رواية أغصان الزيتون الفصل الثاني والأربعون 42 بقلم ياسمين عادل
رواية أغصان الزيتون الجزء الثاني والأربعون
رواية أغصان الزيتون البارت الثاني والأربعون
رواية أغصان الزيتون الحلقة الثانية والأربعون
“غامضة، مخيفة، وغدّارة”
_____________________________________
كانت أنيقة گعادتها، ترسم ابتسامة شامخة على محياها وتجلس بهيئةٍ وقورة في وجود زوج ابنتها العزيز. لاحظت تعابير ساخطة على وجهه، فـ استطاعت استنباط إنه تذمر مع مرور الوقت في انتظار عودة زوجته الهاربة من الخارج، فـ سعت لتخليصهِ من هذا الجمود الواضح بإختلاق حديث معه :
– كاليفورنيا بقت عامله إزاي دلوقتي!؟.. أنا بقالي أكتر من ٥ سنين مروحتش.
نظر “حاتم” في ساعة يدهِ وهو يجيب بغير اكتراث :
– كويسة.
ثم سألها بدون مقدمات، وقد تبين الحزم في نبرتهِ :
– هي الهانم متعودة تتأخر برا كل يوم ولا إيه!.
حمحم “صلاح” وهو ينظر لزوجته بتحرجٍ و :
– لأ أبدًا، أكيد في حاجه عطلتها.. كلميها يا أسما.
أومأت “أسما” رأسها بتفهمٍ ونهضت عن جلستها، خرجت وهي تلعن ذلك الحظ الذي جعلهم في ذلك الموقف، خاصة وإنها أصغت لولدها ولم تخبر “صلاح” بشأن هروب “يسرا” من زوجها ريثما تهدأ الأمور؛ ولكن الحال تدهور أكثر من المتوقع، وبات عليهم تفسير الوضع مرتان، مرة لـ والدها الذي يجهل بالأمر كله، ومرة لزوجها الذي عاد وفي جيبهِ حفنة من البارود. تأففت “أسما” وهي تأمر خادمها بـ :
– هاتلي تليفوني من فوق بسرعة يا عطا.
تردد “عطا” حول إخبارها أم لا، وتحول ذلك التردد المرتبك لتعابير طفت على ملامحه فاضحة لأمره، فـ زجرته “أسما” بإمتعاض وهي تهتف بصياحٍ شبه مكتوم :
– ما تتحرك يا عطا!!.. انت لسه هتصورني.
قرر “عطا” إخبارها في النهاية، لكي يرفع عن نفسه تهمة إخفاء خبر قد ينقذ الموقف الحالي :
– في حاجه لازم تعرفيها يا هانم.. آ، أصل الهانم الصغيرة كلمتني و.. يعني آ…..
تحفزت حواسها، كأن الدم قد اندفع لعروقها اندفاعًا، ولم تتحمل صبرًا لأكثر من ذلك :
– إيـــه يا عـطا!.. ما تكمل.
– سألتني مين اللي موجود هنا وقولتلها، ولما بصيت من شباك المطبخ لقيت عربيتها بتخرج من الممر طوالي لما عرفت.
كتمت “أسما” شهقة كادت تندلع من جوفها، وانتشرت معالم التوجس المرتعب على وجهها وهي تُصرفه على الفور :
– وجاي تقول دلوقتي!!.. أمشي من قدامي بدل ما أمشيك من هنا خالص!.
توزعت أنظارها المتوترة ما بين باب الخروج وبين باب غرفة إستقبال الضيوف، وهمست بـ :
– طب وبعدين! ليه كده يا يسرا!!.. أعمل إيه انا دلوقتي!.
**************************************
– متأكد يا راغب؟؟ يعني مبقاش في أثر للڤيديو ده!.
مدد “راغب” ساقيه على الأريكة وهو يتجرع من زجاجة المياه الغازية، ثم أجابه بثقة بالغة :
– متقلقش خالص، الحساب الـ fake (مزيف) اللي نشر الڤيديو ده قفلناه خالص، والمشهد اتحذف بنسبة ٩٨٪ من كل المواقع، فاضل نسبة مشاركات بسيطة جدًا شغالين عليها.
تجشأ “راغب” رغمًا عنه نتيجة الغازات المفرطة التي شربها اليوم، فـ استنكر “حمزة” تصرفه قائلًا :
– وداني يا بني الله يقرفك!.
