف متجمدًا لا يقوَ على خطو خطوة أخرى، حتى تفاجأ بالباب ينفتح على مصرعيهِ، وتظهر هي من خلفهِ في مفاجأة غير متوقعة بالمرة، بل إنه لم يصدق إنها أمامه من الأساس. لحظات استغرقها لإستيعاب إنها هنا، حتى مرت تلك العبرة من بين جفنيها أمامه، وفتحت ذراعيها لتستقبله بين أحضانها، في فعلٍ لم يكن يُصدق على الإطلاق. لوهله لم يصدق “حمزة” إنها هي.. هي تلك الجسورة التي عادها لوقت طويل، تفتح له صدرها كي تسعهُ فيه، عوضًا عن المنازل والطرقات والشوارع التي لم تعد تسع وجودهِ فيها، فلم يتردد “حمزة” في الإرتماء بأحضانها، وشدد على ذراعيهِ يضمها بقوةٍ وهو يصرخ متألمًا :
– آآآآآآه….
وها هو البكاء ينهمر من عينيهما معًا، وتفيض من بين ضلوعهم المشاعر الجيّاشة المكتومة معًا، في مشهد لأول مرة يعيشاه بشكلٍ متبادل، بعدما صار الهمّ متشابهًا. ببطءٍ كانا يستسلمان للإرتخاء في آنٍ واحد، وكأنه غُصن شجرةٍ، حملت عديد من الورقات المتشابهة، والتي تساقطت معًا في لحظةٍ واحدة.
**************************************
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)