رواية أغصان الزيتون الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم ياسمين عادل
رواية أغصان الزيتون الجزء الثاني والثلاثون
رواية أغصان الزيتون البارت الثاني والثلاثون
رواية أغصان الزيتون الحلقة الثانية والثلاثون
“إنَّ كيدٍهُنّ عَظيِم”
____________________________________
كاد عقله ينفجر من فرط الضغط عليه، محاولًا استذكار أين ومتى رأى ذلك المكان من قبل؟. يكاد يجزم إنه رآه حتى وإن كان في حلمه؛ لكن عقله أبى أن يُسعفه، وظلّ گالتائه الشريد ينظر من حوله عسى أن يجد ما يُذكره؛ لكن مجهودهِ ذهب سدى. أفاق من تلك الحالة على رغبة عارمة في رؤية “سُلاف” فورًا، قد تحلّ له اللغز ويعرف أين هو؟، فـ أسرع يبحث عن مدخل يؤدي به للداخل، ليجد باب حديد ضخم مغلق بأصفاد حديدية قديمة تراكم عليها الصدأ، تركه وبحث عن آخر، فـ وجد باب صغير من الخشب بدون مقبض للفتح، دفعهُ دفعة بسيطة ليكتشف إنه مواربًا، وإشرأب برأسه للداخل وهو يستكشف بترقبٍ هوية المكان. كان خاويًا فارغًا من أي أحد، فـ مدّ ساقه اليسرى بخطوة للداخل، وعيناه تتدارس تفاصيل المكان بفكرٍ مشوش، تجول بين الماكينات الضخمة العتيقة المغلفة بطبقات الصدأ، حينئذٍ لمح على مرمى بصرهِ سُلم، مشى نحوه، وصعد بخطى متعجلة ليجد ريحها يُحيط به، تلك الرائحة المميزة التي تُميزها عن غيرها، عِطر أنثوى صارخ ومثير لا تستخدم بديلًا عنه، فاحت رائحته من حوله، فـ تأكد إنها كانت هنا منذ لحظات من الآن. عبر من غرفة لغرفة، ومن مكتب لآخر؛ بدون أي فائدة أو جدوى، فهو لم يتعرف على المكان، وهي غير موجودة هنا، لتذهب محاولاتهِ – الفاشلة – للجحيم، دون نتيجة واحدة، ما جعل الجنون ينبش في عقلهِ مخربًا رأسهِ، مسببًا ألم فاق حتى قدرتهِ على تخطيهِ. تغممت عيناه وكأن الدنيا اتشحت بالسواد، وأطبق جفنيهِ يعتصرهما بقوةٍ قبل أن يضحك هازئًا من ذلك الوضع الذي بقى فيه، وتمتم بسخرية :
– كل ما أقول اتقدمت عنها خطوة أرجع لورا عشرة!.
دفع زفيرًا مختنقًا من صدرهِ قبل أن يتابع :
– برضو مش هرتاح غير لما أوصل للحقيقة كلها!.
**************************************
وضعت “زين” في فراشهِ الصغير، ودثرتهُ جيدًا بالغطاء وهي تبتسم بنعومةٍ حانية، قبل أن تبتعد عن الفراش وتسير نحو النافذة المغلقة. أطلت بعيناها عبر الزجاج ومن خلف الستائر الشفافة، لترى سيارة “حمزة” تقترب من منزلها، يبدو إنه فشل في إيجاد الجواب المناسب هناك، فـ أتى ليستجوبها گعادتهِ. انبعجت شفتيها بإبتسامةٍ خفيفة، ثم دلفت للداخل وهي تستعيد في ذهنها تفاصيل ما حدث منذ قليل.
— عودة بالوقت للسابق —
ظلت “سُلاف” واقفة بمحلها، تراقب “عِبيد” وهو يفحص السيارة جيدًا ويفتش أجزائها جزءًا جزءًا، حتى لاحظت حركة غير طبيعية منه؛ وكأنه وجد شيئًا ويستكشف ماهيته، فـ دنت منه وعيناها تنظر بترقبٍ لما بين يديه، وسألت :
– إيه ده!.
رفع “عِبيد” يده مشيرًا لذلك الشئ :
– ده جهاز تتبع كان تحت الكرسي اللي جمبك.. مين ركب معاكي هنا غيري!؟.
بُهتت، وتذكرت على الفور دخوله سيارتها وشكوكها التي كانت حوله، والتي كانت صحيحة تمامًا :
– حمزة!.. حمزة اللي ركب هنا امبارح!.