ترك “راغب” زجاجتهِ فارغة، وتجاوز عبارة رفيقه الجانبية ليتسائل بفضول :
– بس انت إيه خلاك ترجع في كلامك وتبات في مطروح النهاردة!.. مش كنت خلاص راجع.
– بكرة.. بكرة هبقى أرجع مع الهانم .
تغضن جبين “راغب” مستفهمًا :
– هانم مين!.. انت خدت معاك حد!.
– أقصد اللي ما تتسمى.
تناول “حمزة” كوب الشاي بالنعناع المُخمر على الفحم من “زيدان” و :
– تسلم يا أبو زيد.. طب انا هقفل معاك وأرجعلك تاني يا راغب.
– طيب مستنيك.
أغلق “حمزة” هاتفه ونظر للشاي الذي فاحت رائحتهِ الذكية، ثم أثنى على صنيعه :
– شكرًا يا ابو زيد.
– على إيه بس، دول شوية شاي إنما يعدلوا المزاج، بالهنا يا ابو البشوات.. المهم أكلنا عجبك؟؟.
– أوي.. انت اتعلمت الطبخ فين؟.
فأجاب “زيدان” بإعتزاز مفتخر :
– وانا في الملجأ.
تعجب “حمزة” من تلقائيته المتباهية، وكأنه قد تخرج من إحدى الجامعات الأجنبية مثلًا أو حظى بتعليم على مستوى رفيع، قرأ “زيدان” ذلك على وجهه بوضوح شديد، فـ أعلنها بصراحة مطلقة :
– متستغربش، أيوة أنا قضيت عمري في الملجأ وخرجت جتة زي ماانت واعي عليا كده.. لولا الملجأ ده مكنتش اتكحرت (اتبهدلت) وعرفت أشق طريقي، وهناك بقى كنت بطبخ ليا وللعيال اللي كانوا في رقبتي، أصل لا مؤاخذة هناك كل جماعة ليهم كبيرهم، وأنا بقى كنت الكبير بتاع العيال اللي معايا.. الطباخ كان يقعد حاطط رجل على رجل ويشغلنا احنا، لحد ما بقيت أسطى طباخ قد الدنيا.. بس أعجبك أوي
ضحك “حمزة” متغلبًا على همومهِ الثقيلة، وإذ به يكتشف أن همهِ مقارنة بـ ذلك الإنسان البائس ليست شيئًا يُذكر، فهو الذي عاش مُرفهًا مُنعم بترفٍ منذ صغرهِ، لم يشقى أو يتعس قطّ. تنهد “حمزة” وقد أخذهُ الشغف لمعرفة ما بقى من قصتهِ :
– وبعدين!.. حسنين قالي إنكوا كنتوا زمايل في زنزانة واحدة.. اتسجنت ليه ؟.
لم يخفي “زيدان” شيئًا، بل أفضى بكل ما لديه :
– عشان السمكة قررت تخرج من الميا، كان عندي مصلحة كده بقضيها واضطريت أسيب المحافظة وأنزل مصر.. وكان يوم كوبيا (أسود) بعيد عنك، كنت سايق مقطورة بتهرب مخدرات وعليا أوصلها لمكانها، ولجل الحظ قابلت في وشي كمين فيه ظابط غتت، قفش المصلحة وعكشني (مسكني).
ثم ضحك “زيدان” وهو يتابع الجزء الأكثر إثارة في الأمر :
– وخدت فيها ٥ سنين مع الشغل، والناس صحاب المصلحة راحوا في أبو نكلة (داهيه).. اتمسك منهم اتنين، وعرفت إن التالت هو البوب الكبير، محدش قدر يفتح حنكه (فمه) بكلمة ويبلغ بأسمه.. وبس كده.
ترك “حمزة” كوب الشاي ونظر إليه مليًا، ثم سأله مباشرة :
– ليه خلتني أتراجع عن السفر وصممت آخد سُلاف معايا القاهرة ؟؟.
فـ صارحه “زيدان” بما يكنّه في ضميره :
– عشان من الآخر مش عايزها تبقى هنا وأنا بـ أطقّس (أبحث) عنها.. لأني عارف إن جدرها هيطلع من هنا.