—عودة للوقت الحالي—
خرجت أمام بوابة المنزل لتراه مازال جالسًا في سيارتهِ، يتطلع إليها بنظراتٍ مريبة، لم تفهم تحديدًا ما معناها، وكأنه ملّ تلك اللعبة الدائرة بينهما، إنما الحقيقة إنه منتظر بشغف ما الذي ستنتهي إليه الأمور، ما الجديد في جُعبتها والتي ستفاجئ به الجميع. مثلما توقع تمامًا، لم يحرك ساكنًا من موضعه، بل هي التي ذهبت إليه، واستقرت بجوارهِ في سيارتهِ، ودون أن تترك للصمت فرصة بينهما كانت تسأله مباشرة :
– عجبك المكان هناك؟.
فهم فورًا إلام ترمي، وإنها كشفت لعبته للإيقاع بها، فقرر عدم مرواغتها الآن – على الأقل -، وأفاض بما أتى على ذهنه :
– مش قد كده، محتاج شوية تأهيل، ولا إيه رأيك؟.
– مش محتاج، أنا حبيته كده.
في نفس اللحظة، كان كلاهما يلتفت برأسه لينظر للآخر نظرةٍ حاقدة كارهه، نظرةٍ اختبأ خلف صمتها كثير من المشاعر وكثير من النوايا المدسوسة، وفي نفس اللحظة أيضًا انصرف كلاهما عن النظر للآخر وتعلقت عيناهم بالفراغ. وضعت “سُلاف” جهاز التتبع خاصته جانب يده، وهتفت بـ :
– الجهاز ده وقع منك في عربيتي، المرة الجاية أبقى خبيه كويس.
أنهت عبارتها وفتحت باب السيارة حينما كان يرد عليها :
– وعد هخلي بالي المرة الجاية.
صفقت باب السيارة ووقفت جانبًا، لوحت له بيدها قبل أن ينصرف وهي تهتف بـ :
– باي..
لم تنتظر انصرافهِ، بل أولته ظهرها واتجهت للدخول وهي تسمع صوت سيارتهِ المغادرة. أغلقت الباب واستندت بظهرها عليه، واستغرقت وقفتها بنفس المكان لحظات طويلة قضتها في الشرود، حتى قطع عليها “زين” لحظتها بصوت بكاءهِ، فـ راحت تركض لتلحق به، ملقية بملف “حمزة” من رأسها تمامًا، لبعض الوقت فقط من أجل صغيرها الوحيد.
***************************************
– الدنيا مقلوبة ياحمزة!.. موضوع قتل تهاني ده مش هيعدي بالساهل.
تناول “حمزة” مشروبه بين يديه، وهو يشمل المحيط من حوله بنظرات تائهه خالية من التركيز :
– أكيد، مش اتقتلت قدام مبنى النيابة!.. لازم الدنيا تقوم.
ترك “راغب” قداحته بعد إشعال سيجارته، دون الإنتباه بأن “حمزة” يبغض رائحة النيكوتين ولا يتقبله، وتحدث بتلقائية قائلًا :
– طب وهنعمل إيه؟.. الصبح هيكون عندك استدعاء عشان تقول أقوالك.
ارتشف رشفة أعقبها بنظرة استهجان سددها لـ “راغب”، ثم انتقلت أنظاره نحو السيجارة وهو يهتف بصياحٍ منفعل :
– إنت بتعمل إيه ياراغب!!.
انتبه “راغب” أخيرًا، فـ دعس السيجارة قبل أن يتمتع بنفس واحد منها، وذمّ على شفتيه وهو يقول :
– أهو ياعم، قرفتني يا حمزة.
تفاجأ كلاهما برجل يسحب مقعد من جوارهم، فـ زجرهُ “حمزة” بإمتعاضٍ مستنكر :
– بتعمل إيه ياأخينا؟.
تجاهله تمامًا وهو يلتفت ناظرًا لربّ عمله :
– أتفضل يا باشا.
التفت “حمزة” برأسه ليرى “شاكر” يستعد للإنضمام إليهم، فتلوت شفتيهِ كابحًا أي اعتراض قد يبديه، بينما وزّع “راغب” نظرات الفضول بينهما، حينئذٍ كسر “شاكر” حاجز الصمت بسؤاله المباغت :
– مين اللي عمل كده ياحمزة؟.
بسمة مستخفة قفزت على ثغرهِ أولًا، ثم أجاب على سؤاله بسؤال آخر :
– لسه كنت هسأل نفس السؤال، ياترى مين اللي عملها؟.
تفهم “شاكر” إلى ماذا يرمي؛ لكنه تعمد ألا يبدي تفهمه وسأل سؤاله بصيغة أخرى مباشرة :
– مين خطف بنتي ولبسهالك؟.
لحظات من السكوت المريب، والكل ينظر لبعضه البعض. لم يطيل “حمزة” التفكير ، فهو حاسمًا للجواب منذ الوهله الأولى، وفجأة كان يجيبه بـ :
– معرفش!. أنا زيي زيك.
اتسعت عينا “راغب” وهو ينظر لصديقهِ مذهولًا، فـ لماذا قد يحمي “سُلاف” ويرفض الإعتراف عليها؟.. لماذا لا يضعها أمام “شاكر” ويخلصّ نفسه من كل تلك الألاعيب؟. لم يفهم لماذا قد يفعل “حمزة” شئ گهذا، بل و أصرّ أيضًا على التمسك بما قاله :
– زي ما بقولك كده، رسالة جاتلي بالمكان اللي هلاقي فيه ميان، روحت لقيتها هناك.
لم يصدقهُ “شاكر”، أحس بوجود شائبةٍ ما في الأمر، لا يدري لماذا راوده ذلك الشعور؛ لكنه على يقين أن ثمة أمور مريبة تحدث ولا يعلم عنها شيئًا.
طالت نظراتهم الساهمة لبعضهما البعض، حينها تدخل “راغب” لحلّ ذلك الصمت :
– لو في معلومة عند حمزة أكيد كان بلغك ياباشا، إحنا في مركب واحدة ويهمنا نوصل للي عايز يغرقنا كلنا.
تقوست شفتي “شاكر” بإستخفاف، وعلى ما يبدو إنه لم يقتنع كثيرًا بتلك الكلمات المتملقة :
– لأ إحنا مش في مركب واحدة!.. واللي هيغرق في الآخر مش أنا.
نهض “شاكر” عن مكانه، فوقف “حمزة” أيضًا ليسأله مباشرة :
– إنت اللي قتلت تهاني؟.
لم يحرك “شاكر” ساكنًا، ولم يهتز له رمش واحد، بل كان ثابتًا وهو يرد بفتورٍ :
– معرفش بتكلم عن مين؟. ويفضل لو متسألنيش عن ناس معرفهمش.
ضحك “حمزة” قبل أن يربت على ذراعه قائلًا :
– طبعًا متعرفش ياباشا، أساسًا ده اللي كان لازم يحصل.. المهم اللي عمل حاجه ينضف ورا منه.
وعاد يجلس في مكانه وهو يسأل “راغب” بتجاهل متعمد لـ “شاكر”، وكأنه طرد مهين وغير مباشر :
– أنا جعان، نتعشى إيه ياراغب.
فتح “راغب” قائمة الطلبات وبدأ يفرز الأكلات المتاحة وهو يردف بـ :
– في هنا آ……
لم يتمم “راغب” كلمته حتى كان “شاكر” منصرفًا من أمامهم، تكاد أذنيهِ تدفع دخان من فرط غضبه. أغلق قائمة الطلبات، وسدد نظرة حازمة لصديقهِ وهو يسأله :
– ليه بتحميها يا حمزة!.. ما تسلمها لشاكر وتخلص نفسك وتخلصنا كلنا!.
ذمّ “حمزة” على شفتيه شاعرًا بسخونة ممتعضة تتفشّى بصدرهِ، وهتف بـ ضيقٍ سيطر عليه :
– ولما أخلص منها بالشكل ده هعرف مين وراها إزاي؟ هعرف عملت كل ده ليه من مين؟؟.. سُلاف لسه مجاش وقتها يا راغب، أنا هخططلها بدماغ متكلفة بس في وقته.
نهض “حمزة” وهو يجمع أشيائه قائلًا :
– قوم خلينا نسهر في أي مكان، أنا مش طايق نفسي وعايز أغير جو.
لم يسمح “راغب” لنفسه بأن يتشتت، أو يظهر تغييرًا مفاجئًا في إنفعالاتهِ، كي لا يلاحظ “حمزة” ذلك عليه وهو يرفض الخروج تلك الليلة :
– لأ مش قادر، معنديش طاقة أعمل أي حاجه، ده غير إن أبوك مكلفني بشغل من ٧ الصبح، يدوب أروح أريح.
لم يكترث “حمزة” له، ولم يعطي للأمر تركيزًا من الأساس، بل سحب نفسه كي يروح عنها قليلًا :
– براحتك أنا ماشي، سلام.
تنهد “راغب” بإرتياحٍ وهو يراه يغادر، وأمسك هاتفه ليتحدث عبرهِ، وقد لانت نبرتهِ كثيرًا :
– أيوة ياحببتي، لأ مش هتأخر أنا في الطريق أهو.