قطب “حمزة” جبينه وملأت الثنايات وجهه وهو يسأل مستفهمًا :
– قصدك إنها من هنا؟؟.. يعني انا كنت بدور في المكان الغلط!؟.
– اسم الله عليك.. هو كده بالظبط.
نهض “زيدان” عن مكانه و هو يدعوه :
– قوم بينا نطلع على البحر، هشممك شوية هوا يردوا الروح.
نفخ “حمزة” بإعتراض و :
– انت مصمم توديني البحر ليه؟؟.. ثم إني ماليش في جو البحر ده خالص، وكمان شوفت شواطئ أحلى من هنا ١٠٠ مرة.
لم يسمح “زيدان” بعبارة مستهينة گتلك عن المحافظة التي ترعرع فيها ويعشق ترابها حتى النخاع :
– لأ لأ ياابو البشوات كده أزعل.. مطروح مفيش شط في الدنيا ييجي جمبها حاجه.
– بس انا مبحبش أشوف البحر بالليل، بيبقى غامض وغدّار.
– اللي منزلش البحر بالليل يبقى عمره ما نزل البحر.. يلا بينا وأنا هوريك البحر كما لم تراه من قبل.
ضحك “حمزة” على عبارتهِ الأخيرة، فـ عقّب “زيدان” ممازحًا إيه :
– لأ ده أنا في اللغات أعجبك أوي.. آه والله.
**************************************
مضى “راغب” نحو الباب حافيًا، بعدما قطع نومهِ أثر صوت جرس الباب. فتحه ليُصدم بها أمامهِ، وحالة وجهها غير مبشرة على الإطلاق، فـ اجتذبها للداخل وصفق الباب وهو يسألها بقلق :
– في إيه يا يسرا!!.. إيه اللي حصل؟.
ازدردت ريقها وكأن الكلمات قد وقفت في حلقها، فـ رافقها “راغب” حتى الداخل وأجلسها جوارهِ بلطفٍ تُحبه فيه، ثم مسد على ذراعيها وهو يسأل بصوتهِ المتّزن :
– أهدي وقوليلي مالك؟.
أطبقت جفنيها تعتصرهم، قبل أن تهتف بصوتٍ مائل للقهر :
– حاتم، حاتم جه ورايا مصر يا راغب!.
حدق فيها مذهولًا من ذلك الخبر الصاعق الذي لم يحسب حسابهِ، نظراتهم التي تبادلت بين بعضهم البعض حملت كثير من الريبة. استشعر تضاعف خوفها بعدمل رأت مثيله في عينيهِ، فـ سحبها لأحضانهِ قاصدًا امتصاص كل مشاعر الخوف من صدرها، وبكفهِ مسح على ظهرها دون أن ينبث كلمة واحدة، مكتفيًا بالدعم النفسي الذي يجاهد فيه الآن، للخروج بها من بوتقة اليأس التي كانت تظن إنها غادرتها.
****************************************
تهادت سرعة السيارة بتعمدٍ على الصفّ المقابل لساحل البحر، فـ أطل “حمزة” بنظراته وسأل :
– وصلنا كده؟.
– لأ، بس عايز أوريك حاجه.
أوقف “زيدان” سيارتهِ وبدأ يترجل منها و “حمزة” معه، ثم نظر للطريق من حوله قبل أن يعبره حتى وصل للجانب الآخر، ثم التفت ينظر إليه و :
– بص هناك كده.
نظر “حمزة” حيث أشار “زيدان” برأسه، فـ لمح هناك أقصى اليمين فتاة تجلس أمام البحر بمفردها، وتبينّ جنسها من شعرها المتطاير الذي تخللهُ الهواء. بالطبع لم يتعرف “حمزة” على هويتها لبُعد المسافة؛ لكن مع رؤية ذلك الرجل الذي أقبل عليها عرف على الفور. “عِبيد”.. إنه هو، بأكتافهِ العريضة وطوله الفارع، ولو يبعد عنه أميال سيتعرف عليه، بذلك فطن إلى هوية الفتاة التي صاحبت البحر بجلستها، وتفهم ما السبب حول حضورهم هنا. راقبهم “حمزة” بصمتٍ مريب، وهمس بـ :
– هي والبحر فيهم من بعض!.. كان عندك حق لما قولت إن جدورها هنا.