وابتسم بتحمسٍ مفرط وهو يردف بـ :
– غمضي وفتحي هتلاقيني قدامك.
نظر حوله كأنه يستكشف ما إن كان يستمع إليه أحد، قبل أن يهمس بـ :
– وأنا كمان.. بـحـبك أوي.
**************************************
منذ الصبيحة المبكرة وهي تعمل على قدمٍ وساق، لتضخ في تلك القضية عُصارة تجاربها في الحقوق وما تعلمته بالأربع أعوام بجانب تدريبها على يد “عناني”، بعدما تعهدت لنفسها أن تفوز بالقضية التي أقسم “حمزة” إنها لن تفوز بها وستخسرها لا محالة، حتى إنها لجأت لـ أستاذها المُخضرم أيضًا، من أجل أن يكون لها عونًا تلتجئ إليه حين الحاجه.
خرجت “سُلاف” ومن خلفها “عناني”، عقب حضور أول عرض على النيابة برفقة المتهمة قاتلة زوجها، التفتت إليها “سُلاف” وهي ترسم تلك البسمة المتكلفة على وجهها، وطمئنتها قائلة :
– متقلقيش يا مدام إبتسام، القضية في جيبنا وأنا هبذل كل جهدي عشان أخرجك من هنا.
حنت “إبتسام” بصرها أولًا، ثم نكست رأسها وهي تهتف بصوتٍ مقهور :
– ويمكن مخرجش ولا أشوف الدنيا تاني.
تدخل “عناني” بدورهِ قائلًا :
– متقوليش كده، خلي عندك ثقة فينا يا إبتسام، إنتي كنتي في موقف دفاع عن النفس وإحنا هنحاول نثبت ده للنيابة، متقلقيش خالص.
كانت فاقدة تمامًا للأمل، مؤمنة بأن نهايتها ستكون هنا في السجن، في قبر الأحياء على الأرض، كأنها لم تقتنع كثيرًا بكل ذلك الأمل الذي بعثتهُ إليها “سُلاف”. سارت بطواعية من خلف المجند، حينما كانت “سُلاف” تردف بـ :
– أنا هتحرك فورًا مش هضيع وقت أبدًا.
– كل لحظة في صالحنا يا سُلاف، أنا واثق فيكي تمامًا.
صوت الزمجره الغاضبة المصحوب بغوغاء أتت من الخلف، جعلت مداركهم تنتبه كليًا لذلك الذي يحدث بالقرب منهم. كانوا بضع رجال ضِخام الجسد إلى حدٍ ما، يتناقشون سويًا بصياحٍ مرتفع حتى فهم الجميع حول ماذا يتحدثون :
– مش هيحصل، لو مخدتش إعدام أنا هعدمها بـ يدّي.
حاول أحدهم تهدئته قائلًا :
– أهدى بس يا عبـ باري (عبد الباري)، أخوك دمه مش هيروح هدر.. دي تبقى القيامة قامت ياولاد!.
أصرفت “سُلاف” بصرها عنهم وهي تكتفي بسماعهم فقط :
– أمال إيه اللي سمعته ده، في محامي هيمسك القضية وقال إيه هيخرجها!!.. ده بعدها هي وأهلها كلهم، هي تقتل أخويا وتعيش بعدها متهنية! عليا النعمة ما يجرى ولا يحصل!.
– لو هما جابوا محامي هنجيب عشرة، وإحنا وهي والزمن طويل، إبتسام بنت حسنات الفرارجية (بائعة الطيور والدجاج).
تبادل “عناني” النظرات مع “سُلاف” التي برقت عيناها بلمعانٍ يحمل مغزى خبيثٍ وعابث ، فـ فهم على الفور إنها فكرت بشئ ما. مشى كلاهما بعيدًا عن تلك الضجة، وسألها “عناني” بخفوتٍ فضولي :
– هتعملي إيه يا سُلاف؟!
تبسمت “سُلاف” بتحفزٍ وقد تنشطّ الإدرينالين في دمائها، وأجابت بتورية غير واضحة :
– هعمل كتير أوي يا مستر عناني، بس انت أتفرج عليا وشجعني.
وضحكت من جديد وقد تراقصت أمام عينيها صورة “حمزة” المسكين، والذي ستُسدد له ضربة جديدة قبل أن يستوعب عقله الضربات القديمة التي لم ينهض من أسفلها بعد، متيقنة من إنه قد يُصاب بالشلل في أي وقت، من فرط قسوة مفاجآتها التي لا تنتهي، لا تنتـهـي أبـدًا !….
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)