برر له “زيدان” سبب المجئ به إلى هنا بـ :
– امبارح وانا براقبهم جت هنا في نفس الوقت، وفضلت قاعدة لحد شروق الشمس.
نهضت “سُلاف” واقتربت من الشاطئ، وقفت أمامهِ مباشرة حتى لامس قدميها الحافيتين، فـ نزعت عنها ثيابها العلوية ليراها بملابس السباحة، ثم دخلت لعمق البحر وغاصت بين أمواجهِ المُظلمة في حركة جريئة وخطيرة منها، حقًا فاجئت “حمزة” بشخصيتها تلك التي شبّهها بالبحر، غامضة، مخيفة، غدّارة، ومُظلمة. ليس ذلك فـ حسب، بل أن “عِبيد” لحق بها أيضًا وغاب كلاهما أسفل الظُلمة الكاحلة، إنها تحمل الكثير من السمات التي عليه التفكير بشأنها، لم تعد مجرد مناورات لأهداف غير مفهومة، وإنما هي حرب فعلية، وعليه دراسة كل ذلك بوعيٍ دون الإستهانة بها مطلقًا. تراجع “حمزة” خطوتين للخلف، ثم هتف بـ :
– يلا يا ابو زيد.
**************************************
انفجرت زجاجة الخمر بين يديه، وفارت رغوتها الكثيفة على يديهِ وفي كأسهِ، حتى سكب في الكأس بعضًا منه. ارتشف رشفات مقننة قبل أن يتركه، ثم سار نحو الباب الذي طُرق عليه لتوهِ وفتحه. دلف “صبري” وأغلق الباب من خلفه، حينما “سأله “حاتم” :
– لقيتها؟.
– عرفت الفندق اللي هي نازله فيه.
أخرج “حاتم” بطاقته البنكية من حافظتهِ، ثم ناوله إياها وهو يقول :
– أحجزلي في نفس الفندق وأسحبلي ٥٠ ألف جنيه من الفيزا دي.
– تمام يافندم.
ظل” صبري” واقفًا بمكانه، فـ رمقه “حاتم ” بحزم و :
– واقف ليـه يا بني آدم!!.
توتر “صبري” من صوته الثخين، وتحرك على الفور و :
– آ… افتكرتك هتأمر بحاجه تاني يافندم، آسف.. عن أذنك.
**************************************
لم يكن صباحًا مشرقًا، بل حمل بوادر رياح الخريف الباردة، وشيئًا من الغيوم التي كيّست السماء كلها. ضبّت “سُلاف” كافة أغراضها استعدادًا لمغادرة المحافظة الجميلة (مرسى مطروح)، وساعدها “عِبيد” في ذلك لإنهاء العمل في أسرع وقت ممكن، ومن ثم هبط كلاهما لأسفل من أجل الذهاب؛ لكن المفاجأة التي كانت في انتظارهم غير متوقعة بالمرّة. تجمدت “سُلاف” وهي تراه أمامها برفقة فريق من رجال الشرطة الذين يرتدون الزي الرسمي، فـ كتمت انفعالاتها بحرصٍ وهي تسير صوبهِ، وسألت بحزم رافقهُ نظرات خاطفة شملت الجميع :
– في إيه؟.
ابتسم “حمزة” بهدوء مثير للأعصاب، والتزم الصمت حينما تولّى ضابط الشرطة مهمة تفسير الوضع لها :
– إحنا هنأمن حضراتكم لحد ما توصلوا المطار.
قطبت “سُلاف” جبينها بإستغراب و :
– مش فاهمه!.. إيه لزوم إجراء زي ده؟.
– عرفنا إن حياة حضرتك في خطر، وفي تهديدات موجهه لأستاذ حمزة القرشي بأسمك وأسم طفلكم، عشان كده هنتولى مهمة تأمينكم لحد المطار، وهناك السلطات هتستلم مهمة التأمين دي لحد القاهرة.
انتقلت نظراتها الممتعضة نحوهِ، في اللحظة التي كان فيها “عِبيد” يظهر من خلفها حاملًا عربة “زين”، ليتفاجأ أيضًا بذلك الوضع الإجباري. فتح “حمزة” باب السيارة الخلفي، وأشار لها كي تستقر في المكان المخصص لها :
– أتفضلي يا حـببتـي…
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)